Site icon فريق اللاهوت الدفاعي

المسيح رأس كل رجل – الحوار الثالث ج9 حول الثالوث – القديس كيرلس الاسكندري

المسيح رأس كل رجل – الحوار الثالث ج9 حول الثالوث – القديس كيرلس الاسكندري

المسيح رأس كل رجل – الحوار الثالث ج9 حول الثالوث – القديس كيرلس الاسكندري

 

الحوار الثالث

” إن الابن هو إله حقيقى كما أن الآب إله حقيقى “

 

رأس كل رجل هو المسيح … ورأس المسيح  هو الله:

كيرلس: وهناك شاهد آخر من الكتاب المقدس يشدّد على وحدة الجوهر بين الآب والابن لأن بولس الرسول يقول: ” رأس كل رجل هو المسيح وأما رأس المرأة فهو الرجل، ورأس المسيح هو الله[1]. لأنى أعتقد أنه يقصد بهذه الآية أن يوضّح وحدة الجوهر وأن الابن قد وُلد بالحقيقة من نفس هذا الجوهر[2].

 

إرميا: ماذا تقصد؟.

كيرلس: هل تعتقد أنه يجب أن نفحص بالتدقيق هذه الآية؟ قل لى ما الذي لم تفهمه أو ما الذي يبدو لك غريبًا في هذه الآية.

 

إرميا: نعم، يقولون، إن هذا الكلام يجرّد الابن من أن يكون واحدًا مع الله الآب.

كيرلس: كيف، هل تستطيع أن تجاوبنى؟

 

إرميا: بالتأكيد، هم يقولون إن كان الرجل هو رأس المرأة بسبب أن له نفس طبيعتها وجوهرها مع أنه يعتبر أنه يفوقها لأن الرأس هو عضو مكرّم جدًا وأعظم أعضاء الجسد ورأس الرجل هو المسيح، الأمر الذي يعنى أن هناك (تطابق) تشابه بين طبيعته وطبيعة المخلوقات مثلما أن طبيعة الرجل والمرأة هى واحدة. إذًا كيف يمكن أن يقال عن الابن أنه هو الله وبالحرى إله حقيقى أو كيف يمكن أن يكون واحدًا مع الآب في الجوهر طالما أنه يحسب من بين المخلوقات حتى ولو كان له مكانة الرأس في الجسد، لأنهم يقولون إنه متفوق على البشر من حيث الكرامة؟

 

كيرلس: يا لها من مقدرة فعليّة على التفوه بكلام غير لائق!! يا له من حديث عنيف وهجومى ومزيّف ذلك الذي يتحدث به أعداؤنا!! لأنهم يجدّفون تجديفًا واضحًا لأنهم يدّعون أن الابن هو مخلوق بواسطة الله الآب. غير أننا سنتحدث عن ذلك الأمر في الوقت المناسب وسنتناوله بالبحث من جهة الفكر واللغة. غير أنى أتعجب كثيرًا لأمر سأذكره الآن لأن هؤلاء الجهلاء قد وقعوا في خطأ وبدرجة ليست أقل من المرات السابقة، من جهة التفكير السليم.

لأنه يقال عن المسيح أنه هو رأس الرجل بسبب الارتباط الناتج عن العلاقة الطبيعية[3] (معنا) ونحن لا ننكر ذلك لأنه صحيح ومؤكد. فطالما أن الله هو رأس المسيح، فما هو الأمر الذي يعترضنا، أيها الكرام أو ماذا يمنعنا من أن نفكر أنه طالما أن الابن هو من نفس جوهر المخلوقات لأنه يدعى رأس الرجل، أن نتجرأ بأن نحصى الآب أيضًا من ضمن المخلوقات طالما أنه يُدعى رأس الابن حيث إن الابن هو مخلوق ومصنوع حسب ما تقولون؟ لأنه من الواضح أنهم يعتقدون أن ما يهذون به هو كلام حسن بغير عيب، غير أنى أعتقد أن ثقل تجديفهم قد أضناهم ومع ما يبدون من قسوة إلاّ أنهم يتبعون طرقًا طفولية في التعامل مع أمور هامة كهذه.

          إذًا فمع رفضنا وتركنا لهذه الأمور وإلقائها في البحر، هيا بنا نفكر فيما ينبغى أن نفكر فيه. فنحن نقول بالفعل، إن الرجل هو رأس المرأة لأن المرأة خُلِقتْ في البدء من جنبه وعلى صورته كما خلق هو على صورة الله كما جاء في الكتب[4]. كما أننا تعلّمنا أن رأس الرجل هو المسيح، الذي هو الأصل الثانى للجنس البشرى وبكر البشرّية[5] التي تقدسّت بالروح فنالت عدم الموت ولهذا السبب عينه يُدعى المسيح آدم الثانى[6].

