آبائياتأبحاثكتب

هل الابن أقل من الآب؟ – الحوار الثالث ج4 حول الثالوث – القديس كيرلس الاسكندري

هل الابن أقل من الآب؟ – الحوار الثالث ج4 حول الثالوث – القديس كيرلس الاسكندري

هل الابن أقل من الآب؟ – الحوار الثالث ج4 حول الثالوث – القديس كيرلس الاسكندري

هل الابن أقل من الآب؟ – الحوار الثالث ج4 حول الثالوث – القديس كيرلس الاسكندري
هل الابن أقل من الآب؟ – الحوار الثالث ج4 حول الثالوث – القديس كيرلس الاسكندري

 

الحوار الثالث

” إن الابن هو إله حقيقى كما أن الآب إله حقيقى “

 

هل الابن أقل من الآب المشرّع؟

كيرلس: انظر مقدار الحماقة التي يمكن أن يصل إليها حديثهم عندما يتهمون أولئك الذين يخالفونهم في الإيمان. لأنه لو كان الإله الحقيقي هو الآب وحده ـ وهذا كلام لا معنى له ـ فإنى أعتقد أننا سنكون مجبرين على أن نستبعد الابن عن أن يكون إلهًا حقيقيًا.

 

إرميـــا: هذا كان سيحدث بالضرورة.

كيرلس: إذ سيكون الابن (حسب قولهم) في وضع أقل من وضع الآب. لأن الذي يعلو فوق الجميع هو الإله الحقيقى حسب الطبيعة.

 

إرميـــا: بالفعل سيكون هكذا لأن هذا ما يقود إليه كلامهم.

كيرلس: إحذر إذًا من الخطر يا إرميا، لأنه ـ حسب أفكارهم المضادة للمنطق ـ إذا كان الابن هو أقل من الآب، فإذا فكرنا بدون تردد فيما قاله القديسون (عن معرفة المسيح)، فإن هذا يمكن أن يجعل الابن في مرتبة أعلى وأفضل من الآب نفسه.

 

إرميـــا: بالطبع هذا أمر لا شك فيه بالمرة.

كيرلس: اسمع إذًا الآن ما يصرخ به بولس بأنه كان فريسيًا حسب الناموس، وأنه كان يضطهد الكنيسة بكل غِيرة، وأنه كان يعيش بلا لوم لكى يُرضى الناموس. فيقول ” لكن ما كان لى ربحًا فهذا قد حسبته من أجل المسيح خسارة، بل أنى أحسب كل شئ خسارة من أجل فضل معرفة المسيح يسوع ربى[1].

 

إرميـــا: لقد قال هذا بالفعل، لكن ماذا كان يقصد بذلك؟

كيرلس: ألم يَشْر الناموس عند آبائنا القدماء إلى أن هناك رب وإله واحد؟

 

إرميـــا: نعم.

كيرلس: وهؤلاء المعاندون بالطبع يقولون إن هذا الرب والإله هو الآب.

 

إرميـــا: هم يقولون ذلك.

كيرلس: ولكن، ماذا يقول ذلك الذي اختير ليكون إناءً مختارًا لأسرار المسيح والذي هو معلّم المسكونة ولماذا يعتقد أن معرفة المسيح لا تقارن بكل تعاليم الناموس القديم وكيف يصفها بأنها أفضل جدًا، وكيف يرى أن ما يقوله الناموس هو بغير نفع بينما ينبهر ويتعجب أمام مسألة الخلاص التي يقدمها الإنجيل؟ وألا يجبرنا هذا على الإستنتاج بأن (المسيح) الذي هو موضوع المعرفة الأفضل لا يمكن إلاّ أن يكون ـ بالتبعية ـ أفضل (من ذلك) الذي علّم عنه الناموس؟

 

إرميـــا: نعم.

كيرلس: وعندئذٍ كيف يصل عقلنا إلى ذلك الحد من الغباء وعدم المعرفة حتى أنه يُقال أو يُعتقد أن الابن أعلى من الآب مع أن الابن أصله ومصدره في ذلك الذي وَلَده؟[2] لأنه بهذا القول نهين كل من الآب والابن لأن الضرورة تحتم أن نقيّم النبات مع الثمار والأصل مع الفرع والنبع مع الماء الذي ينبع منه وليس غريبًا عنه وأيضًا نقيّم مصدر النور مع الشعاع الصادر عنه والذي يستمد ضياءه منه.

