الاعتراضات الخاصة بلقب بكر – الحوار الرابع ج2 حول الثالوث – القديس كيرلس الاسكندري
الحوار الرابع
في أن الابن غير مخلوق وغير مصنوع
رد على الإعتراضات الخاصة بلقب “بكر”:
إرميا: بالصواب تتكلّم، غير أني أعتقد أن المخالف لنا سوف يسأل عن معني كلمة “بكر”.
كيرلس: كلمة “بكر” تعني أن أحد يتقدّم على أخوته ويكون قد وُلِدَ قبلهم.
إرميا: إذن لماذا- كما يقولون- دُعيّ الابن “بكر” كل الخليقة لو أن الخليقة كلها ليست- بطريقه ما- هي أخته ومن نفس جنسه وليس هو من طبيعتها؟
كيرلس: إذن فقد دُعي ابنًا- على ما يبدو- بدون هدف وولادته ليست ولادة حقيقية كما أن الحديث عن الآب سيكون بالنسبة لنا بمثابة أسطوره بلا قيمه!!
إرميا: إطلاقًا،فهم يقولون أن الحديث عن آب للابن قد تم بطريقة مبالغ فيها مدعين إنه في موضع آخر قيل عن ابناء اسرائيل وبنفس الطريقة “رَبَّيْتُ بَنِينَ وَنَشَّأْتُهُمْ“(اش1: 2س)[1].
كيرلس: إذن سيكون وحيد الجنس قد أصبح ابنًا بالتبني مثلنا- كما يقولون- لكي يصبح ابنًا، وألا يعنى هذا انه في الواقع هو مخلوق؟
إرميا: هم يقولون هكذا،
كيرلس: لماذا أهملوا الدافع لمعرفة الحقيقه وتنبئوا ما قاله النبي “لأَنَّنَا جَعَلْنَا الْكَذِبَ مَلْجَأَنَا وَبِالْغِشِّ اسْتَتَرْنَا“؟[2] غير أني أعتقد أنه قبل كل شيء علينا أن نَعلَم متى دُعيّ الكلمة بكرًا ومَنْ هم الذين أتي بينهم ودُعيّ وسطهم بكرًا. لأننا هكذا سَنُسرع في أن نرفع قلوبنا تجاه المعاني الصحيحة للكلمات التي تليق بالاسرار. لأن معرفة الأزمنة وتمييز في الأشخاص هي أمور توضّح لنا بسهولة معنى الكلمات المُستَقيمة وغير المنحرفة التي تأتي إلينا مباشره من الكتب المقدّسة[3]. أو إن لم يكن ما أقوله صحيحًا، ولم يكن مهمّا أن تُفحص بتدقّيق الأزمنة والأوقات التي فيها كان كلمة الله غير متجسّد ثم صار جسدًا، فيجب ألاّ يرتّعب أحد لو أن ما يخصه يقال بدون أي تمييّز- ولتَكُفْ أيه تجديفّات واتهامات (للابن). ولو أن أحد يؤمن بأن الابن قد مات بالحقيقة مع أن الكلمة الذي قد جاء من الآب هو الحياة حسب الطبيعة، فليستحق منّا التحيّة والتكريّم لأنه لا يكذب، ولكن من سيقول إنه قد مات بالجسد (حاسبًا أن الابن كلمة الله هو مخلوق) سيكون كلامه بلا معنى وبلا أي تمييّز.
إرميا: هذا صحيح، ومع أن الكلام يمكن بالفعل أن يُفهم هكذا، إلاّ إنهم يوجهون نقدًا له.
كيرلس: لا أيها الحبيب، لأن كلامهم هذا سيقودهم لأمر آخر لا يليق وسيجعلهم يفعلونه بجرأة كبيرة.
إرميا: ما هو الأمر الذي تُعنيه؟.
