آبائياتأبحاث

عشاء الرب – عظة 142 للقديس كيرلس الكبير – د. نصحي عبد الشهيد

عشاء الرب - عظة 142 للقديس كيرلس الكبير - د. نصحي عبد الشهيد

عشاء الرب – عظة 142 للقديس كيرلس الكبير – د. نصحي عبد الشهيد

عشاء الرب - عظة 142 للقديس كيرلس الكبير - د. نصحي عبد الشهيد
عشاء الرب – عظة 142 للقديس كيرلس الكبير – د. نصحي عبد الشهيد

 

عظة للقديس كيرلس عمود الدين

عظة 142

عشاء الرب

(تأسيس سر الإفخارستيا)

لوقا17:22ـ22

” ثم تناول كأسًا وشكر وقال: خذوا هذه واقتسموها بينكم، لأني أقول لكم إني لا أشرب من نتاج الكرمة حتى يأتى ملكوت الله، وأخذ خبزًا وشكر وكسَّر وأعطاهم قائلاً: هذا هو جسدي الذي يُبذل عنكم. اصنعوا هذا لذكرى. وكذلك الكأس أيضًا بعد العشاء قائلاً: هذه الكأس هى للعهد الجديد بدمى الذي يُسفك عنكم، ولكن هوذا يد الذي يسلمني هي معي على المائدة، وابن الإنسان ماضٍ كما هو محتوم، ولكن ويل لذلك الإنسان الذي يُسلِّمه!”.

 

          إنه أمر يملأنا بكل بركة أن نصير شركاء المسيح بالذهن وبالحواس، لأنه يحلّ فينا، أولاً، بالروح القدس، فنصير نحن مسكنه، بحسب ما قاله فى القديم أحد الأنبياء القديسين: ” لأني سأسكن فيهم وأقودهم وأكون لهم إلهًا وهم يكونون لى شعبًا ” (حز27:37س).

 

          لكنه هو أيضًا يحلّ داخلنا بطريقة أخرى بواسطة مشاركتنا فى قربان التقدمات غير الدموية التى نحتفل بها فى الكنائس؛ إذ قد تسلّمنا منه النموذج الخلاصى للطقس مثلما يرينا بوضوح الإنجيلى المبارك في النص الذي قرأناه منذ قليل، فهو يخبرنا أنه: ” تناول كأسًا وشكر وقال: خذوا هذه اقتسموها بينكم “. وبتقديمه الشكر ـ الذي يُقصد به التحدث مع الله الآب فى صيغة صلاة، فإنه يعنى بالنسبة لنا أنه ـ إن جاز القول ـ يشارك ويساهم مع الآب فى مسرته الصالحة فى منحه لنا البركة المحيّية التى أُسبغت علينا حينئذ، لأن كل نعمة وكل موهبة تامة تأتى إلينا من الآب بالابن فى الروح القدس. وإذن فهذا العمل كان نموذجًا لنا لكي نستخدمه فى الصلاة التى ينبغى أن تُقدم، كلما بدأنا أن نضع أمامه نعمة “التقدمة السرية المحيية”[1]، وتبعًا لذلك فإننا اعتدنا أن نفعل هذا، لأننا إذ نقدم أولاً تشكراتنا، مقدمين تسابيحنا لله الآب ومعه الابن والروح القدس، فإننا نقترب هكذا من الموائد المقدسة مؤمنين أن ننال حياة وبركة؛ روحيًا وجسديًا، لأننا نستقبل فى داخلنا كلمة الاب الذي صار إنسانًا لأجلنا، والذي هو الحياة ومعطى الحياة.