ونحن نقبل بل ونؤمن أن رأس المسيح هو الآب لأنه مساوٍ له في الجوهر ومتحد معه حسب الطبيعة. ولهذا يُدرَك على أنه هو الله مع أنه ظهر في الجسد وصار كواحد منا. والمسيح ليس إلهًا فقط وليس إنسانًا فقط، بل أنه حسب التدبير قد وحّد في شخصه طبيعتين مختلفتين هما اللاهوتية والناسوتية في إتحاد لا يدركه العقل ولا يدنى منه ولا يُعبر عنه باللسان[7].

لأن المسيح هو إله وإنسان معًا[8]، فالآب السماوى هو مصدر (نبع) وأصل أقنومه وهو كائن معه وأزلى معه بدون أن يكون الآب سابقًا على الابن زمنيًا[9] طالما أن الرأس (الآب) كائن مع مَن دُعى رأسًا (الابن)، ومن جهة أخرى فالمسيح مرتبط معنا من حيث طبيعته البشرية.

فعندما نقول إن الله هو رأس المسيح وهو كذلك بدون شك، كيف لا يكون إلهًا ذلك الذي أصله هو الألوهة الحقيقية وله نفس جوهر من وَلَده؟ لأنه لابد أن ندرك أن الرأس هى من نفس طبيعة باقى الجسد. لكن إن كانوا يعتقدون أن الكلمة الذي وُلِدَ من الله الآب لابد أن يخرج خارج نطاق الألوهة ويحسب ضمن المخلوقات فليسمعوا جيدًا هذا القول ” اجعلوا الشجرة جيدة وثمرها جيدًا أو اجعلوا الشجرة ردية وثمرها رديًا لأن من الثمر تعرف الشجرة[10].

 

إرميا: لقد كان شرحك وافيًا.

كيرلس: إنه دليل واضح على حماقتهم التي فاقت كل حدود أنهم يعجبون بالشجرة لأنها جيدة وأصيلة بينما يصنّفون الثمرة بأنها من طبيعة أخرى. فالإله يَلدْ بالضرورة إلهًا. أم سنقول إن الأمر ليس كذلك؟

 

إرميا: أنا على الأقل أوافقك فيما تقول.

 

رائحة المسيح الذكيّة فينا هى شهادة لألوهيته:

كيرلس: وكيف لا يكون إلهًا وبالحرى إلهًا حقيقيًا مَن بواسطته، وبواسطته وحده يستطيع المرء أن يعرف أن الآب هو إله حق حسب الطبيعة؟[11] لأن بولس الرسول يكتب لهؤلاء الذين آمنوا ” لكن شكرًا لله الذي يقودنا في موكب نصرته في المسيح كل حين ويُظهر بنا رائحة معرفته في كل مكان لأننا رائحة المسيح الذكية لله[12]. فعندما تظهر رائحة الله الآب الذكيّة من خلال المسيح، وتصبح معروفة بواسطته، كيف تشك في أن هذا يجب أن يحدث؟ لأنه في المروج والبساتين تنمو الأشجار والزهور في مواسمها، كأشجار التفاح مثلاً وزهور السوسن. إذًا يا صديقى هل من الممكن أن يكون لثمار التفاح وبطريقة طبيعية رائحة السوسن أو أن يُغيّر التفاح رائحته لرائحة زهور السوسن أو عنهما يُنزع إلى الأبد ما يميّز كل منهما؟

 

إرميا: لا يمكن أن يتم هذا بأى طريقة لأنه ستفيح من كل منهما رائحته.

 

كيرلس: إذًا فكيف يقدر المسيح أن يكون هو رائحة المعرفة الحقيقية لله الآب ولا يُصدَّق أنه صَدَر من الألوهة الحقيقية؟ لأنه قد ثبت أن كل واحد يُعطى ما هو حسب طبيعته، وكيف يمكن لرائحة الألوهة حسب الطبيعة أن تُعطى بواسطة مخلوق له طبيعة مختلفة عن طبيعة الله؟ كما أنه لا يمكن للمرء العاقل أن يصدّق أن رائحة الألوهة توجد في طبيعة المخلوقات لأن هذا سيكون فكرًا أحمقًا.

