شركة الخصائص الذاتية ج2 – الحوار الثالث ج3 حول الثالوث – القديس كيرلس الاسكندري
الحوار الثالث
” إن الابن هو إله حقيقى كما أن الآب إله حقيقى “
أمثلة عن شركة الخصائص الذاتية للآب والابن:
المثال الثانى:
صيغة الجمع في الآية ” نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا ”
كيرلس: انتبه إذًا، إن أردت، أيها الصديق إلى ما يقوله موسى النبى، الذي يتحدث إلى طبيعة الله البسيطة غير المركبة[1] بصيغة الجمع. لأنه يمكننا إن انتبهنا قليلاً أن نرى ثلاثة أقانيم في طبيعة ألوهية واحدة[2].
إرميـــا: أريد أن أعرف بالضبط معنى ما تقول. تكلم معى إذًا بإيضاح أكثر.
كيرلس: أليس حقيقيًا أنه وهو يكتب أول كتبه إلينا (التكوين) يشير إلى أن الله هو خالق الكل؟ يقول إذًا إن الله بعدما خلق كل الخليقة، فإنه فقط عندما خلق الإنسان قال ” نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا “[3]. وبعد ذلك بقليل أضاف ” فخلق الله الإنسان على صورته “[4].
إرميـــا: لقد فهمت.
كيرلس: وعندما أراد البعض عن جهل أن يبنوا برجًا يصل إلى السماء قال رب الكل ” هلُّم ننزل ونبلبل هناك لسانهم “[5]. مَن إذًا الذي يتكلّم ولمن يقول ” هلُّم ننزل ونبلبل ألسنتهم“؟ لا أعتقد أن يقول هؤلاء إن الله كان محتاجًا لمساعدة الملائكة أو إلى مؤازرة الخلائق الأخرى، كى يتمّم ما أراده. لأن الله هو كلّى القدرة ويستطيع أن يفعل أى شئ، ويملك في ذاته القدرة على فعل ما يريده بسهولة. وكل الخلائق تستمد قوتها منه. كما نقول إن الله هو الحياة والحكمة وأنه لا يمكن لأى أحد أن يُحيي أو يُشرك الآخرين في منافع الحكمة ما لم تكن هذه المواهب صادرة منه كما من نبع متدفق[6]. وهكذا ـ أعتقد ـ بنفس الطريقة، أنه لا يستطيع أى من الخلائق أن تكون له القدرة أن يحقق شيئًا ما بدون أن يدفعه إلى ذلك الله كلّى القدرة. وبالتالى فإننا نستطيع أن نؤكد أنه لا يليق بالله أن يقول للملائكة أو لأى من الكائنات العاقلة ” هلُّم ننزل ونبلبل ألسنتهم“. وهكذا تَدّخَل الثالوث بنفسه في هذا الأمر، لأن شأن تغيير طبيعة اللغة من لغة سهلة موحدة إلى لغات عديدة متنوعة وغير معروفة فيما بينها هو من خصائص طبيعة عمل الثالوث وحده. ولكى نفهم أن هذا الأمر ليس من اختصاص الملائكة لكن من خصائص الإله وحده فلابد أن نلاحظ أنه قال “هلُّم” موجهًا الحديث نحو الثالوث القدوس أى نحو الثالوث ذو الجوهر الواحد.
إرميـــا: بالفعل.
كيرلس: وإن كانوا يظنون أن طبيعة الإنسان بصفة عامة تتشكّل حسب الله؟ فلنسألهم صورة مَن تلك التي خُلِقَ عليها الإنسان؟
إرميـــا: ما رأيك لو أنهم قالوا إن صورة الله الآب هى التي خُلِقَ عليها الإنسان؟
كيرلس: لو قالوا إن صورة الله الآب فقط لكان تفكيرهم تفكير أحمق.
إرميـــا: كيف؟
كيرلس: أولاً: تعبيرا ” لنعمل” وأيضًا ” على صورتنا” يدلاّن على أن المتكلّم ليس شخص واحد بل أكثر من واحد وأكثر من اثنين، وبخلاف هذا نفكر فيما يلى. الصورة التي تشوّهت وفقدت جمالها الأول ألا يجب أن تعود مرة أخرى إلى ما كانت عليه أولاً وبعدما يتم إصلاح ما أصاب الصورة في بُعدها عن الأصل، وهكذا تستعيد هيئة طبيعتها غير المشوَّهة مرة أخرى.