 

إرميـــا: بالطبع إن قلنا هذا سنُهين كليهما معًا وهل يمكن أن يكون ما نفعله هو غير ذلك؟

كيرلس: وفي هذه الحالة هل سيكون من الضرورى أن نتخلى عن أى حديث عن الوحدة حسب الطبيعة بين الآب والابن وعن الكلام الذي يثبت أن الابن إله حقيقي بالطبيعة؟

 

إرميـــا: بالطبع سنكون مضطّرين لعمل هذا. لكن قل لي كيف تكون معرفة المسيح هى أفضل من تعاليم الناموس مع أن المسيح له طبيعة الآب الإله الحقيقى وقد تنبأ عنه العهد القديم؟

كيرلس: إن معرفة المسيح هى أسمى من المعرفة عن الله كما جاءت في العهد القديم بل وتفوقها، وتميّزها واضح. بل هى أوسع وأشمل مما جاء في الناموس، حتى أن موسى مُعلّم الناموس كان يطلب بإلحاح أن يعرف الله (الكائن) بشكل دقيق وواضح[3]، وقال للرب مخلّص الجميع اظهر نفسك لىّ بشكل ملموس كى أراك[4]، فأمره الرب أن يحفر في صخرة ومن داخل هذه النقرة، يمكنه إن أراد، أن يراه[5]. وأعتقد أن الرب قد أراد بهذا أن يبيّن وبطريقة غير مباشرة أن الناموس يستطيع أن يكشف عن جزء بسيط من معرفة الله لأولئك الذين يريدون أن يعرفوا، ويرسل ـ كما من ثقب ـ شعاع معرفته البسيط لأنه أراد لشعب الله أن يؤمنوا فقط بإله واحد لكى يبعدهم عن الضلالات.

          غير أن الله لم يُظهر لموسى بوضوح ماهية طبيعته غير الموصوفة، وذلك على عكس ما فعل المخلّص في كرازته، أعنى المسيح في كرازته. بمعنى أنه لأننا قد عَرِفنا الابن فنحن نؤمن أنه صَدَر من أصل الآب وأن مجد الابن وهو يُظهر ـ كصورة مرسومة ـ طبيعة الآب[6]، قد أعد أعيننا لنرى أمورًا أعلى مما يفكر فيه الذهن أو يقدر الكلام أن يعبّر عنه. ولهذا نسمع المسيح يقول لله أبيه ” أنا أظهرت اسمك للناس[7]. كما أنه قال لليهود ” لستم تعرفونى أنا ولا أبى. لو عرفتمونى لعرفتم أبى أيضًا[8]. ولو أننا نعرف أن كائنًا ما من الكائنات هو فقط موجود بدون أن نعرف ماهيته، فإنى أعتقد أن أى شخص يمكنه أن يقول إن هذا الأمر هو أقل من معرفة شئ عن وجود كائن ما وأيضًا عن ماهيته. ولهذا فإنه بعد الكرازة بالإنجيل توقف سريان تعاليم الناموس التي كانت تعلّم القدماء أن الله هو واحد، فقط بدون أن تتحدث عن الطبيعة الإلهية ـ الثلاثة أقانيم أو عن وحدة الجوهر لأن هذه التعاليم هى التي تحدّث عنها العهد الجديد. لأننا إن لم نؤمن أن الابن واحد مع الآب في الجوهر سيكون هناك تخبط ومتاهة[9]، ولن يكون للإيمان المعبّر عنه في الكتب ـ كما أعتقد ـ ما يسنده ويؤكده.

 

إرميـــا: كيف وبأى طريقة؟

 

كيرلس: إن الكتاب المقدس يصّرح بأن الله واحد وهو إله حق بطبيعته ولهذا فإن الابن لن يكون له المجد والكرامة الإلهيين إن لم يكن له كل ما للآب نفسه بغير تغيير. أم لعلك لم تسمع الآباء القديسين وهم يصرخون لله قائلين، مرة ” واحد هو واضع الناموس[10]. ومرة أخرى ” الذي وحده له عدم الموت[11]. ومن يا ترى هو الذي يجب أن نعتقد أنه الواحد الديّان الذي وضع الناموس والذي وحده له عدم الموت؟

 

إرميـــا: بالتأكيد هو الآب. حسب ما يقول المعارضون لأنى أعتقد أنهم لا يفهمون أن هذا الكلام يُقصد به شخص آخر سوى الآب.