وهكذا فإننا لا نستطيع أن ننسب إلى الألوهة الفائقة غير المولودة أنها ستأتى لنا بابن ذو طبيعة مختلفة عنها، عوضًا عن ابن فيه رائحة الألوهة الفائقة.   لأن الابن الوحيد وُلِدَ بطريقة لا يُعبَر عنها من جوهر الله الآب. ولهذا فإن كنيسة الأمم تناديه كعريس قائلة ” اسمك كالطيب المسكوب، لهذا أحبتك العذارى..[13] كما أننا أيضًا عن طريقه وبواسطته قد قَبِلنا ونلنا رائحة معرفة الآب.

 

إرميا: أتفق معك لأنه واضح أنك تتكلّم وتفكر بالصواب.

كيرلس: وبطريقة أخرى يمكن أن نبرهن على أن الابن هو الله وأنه وُلِدَ من الله مع أنه يمكننا أن نتوقف عن الحديث هنا.

 

إرميا: بأى طريقة تقصد؟

كيرلس: قل لى هل من اللائق أن أى كائن من الكائنات يمكن أن يوزع كل ما تملك الطبيعة الإلهية وحدها أن تهبه؟

 

إرميا: ليس من اللائق إطلاقًا.

كيرلس: بالتالى فمن الطبيعي أن مَن له القدرة على إتمام هذا العمل، أن يكون في العلا، في قمة درجات المجد اللائق بالله؟

 

إرميا: وكيف لا يكون هكذا؟

كيرلس: إن السلام هو عطية إلهية وهبة سماوية ويأتى إلينا بتفضّل من الله كما يصرخ إشعياء النبى قائلاً ” يا رب تجعل لنا سلامًا لأنك كل أعمالنا صنعتها لنا. يا رب لا نعرف آخر سواك نحن ندعوك باسمك[14].

 

إرميا: بالفعل هذا ممكن.

كيرلس: إذًا فالسلام هو ثمرة فعل سماوى وهو عطية بالفعل كما قلت سابقًا لا يهبه أى كائن مخلوق بل فقط الله حسب الطبيعة .. ولهذا فإن إشعياء قد قال بأنه يعرف الله وحده ولا يعرف آخر سواه.

 

إرميا: هذا حقيقى.

 

كيرلس: انتبه إذًا، إن الكلمة المولود من الآب هو الضابط للكل، وهو المانح لما يعطيه الله الآب لنا. لأنه قال لتلاميذه القديسين ” سلامى أنا أعطيكم، سلامى أترك لكم[15]. وقال إن هذا السلام هو سلامه لأنه بالفعل هو سلام يُعطى من الله وحده وليس بأى طريقة أخرى. كما أن بولس الطوباوى يقول ” نعمة لكم وسلام من الله أبينا والرب يسوع المسيح[16]. فقل ليّ إذًا: ذاك الذي هو مع الله الآب، يهب ويُعطى ويأتى بنفس المجد غير المتغيّر والعظمة، كيف يكون من الممكن أن ينقص عنه في المجد، أو كيف لا يكون مساويًا ومشابهًا في كل شئ لذلك الذي وَلَده؟

 

إرميا: صحيح.

كيرلس: تعال لنفحص أمرًا آخرً.

 

إرميا: ما هو؟

كيرلس: ألا ترى أنه إن تبعنا تعاليم القديسين[17] فإنه من المؤكد أن وصولنا إلى الحقيقة سيكون أسهل وسيقودنا هذا إلى ما يسّر الله وإلى معرفة ما أُوحى به عن الابن بواسطة الروح القدس؟

 

إرميا: ماذا يعنى هذا؟

كيرلس: يعنى أن الابن هو الله بالحقيقة حسب الطبيعة. ولهذا فإن المطوّب بولس قد قال عن الله الآب: ” الله ابو ربنا يسوع المسيح الذي هو مبارك إلى الأبد يعلم أنى لا أكذب[18]. وبعد ذلك مباشرةً يكرّم الابن ويمجده بنفس الكلام وبدون أى تردد لأنه يعرف أنه هو الله الحقيقى حسب الطبيعة فيقول لليهود: ” فإنى كنت أود لو أكون أنا نفسى محرومًا من المسيح لأجل اخوتى وأحبائى حسب الجسد الذين هم إسرائيليون ولهم التبنى والمجد والعهد والاشتراع والعبادة والمواعيد ولهم الآباء منهم المسيح حسب الجسد الكائن على الكل إلهًا مباركًا إلى الأبد آمين[19].

[1] 1كو3:11.

[2] ربما كان القديس كيرلس هو الوحيد من بين آباء الكنيسة المعلّمين، الذي أعطى لهذه الآية مثل هذا التفسير الذي يشدّد به على وحدة الجوهر بين الآب والابن.

