هل يعمل الآب من خلال وسيط؟ ج1 – الحوار الرابع ج4 حول الثالوث – القديس كيرلس الاسكندري
الحوار الرابع
في أن الابن غير مخلوق وغير مصنوع
هل يعمل الآب من خلال وسيط، وهكذا يصير هو نفسه معروفًا:
إرميا: وماذا لو قالوا إن إلوهه الآب وقوتّه السرمديّه هي التي تتضح من خلال أعماله العجيبة في خليقته؟.
كيرلس: هم أنفسهم يدينون أقوالهم هذه ويستطيع المرء أن يثبت بسهوله أن أقوالهم تتناقض مع أفكارهم.
إرميا: ماذا تقصد؟.
كيرلس: إنهم يحصرون قدرة الآب الخالقة في عملية خلق الابن ويقولون إن الآب أُظهر منذ أن خلق العالم، مع أن الكتاب المقدس ينسب خلق العالم للابن إذ هو مكتوب: “بِكَلِمَةِ الرَّبِّ صُنِعَتِ السَّمَاوَاتُ وَبِنَسَمَةِ فَمِهِ كُلُّ جُنُودِهَا“[1] إذن العالم يشهد أمامنا أن الكلمة هو خالقه كما أنه يوضّح قوّته وإلوهيته. لأننا ونحن نشاهد الخليقة، فإننا لا نُعجب بالكلمة خالق الكون على أنه مخلوق لكننا نكّرمه ونُعلّيه جدًا وهكذا فإننا نعبر عن تقوانا بطريقه سليمة، مؤمنين أن الابن الوحيد هو الله حسب الطبيعة وأنه قد أتي من الله. لأنه بهذا فقط سننكر الاتهام بأننا نوجد في ضلال وسنبعده عن أذهاننا وسننجو من العقاب الذي يشير إليه المطوّب بولس بقوله: “لِذَلِكَ أَسْلَمَهُمُ اللهُ أَيْضاً فِي شَهَوَاتِ قُلُوبِهِمْ إِلَى النَّجَاسَةِ لإِهَانَةِ أَجْسَادِهِمْ بَيْنَ ذَوَاتِهِمِ. الَّذِينَ اسْتَبْدَلُوا حَقَّ اللهِ بِالْكَذِبِ وَاتَّقَوْا وَعَبَدُوا الْمَخْلُوقَ دُونَ الْخَالِقِ الَّذِي هُوَ مُبَارَكٌ إِلَى الأَبَدِ. آمِينَ“[2]، أي هؤلاء الذين يسلكون بطرق معوّجه ويستبدلّون الحق بالباطل عابدين الخليقة دون من هو بطبيعته الله. وهكذا صار الذهن غير مختبر وسقط باندفاع في هذا الفكر الخاطئ فضللّنا نحن أيضًا مع الوثنين عابدين الطبيعة المخلوقة، بمعني أننا عبدنا الابن- الذي هو بحسب ما يقول هؤلاء- مخلوق. وأليس كل ما هو صائر من العدم هو مخلوق؟!.
إرميا: بالتأكيد
كيرلس: انتبه إذن يا أرميا كيف أن أفكارهم مليئة بالحماقات. لأن الكتاب المقدّس يذكر أن الأمم عرفوا إلهًا حيًا وحقيقيًا وبالإيمان فُتنوا بالابن، بينما وصل هؤلاء إلى مثل هذه الدرجة من حماقة الأفكار حتى أنهم لم يخجلوا بالمرّة عندما ينسبوا له هذه الصغائر ويقولون إنه مخلوق. لأنه قد كُتب عن أولئك الذين تبعوا الرسل بأنهم هم أنفسهم: “يُخْبِرُونَ عَنَّا أَيُّ دُخُولٍ كَانَ لَنَا إِلَيْكُمْ، وَكَيْفَ رَجَعْتُمْ إِلَى اللهِ مِنَ الأَوْثَانِ لِتَعْبُدُوا اللهَ الْحَيَّ الْحَقِيقِيَّ“[3]. فطالما أن ما تفعله العبادات الوثنية هو أمر شائن ومُخجل إذ يعبدون الخلائق (دون الخالق) وطالما أن الأمم قد رجعوا إلى عباده الإله الحيّ وآمنوا باسم الربّ يسوع وعادوا إلى السجود للابن مع الآب، فكيف مازال من الممكن اعتبار أن الابن مخلوق؟ أو أن الإيمان هو بلا فائدة أو أن اعتقادنا نحن في الله هو كاذب مع أنه بالتأكيد يُقال أننا قد تركنا الضلالات القديمة؟.
إرميا: بالفعل يُقال هذا، لأن الأمم قد رجعوا إلي الله الآب الحقيقي والحيّ.