 

كيرلس: وأنا أيضًا أعرف أنهم يفهمون أن هذا الكلام هو عن الآب وأن هدفهم غير برىء، وهل يجب إذًا أن نؤمن أن الابن أقل من واضع الناموس والديّان وأنه غير أبدى؟ وأن الحياة التي فيه قد حصل عليها من خارجه؟ وماذا سنحصد من هذا الفكر غير أن الابن سيكون خاضعًا بغير إرادته للناموس والدينونة وأنه بذلك يُحصى مع الذين هم بطبيعتهم مائتين؟ وفضلاً عن ذلك كيف لا يمكن اعتبار البشارة الإلهية ـ أى الإنجيل ـ هى كذب وبهتان طالما أنها تعتمد على شهادة الابن كى تَثبتْ حقيقتها؟ لأن الابن قال في الإنجيل ” أنا هو الحياة[12] بينما هو ـ حسب اعتقادهم ـ ليس عديم الموت لأن الآب فقط هو الذي لا يموت. إنى أعتقد أنك لن تحتاج لمجهود كبير كى تفهم أنه (أى الابن) هو الديّان وأنه واضع الناموس أم أنك لم تسمعه وهو يقول في موضع آخر ” قد سمعتم إنه قيل للقدماء لا تزن وأما أنا فأقول لكم إن مَن ينظر إلى امرأة ليشتهيها فقد زنى بها في قلبه[13]. وفي موضع آخر أيضًا يقول ” لأن الآب لا يدين أحد بل قد أعطى كل الدينونة للابن[14].

 

إرميـــا: لقد سمعت ذلك، لكن دعنى أسألك، هل تريد أن تستكمل الحديث ونردُ على هذه المغالطات أم أننا سنترك المعارضين بدون أن نَسوق لهم الأمثلة؟

كيرلس: لنستمر في الحديث بكل ثقة لأن الموضوع جدير بالمناقشة ويحفّز الذهن للرد على كل أفكار المعترضين.

 

إرميـــا: فلنتحدث إذًا بوضوح أكثر عن الآب والابن كلٍ على حدة.

كيرلس: قل ما شئت إذًا، ولن أعتبر ما تقوله هو تعبير عن إيمانك بل هو يمثل آراء المخالفين.

إرميـــا: إن واضع الناموس والديّان هو فقط الله الآب. لأنه يليق بالطبيعة الملوكية التي تفوق الكل أن تُشَرِّع وأن تدين. ولقد وصل الابن بالتأكيد إلى هذا الحد من المجد وذلك بتفضّل الله الآب.

كيرلس: وهل يكون غير واضح لأى واحد بين الذين يفكرون بطريقة سليمة أن كل ما ستقوله سيكون بدون فائدة ومعنى، إن لم تثبت أن ما قلته يتفق مع ما جاء في أقوال القديسين، لأننا لن نتبع أولئك الذين يريدون دائمًا أن ينادوا بأفكارهم فقط، بل أننا سنتبع أولئك الذين يتكلمون بفم الرب[15]. ووفقًا للمكتوب (في الكتاب المقدس)[16].

 

إرميـــا: حسنًا قلت، لأن الطوباوى داود (وهو يطلب من الله الآب من أجل دعوة الأمم) رتّل قائلاً: ” قم يا رب. لا يعتز الإنسان. لتحاكم الأمم قدامك … ليعلم الأمم أنهم بشر[17]. بينما الابن نفسه يشير بكل وضوح إلى أن هذا الأمر قد تحقق بواسطته (بصفته رب وملك) كما جاء بالمزمور ” أما أنا فقد مسحت ملكى على صهيون جبل قدسى. إنى أخبر من جهة قضاء الرب[18]. غير أن ذلك الذي يُعطىَ له السلطان أن يدين ويحكم، كهبة من آخر، ألا يكون سلطانه هذا هو سلطان خارج عنه وليس من طبيعته؟

 