كيرلس: لقد كان الكثيرون يقومون بتحصيل الجزيّة طبقًا لناموس موسى، درهميّن عن كل شخصين. وعندما ذهبوا لبطرس ليعرفوا إن كان المسيح سَيُحسب ضمن دافعي الجزية أم سيرفضُ دفع الجزية، حينئذ سأل بطرس المسيح ماذا يجب أن يَفعلُ معهم، فبادَرَه المسيح بهذا السؤال “مِمَّنْ يَأْخُذُ مُلُوكُ الأَرْضِ الْجِبَايَةَ أَوِ الْجِزْيَةَ أَمِنْ بَنِيهِمْ أَمْ مِنَ الأَجَانِبِ؟”[4] وعندما أجاب بطرس “من الأجانب” فإن الرب أضاف قائلاً: “فَإِذا ًالْبَنُونَ أَحْرَارٌ. وَلَكِنْ لِئَلاَّ نُعْثِرَهُمُ اذْهَبْ إِلَى الْبَحْرِ وَأَلْقِ صِنَّارَةً وَالسَّمَكَةُ الَّتِي تَطْلُعُ أَوَّلا ًخُذْهَا وَمَتَى فَتَحْتَ فَاهَا تَجِدْ إِسْتَارا ًفَخُذْهُ وَأَعْطِهِمْ عَنِّي وَعَنْكَ“[5]. إذن هل فهمت؟ إنه عندما يتكلّم عن طبيعته فإنه يؤكد أنها حرّه لأن هذا يوضّح أنه يعلو على كل الخليقة لأن ما يُخلق هو عبد للخالق. ولهذا فإن الطوباوى داود يُشير إلى الله ضابط الكلّ بقوله: “لأَنَّ الْكُلَّ عَبِيدُكَ“[6] وبالتالي فالابن لا يخضع لمقاييّسنا نحن العبيد كما أنه لا يوجد تحت نير، لكن له الطبيعة الإلهية الفائقة العلو والتى تسمو على كل الخلائق.
إرميا: هذا كلام صحيح.
كيرلس: إذن يا إرميا هل سنُخضِع ذلك الذي له كل هذا المجد اللامع، تحت نير العبودية حتى ولو قيل عنه أنه أخلى نفسه واتخذّ شكل العبد؟ وكيف لا يكون هذا دليلاً على الجهل؟ لأني أريد أن أقول إنه مع كونه اتخذّ شكل العبد إلاّ أنه قَبِلْ ذلك كانت طبيعته حرّه وغير مقيّده[7] ومن ناحيه أخري ولا حتى أي كائن آخر يمكنه أن يصير ما كان عليه الابن وهو عندما يتخلّى عن ما كان عليه فإنه بطريقة طبيعيّة يتممّ أمر آخر. إذن لقد جاء الابن الينا ليس لكونه عبدًا فصار عبد بل جاء إلينا من طبيعة حرّه إلى شكل العبد. فلو لم يكن هناك للزمن دورًا، وان لم يكن تميز الاشخاص أى معنى مفيد، فحتى لو فكرنا أن كان الكلمة يمكن أن يدرك عاريًا وبدون جسد، فلن نستطيع إلاّ أن نحسبه عبدًا لا حرًا وأنه ضمن من هم تحت النير.
إرميا: وكيف لا يكون كل هذا كلام غير منطقي ولا يلَيق؟.
كيرلس: فليسمع إذن المخالفين؛ فطالما أنكم لا تقبلوا أن تفحصوا بالتدقيق الأزمنة وتميزوا الأشخاص، فإلى أين أنتم مُنقادون، وماذا تفعلون يا مَنْ لكم ذهن شرير ملتّو؟. ولماذا تخلطون بين أمور لا تقبل الاختلاط، مُهملّين الأزمنة والأوقات، والمعاني التي يمكن من خلالها أن تصبح كل الآيات التي قِيلت عن الابن واضحه في معانيها كل الوضوح؟ لأنكم يجب أن تَنسبوا لله الكلمة حتى قبل تجسده، إذ هو ابن للآب، كل ما يليق بالله، أي المجد والحريّة التي لا تُقارن، ونفس القوّة التي للآب. لأنه بواسطة الكلمة صارت كل الأشياء التي لم تكن موجودة. لأن للآب والكلمة نفس الإرادة والعمل المُشتَرك كما هو واضح في كل ما كتب عنه موسى. لأن موسى كتب لنا كيف أن الله الأب قال للكلمة أي الابن الذي قد وُلِدَ منه والكائن معه “لنَخلِقْ الإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِنَا كَشَبَهِنَا“[8] لأن تعبير “لنخلق” لا يدل على أن المتكلّم هو واحد، بل على أكثر من واحد وأكثر من اثنين[9]. ومن ناحية آخرى لأنه يهتّم بنا ويحبنا فإنه تحرّك بدافع من رأفته ومراحمه