كيرلس: وكيف كانت طريقة عودتنا إلى الله؟ أو كيف يقدر البعض أن يعودوا بطريقه حسنه وصحيحة وبدون ضلال إلى الربّ الحيّ الحقيقي، دون أن يعترفوا بأن عباده الخليقة هو أمر باطل؟.
إرميا: أعتقد أنه عن طريق الإيمان لأنه يقول”الذي مِثَالهُ يُخَلّصِنَا نحن الآن أي المعمودية لا إزاله وسخ الجسد، بل سؤال ضمير صالح عن الله بقيامة يسوع المسيح”[4].
كيرلس: إن هذا هو قول حق، أنما أريدك أن تجاوبني. هل الإيمان هذا معناه أن نؤمن بالآب والابن والروح القدس؟[5]
إرميا: نعم.
كيرلس: إذن هل يستطيعون من يريدوا أن يحفظوا إيمانهم ثابتًا ونقيًا وحرًا من أي شائبه، أن يؤمنوا بالله والخليقة في نفس الوقت، أم هل يستطيعوا أن يؤمنوا بالله جاعلين الابن مع الآب لأنه هو مساوٍ له في الجوهر؟
إرميا: يستطيعون هؤلاء أن يؤمنوا بإله واحد بمعني طبيعه إلهيه واحده مدركين بالطبع أنهم لن يحيدوا عن الطريق طالما أنهم لم يخلطوا طبيعة الله بالطبيعة المخلوقة.
كيرلس: هؤلاء إذن يوافقون على أن الإيمان بالابن هو الإيمان بالله الحيّ والحقيقي وهذا يتضّح وبدون مشقّه عندما نسمع الابن وهو يقول: “أَنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ فَآمِنُوا بِي“[6]. وهذا ليس معناه أن يؤمنوا بالخليقة والله معًا، بل على العكس فلأن الابن هو من نفس جوهر الآب لهذا فإن الإيمان هنا هو إيمان بالطبيعة الإلهية الواحده. وفي موضع آخر يقول: “الَّذِي يُؤْمِنُ بِي لَيْسَ يُؤْمِنُ بِي بَلْ بِالَّذِي أَرْسَلَنِي“[7] لآن الإيمان بالابن لا ينفصل عن الإيمان بالآب بل أن الإيمان بالابن هو الذي يقود المؤمن الحقيقي- عن طريق الابن- إلى الآب الذي وَلَده. كما أنه يمكنكِ بسهوله أن تعلم أن من كانوا قبلاً وثنييّن قد اعترفوا بالمسيح وسجدوا له، وذلك عندما تسمع بولس الرسول وهو يقول: “لِذَلِكَ اذْكُرُوا أَنَّكُمْ أَنْتُمُ الأُمَمُ قَبْلاً فِي الْجَسَدِ، الْمَدْعُوِّينَ غُرْلَةً مِنَ الْمَدْعُوِّ خِتَاناً مَصْنُوعاً بِالْيَدِ فِي الْجَسَدِ، أنَّكُمْ كُنْتُمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بِدُونِ مَسِيحٍ، أَجْنَبِيِّينَ عَنْ رَعَوِيَّةِ إِسْرَائِيلَ، وَغُرَبَاءَ عَنْ عُهُودِ الْمَوْعِدِ، لاَ رَجَاءَ لَكُمْ وَبِلاَ إِلَهٍ فِي الْعَالَمِ “[8]. إذن يمكن أن نفهم أن الأمم الذين كانوا يعيشوا بدون المسيح كانوا بعدين عن مَنْ هو بطبيعته الله، محرومين بذلك من الحقيقة لأنهم كانوا بلا إله في العالم. لكنهم عندما عرفوا الابن بالإيمان، وعندما اُستعلن للعالم الرجاء الصالح، وتطهّروا من ضلالات الإلحاد وابتعدوا عنها.
إرميا: بالصواب تتكلّم.
كيرلس: إذن الابن هو الله الحقيقي، لأنه هكذا ستبقي ولادتنا الجديدة بالمعمودية المقدسة، ولادة أصيله وبلا أي شائبه.
إرميا: وماذا يعني هذا؟ لأني لم أفهم ما قلت.
كيرلس: ألم نُولَد روحيًا[9] يا صديقي آخذين صورة ابنه وتشكّلنا حسب بهاءه الإلهي عن طريق الروح القدس فصرنا شركاء الطبيعة الإلهية، بنسبنا للابن الذي هو الله؟.
إرميا: بالطبع.