إرميـــا: ماذا تقصد بهذا؟
كيرلس: استمع لى جيدًا وسأشرح لك هذا على قدر استطاعتى. لو أن أحدًا من الصنّاع، وعلى سبيل المثال أحد هؤلاء الذين يعملون في تشكيل النحاس، قد صنع تمثالاً معطيًا إياه شكله وملامحه، ثم سقط هذا التمثال من على قاعدته بفعل أحد الحاسدين وتحطّم وفقد جماله، ولو أن صانع التمثال ـ لأنه لم يحتمل أن يرى تمثاله محطمًا ـ أراد أن يقتل ذلك الحاسد الذي حطّم التمثال، نجده وقد أعاد صنع التمثال مستخدمًا نارًا أشد قوة معيدًا إياه إلى حالته الأولى بعد أن يكون قد رفع عنه ما أصابه من أضرار. وهل كنت تعتقد أنه كان من الصواب لو أن الصانع قد ترك صنعته كى تتشكّل بشكل آخر غير الأول، وفي هذا تتضح عدم قدرته؟
إرميـــا: لا أعتقد طبعًا.
كيرلس: وهل معنى أنه أعطاه ملمحه الأول أنه أعاد تشكيله بالفعل وأنه طبع صورته فيه؟
إرميـــا: بالطبع.
كيرلس: طالما أن الأمر هكذا، فما هو الأمر الذي تُصدق أن يكون الله الآب قد فعله، إن كان الإنسان قد خُلق ” على صورته كشبهه” هو وحده فقط. لأن هذا الكلام تقريبًا هو ما يقوله المخالفون. أى عندما أراد أن يعيد خلقة الإنسان الذي انزلق وتشوّه، ويجدّده لم يعطِ له ملمحه الذي كان عليه في الأصل، أى لم يصيّره شبيهًا بنفسه بل أعطاه شكلاً آخر؟ وهذا سيحدث بالطبع لو أن الابن الذي أُعيدت خلقتنا على صورته كان مختلفًا في الطبيعة عنه (عن الآب). لأن بولس الحكيم يكتب للبعض ما يلى ” يا أولادى الذين اتمخض بكم أيضًا إلى أن يتصور المسيح فيكم“[7]. وفي موضع آخر يقول ” لأن الذين سبق فعرفهم سبق فعينهم ليكونوا مشابهين صورة ابنه“[8]. لأن المسيح قد شكّلنا مرةً ثانيةً بالروح القدس حسب صورته واهبًا جمال طبيعته لنفوس الأتقياء وبطريقة عقلية وغير موصوفة. بمعنى أننا ـ كما أعتقد ـ نتشكّل لا لنصير كالله الحقيقى، لكننا نأخذ شكل يتناسب وطبيعتنا المخلوقة. وإلاّ فإن ما ذكره المزمور منذ القديم بأنه ” يتجدّد كالنسر شبابك“[9]، كان سيضيع هباء، ويظهر أنه بدون هدف. لأن التجديد بحسب الكتاب ليس هو شئ آخر سوى أنه تجديد نفوسنا التي لم ترتفع إلى أعلى إطلاقًا والتي لم ترجع لِمَا كانت عليه أولاً، ولكنها صارت في وضع أقل كرامة مما كانت عليه قبلاً وهى هكذا تعانى من هذه الحالة. وقد يقال[10] إن عملية الخلق الأول للإنسان هى أفضل بدرجة لا تقارن بعملية تجديد الإنسان بواسطة المسيح إذ أن الأولى قد أعطتنا إمكانية أن يكون لنا ملمح الإله الحقيقى في داخلنا بينما التجديد الذي تم بالمسيح قد أعاد تجديدنا لكن ليس على هذا الملمح، فقد أعاد تشكيلنا على صورة الابن[11]، ولذلك، ماذا سنربح من تجديدنا بواسطة المسيح طالما ـ وحسبما يظهر ـ أننا قد خسرنا كوننا على شبه الله، وبصفة عامة تُرك عنا مجد طبيعتنا طالما أن حالة الغبطة ـ بالنسبة لنا ـ كانت في أن نصبح مشابهين الله؟ غير أنى أؤمن بأن كل هذا الفكر هو كالأساطير يستوجب الضحك إذ هو مثل قصص الأطفال. لأننا تشكّلنا من جديد حسب الصورة الأولى إذ ختمنا بختم الابن[12]، كى نصبح مثله، لأنه هو صورة الآب وختمه وليس هو آخر بجانب الآب وذلك بسبب الجوهر الواحد.