كيرلس: لقد صرخ أحدهم ـ عن حق ـ في أولئك المنحرفين ـ قائلاً:    ” اصحوا أيها السكارى، يا جميع شاربى الخمر[19]. لأن الابن إذ هو صورة الآب ومساوٍ له في كل شئ، قد شاء بإرادته أن يتضع، فتنازل واتخذ شكلنا وصار إنسانًا، وهكذا يُعطىَ له السلطان أن يملك وأن يحكم ويُشرّع. ولأنه صار فقيرًا مثلنا بحسب التدبير واتخذ شكل العبد، وهكذا قَبِل أن يكون له بالعطية ما كان له بالطبيعة، ولهذا نجد طريقة كلامه وأفعاله تتناسب مع هذا الإخلاء[20]. وإنى أعتقد أنه لن يصيب أى واحد ممن يؤمن به أى أضرار لو أنه فحص عن الوقت[21] الذي أشارت إليه الآيات السابقة. بمعنى، متى مَلَكَ المسيح على الأمم، ومتى جاء إلى جبل صهيون (ليُمسح ملكًا)؟ هل يمكن أن يكون هذا قد تم قبل أن يصير إنسانًا؟ مع أنه من الممكن للمرء أن يرى بوضوح في النصوص الموسَويّة أن الابن لم يقم في أى وقت آخر ليُخبر بقضاء الرب للإسرائيليين إلاّ عندما لبس ثوب فقرنا، وأن رب الأنبياء قد دُعى نبيًا، ومَن هو كائن في حضن أبيه قد حُسب بين البشر، لأن الله كان قد أخبر موسى عن هذا الأمر بقوله ” أُقيم لهم نبيًا من وسط أخوتهم مثلك وأجعل كلامى في فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه به[22]. إذًا يا صديقى هل كان من الممكن أن يكون الكلمة أخًا للإسرائيليين وأن يُحسب من بين البشر قبل أن يصير جسدًا ويتحد بالطبيعة البشرّية بهذه الطريقة التي تفوق إدراك العقل والتي تعلو على الوصف؟ أم أنك تذكر أمرًا أكثر إقناعًا وهو أنه مُسح أخًا وصار مثل موسى مؤدبنا بالناموس[23]، وعند الحاجة أخذ يُشرّع ثم بطريقة معينة صارت له خدمة[24]، ومتى حدث كل هذا؟ أليس عندما أخلى ذاته من مجد طبيعته، أى في ملء الزمان وعندما مارس سلطانه الكامل بكل اتضاع.

إرميـــا: أعلم أنك تتكلّم بطريقة جيدة جدًا وأنا أتفق معك تمامًا.

 

كيرلس: بالتالى فلو أنهم فحصوا كل الأمور بحسب زمان حدوثها، فلن ينزلقوا ـ على ما أعتقد ـ إلى هذه الانحرافات أو تلك الأفكار الملتوية، بل سيكونون قادرين في النهاية على الفهم الصحيح لكلام الحق. وبالإضافة إلى ما سبق أن قلته فإنى أقول الآتى: لو أن أحدهم تصور أنه أمر غير ذى شأن وغير ضرورى وبلا معنى أن يبحث المرء عن الوقت المناسب لكل حدث ورد ذكره بالكتاب الموحى به، فهل سيكون هناك مانع من أن نقول إن الابن الوحيد وكلمة الله قبل أن يأتى إلينا قد مات بالصليب وقبل أن يتخذ جسدًا قد عامله اليهود مثل السكارى. وأنهم قالوا وفعلوا كل هذه الأفعال التي تليق بهم وحدهم وذلك عندما ذُكر عن المسيح وكأنه قد عانى ذلك بالفعل: ” بذلت ظهرى للضاربين وخدى للناتفين، وجهى لم أستر عن العار والبصق[25]؟ إذًا أليس هو فكر مجنون يستحق الاستهزاء أن يُعتقد أن الابن قد عانى هذه الآلام في الزمن الذي لا يناسبها، أى قبل أن يتخذ جسدًا؟

 

إرميـــا: صحيح.

 

كيرلس: لكن لنترك الحديث عن هذا الأمر ولنتحدث عن أمر آخر لو رغبت.

 

إرميـــا: وما هو؟

كيرلس: لنستمر في البحث عن الحقيقة والمعرفة الدقيقة ولنفحص ـ حسب ما يقولون ـ إن كان حدث مَسحِه ملكًا ومشرّعًا هو الذي سيحدّد كينونة الابن حسب الجوهر أم أن هذا هو مجرد صفة له؟

 

إرميـــا: إنى لا أعتقد أنهم سيقولون إن تحديد جوهر الابن يتوقف على حدث مَسحِه ملكًا ومشرّعًا من عدمه. لأنهم في هذيانهم غير المحدود لن يصلوا إلى هذا المستوى من الحماقة بأن يجرؤوا على القول بأن مَسحِه ملكًا ومشرّعًا هو الذي يحدد جوهر الابن. غير أنه ربما سيقولون: إن الحدث في حد ذاته هو الذي يحكم عليه، فالابن ـ كما يقولون ـ لم يكن ليقبل من آخر ما كان له بالطبيعة[26].