الإلهية حتى أنه “إِذْ كَانَ فِي صُورَةِ اللهِ، لَمْ يَحْسِبْ خُلْسَةً أَنْ يَكُونَ مُعَادِلاً لِلَّهِ. لَكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذاً صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِراً فِي شِبْهِ النَّاسِ. وَإِذْ وُجِدَ فِي الْهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ، وَضَعَ نَفْسَهُ“[10] وأي كلام يمكن أن يُقنعُنا نحن الذين بطريقة سليمة نعتقدُ في الابن، حتى نُقيّم درجه الأخلاء هذه أو أن نتعجّل بإنقاص قيمة ذلك الذي وضَعَ من عظمته بسببنا ومن أجلنا؟ فحينذاك دُعيّ الابن الوحيد بكرًا وحُسب بين أخوه كثيرين وهو الابن الواحد الوحيد الذي وُِلَدَ من الآب. إذن لقد وضَعَ نفسه وظهر كواحد منّا، لا لكي يتعرّض لأمر ممّا نتعرّض نحن له عاده، تاركًا عنه الطبيعة الآلهية وصِفَته كإبن حقيقي، لكن كي يرفع مَنْ كان بطبيعته عبد ومخلوق. بمعنى كيّ يرفعنا للمجد المدّخر فيه وحده، فهو الربّ وهو قد دعانا كي نكون أبناء. إذن عندما تعتبر كواحد منّا حين ندعوه بكرًا فنحن لا نجبره كيّ يكون فيما هو خارج طبيعته، وعلى الجانب الآخر عندما نقول إنه قد ارتقى بنا، فهذا لا يعني أنه قد تَخلّى عن طبيعته الفائقة وبالتالي تكون الطبيعة المخلوقة قد سادت عليه. فإن فكرّنا بهذه الطريقة ألاّ يكون هذا هزيان كامل؟ وبالتالي فعندما صار (الابن) مثلنا فهو لم يتخلّ عن ما هو له لكننا نحن الذين ارتقينا اليه، بسبب نعمته وأيضًا عَبَرنا مقياس طبيعتنا بسبب نعمته التي كرّمتنا، وارتقينا إلى ما هو أرفع وأعلى.
إرميا: ما تقصد بقولك هذا؟
كيرلس: ألم ندعى ابناء لله والمولودين- من الروح؟
أرميا: بلى.
كيرلس: لهذا فنحن لدينّا وصيّه ألاّ ندعو لنا أبًا على الأرض، بل أن نقدّم لله فقط بكونه أبانا، وذلك بسبب البكر الذي قد جاء بيننا ليس لسبب أحد آخر، سوى أن يجعل منا نحن أيضًا أبناء. لأن هذا هو هدف تجسده. وإلاّ فكيف كان سيكون سرّ المسيح مملؤ بالحكمة إن كان هو قَبِلَ أي أحد آخر قد أساء إلى طبيعته (الإلهيه) دون أن تعود الفائدة على حالتنا؟ لأنه قد نزل وصار بكرًا كي يُصنَّف مع الكثيرين مع أنه يختلف جوهريًا عنهم حسب طبيعته بل ويفوقهم، وليس فيه شيئًا- من أي جهه- مما يظن هؤلاء الذين يشترك معهم، أنه يتصّف به.
إرميا: لكنهم يقولون أنه يُسمّى بكراً للخليقة لأنه يختلف كثيرًا ويفوق بما لا يقارن كل الكائنات التي يحسب أنه من ضمنها.
كيرلس: وأين يَكمنُ مجده الذي لا يقارن وما هو مقدار علّوه، حتى وإن كان يقال لنا باللغة التي نفهمها، الكثير عنه وعن ماهيته، بأنه لابد أن يكون قد خُلِقَ؟ إن بَحثَِنا الآن يدور بكل تدقيق لا عن ما هو الكائن، أو هل تنقصه كرامة أو مجد، لكن بحثَِنَا يدور حول طبيعة المخلوق الذي جاء إلى الوجود، وما هو الشيء الأعلى منه والذي يفوقه، وأيضًا يتركّز حول طبيعة الابن الوحيد وهل هي مختلفة عن باقى المخلوقات، والتي سوف ترتْقي اليها بعد وقت معيّن طبيعة كل الكائنات التي يُعتقد أنها قد خُلِقت. وبالتالي فإن أراد شخص ما يا صديقي أن يَعلمُ عن ماهية طبيعة الشمس، وعن طبيعة الخيل، فإنه سيسأل: مَنْ مِن الأثنين حسب طبيعته- مخلوق وقد أتى من العدم إلى الوجود، أو هل يوجد رأى آخر. ما رأيك أنت؟.