إرميـــا: لقد تحدثت بدقة شديدة.
[1] سبق أن وصف القديس كيرلس الطبيعة الإلهية بأنها “طبيعة بسيطة” انظر هامش1 ص14. وهنا يُضيف لها صفة مرادفة وهى أنها “غير مركبة” لأن التركيب هو بداية الإنقسام وهو عكس البساطة. =وفي موضع آخر يعطى نفس هذا الوصف بأن: ” الجوهر الإلهى بسيط وغير مركب ” وذلك في سياق رده الذي يوضح أن الابن هو كلمة الله الآب فيقول: ” نحن نؤمن بأن الثالوث القدوس المسجود له جوهر واحد رغم جنون الهراطقة الذي يمنعهم من الإيمان. ووحدة الجوهر تفترض وجود مساواة في الخصائص الطبيعية بين الأقانيم. فإذا عدنا إلى إفتراض الهراطقة الذي يتوهم وجود كلمة في الآب غير الابن الكلمة، فإن المساواة تفترض أيضًا وجود كلمة ذاتى في الابن طالما أن الابن مثل الآب في كل شئ وهو صورة جوهره ورسم أقنومه (عب3:1) وأيضًا الروح القدس فيه كلمة ذاتى طالما أن الروح القدس مساوٍ للآب والابن. وهذا يعنى أن الثالوث صار سداسيًا. وأصبحت الطبيعة الإلهية مركبة. وهذا مستحيل فالجوهر بسيط غير مركب، لا يوجد فيه إلاّ ثلاثة أقانيم ولا يوجد وسيط بين كل أقنوم وآخر، بل هو جوهر واحد للثالوث القدوس لا اختلاط فيه بين الأقانيم “. شرح إنجيل يوحنا، إصدار المركز الأرثوذكسى للدراسات الآبائية، القاهرة 1989، ج1 ص53.
[2] كثيرًا ما أجمع آباء وكتّابها على نفس هذا التفسير. انظر على سبيل المثال: رسالة برنابا (كتبت ما بين 70م وسنة 138م). ق. يوستين المدافع والشهيد (+161): الحوار مع تريفو فصل 62. العلاّمة ترتليان: ضد ماركيون الكتاب الخامس: 12. ق. إيريناؤس: ضد الهرطقات. الكتاب الرابع في المقدمة وأيضًا فصل 20. ق. يوحنا ذهبى الفم. العظة الثانية على سفر التكوين. ويقول ق. أمبروسيوس: [ إن الآب يعلن أن الابن مساوى له وهو يعمل معه في الخلق في قوله ” لنخلق الإنسان على صورتنا كشبهنا ” وهذا يعنى أن الآب والابن والروح القدس لهم جوهر واحد لأن “صورتنا وشبهنا ” تعنى وحدة القوة الإلهية للثالوث ] الروح القدس للقديس أمبروسيوس. المرجع السابق الكتاب الثانى ص9. انظر أيضًا:
- Mel. Wilson, st. Andrews: The Early History of the Exegesis of Gen. 1.26. in studia Patristica. Vol 1. 1957. P. 420-437.
[3] تك 26:1.