 

كيرلس: ولكم أيها الخبثاء!! سنقول أيضًا أن تفكيركم هذا غير منطقى وغير معقول بل ليس لديكم مهارة في صياغة الأمور العقائدية، ومن السهل أن تنحرفوا وتضلوا، ذلك لأنكم قد نسيتم أنه يجب فهم أحداث الكتاب المقدس حسب الأزمنة[27] التي تناسبها كما أنكم عندما تتحدثون عن الابن الوحيد في زمن تجسده قد نسيتم أيضًا أنه لا يجب أن ننسب إليه ما لا يليق بالله. ولأنها ليست هى المرة الأولى التي تفكرون فيها بطرق ملتوية وغير مستقيمة، فإنكم تقولون إن صيرورته ملكًا ليست خاصية ذاتية للابن، لكنها مجرد حدث. غير أننا نقول ما الذي يمنعنا من أن نؤمن ونعترف أنه فيما كان الابن بحسب جوهره ملكًا ومشرّعًا[28]، فإن الله الآب أراد أن يُظهر للبشر مَن هو كائن بالفعل. وبالقطع أنا لا أعنى أنه بدأ في أن يملك لكنه قَبِلَ أن يُشرّع لأولئك البشر وأن يضمهم لمملكته بعد أن كانوا قد خرجوا عن طاعته وصاروا تابعين لضلالات تعدد الآلهة. وأعتقد أنه من غير اللائق بالمرة، أن يقول بعض الذين يزعمون بأنهم حكماء، إن كلمة الآب قد دُعيّ منذ البداية وبرضاء الذي وَلَده ـ كى يُشرّع ومع ذلك لا يؤمنون أن الابن بحسب الطبيعة هو مُشرّع وأنه هو الله. فلو كان هناك منزل صغير مُعتم ومليء بالضباب الكثيف لم يدخله نور أشعة الشمس لفترة ما لأن أحدًا لم يسمح بذلك وبعد مرور هذه الفترة دخل النور مباشرةً وطرد الظلام وأضاء المكان بنور غير عادى بالنسبة لمثل هذا المكان[29]، ولو كان لهذا النور لسان لحكى لمن يتعجبون مما حدث وقال إنه قد جاء ـ من الشمس التى وَلَدته[30] ـ كى يدخل إلى ذلك المكان كى يفرّح بفرح دائم مَن كانوا تحت سيادة الظلام، فبعد كل ذلك هل يقبل أحد أن يكون هذا      “النور” قد استمد طبيعة النور لأول مرة حين دخل في هذا المنزل الصغير لأول مرة؟

 

إرميـــا: بالطبع لا، لأنه هو نور على الدوام[31].

كيرلس: لماذا إذًا يتصور هؤلاء أن كون الآب قد أقام الابن ملكًا ومشرّعًا، يمثل عائقًا منيعًا أمامنا مع أن الابن (في بداية كرازته) كان قد مارس عمله كمشرّع وحتى في الحالات القليلة التي أتم فيها عمله هذا كان يُظهر مجد طبيعته (الإلهية) ويبيّن أنه ينبغى على كل الأمم أن تخضع لنواميسه ـ وكان هذا يتم بتأييد من الله الآب ـ بعد أن كان شعب إسرائيل وحده في القديم هو الذي يخضع للنواميس الإلهية؟

 

إرميـــا: لكن لو كانوا يريدون أن يثبتوا بوضوح أن الابن هو مُشرّع، فمتى وبأى طريقة حدث ذلك بالنسبة لنا؟

 

كيرلس: أعتقد أن ما قلناه أخيرًا فيه الكفاية لمَن لديهم عطش للمعرفة. حيث إن الله قد ذكر بشأن الناموس والوصايا المعطاة في القديم أنه من غير المسموح أن يُضاف إليها أو يُحذَف منها (لأن الطبيعة الملكية فقط هى التي لها حق التشريع، وهى التي تقدر أن تضيف أو تحذف ما تريد)، أما الابن فقد شرّع، وأظهر أن الوصية القديمة لا تصلح وأعطى وصية جديدة هى الوصية الإنجيلية. ولقد فعل هذا كمشرّع، وليس كمُرسَل من السماء بل كمن له سلطان يليق بالله. والقديس بولس يؤكد على ذلك بقوله ” صرتُ لليهود كيهودى لأربح اليهود وللذين تحت الناموس كأنى تحت الناموس لأربح الذين تحت الناموس وللذين بلا ناموس كأنى بلا ناموس مع أنى لست بلا ناموس لله. بل تحت ناموس المسيح لأربح الذين بلا ناموس[32]. انتبه إذًا لأنه بينما هو يقول إنه ليس بلا ناموس لله يقول أنه يعيش طبقًا لناموس المسيح وهو في هذا يعطى المجد له لأنه هو الله ولأنه هو المُشرّع، ويعترف بألوهيته وبأحقيته وحده في أن يُشرّع. إذًا، وفقًا لكلام القديس بولس طالما أن مَن يعش بحسب ناموس المسيح هو ليس بلا ناموس لله، فما هو السبب الذي يمكن أن يمنع الابن من أن يكون هو المُشرّع وهو الله في نفس الوقت؟

 

إرميـــا: لا يوجد سبب على ما أعتقد.