إرميا: سأقول إنها مخلوقات.
كيرلس: ولو أصرّ بالأكثر علي رأيه وسأل مرّه أخري قائلا: مَنْ مِن الاثنين يسبق الآخر من حيث العظمة؟ ألن يكون سؤاله هذا مضحكًا لأن الإجابة لا تحتاج إلى تفكير مِمَن يسألهم؟.
إرميا: بالفعل سيكون سؤال مضحك جدًا.
كيرلس: أعتقد أن الأمر هو عبارة عن ثرثرة فارغة لأنه كيف يمكن المقارنة بين الشمس والخيل في العظمة وأين هي أوجه المقارنة؟ لأن الاختلافات التي تفصلهما هي أبعد من أي قياس. غير أنه لو صار الحديث عن جوهر كل من الاثنين وفكرّ أي شخص في ماهيه كل منهما، فلن يكون هناك فرق بينهما من حيث إن كليهما مخلوق مع أن الشمس تختلف كثيراً من حيث العظمة. لكن نحن نفحص بتدقيق ما قيل عن الابن، ونريد أن نعرف ماهيه طبيعته. فلو أن الابن يُعدّ من بين المصنوعات ويُحصى معنا كمخلوق، لكان تفاخرنا بأن الابن يفوق في المجد هو مجرد تفاخر مزيّف- لأن البعض يُزيّن الابن بامتيازات خارجية، ويُنسبون إليه أموراً وقتيه وهم يحاولون بطرق لا قيمه لها وبهتافات مثيره أن يجعلوا لتجاديفهم صوره حسنه. وبصفه عامه فإن من يُحسب وفق طبيعته من المصنوعات ويُعدّ بين المخلوقات، ليس هو وفق طبيعته إله ولا بالتأكيد ابن حقيقي وربّ ولكن شخص مختلف بين العبيد ويتفرّد عنهم فقط بمجد متواضع.
إرميا: بالصواب تتكلّم.
كيرلس: يتبقي فقط أن نتعجب من الأتي.
إرميا: وأي شيء هذا؟.
كيرلس: أنهم في تحاشيهم أن يعرفوا الحقيقة جيدًا وأن يؤمنوا، يهذون بأن لقب البكر معناه أن المسيح هو دائمًا وحيد الجنس، وهم في هذا يخدعون البسطاء، مع أن من يريد أن يقول شيئًا يتعلّق بهذا الأمر لا يكون محقًا. لأنه لو كان لقب “بكر” يجعل من الابن مخلوقًا ويُعدّ واحدًا بين أخوه كثيرين وهو لهذا يكون بكرًا، فحينئذ سيُظهِر هذا اللقب أن الابن وحيد الجنس هو مختلف عن الآخرين من جهة طبيعته. لأن كونه أنه وحيد الجنس يعني أنه ليس هناك آخر مثله من جهة طبيعته. وأيضًا أنه من المحتمل ألاّ يكون بكرًا بسبب كونه وحيد الجنس أو لن يكون وحيد الجنس بسبب أنه بكر، وهكذا سيكون من الحتمي أن يعتقدوا بأنه ولا حتى يوجد ابن بالمرّة. لأن سيوجد نوع من “الصراع بين الاسمين “بكر” و “وحيد الجنس” وسَيُفرَغ كل منهما الآخر من معناه. فكيف يمكن إذن أن يُستخَدم كل من الاسميّن لنفس الشخص ويعتبر هذا أمر صحيحًا؟.
إرميا: أعتقد أن الأمر لن يكون خلاف ذلك إلاّ إذا أخذنا في اعتبارنا ما حدث في تدبير التجسد.