 

          لذلك فلنسأل على قدر استطاعتنا، ما هو الرأى الذي نعتقد به عن هذا السر؟ لأنه واجب علينا أن نكون “ مستعدين لمجاوبة كل من يسألنا عن سبب الرجاء الذي فينا” كما يقول الحكيم بطرس (1بط15:3). لأن ” إله الكل خلق كل الأشياء للخلود، وبدايات العالم كانت حياة، لكن بحسد إبليس دخل الموت إلى العالم ” (حكمة24:2)، فقد كانت تلك الحيَّة المتمردة هى التى قادت الإنسان الأول إلى تعدّى الوصية وإلى العصيان، والتى بواسطتها سقط تحت اللعنة الإلهية، وفى شبكة الموت، فقد قيل له: ” لأنك تراب وإلى التراب تعود ” (تك19:3). فهل كان من الصواب أن ذلك الذي خُلق للحياة والخلود، يصير مائتًا ومحكومًا عليه بالموت بدون أية إمكانية للهروب؟ هل ينبغى أن يكون حسد إبليس أكثر قوة وثباتًا من إرادة الله؟ ليس الأمر هكذا؛ بل إن حسد إبليس قد أخفق تمامًا؛ ورحمة الخالق قد فاقت النتائج الشريرة لخبثه. فقد أعطى الله معونة لأولئك الذين على الأرض. فماذا إذن كانت الطريقة التى ساعدهم بها؟ إنها طريقة عظيمة بالحق ورائعة وجديرة بالله، نعم، جديرة لأقصى درجة بالعقل الأعلى (بالله). لأن الله الآب هو حياة بطبيعته؛ ولكونه هو وحده حياة، فقد جعل الابن الذي هو أيضًا حياة، أن يضيء ويشرق. لأنه لا يمكن أن يكون الأمر بخلاف ذلك مع ذاك الذي هو الكلمة الذي صدر جوهريًا من الحياة، لأنه يلزم ـ أقول يلزم ـ أن يكون هو نفسه أيضًا حياة، لكونه هو الذي نبع من الحياة، نبع من ذاك الذي وَلَده.

 

          لذلك فإن الله الآب يُعطى الحياة لكل الأشياء بالابن فى الروح القدس؛ وكل ما يوجد ويتنفس فى السماء وعلى الأرض، إنما يأخذ وجوده وحياته من الله الآب بالابن فى الروح القدس. لذلك، لا طبيعة الملائكة ولا أى شئ آخر مهما كان، ممّا هو مخلوق، ولا أى شئ جاء من عدم الموجود إلى الوجود، يمتلك حياة (فى ذاته) كثمرة لطبيعته الخاصة؛ بينما على العكس، فالحياة تنشأ ـ كما قلت ـ من الجوهر الذي يفوق الكلّ، وهو أمر خاص به وحده أن تكون له القدرة على إعطاء حياة، وذلك بسبب أنه هو بالطبيعة الحياة.

 