[4] تك27:1. في موضع آخر يوضح ق. كيرلس معنى أن الإنسان قد خُلق على صورة الله وكشبهه فيقول: “إذن فقد قبلنا، أن الإنسان منذ البداية، قد خُلق وفكره يسمو فوق الخطايا والشهوات، لكنه لم يكن مُحصنًا تمامًا من الانحراف في اختياراته. لأن الخالق الأعظم للجميع، قد رأى حسنًا أن يترك الإنسان لإرادته المستنيرة ويسمح له أن يعمل ما يفكر فيه، وذلك بدافع نفسه فقط. بمعنى أن الفضيلة كان يجب أن تُتمم اختياريًا وليس كأمر إجبارى، وأيضًا ألاّ تكون الفضيلة موجودة بدون تغيير في صفات الطبيعة البشرية، لأن الثبات خاصية الجوهر الإلهى الذى هو فوق الكل ويفوق كل الأشياء. فالله قد خلق الإنسان ذلك الكائن الحى بطبيعة خاصة به كإنسان، مانحًا إياه غنى التشبه به. إذ قد رُسمت صورة الطبيعة الإلهية في الطبيعة البشرية بنفخة الروح القدس. وحيث إن الله هو الحياة ـ بحسب الطبيعة ـ لذلك فهو يعطى نسمة الحياة “. انظر السجود والعبادة بالروح والحق، ترجمة الباحث جورج عوض، إصدار المركز الأرثوذكسى للدراسات الآبائية، ج1 ص28.
[5] تك7:11.
[6] هذه الحقيقة تخص الأقانيم الثلاثة لله الواحد وتثبت ألوهيتها. وقد سبق القديس أثناسيوس وعلّم في سياق دفاعه عن ألوهية الروح القدس بأن كل الخلائق تشترك فيه وأنه لا يمكن أن يفقد قداسته= =لأنه (أى الروح القدس) لا ينالها عن طريق الإشتراك ولكنه يملكها جوهريًا في ذاته وأيضًا يقول عنه: “فإن كان هو دائمًا كما هو ودائمًا يُشترك فيه، وإن كانت المخلوقات تشترك فيه، فالروح القدس لا يمكن أن يكون ملاكًا ولا مخلوقًا على الإطلاق بل هو خاص بالكلمة “. الرسائل عن الروح القدس. المرجع السابق. الرسالة الأولى: 27. وفي موضع آخر يتبع نفس المنهج لكن من جهة الابن فيقول: “وإذًا فإن ذلك الذي لا يتقدّس بواسطة آخر، ولا يأخذ القداسة بل هو نفسه الذي يُشترك فيه والذي فيه تتقدس كل المخلوقات، فكيف يمكن أن يكون واحدًا من بين الكل، أو يكون من خاصة أولئك الذين يشتركون فيه؟ لأن أولئك الذين يقولون هذا يلزم أن يقولوا إن الابن الذي به وُجدت كل الأشياء هو واحد من بين كل هذه الأشياء “. المرجع السابق: الرسالة الأولى: 23.
[7] غلا19:4.
[8] رو29:8.
[9] مز5:103.
[10] من جانب الذين يقلّلون من شأن الابن وعمله الإلهى. (المترجم)
[11] لأن الابن ـ في نظرهم ـ ليس مساويًا للآب في الجوهر. (المترجم)
[12] يدّلل ق. أثناسيوس على ألوهية الروح القدس بما يفعله في المؤمنين ويستشهد بالآية ” الذي فيه أيضًا إذا آمنتم ختمتم ” (أف13:1) وأيضًا ” لا تحزنوا روح الله القدوس الذي به ختمتم ليوم الفداء” (أف30:4) ويقول إن: ” المخلوقات تُمسح وتُختم فيه فلا يكون الروح مخلوقًا، لأن الذي يُمسح ليس مثل الذين يُمسحون “. وبسبب أن الابن أيضًا هو إله وواحد مع الروح القدس في الجوهر، فإن ق. أثناسيوس يقول: ” لأن المسحة أيضًا هى مسحة الابن حتى أن الذي عنده الروح يقول (نحن رائحة المسيح الذكية) ونتيجة لهذا فإن ” الختم يُعطى بصمة الابن حتى أن المختوم يكون صورة الابن “. المرجع السابق. الرسالة الثالثة: 3 ومن الجدير بالذكر أن ق. كيرلس استخدم في هذا السياق الآية: ” يا أولادى الذين أتمخض بكم أيضًا إلى أن يتصور المسيح فيكم ” (غلا19:4) وهى نفس الآية التي سبق وأن إستند عليها ق. أثناسيوس لتوضيح تعليمه العقيدى هذا في تلك الرسالة.