خصائص طبيعة الابن – الحوار الثالث ج5 حول الثالوث – القديس كيرلس الاسكندري
الحوار الثالث
” إن الابن هو إله حقيقى كما أن الآب إله حقيقى “
الابن له خصائص طبيعة الذي وَلَدَه:
كيرلس: تمامًا كما لو قيل إن واحد هو واضع الناموس[1] وهو الآب وهو الديّان أيضًا، فإن هذا ليس معناه بأى شكل من الأشكال أن الابن ليس هو واضع الناموس وهو الديّان. لأنه لا يوجد بالمرة ما يمكن أن يفصل طبيعة الابن عن طبيعة الآب. وبنفس الطريقة على ما أعتقد، حتى إن كان الله الآب هو مَن له خاصية عدم الموت[2]، فإن الابن أيضًا له نفس الخاصية في جوهره وهو بالتأكيد عديم الموت بمعنى أن طبيعته غير مائتة ومشرقة ببهاء خصائص طبيعة الذي وَلَده، ولهذا فنحن والملائكة نسجد له. أما إن قالوا لنا إن الأمور ليست كذلك وأتوا لنا بكتابات منحولة ـ رغم أننا نؤمن بما هو مستقيم ـ فليوضحوا لنا ما يلى.
إرميـــا: ماذا تقصد؟
كيرلس: أولاً وقبل كل شئ، إن كان مَن ليست له حياة لأنه لا يملكها في طبيعته، فحينئذٍ ألا يكون بالضرورة مائتًا وستكون الحياة معطاة له من خارج (طبيعته) بواسطة آخر.
إرميـــا: نعم، لأن مَن هو ليس عديم الموت يمكن أن يقبل الموت.
كيرلس: وبالإضافة إلى هذا فليقولوا لنا أيضًا ما هو عمل الحياة في أولئك الذين هم في حاجة إلى الحياة؟
إرميـــا: طبعًا هو إعطائهم الحياة، مثلما أن عمل النور هو الإضاءة بالتأكيد.
كيرلس: بالصواب تتكلّم. فلو أن أحدًا قد اعتقد أن الحياة تحتاج إلى أن تنال حياةً (من آخر) أو أن النور يحتاج أن يستنير بواسطة آخر، فهل تظن أن اعتقاده هذا سليم؟
إرميـــا: بالتأكيد لا، لأنه بهذا الاعتقاد يكون قد ابتعد عن التفكير السليم لأن الحياة لا تُوهَب حياة بواسطة آخر.
كيرلس: إذَا عندما يكون الابن الوحيد بيننا ويصرخ فينا قائلاً ” أنا هو القيامة والحياة“[3]. فهل يجب أن نفترض أن الحياة ينقصها عدم الموت أم كيف يكون الأمر بخلاف ذلك؟
إرميـــا: كيف يكون ذلك؟ لأن الحياة لا ينقصها عدم الموت بالتأكيد. لأن الحياة في طبيعتها تعنى عدم الموت.
كيرلس: وأنا أقول إنه طالما أن الله الآب هو عديم الموت (وهذا ما يخبرنا عنه الكتاب المقدس)[4]، فكيف لا يكون الابن أيضًا عديم الموت؟ غير أنى أؤمن وبشكل مطلق بأن أمر الوحدة الجوهرية بين الآب والابن يعطى لكل منهما حقيقة كونهما عديميّ الموت، كما أنه أمر واضح أن الحياة هى صفة جوهرية وأن عدم الموت ليس هو شئ صالح يعطى من الخارج بل هو أمر يرجع إلى الطبيعة. فلو أن المعاندين بتفكيرهم المنحرف قد ظنوا أنه يجب أن يقولوا إن الابن هو غريب عن الله الآب وأن له طبيعة أخرى منفصلة وأنه ليس هو إله حق مع أنه بالتأكيد هو غير مائت بطبيعته أو بالحرى هو الحياة عينها، وبالتالى لا ينسبوا إليه كل الميزات التي نندهش منها نحن والملائكة والتي تليق بالطبيعة الإلهية غير الموصوفة، فهل يمكن ـ حسب تعليمهم المنحرف ـ أن تنسَب هذه الميزات التي تليق بالطبيعة الإلهية لأحد آخر من بين الخلائق؟
إرميـــا: وبأى طريقة يقولون ذلك؟
كيرلس: أعتقد أن هؤلاء سيقولون إن سلطة إعطاء الحياة وكونه هو الحياة تليق بمن هو بالفعل والطبيعة إله حق. إذًا طالما أن الآب حسب جوهره هو كذلك، بينما ـ وفقًا لما يقولون ـ إن الابن ليس من طبيعة الآب، وأنه يوجد في منزلة أقل من الآب، وحينما يقول الابن إنه هو الحياة ناسبًا لطبيعته الخاصة ما هو من خصائص جوهر الآب، فكيف لا يكون ما قلته بشأنهم هو صحيح؟ لأنه (حسب فكرهم) ما كان من خصائص الطبيعة غير الموصوفة قد انتقل إلى مَن لم يأت من جوهر الله الآب بل إلى مَن أتى إلى الوجود مع بقية الخلائق. لأنه بحسب ما نؤمن به، فإننا نعرف أن الله يأتى في المقام الأول ثم بعد ذلك الخليقة كلها ولا يوجد في الوسط بين الله والخليقة أى شئ آخر على الاطلاق. أليس ما أقوله صحيحًا؟
إرميـــا: صحيح تمامًا.