          إذن، فكيف يمكن للإنسان على الأرض، الذي هو ملتحف بالموت أن يعود إلى عدم الفساد (عدم الفناء)؟. أجيب بأنه يلزم لهذا الجسد المائت أن يُصيّر شريكًا للقوة المحيّية التى تأتى من الله. لكن قوة الله الآب المحيّية هى الكلمة الوحيد الجنس، وهو الذي أرسله لنا (الآب) كمخلص ومحرر. أما كيف أرسله لنا، فهذا ما يخبرنا به بوضوح يوحنا الإنجيلى المبارك عندما يقول: ” والكلمة صار جسدًا وحل فينا” (يو14:1). لكنه صار جسدًا دون أن يخضع لأى تغيّر أو تحوّل إلى ما لم يكونه، ودون أن يتوقف عن أن يكون هو الكلمة ـ لأنه لا يعرف ما معنى أن يعانى ظل تغيير، بل بالحرى بكونه وُلِدَ بالجسد من امرأة وأخذ لنفسه ذلك الجسد منها، لكيما إذ قد غرس نفسه فينا باتحاد لا يقبل الانفصال، يمكنه أن يرفعنا فوق سلطان الموت والانحلال كليهما معًا. وبولس هو الشاهد لنا، حيث يقول عنه وعنا: ” فإذ قد تشارك الأولاد فى اللحم والدم اشترك هو أيضًا كذلك فيهما، لكي يُبيد بالموت ذاك الذي له سلطان الموت أى إبليس، ويُعتق أولئك الذي خوفًا من الموت كانوا جميعًا كل حياتهم تحت العبودية، لأنه حقًا ليس يمسك الملائكة بل يمسك نسل إبراهيم، من ثمّ كان ينبغى أن يشبه إخوته فى كل شئ ” أى يشبهنا (عب14:2ـ17). لأنه صار مثلنا، وكسى ذاته بجسدنا، لكيما بإقامته إياه (الجسد) من الموت، يعد ـ من الآن فصاعدًا ـ طريقًا يمكن به للجسد الذي وُضع (أُذل) حتى الموت، أن يعود من جديد إلى عدم الفساد (عدم الفناء). لأننا متحدون به مثلما كنا أيضًا متحدين بآدم، عندما جلب على نفسه عقوبة الموت. وبولس يشهد لهذا، إذ كتب هكذا فى أحد المرات:” فإنه إذ الموت بإنسان، بإنسان أيضًا قيامة الأموات” (1كو21:15) ويقول أيضًا: “ لأنه كما فى آدم يموت الجميع، هكذا فى المسيح سَيُحيا الجميع” (1كو22:15). لذلك فإن الكلمة، إذ وحَّد مع ذاته ذلك الجسد الذي كان خاضعًا للموت، فلكونه الله والحياة، فقد طرد منه الفساد (الانحلال)، وجعله أيضًا يصير مصدر الحياة؛ لأنه هكذا ينبغى أن يكون جسد ذاك الذي هو الحياة.

 

          ولا تكونوا غير مصدقين لما قلته، بل بالحري اقبلوا الكلمة بإيمان بعد أن جمعتُ براهين من أمثلةٍٍ قليلة. عندما تطرحون قطعة خبز فى خمر أو زيت أو أى سائل آخر، فستجدون أنها صارت تحمل خاصية ذلك السائل الخاص، وعندما يوضع الحديد فى النار، فإنه يصير ممتلئًا بكل فاعليتها؛ وبينما هو بالطبيعة حديد، لكنه يعمل بقوة النار. وهكذا كلمة الله المحيى، إذ قد وحَّد نفسه بجسده الخاص بطريقة معروفة لديه (فقط)، فقد منحه قوة إعطاء الحياة. وهو نفسه يؤكد لنا هذا بقوله: ” الحق أقول لكم من يؤمن بى فله حياة أبدية، أنا هو خبز الحياة ” (يو47:6،48) وأيضًا: ” أنا هو الخبز الحي الذي نزل من السماء، إن أكل أحد من هذا الخبز يحيا إلى الأبد، والخبز الذي أنا أعطى هو جسدي الذي أبذله من أجل حياة العالم. الحق أقول لكم إن لم تأكلوا جسد ابن الإنسان وتشربوا دمه، فليس لكم حياة فيكم. من يأكل جسدى ويشرب دمى فله حياة أبدية وأنا أقيمه فى اليوم الأخير، لأن جسدى مأكلٌ حقٌ، ودمى مشربٌ حقٌ، من يأكل جسدى ويشرب دمى يثبت فىَّ وأنا فيه. كما أرسلني الآب الحي وأنا حي بالآب، فمن يأكلنى فهو يحيا بى” (يو53،51:6ـ57). لذلك عندما نأكل الجسد المقدس الذي للمسيح مخلصنا جميعًا، ونشرب دمه الثمين، تكون لنا حياة فينا، بكوننا جُعلنا واحدًا معه، كائنين فيه ومقتنين له أيضًا فينا.