كيرلس: وأيضًا فلتَعلم- بالتأكيد- أنك لم تؤمن بأي شيء آخر سوي ذلك الذي رآه القديسين مُعلّمي اللاهوت، أنه صحيح. هؤلاء الذين سلّمونا وشرحوا لنا ما يتعلّق بهذه الأمور[11]. فالواقع أن يوحنا اللاهوتي قد دَعى الكلمة الذي أتى من الله، بوحيد الجنس وبأنه هو الله وأكدّ الوهتيه إذ ليس له بداية في الزمن (أي أزلي). كما أن بولس الرسول المملؤ بالمسيح والروح القدس والمتميّز بين الرسل يقول “وَأَيْضاً مَتَى أَدْخَلَ الْبِكْرَ إِلَى الْعَالَمِ يَقُولُ: «وَلْتَسْجُدْ لَهُ كُلُّ مَلاَئِكَةِ اللهِ»“[12] وأعتقد أنه يستخدم تعبير “بكر” في الزمن المناسب الذي يشير إلى ظهوره في الجسد. لأنه قد جاء إلى العالم مع أنه منذ القِدم هو كائن فيه مع أن العالم لم يكن يعرفه وهكذا صار وسيطًا بين الله والناس وأصبح لقب “وحيد الجنس” امتيازًا خاصًا له. فهو إله من إله، واحد من واحد، ومولود بطريقة لا توصف، وعندما أتي إلينا فحينئذ فقط حُسِبَ بيننا كأخوه له وذلك عندما دُعى بكراً. وإلاّ فأين الأخلاء إن لم يكن مَنْ هو “وحيد الجنس” قد صار “بكراً”، وسكن بين البشر كإنسان وهو يعلو عن كل الخليقة؟ وبصفه عامة كيف صار مَنْ هو غني، فقيراً، إن لم يكن قد ظهر بيننا متخذًا ما هو غريب عليه، الأمر الذي من أجله صار فقيراً[13]؟ فطالما أن ما هو مخلوق (أي الجسد) والذي يُعدّ من بين المخلوقات، قد وُجِدَ فقط في زمن الإخلاء والفقر، إذن فَقَبِْل هذا الزمن ألا يليق به تمامًا مجد كل ما هو غير مخلوق بل ما يفوق كل الخليقة؟
إرميا: نعم هذا يليق به.
كيرلس: وطالما أنه وهو غني قد دُعىّ “بكرًا” عندما صار فقيرًا مثلنا ومن أجلنا، فإنه من اللائق- على ما أعتقد- أن نُفكر في أنه هو وحيد الجنس قبل زمن الأخلاء (العوز). لاني أعتقد بأنه يجب أن تكون هذه الأسماء صادقة بكل طريقه. إذن هو بكر ووحيد الجنس وابن في نفس الوقت بكونه ابنًا حقيقيًا وليس مخلوقًا.
إرميا: غير أنهم يقولون أن لقب “الابن” يُستَخدم لِمنْ هم من بين المخلوقات لأنه قال: “أنا قلت أنكم ألهه وبنو العليّ كلكم”[14]
كيرلس: لكن قل لي: إن كنا نحن أيضًا قد دُعينا أبناء الله بالتبني وآلهه، مع أننا حسب طبيعتنا قد خُلقتنا من التراب، فما هو الشيء الذي سينتقض مجد الابن الحقيقي الذي هو إله حسب الطبيعة ومولود من ذات جوهر الآب عندما نتحدّث عن كينونته ابنًا؟ وكيف لا يكون من المفيد للمتعطشين لمعرفة الأمور الخاصة بالابن، أن يتعلّموا بطريقة ما عندما يدرسون حالتنا نحن؟.
إرميا: كيف يكون هذا؟.
كيرلس: أريد أن أقول يا صديقي: إن مَنْ له طبيعة سامية تفوق الكلّ لا يمكن للاستخدام السيئ لمعاني الكلمات أن يُنزله إلى مستوي مَنْ هم أقل. ولا حتى مَنْ هو أقل ومَنْ ليس له مجد الابن أن يُرفع إلى مستوى الطبيعة الفائقة إن اُعطى كرامة ساميه بمجرد وصفه بكلمات وأوصاف بسيطة. هل تعرف ما أقوله وتفهمه جيدًا؟.
إرميا: أفهمه ولكن ليس جيدًا.
كيرلس: اسمع إذن، نحن نؤمن بإله واحد حسب الطبيعة ونعبده ومع ذلك نُدعَي نحن أيضًا آلهه حسب النعمة، بل بالحري صار لنا مجد البنوّه. أليس هذا ما قد قلته لنا قبل قليل؟.
إرميا: نعم.
كيرلس: فماذا إذن يا صديقي، هل يمكن أن نَصيرُ نحن أنفسنا ألهه حسب الطبيعة وأبناء حقيقين لذلك الذي يعلو ويوجد فوق الجميع لأننا دعينا ألهه وأبناء بدون أن نكون قد حصلنا على البهاء لأجل هذا الغرض وأيضًا أن نكون قد استؤمنا على أن نكون ثمره الطبيعة الفائقة؟.