كيرلس: إذًا فإن كان الابن له جوهر آخر غير جوهر الآب فكيف يمكن أن نفهم أنه يوجد فعل واحد ومماثل لمَن هم مختلفين من جهة طريقة وجودهم؟ لأنه يقول ” لأنه كما أن الآب يقيم من الأموات ويُحيّي كذلك الابن أيضًا يُحيي مَن يشاء “[5].
إرميا: هو يقول ذلك بالتأكيد. والابن بالقطع هو الحياة. غير أنه قال أيضًا ” كما أرسلنى الآب الحيّ وأنا حيُُّ بالآب “[6]. إذًا فالحياة التي فيه هى بسبب أبيه[7].
كيرلس: وبالتالى أيها الجسورون هل يجب أن نقبل أن الابن نفسه قد استمد حياته من الله الآب مع بقية المخلوقات كلها وبالتالى لابد وأن نحصيه مع بقية الكائنات التي تستمد حياتها من آخر كشئ دخيل عليها؟ حينئذٍ يجب أن يُحسب الابن بين أولئك الذين يموتون لأن الشئ الذي يأتى من خارج (الإنسان) يمكن أن يُفقد، وما يريد الإنسان أن يحتفظ به، سيكون معرّضًا للفقدان، إن لم يرتبط بقوانين طبيعية تجعل احتفاظه بهذا الأمر ثابتًا.
إرميـــا: فكيف إذًا يمكن أن يفكر المرء بأن الابن هو الحياة بسبب الآب بالرغم من أن الابن نفسه بحسب الطبيعة هو الحياة؟
كيرلس: كونه هو الحياة[8] هو بالتأكيد دليل على أصالة صدوره من الله الآب وبرهان واضح على حقيقة طبيعته (الإلهية).
إرميـــا: ماذا تقصد بهذا؟
كيرلس: أقصد أنه لم يقل إنه أُعطى الحياة من الآب بل قال إنه حيّ بالآب.
إرميـــا: وماذا يعنى هذا إذًا؟
كيرلس: أعتقد أنه يليق لمَن له طبيعة ليس فيها حياة وليس لها عدم الموت بل هو يستمد حياته من آخر، أن يقول ” إن أبى أعطانى الحياة“. بينما يليق بمَن يعرف أنه هو الحياة وأنه قد صدر من الحياة، أن يقول وبطريقة تناسبه كإله ” أنا حيّ بالآب“. فلو أن كائنًا عاقلاً قد وُلد من كائن عاقل هو أبوه وقال إنى عاقل بأبى. أو بطريقة أخرى لو أن الحرارة التي تشع من النار[9] لها صوت وقالت إنى أُدفئ بالنار التي منها قد انبعثت[10]، فهل من الممكن ألاّ يظن مَن له عقل أنهما (أى الكائن العاقل والحرارة) يقصدان بالحرى خصائص كل منهما التي منها كينونتهما وليس خصائص دخيلة عليهما من الخارج كهبات؟!!
إرميـــا: بلى، سوف يظن كذلك.