 

          لا تدعو أحدًا من أولئك الذين اعتادوا عدم التصديق أن يقول: ” إذن، حيث إن كلمة الله لكونه بالطبيعة الحياة، وهو يقيم أيضًا فينا، فهل جسد كل واحد منّا سيُمنح أيضًا القوة لإعطاء الحياة؟ من يقول ذلك فليعلم بالأحرى أنه شئ مختلف تمامًا، بين أن يكون الابن فينا بمشاركة نسبية، وبين أن يصير هو نفسه جسدًا؛ أى أن يجعل ذلك الجسد الذي أُخذ من العذراء القديسة خاصًا له (أى يجعله جسده الخاص). لأنه لا يُقال عنه إنه صار متجسدًا، أو صار جسدًا، بوجوده فينا، بل بالحري فإن هذا حدث مرة واحدة عندما صار إنسانًا دون أن يتوقف عن أن يكون إلهًا. لذلك فإن جسد الكلمة كان هو ذاك الذي اتخذه لنفسه من العذراء القديسة وجعله واحدًا معه؛ أما كيف أو بأية طريقة حدث هذا، فهو أمر آخر لا يمكننا أن نخبر به، لأنه أمر غير قابل للشرح ويفوق تمامًا قدرات العقل، وكيفية هذا الاتحاد هى معروفة له هو وحده فقط.

 

          لذلك، كان يليق به أن يكون فينا إلهيًا بالروح القدس، وكذلك أيضًا ـ إن جاز القول ـ يمتزج بأجسادنا بواسطة جسده المقدس ودمه الثمين، اللذين نقتنيهما أيضًا كإفخارستيا معطية للحياة فى هيئة الخبز والخمر، إذ، لئلا نرتعب برؤيتنا جسدًا ودمًا (بصورة حسية) فعلية، موضوعين على الموائد المقدسة فى كنائسنا، فإن الله إذ وضع (أنزل) ذاته إلى مستوى ضعفاتنا، فإنه يسكب فى الأشياء الموضوعة أمامنا قوة الحياة، ويحوّلها إلى فاعلية جسده، لكيما نأخذها لشركة معطية للحياة، وكى يوجد فينا جسد (ذاك الذي هو) الحياة، كبذرة تنتج حياة. ولا تشك فى أن هذا حقيقى، حيث إنه هو نفسه قال بوضوح: ” هذا هو جسدى، هذا هو دمى“، بل بالحري إقبل كلمة المخلص بإيمان، لأنه هو لكونه الحق، فلا يمكنه أن يكذب. وهكذا سوف تكرِّمه، لأنه كما يقول يوحنا الحكيم جدًا: “من قِبل شهادته فقد ختم أن الله صادق، لأن الذي أرسله الله يتكلم بكلام الله” (يو34،33:3). لأن كلام الله هو طبعًا صادق ولا يمكن أبدًا أن يكون كاذبًا؛ لأنه وإن كنا لا نفهم بأية طريقة يعمل الله مثل هذه الأعمال، لكن هو نفسه يعرف طريقة (عمل) أعماله. لأنه عندما لم يفهم نيقوديموس كلمات الرب المختصة بالمعمودية المقدسة وقال بجهل: ” كيف يمكن أن يكون هذا؟” (يو9:3)، فإنه سمع المسيح يجيب قائلاً: ” الحق أقول لك إننا إنما نتكلم بما نعلم ونشهد بما رأينا ولستم تقبلون شهادتنا، إن كنت قلت لكم الأرضيات ولستم تؤمنون، فكيف تؤمنون إن قلت لكم السماويات؟ ” (يو11:3،12) لأنه كيف يمكن لإنسان أن يعرف تلك الأشياء التى تعلو على قدرات إدراكنا وعقلنا؟ لذلك، فلنكرّم سرّنا الإلهي هذا، بالإيمان….

          (ممجدين المخلص) الذي به ومعه يليق لله الآب التسبيح والسلطان مع الروح القدس إلى دهر الهدور آمين.

 

3 هذا التعبير يستخدمه الآباء كثيرًا عن الإفخارستيا .

 

عشاء الرب – عظة 142 للقديس كيرلس الكبير – د. نصحي عبد الشهيد