خميس العهد – عظة 141 للقديس كيرلس الكبير – د. نصحي عبد الشهيد
عظة للقديس كيرلس عمود الدين
عظة 141
تُقرأ يوم الخميس فى أسبوع السر[1]
لوقا7:22ـ16
” وجاء يوم الفطير الذي ينبغي أن يُذبح فيه الفصح، فأرسل بطرس ويوحنا قائلاً اِذهبا وأعدا لنا الفصح لنأكل، فقالا له أين تريد أن نعد؟ فقال لهما إذا دخلتما المدينة يستقبلكما إنسان حاملٌ جرة ماء، اتبعاه إلى البيت حيث يدخل وقولا لرب البيت يقول لك المعلم أين الغرفة التى آكل فيها الفصح مع تلاميذى؟ فيريكما عِلِّيَّة كبيرة مفروشة؛ هناك أعدا، فانطلقا ووجدا كما قال لهما. فأعدا الفصح”.
ولما كانت الساعة جلس للأكل والاثنا عشر رسولاً معه، وقال لهم: شهوة اشتهيت أن آكل هذا الفصح معكم قبل أن أتألم. لأني أقول لكم إني لا آكل منه بعد حتى يكمل فى ملكوت الله”.
إن الناموس بظلاله سبق فأشار منذ القديم إلى سر المسيح؛ والمسيح نفسه يشهد عن هذا عندما قال لليهود: ” لو كنتم تصدقون موسى لكنتم تصدقوننى لأنه هو كتب عنى ” (يو46:5)، ففى كل موضع (فى الناموس) توضح الظلال والمثالات لنا، المسيح مذبوحًا لأجلنا “كالحمل” الذي بلا عيب حقًا، كما توضحه مقدِّسًا إيانا بواسطة دمه المعطى الحياة..، وبالإضافة إلى ذلك فإننا نجد كلمات الأنبياء القديسين فى توافق تام مع كلمات موسى الحكيم جدًا، كما يقول بولس ” لكن لما جاء ملء الزمان ” (غل4:4)، الزمان الذي كان فيه كلمة الله الوحيد على وشك أن يخلى ذاته، وأن يحتمل الولادة بالجسد من امرأة ويخضع للناموس، بحسب القياس المناسب للطبيعة البشرية، وبعد ذلك قدم نفسه ذبيحة لأجلنا، مثل الحمل الذي بلا عيب حقًا، فى اليوم الرابع عشر من الشهر الأول. وهذا العيد كان يُدعى ” الفصح” (بصخة Pascha) وهى كلمة باللغة العبرية وتعنى العبور، لأنهم هكذا يفسرونها ويقولون إن هذا هو معناها.
إذن يجب أن نشرح ما هو هذا الشيء الذي نعبر منه وما هو البلد الذي نسير نحوه، وبأى طريقة نحقق مسيرتنا، فإنه كما أن إسرائيل قد أُنقذ من طغيان المصريين وفك عنقه من نير العبودية وصار حُرًا، وإذ هرب من عنف الطاغية، فإنه عبر بأقدام جافة ـ بطريقة عجيبة يعجز اللسان عن وصفها ـ وسط البحر، وارتحل تجاه الأرض الموعود بها؛ هكذا نحن أيضًا الذين قبلنا الخلاص الذي فى المسيح، يجب علينا ألاّ نرضى بالبقاء بعد فى أخطائنا السابقة، وألاّ نستمر فى طرقنا الشريرة بل بشجاعة نعبر بحر اضطراب هذا العالم الباطل، وعواصفه. وهكذا فإننا نعبر من محبة الجسد إلى التعفف؛ من جهلنا السابق إلى معرفة الله الحقيقية؛ من الشر إلى الفضيلة؛ ونعبر بالرجاء من لوم الخطية إلى أمجاد البر؛ ومن الموت إلى عدم الفساد. لذلك فإن العيد الذي حمل فيه عمانوئيل صليب الخلاص لأجلنا يُسمى الفصح.