 

كيرلس: يمكن للمرء أن يشير إلى أمر آخر بالإضافة إلى ما سبق.

 

إرميـــا: وما هو؟

كيرلس: أعتقد أنه ليس من السهل على أحد أن يثبت أن الله الآب قد شرّع بالأخص للقدماء الأولين فقط أو لمَن بعدهم، بينما يستطيع وبدون مشقة أن يتأكد أنه يُشرّع مع الابن وبواسطة الابن. فأين ولمَن كان الآب يُشرّع بينما كان الابن صامتًا وغائبًا؟

إرميـــا: ومع ذلك فإن الحكيم بولس يقول إن ” الله كلّم الآباء بالأنبياء قديمًا[33]. كما أن موسى أيضًا قال للإسرائيليين مرة ” الرب إلهنا كلّمنا في حوريب[34].

 

كيرلس: إن ما تقوله هو حسن يا صديقى فالقديسون قد نسبوا دائمًا لله الآب ذلك التشريع القديم. لكن هيّا لأثبت لك أن الابن يقول إن هذا التشريع هو له. لأنه لم يأت كى ينقض بأى شكل من الأشكال أو يهدم ما قاله الأنبياء لكن كى يكمّل أقوال الأنبياء والناموس. لأنه هو بنفسه قال ” لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل[35]. وأيضًا        ” السماء والأرض تزولان ولكن كلامى لا يزول[36]. هل فهمت الآن أنه بعدما قال إن كل ما في الناموس سيتم حتمًا قال إن كلامى سيصير من الآن هو الناموس؟ لكن يمكن للمرء أن يراه وهو يصرخ في موضع آخر على لسان أحد الأنبياء ويقول ” لذلك يعرف شعبى اسمى، لذلك في ذلك اليوم يعرفون إنى أنا هو المتكلم [37]. لقد تجسّدتُ واتخذتُ شكل طبيعتكم وكنت أنا هو مَن تكلّم حينذاك مع أن الله الآب كان هو مَن شرّع ما نطق به الأنبياء. إذًا الأمر يستتبع بالضرورة، وهذا أمر غير مشكوك فيه بالمرة أن مَن له دائمًا مجد المشرّع (واضع الناموس) يجب أن يكون وبطريقة طبيعية هو الديّان[38]، وأن يعاقب عقابًا شديدًا أولئك الذين يهملون ما تحدد بواسطة الناموس والذين يميلون إلى فعل ما يرون أنه حسن.

إرميـــا: بالتأكيد.

[1] فيلبى7:3ـ8.

[2] يقول ق. كيرلس في موضع آخر: ” المصدر الذي لا يوجد قبله شئ هو الآب والذي وُلِدَ من هذا المصدر بالطبيعة ندعوه الابن “. حوار حول الثالوث. المرجع السابق ص63. وسبق أن علّم ق. أثناسيوس عن علاقة الابن بالآب بقوله ” فالابن يجب أن يُعترف به أنه ليس من خارج أبيه بل هو الذي ولده “. ضد الآريوسيين. المركز الأرثوذكسى للدراسات الآبائية، المقالة الثانية. فصل 14.

[3] انظر خر13:3.

[4] انظر خر33.

[5] انظر خر18:33ـ23.

[6] عن أن الابن قد أظهر طبيعة الآب كصورة مرسومة يقول ق. كيرلس في موضع آخر: ” لأننا نحتاج أولاً أن نتعلّم بقدر الإمكان ماذا يكون الابن بالطبيعة وهكذا فمن الصورة والرسم الدقيق جدًا= =ندرك الأصل جيدًا. لأن الآب يُرى في الابن وهو يظهر بصورة كاملة في طبيعة وليده الذاتى كما في مرآة … لأنه يلزم لرسم جوهره أن يكون مماثلاً له من كل جهة وبكل طريقة، لئلا يُفترض أن شيئًا آخر مغايرًا لما يكونه الآب (أى مغاير لجوهر الآب) يشع في الابن بصورة كاملة “. شرح إنجيل يوحنا ج4، إصدار المركز الأرثوذكسى للدراسات الآبائية، القاهرة سنة 2000، ص35.