كيرلس: إذن كيف يكون الابن مخلوقًا؟ (وقد أتمّ كل هذا فينا)، لأنه إن لم يكن الابن هو مَنْ تؤمن به أنه من الله كيف لا يكون سرّ (المعمودية) مبنيًا على رَجاء باطل وفكر عقليّ فقط وسيكون في الواقع مجردّ خيال وخداع؟ فأي ختم الهي سنكون قد خُتمنا به في داخلنا حتى ولو كنا أخذنا شكل الابن إن لم يكن الابن بحق هو الله وليس مخلوق؟
والآن يجب عليك أن تؤمن أيضًا بأن الله الآب نفسه هو خالق لأن الصورة لابد وأن تشبه الأصل. أو جاوبني على هذا الأمر لأنني سوف أسألك: ألا توافقني على أن الطبيعة الإلهية- وفي أي صورة يمكن أن تدركها أنت- لا يمكن أن تقارن بالطبيعة المخلوقة وهي مختلفة عنها تمامًا وأنها لا تشابه بأي صورة من الصور أي من المخلوقات؟.
إرميا: أتفق معك تمامًا لأنه كيف لا تعلو طبيعة الله عن طبيعة أي مخلوق؟
كيرلس: وبالتالي فكلّ من لدّيه عقل سوف لا يقبل بأن تكون الطبيعة غير المخلوقه وغير المصنوعة هي صورة لأي طبيعة مخلوقه. أو حتى يمكنه أن يقبل أن يكون داخل مَنْ هو كائن في كل مكان ومَنْ هو بغير تغييّر، طبيعة أخري كانت غير موجودة وخُلِقتَ فيما بعد؟.
إرميا: بالصواب تتكلّم.
كيرلس: وأعتقد أيضًا أن العكس صحيح. بمعني أنه لا يمكن في داخل الشيء الذي لم يكن كائن دائمًا[10]، أن يوجد الشيء الذي هو دائم الوجود وغير المتغيّر[11].
إرميا: هذا حق.
كيرلس: إذن ما هو الأمر المستحق لكل أعجاب أكثر من أننا في داخلنا قد تشكّلنا حسب صورة الابن؟ وأين سطع الجمال الإلهى داخل نفوس أولئك الذين آمنوا كشيء غير معتاد بل وغريب؟ فبالتأكيد يوجد تشابه تام بين أحد الخلائق والخلائق الآخرى، وأن هذا التشابه لا يأتيهم من خارجهم بل تفرحنه قوانين الطبيعة، وعليه فإن كل الخليقة الباقية كانت تشبه دائمًا الابن الذي هو- حسب اعتقادهم- من بين المخلوقات. وبالتالي فأي بهاء قد تشكّل في نفوسنا بواسطة الروح القدس؟ لأنه سيتضح أن ما قد وُهب لنا كان بدون هدف لأننا إن لم تكن من حصلنا عليه (بواسطة الروح القدس) كانه سيكون في داخلنا حسب طبيعتنا وقد حصلنا عليه من ذواتنا وبدون أن نأخذه من آخر. غير أن هذا سيناقض كل ما هو سليم ومنطقي. لأننا نحن أي كل الذين آمنا صرنا شركاء الطبيعة الإلهية وذلك عن طريق علاقتنا بالابن بواسطة الروح القدس وهذا حدث ليس بطريقه ظاهرية بل بطريقه حقيقية، إذ عندما قبلنا هذا الصورة الإلهية فقد أعيدّت خلقتنا حسب هذا البهاء الذي يفوق كلّ الخليقة. لان المسيح يتشّكل داخلنا بطريقة لا توصف- ليس كمخلوق داخل (البشر) المخلوقين لكن بكونه هو غير المخلوق وهو الله، داخل طبيعة مخلوقه ومجبوله، مُشكّلاً إياها من جديد حسب صورته بواسطة الروح القدس واضعًا هذه الخليقة أي نحن، في مرتبه أعلى من رتبه كل المخلوقات.
إرميا: وبالتالي فلا يوجد ما يعوق أو يستبعد الابن الوحيد عن البنوّة الحقيقية، ويجب علينا أن نؤمن بأنه مولود غير مخلوق.
كيرلس: نعم، وذلك يكون بأن نقبل بالفعل بأنه إله حقيقي ونؤمن بأنه يجب أن يكرمّ منّا ومن كل الملائكة القديسين بالسجود وبأن يُعطىَ له كل المجد والكرامة الإلهية. لأنه لو عبدنا الخليقة دون الخالق، ولم نعطِ كَرامة للطبيعة الإلهية التي تفوق الكلّ ناسبين كرامة الخالق للمخلوق لاستحققنا أن نسمع عن حق قول النبي ” شعب جاهل لا يفهم“[12].
إرميا: غير أن هؤلاء لن يقولون عنه أنه ابن وإنه هو الله.