إرميا: إطلاقًا، لان مَنْ هو بطبيعته مخلوق، كيف يمكن أن يصير إلهًا بالطبيعة؟
كيرلس: حسنًا تقول يا صديقي، لأن كل واحد يَحتفظُ- في الواقع- بطبيعته، حتى وإن عَلاَ بواسطة الكلمات العظيمة وأيضًا لا يُحدَّ أو يصيبه نقصًا إن قِيلت عنه كلمات وَضيِعه. وهيّا بنا لنقول إنه، طالما أن تعبير “بكر” يُشير إلى الابن عندما اتخذ لأجلنا جسدًا مخلوقًا وصار مثلنا، فإنه لم يتخلّ عن كونه إلهًا بالطبيعة وابنًا بالحقيقة. لأنه كما أننا لمَ نرتفعُ إلى ما هو فوق طبيعتنا عندما دُعينا آلهه، هكذا الابن- حَسبما أؤمن لم تَتَغيّر طبيعته بسبب حقيقة أنه صار كواحد من بين المخلوقات بسبب طبيعته البشريّة. أما إن رفض البعض ما جاء من عبارات في نصوص الكتاب المقدِّس، فإني أعتقد بأنه لا هُمْ ولا نحن أيضًا سنعرف ماذا سنقول- لو أراد أحد أن يَعلم بسبب الشغف الكبير والتسرّع بقولهم: لماذا كان كتاّب الوحي الإلهي يُشيّرون إلى الربَّ على أن له أيدي وأرجل مع أنهم كانوا يتكلّمون عن الطبيعة التي تفوق الكلّ وتعلو على كل جسم وهيئه وليس لها طول وعرض وهي غير ملموسة وغير ماديه؟ أننا نستطيع أن نواجه ادعائاتهم هذه بكل سهوله وبدون تفكير كثير، ونقول لهم الآتي: إن الاستخدام غير المُحددّ للكلمات لا يضير الطبيعة الفائقة على الجسد من جهة ماهيتها، حيث إن هذه الكلمات تُساهم في فائدة من يسمعها. أم أن حديثى غير مُقنع وليس صحيحًا بالمرّة؟.
إرميا: على العكس تمامًا.
كيرلس: وبسبب أنهم يتباهون بأقوالهم التي تبدو وكأنها مملؤه حكمه، ويثرثرون بحجج يتصوّرون أنه من الصعب تفنيدها فأنهم يتصورون أن من العسير أن ينسب للابن وحيد الجنس، لقب “البكر” قائلين بإن الابن وحيد الجنس لا يجب أن يكون خارج الخليقة طالما أنه له طبيعة مماثله لطبيعة كل المخلوقات، وهذا طبقًا لقوانين الخلق. هل تريد أن نضيف أمرًا آخر نافعًا؟.
إرميا: أنك تتحدّث بطريقه شيّقة، كما أني أريدك أن تتحدّث عن هذا الأمر الآخر.
كيرلس: ألم نُدعيَ نحن الذين نؤمن بالابن، كي نصير أبناء بواسطة الابن، كما أننا تَشكلّنا حسب صورته مثلما تتشكلّ الأيقونات حسب الأصل؟.
إرميا: بالفعل لقد دُعيِنا أن نتشكلّ على حسب صوره الابن. لأنه قد كُتِبَ “كُلُّ الَّذِينَ قَبِلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ سُلْطَاناً أَنْ يَصِيرُوا أَوْلاَدَ اللَّهِ أَيِ الْمُؤْمِنُونَ بِاسْمِهِ.“[15]
كيرلس: لقد تحدثّت بشكل فائق، غير أني أعرف أنك ستضيف أمرًا ضروريًا يتعلّق بهذا الموضوع وهو: هل أننا بالفعل دُعينا للتبني بحسب الجوهر والطبيعة؟ وإن كان هذا لم يحدث، فكيف حصلنا على صفه الأخوّة والقرابة؟
إرميا: أننا لم نحصل بأي طريقه من الطرق على التبني حسب الجوهر، بل حسب النعمة وبطريقة مُكتسبة.