[3] يقصد أن المسيح له المجد إتخذ لنفسه طبيعة بشرّية مثل طبيعتنا البشرية تمامًا ما عدا الخطية وحدها.

[4] تك26:1.

[5] لقد أساء الآريوسيون فهم الآية ” بكر كل الخليقة ” كو15:1. وفسروها خطئًا على أن الابن وكلمة الله هو مخلوق. لهذا أعطى ق. أثناسيوس الشرح المستقيم لهذه الآية مدافعًا عن ألوهية الابن المتجسد موضحًا أنه ” دُعيّ بكر الخليقة ليس بسبب نفسه كما لو كان مخلوقًا ولا بسبب أن له علاقة ما من جهة الجوهر مع كل الخليقة، بل لأن الكلمة من البدء عندما خلق المخلوقات تنازل إلى مستواها حتى يتيسر لها أن تأتى إلى الوجود. لأن المخلوقات ما كان ممكنًا لها أن تحتمل طبيعته التي هى بهاء الآب الخالص. لو لم يتنازل بحب الآب للبشر ويعضّدها ويمسك بها ويحضرها إلى الوجود “. انظر الشرح المطوّل لهذه الآية في المقالة الثانية ضد الآريوسيين، مركز دراسات الآباء، القاهرة 2004 الطبعة الثالثة، فقرات 6266.

[6] انظر التسبحة اليومية: ثيؤطوكية الأربعاء. وأيضًا ق. كيرلس: الجلافيرا: تعليقات على سفر التكوين. المقالة الثالثة.EPE. Tom. 3. s. 235

[7] يدافع ق. كيرلس بكل قوة عن عقيدة الكنيسة فيما يخص طبيعة المسيح الكلمة المتجسد وذلك ضد هرطقة نسطور الذي علّم بوجود طبيعتين منفصلتين وأنكر أن العذراء هى والدة الإله. انظر رسائل ق. كيرلس إلى نسطور ويوحنا الأنطاكى ثلاثة أجزاء، إصدار مركز دراسات الآباء. القاهرة 1988، 1989، 1995م.

[8] وفي موضع آخر من هذا الحوار عبّر ق. كيرلس عن إيمان الكنيسة بهذا بقوله: ” ونحن نرى أن الابن واحد من اثنين إذ فيه التقت الطبيعتان الإلهية والإنسانية معًا واتحدنا بشكل غير موصوف ولا يُعبّر عنه. وبكل تأكيد نحن لا نعنى أن كلمة الله قد تحوّل إلى الطبيعة الجسديّة الأرضية ولا الجسد تحوّل إلى طبيعة الكلمة … فكل منهما يبقى في خصوصيته ولكنهما يعدان في وحدة تامة لا تنفصل “. المرجع السابق. الحوار الأول ص39.

[9] هذا ما كان يعلّم به آريوس وسجله في كتابه “ثاليا” أى المأدبة الأدبية وقد أورد ق. أثناسيوس بعضًا مما ورد في الثاليا في بداية المقالة الأولى ضد الآريوسيين فقرة 5.

[10] مت33:12.

[11] كانت من نتائج تجسد الابن وكلمة الله هو القضاء على الموت وعلى فساد الطبيعة البشرية وأن يعرّف البشر عن الإله الحقيقي، عن الله الآب. انظر ق. أثناسيوس. تجسد الكلمة، ترجمه عن اليونانية وتعليقات د. جوزيف موريس فلتس، إصدار المركز الأرثوذكسى للدراسات الآبائية، فصل 7:15 ص45.

[12] 2كو14:215.

1 نشيد الأنشاد 3:1 (س).

[14] إش12:2613س.

[15] يو27:14.

[16] رو7:1.

[17] إتباع تعاليم القديسين وأسفار الكتاب هو الذي يضمن سلامة الإيمان المسلّم مرة، ولهذا نجد أن القديس أثناسيوس يتسآل عن مصدر تعاليم الهراطقة بقوله: ” فمَن هو الذي سلّم هذه الأمور إليهم؟ ومَن هو الذي علّمهم؟ فبالتأكيد لم يتعلّموا هذا من أحد الأسفار الإلهية، بل من فيض قلوبهم خرج هذا الجنون “. الرسائل عن الروح القدس. المرجع السابق. الرسالة الثالثة: 5.

[18] 2كو31:11.

[19] رو3:95.

 

المسيح رأس كل رجل – الحوار الثالث ج9 حول الثالوث – القديس كيرلس الاسكندري

Exit mobile version