لكن لننظر إلى الذي هو الحق والذي لا يزال يُكرّم بالرموز التى كانت تشير إليه، وهو لا يزال يسمح للظلال بأن تكون صادقة، إذ يقول النص: “ولما جاء يوم الفطير الذي كان ينبغي أن يُذبح فيه الفصح “، فأرسل للمدينة تلميذين مختارين من الرسل القديسين، وهما بطرس ويوحنا قائلاً : “سوف يستقبلكما إنسان حامل جرة ماء، اتبعاه إلى البيت حيث يدخل، وقولا لرب البيت: يقول لك المعلم أين الغرفة التى آكل فيها الفصح مع تلاميذى؟“. لكن ربما يقول أحدهم، لماذا لم يذكر لهما بوضوح اسم الرجل الذي أرسلهما إليه؟ لأنه لم يقل: عندما تمضون إلى فلان أو فلان ـ وهناك أعدا الفصح فى بيته، لكن فقط أعطاهما علامة ـ ” إنسان حامل جرة ماء“. فبماذا نجيب على هذا الكلام؟ انظروا! فإن يهوذا الخائن كان قد سبق فوعد اليهود أن يسلمه لهم، وكان مستمرًا فى صحبته (للمسيح) يرقب فرصة ليسلمه، وبينما كان لا يزال يعلن الحب الواجب من التلميذ لمعلمه فإنه قد سمح للشيطان أن يدخل قلبه، وكان يتمخض بجريمة القتل ضد المسيح مخلصنا جميعًا. لذلك أعطى المسيح علامة (للتلميذين) لكي يمنعه من معرفة من هو ذاك الشخص، فيسرع يهوذا ليخبر أولئك الذين استأجروه. لذلك قال: “يستقبلكما إنسان حامل جرة ماء“.
أو ربما يتكلم المسيح هكذا ليشير بهذا إلى سر مهم، لأنه حيث تدخل المياه ـ أى المعمودية المقدسة ـ فهناك يسكن المسيح، كيف أو بأية طريقة؟ ذلك لأنها تحررنا من كل نجاسة، ونُغسل بواسطتها من أدناس الخطية، ولكي نصير أيضًا هيكلاً مقدسًا لله وشركاء فى طبيعته الإلهية بشركة الروح القدس. لذلك فلكي يستريح المسيح ويقيم فينا، فلنقبل المياه الخلاصية معترفين أيضًا بالإيمان الذي يبرر الأثيم. ولكى يرفعنا عاليًا لكى ما نُحسب عِلِّيَّة، لأن أولئك الذين يسكن فيهم المسيح بالإيمان لهم ذهن مرتفع عاليًا، يبغض الزحف على التراب، ويرفض الالتصاق بالأرض، وفى كل شئ يطلب ما هو سامٍ فى الفضيلة، لأنه مكتوب:” لأن أعزاء الله قد ارتفعوا عاليًا (فوق الأرض)” (مز9:46س)، لأن ليس لهم هنا مدينة باقية لكنهم يطلبون العتيدة (انظر عب14:13)، وبينما هم يسيرون على الأرض، فإنهم يفكرون فى تلك الأمور التى فوق، وسيرتهم (مدينتهم) هى فى السماء (انظر فى20:3).
يمكننا أيضًا أن نلاحظ أمرًا صحيحًا وعجيبًا، يحدث دائمًا بيننا؛ وأعنى به أن من يقدرون حياتهم الجسدانية كثيرًا، عادةً يكونون منتفخين وقلوبهم مملوءة من الكبرياء الملعونة والمكروهة من الله؛ لكن مع ذلك ربما يؤتى بهم إلى الانكسار (فيما بعد) وهم لا يزالون على الأرض؛ بينما أولئك المساكين بالروح ينالون الرفعة بواسطة الكرامة والمجد اللذين يأتيان من الله. كما يكتب تلميذ المسيح قائلاً: ” ليفتخر الأخ المتضع بارتفاعه، وأما الغنى فباتضاعه لأنه كزهر العشب يزول ” (يع9:1،10). لذلك لا يخطئ من يقول إن نفس كل قديس هي ” عِلِّيَّة “.
بعد ذلك لما أعدّ التلاميذ الفصح، أكل المسيح معهم، ولكونه طويل الأناة مع الخائن، فإنه تفضل بقبوله على مائدة الفصح بدافع شفقته المملوءة حبًا وغير المتناهية؛ لأن يهوذا كان قد صار خائنًا إذ أن الشيطان كان ساكنًا فيه. وقال المسيح أيضًا لرسله القديسين: ” شهوة اشتهيت أن آكل هذا الفصح معكم“. لنفحص المغزى العميق لهذا التعبير، ولنفتش عن المعنى المختفي فيه، وما الذي كان يقصده المخلّص.