كيرلس: إذن فكيف يُعتَبر الكلمة مخلوقًا بسبب تسميّته بالبكر؟ وبأي طريقه يمكن أن يُحسب مثلنا بحسب الجوهر كأنه بين أخوه له لأننا نُشْبَهَهُ، مع أن الصفة بأننا إخوَه له لم تكن في طبيعتنا بل بالحري خارجه عنّا وقد اكتسبناها في مليء الزمان وليس في وقت سابق على تجسّده بل عندما صار كواحد منا؟ لأني لا أعتقد أنهم سيقولون- مع أنهم تعوّدوا على الثرثرة الكثيرة- بأن الناموس قد دَعي القدماء بأن يصيروا إخوَه للابن لأنه يوجد في الناموس روح عبودية[16]. وعليه يكون واضحًا جدًا أن كلمة الله لم يكن معنا نحن العبيد طالما أنه لم يكن قد اتخذ جسدًا وصار في شكل العبد حتى يصيح أخًا لنا. لكن علينا الآن أن نتابع حديثنا عن هذا الأمر وبشكل واضح.
إرميا: وما هو هذا الأمر؟
كيرلس: إن الميّزة الطبيعيّة يا أرميا في بعض الكائنات لا تُكتسّب بمرور الوقت أو تُفرض عليها بواسطة آخر، لكن يتضحّ أنها توجد فيها دائمًا وتكوّن جوهرها. وأقصد بما أقول الأتي: إن الإنسان عند خِلقَتِه هو كائن عاقل حسب طبيعته غير أنه لم يصبح غنيا بعد. إذن فإن جاءته الثروة كشيء أضافي وخارجي فهل هذا معناه أن طبيعته كإنسان عاقل كانت ناقصة؟. وبالتالي- وعلى ما أعتقد- سيكون حقيقيًا أنه لا يمكن أن نتصوّر أن شخصًا سيحصل بمرور الزمن على شيء كان قد حصل عندما جاء إلى الوجود (أي العقل).
إرميا: بالفعل.
كيرلس: إذن لو أن الابن كان دائمًا أخًا لنا ويحسب بأستمرار من بين المخلوقات لأنه من نفس طبيعتهم ولهذا فقد كان بكرًا بينهم، فحينئذ أي هبه لم تكن لدينا قد تخف إياها وأقصد بذلك هبه الأخوّة؟ ولماذا منح هذه العطية فقط لمن آمنوا به؟ وما هو الذي يمكن أن يحصل عليه مخلوق من مخلوق مثله؟ هل أدركت إذن إلى أين يقودنا منطق هؤلاء المخالفين؟.
إرميا: نعم.
كيرلس: نترك عنّا إذن يا صديقي، كل اهتمام بهذه الأفكار الساذجة وننتهي إلى القول اليقين مؤمنين حقًا بأن الابن قد دُعيّ بكرًا من أجلنا عندما صار مثلنا كما أنه هو وحيد الجنس لأنه لا يوجد أحد يماثله حيث إنه الوحيد الذي وُلِدَ من جوهر الله الآب.
[1] أش2:1(س)
[2] أش 15:28
[3] يعطي القديس كيرلس أهمية كبرى لهذا المبدأ في تفسير وفهم آيات الكتاب المقدس. انظر: الحوار حول الثالوث. المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية.ج1 ص30
[4] مت25:17
[5] مت17: 26-27
[6] مز 91:119 “كل الخليقة تطيعك كالعبيد”
[7] هذا لا يعنى بالتأكيد أن الطبيعة الإلهية صارت محدودة بالجسد.
[8] تك26:1
[9] كثيراً ما استخدم آباء الكنيسة هذه الآية لشرح عقيدة الثالوث.
[10] فيلبي6:2-8
[11] هنا يكمن مبدأ الاعتماد على التقليد الكنسي باعتباره مصدرًا للتعلّيم في الكنيسة إذ لابد من الرجوع لتعاليم الآباء الكبار فيما يخص عقيدة الكنيسة وإيمانها ولقد سبق للقديس كيرلس أن أشار إلى هذه الأهمية في حواره الأول. أنظر الحوار حول الثالوث. المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية. ج1 ص17.
[12] عب6:1
[13] “فإنكم تعرفون نعمة ربنا يسوع المسيح أنه من أجلكم أفتقر وهو غني لكي تغنوا أنتم بفقره” كو9:8
[14] مز6:82
[15] يوحنا 12:1
[16] والتي هي ضد ما فعله الابن عندما تجسد وجعلنا ابناء.