كيرلس: وبالتالى فإن الابن حيّ بالآب لأنه هو الحياة التي هى من حياة الآب[11]، ولأنه بالفعل إلهًا حقًا تمامًا مثل مَن وَلَده. وكلامى الذي أقوله يستند على شهادة يوحنا الإنجيلى والمملوءة حكمة إذ يكتب عنه قائلاً ” ونعلم أن ابن الله قد جاء وأعطانا بصيرة لنعرف الحق ونحن في الحق في ابنه يسوع المسيح هذا هو الإله الحق والحياة الأبدية“[12]. هل اتضحت الأمور أكثر بالنسبة لك؟ وهل أصبح من السهل أكثر أن تؤمن بذلك بدلاً من أن تظن أن الابن ليس من نفس جوهر الآب؟
إرميـــا: إنى أعتقد أنه لا يوجد شئ يمكن أن يدحض كلمات يوحنا اللاهوتى لأنها تشهد شهادة قوية عن الابن ضد ما يردده المعارضون. غير أنه عندما يُسمّى الابن بالإله الحق ففي الحال يبتسم المعارضون في سخرية ويقولون إن الابن في الواقع ليس هو إله حق لكن الآب بإرادته قد منحه هذا الاسم. ويضيفون قائلين إن القديس بولس كتب ” رفّعه الله وأعطاه اسمًا فوق كل اسم“[13].
[1] يع12:4.
[2] انظر 1تيمو16:6.
[3] يو25:11.
[4] انظر 1تيمو16:6.
[5] يو21:5. وفي شرحه لهذه الآية من إنجيل يوحنا يؤكد ق. كيرلس نفس المعنى بقوله: ” أترون أيضًا أنه في تلك الكلمات برهانًا ساطعًا على معادلته للآب. لأن مَن يعمل بالمساواة من جهة إقامة الموتى، كيف يمكن أن يكون أقل؟ أو كيف يكون من طبيعة أخرى وغريبًا عن الآب وهو الذي يشّع بنفس الخصائص؟ لأن القدرة على الإحياء التي في الآب كما هى في الابن، هى خاصية للجوهر الإلهى، لكن الآب أيضًا لا يُحيي بعض الناس منفصلاً عن الابن ومن ذاته أو أن الابن يُحيي البعض الآخر منفصلاً ومنعزلاً عن الآب، إذ أن الابن له الآب في ذاته بالطبيعة، والآب يفعل كل شئ ويعمل كل شئ بالابن. لكن طالما أن الآب لديه قوة الإحياء في طبيعته ذاتها، هكذا الابن نفسه أيضًا، ينسب قوة إقامة الموتى، وكأنها تخص كلا منهما على حدة “. شرح إنجيل يوحنا، مركز دراسات الآباء، القاهرة 1995، ج2 ص105.
[6] يو57:6. عندما يتعرّض ق. كيرلس لشرح هذه الآية من إنجيل يوحنا فإنه يبدأ بالقول: ” معنى هذا النص غامض، تغلفه صعوبة ليست بقليلة، لكنه ليس عسر الفهم تمامًا إذ يمكن إدراكه وفهمه من قِبَل أولئك الذي اختاروا أن يفكروا باستقامة “. شرح إنجيل يوحنا، مركز دراسات الآباء، القاهرة 1998م، ج3 ص159. ولهذا فإنه يجتهد لتوضيح المعنى الحقيقي لها وما يحويه من تعاليم عقائدية تثبت ألوهية الابن ومساواته في الجوهر لله الآب. ومن الملاحظ أيضًا أنه إمتد في شرحه لهذه الآية كى يعلّم ليس فقط بوحدة الجوهر للآب والابن ضد الفكر الآريوسى، بل أيضًا كى يثبت= =عقيدة الثالوث الأقدس الواحد في الجوهر فيقول: ” إن الطبيعة الإلهية هى واحدة تُدرك في الآب والابن والروح القدس لا بشكل إنقسامى متعدد يعمل كل منهم بمفرده ما ينبغى أن يتم من أمور لكن ما يقال إنه تم بواسطة واحد منهم هو عمل الطبيعة الإلهية كلها. لأنه لَمّا كان الثالوث القدوس واحدًا فيما يخص وحدانية الجوهر، فإن قوته هى قوة واحدة بالكامل من جهة كل شئ. لأن كل شئ هو من الآب بالابن في الروح “. المرجع السابق ص160. ومن الجدير بالذكر أنه رغم أن موضوع الكتاب الذي ننشره اليوم هو حوار حول الثالوث، إلاّ أن القديس كيرلس لم يتطرق إلى عقيدة الثالوث، أى وحدة الجوهر الإلهى والثلاثة أقانيم، عندما أشار إلى هذه الآية، بالرغم من أنه في استخدامه لآيات أخرى من إنجيل يوحنا كان قد تعرّض لهذه العقيدة الهامة. انظر على سبيل المثال ص27.