لذلك حيث إننى سبق أن قلت إن التلميذ الطمّاع كان يطلب فرصة ليسلمه، ولكي لا يسلمه لقاتليه قبل عيد الفصح، فإن المخلّص لم يعلن لا عن البيت ولا عن الشخص الذي سيحتفل عنده بالعيد، ولكى يشرح لهم سبب عدم رغبته فى أن يصرّح له علانية باسم من سيذهب عنده، قال لهم: ” شهوة اشتهيت أن آكل هذا الفصح معكم“؛ وكأنه يقول: إننى اجتهدت بكل حذر لكى أتمكن من الإفلات من خبث الخائن، لكيلا احتمل آلامى قبل وقتها.
” ولكنى لا آكل منه بعد حتى يكمل فى ملكوت الله“. وبهذا الكلام أيضًا ينطق المسيح بحقيقة عميقة وسرية، لكن هو نفسه يكشف معناها لنا لأن من عادته أن يطلق اسم “ملكوت السماوات” على ” التبرير بالإيمان”، وعلى التطهير الذي يتم بالمعمودية المقدسة وشركة الروح القدس وعلى تقديم العبادة الروحية التى صارت الآن ممكنة بالدخول فى وصايا الإنجيل. لكن هذه الأشياء هى الوسائط التى تجعلنا شركاء فى المواعيد وفى المُلك مع المسيح؛ لذلك يقول: لن اقترب من مثل هذا الفصح بعد ذلك، أي ذلك الفصح الذي يتكون من أكل رمزى ـ لأن حملاً من القطيع ذُبح ليكون مثالاً للحمل الحقيقى (ويكمل) ” حتى يكمل فى ملكوت الله “، أى إلى حين مجيء الوقت الذي فيه يُكرز بملكوت السماوات. لأن هذا يتحقق فينا نحن الذين نكرّم العبادة التى هى أعلى من الناموس والتى هي الفصح الحقيقي، فالذي يُقدِّس الذين هم فى المسيح ليس خروفًا من القطيع، بل بالحرى المسيح نفسه (هو الذي يقدسهم)، الذي جُعِلَ “ذبيحة مقدسة” لأجلنا، “بتقديم قرابين” غير دموية، وتقديم “الشكر” السرى، الذي فيه ننال “البركة” ونُعطَى الحياة بالحياة[2]. لأنه هو صار لنا الخبز الحي الذي نزل من السماء والذي يعطى الحياة للعالم (انظر يو33:6، 50)، الذي به ومعه لله الآب يليق التسبيح والسلطان، مع الروح القدس إلى دهر الدهور. آمين.
[1] يوصى القديس كيرلس الكبير أن تُقرأ هذه العظة يوم الخميس فى أسبوع السر، ويقصد الأسبوع الذي تحقق فيه سر الخلاص بتأسيس الإفخارستيا والصلب والقيامة.
[2] هذه الفقرة الهامة هى باللغة اليونانية كما يلي:
¢g…wj ƒerourgoÝmenoj di¦ tÁj mustikÁj eÙlog…aj, kaq’ ¿n eÙlogoÚmeqa kaˆ zwopoioÚmeqa.
إن الكلمة `Ierougšw ” يخدم فى خدمة مقدسة”، هذه الكلمة هى كلمة رسولية واردة فى رومية16:15 (ƒerourgoàvta to euaggšlion) وتُرجمت فى طبعة دار الكتاب المقدس “مباشرًا لإنجيل الله ككاهن ” وترجمتها الدقيقة ” خادمًا فى الخدمة الكهنوتية لإنجيل الله ” . وكذلك الكلمة eÙlog…a = ” البركة ” كانت تُطلق فى العصور الأولى بصفة ثابتة على الإفخارستيا المقدسة بالاستناد إلى كورنثوس الأولى 16:10 ” كأس البركة to pot»rion thj eÙlog…aj”. إن استخدام هذه الكلمات يظهر العلاقة الوثيقة التكاملية بين الحياة الليتورجية للمسيحيين الأُول وبين فهمهم للكتب المقدسة. (هذه الملاحظات لمترجم النص الإنجليزى لتفسير إنجيل لوقا Payne Smith سنة 1859).