[7] يو6:17.

[8] يو19:8. عندما شرح ق. كيرلس هذه الآية في كتابه “شرح إنجيل يوحنا” ركّز على وحدة الجوهر بين الآب والابن واضعًا في إعتباره التعاليم الآريوسية التي أنكرت ألوهية الابن المتجسد ولهذا نجده يذكر صفة مَن ينادى بهذه التعاليم داعيًا إياه بـ ” الآريوسى محارب الله ” ويوضح ق. كيرلس أنه بسبب هذه الوحدة الجوهرية للآب والابن تصير معرفة وإدراك كل منهما عن طريق الآخر فيقول: ” لأنه حيث إننا نعرف الابن فإننا بواسطته نعرف ذاك الذي وَلَده، لأنه من خلال كل واحد منهما نصل إلى إدراك الآخر: فحينما يُذكر الآب يأتى ذكر وَليده بالتأكيد معه. وأيضًا مع معنى لفظ الابن يأتى اسم ذاك الذي وَلَده. ولذلك فالابن هو باب وطريق يقود إلى معرفة الآب “. شرح إنجيل يوحنا ج4، إصدار المركز الأرثوذكسى للدراسات الآبائية، القاهرة سنة 2000، ص35. ولم يكتف ق. كيرلس بتوضيح هذه العلاقة الجوهرية بين الآب والابن، بل أنه جعل هذه العلاقة هى الأساس الضرورى لإدراك الثالوث (هذا التوجه نلاحظه هنا أيضًا في حواره حول هذه النقطة) فيقول:      ” كيف لا يلزم بالضرورة الآن أن نعترف أن الابن هو مثل الآب من كل جهة لكى بواسطته نعرف أيضًا ذلك الذي وَلَده كما قلنا قبلاً، صاعدين من الصورة إلى الأصل ويصير ممكنًا لنا أيضًا أن ندرك الثالوث القدوس إدراكًا صحيحًا وبلا لوم “. المرجع السابق ص36.

[9] كان القديس أثناسيوس سابق للقديس كيرلس في دفاعه عن ألوهية الابن، وتوضيح أن معرفة الله تأتى فقط من خلال الإيمان بالمسيح، لهذا كان يركّز في تعاليمه على عقيدة تجسد ابن الله والفداء الذي قدّمه للبشرية وهذا يستلزم الإيمان السليم بألوهية السيد المسيح وإنسانيته معًا، وذلك في مقابل الفكر الآريوسى الخاطئ الذي كان يحاول أن يلغي حقيقة الفداء وأهميته، فلو لم يكن السيد المسيح هو الله بالحقيقة ـ كما أن الآب هو الله بالحقيقة (بسبب وحدتهما في الجوهر ÑmooÚsioj ) ـ لما كان في الإمكان أن يفدى البشرية من الموت والفساد. ولو لم يكن الابن هو الإله الذي تجسد، لما كان ممكنًا أن يشركنا في طبيعته الإلهية. انظر: كتاب تجسد الكلمة. ترجمه عن اليونانية د. جوزيف موريس فلتس. المركز الأرثوذكسى للدراسات الآبائية، الطبعة الثالثة 2004 المقدمة ص14ـ15.

[10] يع12:4.

[11] 1تيمو16:6.

[12] يو6:14.

[13] مت27:5.

[14] يو22:5. ظن المعارضون أن هذه الآية تدل على أن الابن أقل من واضع الناموس والديّان وأنه غير أبدى منكرين بذلك ألوهيته. ويعطى ق. كيرلس المعنى الحقيقي لهذه الآية بقوله: [ وها هو المسيح يقول ” إن الآب قد أعطى كل الدينونة للابن ” ليس كأن الابن كان بلا سلطان حتى الآن، بل تدبيريًا كإنسان، معلّمًا أنه من المناسب أكثر أن تُنسب كل الأشياء إلى الطبيعة الإلهية إذ هو أيضًا ليس خارجًا عن الآب لأنه هو الكلمة وهو الله الذي له السلطان في ذاته على الكل ]. شرح إنجيل يوحنا، المركز الأرثوذكسى للدراسات الآبائية، القاهرة 1995، ج2 ص106.

[15] إر16:23.

[16] انظر هامش 2 ص7.

[17] مز20:9.

[18] مز6:2.

[19] يوئيل5:1.

[20] لم يفسر الهراطقة كلام وأفعال المسيح له المجد على أنها تتناسب مع الاخلاء ولهذا فقد نادوا بتعاليم أنكرت ألوهيته.