[7] يضع ق. كيرلس على لسان إرميا كلامًا يعبر أحيانًا عن رأى المعارضين (انظر كيرلس ص37). ومن هذه الآراء أن الابن ليس له حياة في ذاته بل يستمدها من الآب وبالتالى فهو أقل من الآب، ودليلهم على هذا قول الابن ” أنا حيّ بالآب “. وفي موضع آخر يشير ق. كيرلس صراحة أن هذا ما يفكر فيه المعارض، فيقول: [ لكن معارضنا قد يجيب مرة أخرى: وبأية كيفية أخرى يكشف الابن عما يكونه بالطبيعة أو كيف يظهر بوضوح أن الآب أعظم إلاّ بقوله ” أنا حيّ بالآب”؟ لأنه إن كان الآب هو مُعطي الحياة للابن، فمن ذا الذي يندفع في مثل هذه الحماقة فلا يدرك بالتمام أن مَن يشترك في الحياة لن يكون بالطبيعة هو نفسه الحياة أو يكون قديرًا على الإحياء؟ ]. شرح إنجيل يوحنا، مركز دراسات الآباء، القاهرة 1998، ج3 ص160ـ161.
[8] في فصل كامل من كتابه “شرح إنجيل يوحنا” يشدّد ق. كيرلس على أن الآية “فيه كانت الحياة” يو4:1 تعنى أن الابن هو بالطبيعة الحياة ولذلك هو غير مخلوق وأنه من نفس جوهر الآب ويدلّل ببراهين تسعة على ألوهية الابن إذ هو واهب الحياة. انظر ج1 إصدار مركز دراسات الآباء. القاهرة 1989، فصل 6 ص67ـ72.
[9] سبق أن شرح يوستين المدافع والشهيد (+ 161م) طريقة ولادة الابن من الآب باستخدام تشبيه النار والحرارة الناشئة عنها. انظر حواره مع تريفو: 61.
3 استخدم ق. كيرلس نفس هذا التشبيه في سياق البراهين العديدة التي أوردها لإيضاح حقيقة وحدة الجوهر للآب والابن. انظر شرح إنجيل يوحنا. المرجع السابق ج1. الفصل الثالث. البرهان 22. ص40.
[11] في إطار شرحه ليوحنا 57:6 ” كما أرسلنى الآب الحيّ وأنا حيّ بالآب” يتكلم ق. كيرلس بلسان الابن المتجسد ويقول: ” وحيث إننى أنا الكلمة، ووُلدت حياة من ذلك الذي هو بالطبيعة حياة.. ولأننى الحياة بالطبيعة لأننى من الآب الحيّ “. انظر شرح إنجيل يوحنا، إصدار مركز دراسات الآباء، القاهرة 1998، ج3 فصل 3 ص159.
[12] 1يو20:5.
[13] في9:2. ويُلاحظ أن القديس كيرلس كان قد إستخدم نفس هذه الآية في سياق تعليقه على رؤية زكريا وأنه شاهد وزنة رصاص قد رُفعت (زك5:5ـ11) يقول ق. كيرلس: ” وزنة الرصاص هى المسيح نفسه الذي رُفع بالصليب ونراه يشّع بمجد الألوهية لأن الله رَفّعه عاليًا وأعطاه اسمًا فوق كل =اسم “. انظر كتاب السجود والعبادة بالروح والحق، ترجمة الباحث جورج عوض إبراهيم، المركز الأرثوذكسى للدراسات الآبائية، يوليو 2002 الجزء الثانى المقالتان الثانية والثالثة. ص61.