كيرلس: وكيف لا يكون قولاً غير متناسق ويدعو للسخرّية أن يُقال عن الابن أسماء مشتركه وألقاب متعددّة مثل أنه “صورة” الآب وفي نفس الوقت لا نُعطيه المجد اللائق بالله حاسبين إياه ضمن المخلوقات؟ أم ليس هو أمر شائن أن نقول إنه مخلوق مع أننا نعبده على أنه هو الله؟.
إرميا: بصواب تتكلّم.
كيرلس: إن كانوا يعتقدون كما يجب، فليكفوا عن محاولتهم بخداعنا بكلام مزيّن يبعدون به الابن عن الإلوهه الحقيقية. لأن هذا هو ما يقولونه بكل وضوح وهكذا يجدّفون عليه بطريقة مباشرة. وإلاّ فإنهم سيسمعون منا ومن الملائكة “يا هؤلاء جميعكم القادحين نارًا المتنطقين بشرار اسلكوا بنور ناركم وبالشرار الذي أوقدتموه. من يدي صار لكم هذا في الموضع تضطجعون”[13]. لأننا سنتبع الطريق المستقيم مؤمنين بأن الكلمة هو الله الحقيقي الذي وُلِدَ من الله الحقيقي بطريقه لا توصف. وعندما يتعقلّون قليلاً مع أنهم قليلى الفهم وحتى لو أنهم خففّوا من حدّه ضلالاتهم- حسب اعتقادي- فأنهم بالقطع لن يتراجعوا عما يقولون لأنهم بينما يعترفون بالابن على أنه هو الله لكنهم يحسبونه أنه أقل من الله (الآب) حسب الجوهر، ويضيفون قائلين إنه هو مخلوق اسمي قليلاً عن باقي المخلوقات جاعلين إياه (على الحدود) بين الطبيعة المخلوقة وغير المخلوقة. غير أنه يجب أن يعرفوا أن طبيعة الإلوهه يجب ألاّ تُفهم على أن بها اختلاف، لأن الله لا يمكن أن يكون آخر غير الله من جهة إلوهيته، مثلما الأمر في حالتنا نحن البشر. لأننا نقول أن الطبيعة البشرّية هي واحده وتوصيف الجوهر هو واحد ولا يمكن تغييّره. فإن كانوا يؤمنون بأن الابن هو الله، فليكفوا تمامًا عن أن يحسبوه بين المخلوقات، أما إن كانوا غير مقتنعين بألاّ يؤمنوا به على أنه ليس من بين المخلوقات، حينئذ لا يجب أن يعترفوا به على أنه هو الله. لأنه في هذه الحالة سوف نقول في سخرية “اِجْعَلُوا الشَّجَرَةَ جَيِّدَةً وَثَمَرَهَا جَيِّداً أَوِ اجْعَلُوا الشَّجَرَةَ رَدِيَّةً وَثَمَرَهَا رَدِيّاً“[14]. أم هل أننا يا صديقي لا يمكننا أن نعرف أحد المخلوقات بكل وضوح وبدون أي خداع عن طريق تلك الأشياء التي تؤمن أنها حقيقية؟.
إرميا: بالتأكيد.
كيرلس: هيّا بنا نتحدّث بالضبط عن ماهية طبيعة الابن، واضعين في اعتبارنا الآتي: لو أن الابن ليس هو الله بالطبيعة لكنه أتي إلى الوجود مثلنا- وذلك حسب أساطيرهم وكلامهم غير المعقول- فكيف يكون منفصل عن باقي الخليقة؟ وهل يمكن أن يكون هذا قد حَدَثْ بسبب بُعد المسافات بينه وبينهم؟ وكيف لا يكون مثل هذا الكلام سفسطه فلسفيّه؟ لأنه أين أو بأي طريقه يكون (الكلمة) غير المتجسد معزولاً في مكان ما او ما هو المكان الذي يستطيع أن يحده؟ وبخلاف هذا فإن يوحنا الطوباوي يؤكد أنه “كَانَ فِي الْعَالَمِ وَكُوِّنَ الْعَالَمُ بِهِ وَلَمْ يَعْرِفْهُ الْعَالَمُ“[15]. وبالتالي يا أرميا فإننا عندما نفكر بطريقه صحيحة في طريقة ابتعاده لا يستطيع إلاّ أن نقول إن العالم لم يعرف خالقه مع أنه هو الكائن دائما فيه.
[1] مز6:33
[2] رومية1: 24-25
[3] 1 تسالونيك 9:1
[4] 1 بط21:3
[5] أثناسيوس عن الروح القدس
[6] يو1:14
[7] يو44:12
[8] أفسس11:2-12
[9] يع18:1
[10] أي الإنسان.
[11] أي الله.
[12] انظر أرميا5:21
[13] اشعياء11:5
[14] مت33:12
[15] يو10:1