[21] يشدّد الآباء ومنهم ق. أثناسيوس أيضًا على أهمية البحث عن الشخص الذي تتكلّم عنه الآية وزمان كتابتها والموضوع العام الذي يكتب من أجله الكاتب. انظر المقالة الأولى ضد الآريوسيين، إصدار المركز الأرثوذكسى للدراسات الآبائية، فقرة 54. ولقد اتبع ق. كيرلس نفس هذا المنهج الآبائى في تفسير النصوص لهذا يعلّق على الآية ” فإذ كان يسوع قد تعب من السفر وجلس (يو6:4) بقوله: ” إن التمييز بين النصوص أمر هام جدًا لنا لأن هذا يقودنا إلى تمييز الأزمنة والأوقات “. حوار حول الثالوث. المرجع السابق ص30.

[22] تث18:18.

[23] غلا24:3.

[24] في سياق تفسيره لمعجزة شفاء الأبرص وقول المسيح له بأن لا يقول لأحد بل يمضى ليُرى نفسه للكاهن ويقدّم عن تطهيره كما أمر موسى، يقول ق. كيرلس إنه من خلال هذه المعجزة ” يمكننا أن نرى بوضوح تام أن المسيح يفوق ناموس موسى بما لا يقارن ” وأن هذه الخدمة تثبت أنه إله. انظر: تفسير إنجيل لوقا للقديس كيرلس، ترجمة د. نصحى عبد الشهيد. إصدار مركز دراسات الآباء سنة 1990، ج1 ص116.

[25] إش6:50.

[26] بمعنى أنه لم يكن ملكًا بالطبيعة وبالتالى إحتاج أن يُمسح ملكًا من آخر. (المترجم)

[27] انظر هامش رقم 4 ص39.

[28] يذكر ق. كيرلس نفس هذه الحقيقة في إطار شرحه لما جاء في سفر العدد. انظر أيضًا شرحه لما جاء في إنجيل لوقا 21:2ـ24 عن ختان المسيح حيث يقول: “حينما كان الابن حاضرًا بيننا،  فرغم أنه هو بالطبيعة الله ورب الكل فإنه لا يحتقر حالتنا بسبب ذلك، بل يُخضع نفسه معنا لنفس مشرّع الناموس، رغم أنه كإله كان هو نفسه مشرّع الناموس”. تفسير إنجيل لوقا، إصدار مركز دراسات الآباء، مايو 1990، ج1 ص42.

[29] في موضع آخر يشرح ق. كيرلس بالتفصيل أن الخليقة قد إستنارت بالابن وذلك في إطار شرحه للآية ” والحياة كانت نور الناس، والنور يضئ في الظلمة والظلمة لم تدركه ” (يو4:1ـ5)، وفي شرحه هذا يشدّد أيضًا ـ كما يفعل هنا ـ على وحدة الجوهر بين الآب والابن ويورد أحد عشر برهانًا ودليلاً على هذه الحقيقة وعلى أن طبيعة الابن ليست كطبيعة المخلوقات. انظر شرح إنجيل يوحنا للقديس كيرلس، إصدار مركز دراسات الآباء. يناير 1989، ج1 ص73ـ87.

[30] سبق القديس أثناسيوس واستخدم تشبيه النور وأشعته التي تضئ كل المكان ليثبت أن الابن غير مخلوق بل أن الآب قد خلق كل شئ به. انظر المقالة الثانية ضد الآريوسيين الفصل 31:18، الطبعة الثالثة، إصدار المركز الأرثوذكسى للدراسات الآبائية 2004.

[31] يشدّد آباء مجمع نيقية على ألوهية الابن المتجسد وعلى أنه من ذات جوهر الآب وذلك باستخدام تعبير ” نور من نور ” في نص قانون الإيمان. انظر أيضًا ق. كيرلس، شرح إنجيل يوحنا، إصدار المركز الأرثوذكسى للدراسات الآبائية ج1 ص74. انظر أيضًا هامش رقم 2 ص 3.

[32] 1كو20:9ـ21.

[33] عب1:1.

[34] تث6:1.

[35] مت18:5.

[36] مت35:24.

[37] إش6:52.

[38] أو كما عبّر الآباء في مجمع نيقية ـ القسطنطينية بقولهم عن الابن بأنه ” .. وأيضًا يأتى في مجده ليدين الأحياء والأموات “.

 

هل الابن أقل من الآب؟ – الحوار الثالث ج4 حول الثالوث – القديس كيرلس الاسكندري