Site icon فريق اللاهوت الدفاعي

هل الولادة هي عملية تحوّل؟ – الحوار الثاني ج8 حول الثالوث – القديس كيرلس الاسكندري

هل الولادة هي عملية تحوّل؟ – الحوار الثاني ج8 حول الثالوث – القديس كيرلس الاسكندري

هل الولادة هي عملية تحوّل؟ – الحوار الثاني ج8 حول الثالوث – القديس كيرلس الاسكندري

 

الحوار الثانى

عن أن الابن أزليّّ مع الله الآب ومولود منه حسب الطبيعة

هل الولادة هي عملية تحوّل من الإمكانية ” δυνάμει ” إلى الفعل” ἐγέργεια”

إرميـــا: إذا أردت ذلك فليكن، ولنقبل الإيمان بأن الابن كائن مع الآب ولكنهم سيقولون، إن الله كان دائمًا أبًا  ولكنه كان أبًا “بالإمكانية” فقط، والابن كان يمكن أن يُدرك بطريقة نظرّية فقط، إذ لم يكن له وجود فعلي ككائن قبل الولادة، وبعد ذلك وُلِدَ.

كيرلس: فبالتالي الولادة هي حقيقية وهي في الواقع من الآب. ويُعتَرف بها دائمًا هكذا، فالله أب بالطبيعة وهو أب “بالإمكانية” و”الفعل”. وهو ليس له إرادة تتوسط بين “الإمكانية” و”الفعل” وبالتالي فهو آب حسب قوانين طبيعة لها خاصية الولادة. وهو لا يكون أبًا لِمَنْ هو غريب عنه، ما دام المولود منه هو دائمًا من نفس طبيعة الوالد. ومن ناحية أخرى فإنهم ـ بكلامهم هذا ـ يُهينون الآب إذ ينسبون له إنه قابل للتغيير وذلك رغم أن الكتب المقدّسة تشهد بأنه   “لَيْسَ عِنْدَهُ تَغْيِيرٌ وَلاَ ظِلُّ دَوَرَانٍ”[1]. أم أن عملية التحوّل من “الإمكانية” إلى “الفعل” ليست تغييرًا شديدًا يا صديقي؟ لأنه لو أن هناك كائن له “الإمكانية” حسب طبيعته، ومع ذلك لا يتقدّم من حالة “الإمكانية” إلى حالة “الفعل”، فإنه يكون ما زال مستقرًا في حالة “الإمكانية”، دون أن تفعل بعد، الحركة التي تتعداه إلى حالة “الفعل” وهكذا يظل باقيًا في وضعه الأصلي الأول. أما إذ تحرّك ناحية حالة “الفعل” فحينئذ، وحسب ما هو طبيعي، فإنه سيتحوّل حسب رأيي إلى حالة أخرى مختلفة عمّا كان عليه أصلاً. أم إنهم ينسبون هذا التحوّل إلى حالة الكينونة. “بالإمكانية” وليس لحالة الكينونة “بالفعل”؟

إرميـــا: لا أعتقد ذلك.

كيرلس: إذًا إن كانوا يقولون إنه لا يوجد تمييز بين حالة الكينونة “بالإمكانية” وحالة الكينونة “بالفعل”، أي إذا وَضِعَوهما على نفس المستوى وفى نفس الموقف، فهذا معناه أن الله كان أبًا “بالفعل” وبدون بداية. وذلك لأنه حسب رأينًا لا يوجد فارق زمني بين الكائن حسب “الإمكانية” والكائن حسب “الفعل”، ولكن إذا تمايز الاثنان بفارق زمني كبير فكيف لا يحدث تغيير في طبيعة الله، لأنها لم تحتفظ بكيانها حسب الإمكانية، ولكنها تعرضّت لتغيير قادها من “الإمكانية” إلى “الفعل”؟

إرميـــا: الذي تقوله صحيح، ولكن دعني أقول لك ماذا سيأتي على ذهن المضادين لنا إذ إنهم سيقولون ما يلي: إن الآب دائمًا خالق بطبيعته وبدون بداية. ولكن ألم يخلق المخلوقات في زمن معين؟ وذلك لأن الخلق ليس أزليًا في الله، ولكنه خَلَقَ (الخليقة) من العدم في لحظة زمنية معيّنة. فهل بهذا سنقبل، أن طبيعته غير المتغيّرة قد تغيّرت، وأنه قد خضع “لظل تغيير”؟ فمن يجسر أن يؤكد شيئًا كهذا؟ وهكذا ففي حالة الولادة، الله يمر من حالة الكائن حسب “الإمكانية” إلى حالة الكائن “بالفعل” بدون تغيير ولا حركة تغيّر من الله، ولكنها استعداد في الطبيعة التي تعمل بهذه الطريقة فيما يخص عملية الولادة.

كيرلس: إذا فهمت أن هؤلاء المنحرفين قد اخترعوا شيئًا لا يمكن الرّد عليه فبذلك يكون ذهنك ميالاً إلى البساطة المتناهية. ولنفحص بكل عناية خصائص الحركة في الحالتين، ما الذي يفصلهما وما الاختلاف بينهما؟ سوف ترى وتعرف سقم أفكارهم الجاهلة. فالكائن الذي يُقال إنه وَلَدَ شيئًا من داخله والذي مرّ من حالة الكائن “بالإمكانية” إلى حالة الكائن “بالفعل”، قد أصابته زعزعة في طبيعته وذلك لأن الأمر لا يتعلّق بآخر، بل بطبيعته ذاتها التي عانت التحوّل من “الإمكانية” إلى “الفعل”. والآخر الذي يُقال إنه لا يعمل العمل السابق (الولادة) بل عملاً آخر، فإنه لا يتأثر في نفسه بهذا العمل إذ أنه ينفذه في آخر كما سنرى.

إرميــــا: سوف تقدم لي خدمة جليلة كالمرّات السابقة إذا ما تكرّمت بتوضيح الأمر.

كيرلس: هيّا بنا، فلنأخذ الإنسان كمثال، فهو بطبيعته يتوالد ويمتلك هذه “الإمكانية” منذ البداية، ولكن بالنمو والنضوج تتحّول هذه “الإمكانية” إلى “فعل”. ومن ناحية أخرى، فالإنسان لا يمتلك الحكمة بدون ممارسة ولكن توجد فى جوهره مقدرة كامنة قادرة على اختيار أمر دون آخر فيما يمارسه من علوم وفنون تناسب الإنسان، فهو يصنع السفن ويجهّزها ويصنع من البرونز أشكالاً حسب فكره، أو يعمل أشياء أخرى مماثلة. فحسب رأيك هل يمكن أن نفكر في الآب الذي ينتقل من حالة أب بحسب “إمكانية” إلى أب “بالفعل”، بنفس الطريقة التي نفكر بها عن الصانع في صنعه لأشياء أوجدها بنفسه؟

إرميـــا: لن أفكر هكذا. فالإنسان من جهة ليس منحصرًا في نفسه، ولكنه يُظهر علمه فيما يفعله من أمور خارج نفسه. ولكن من الجهة الأخرى توجد حركة داخلية كامنة في جوهر الإنسان نفسه. وهذه هي طبيعتنا إذ يحدث فيها نوع من التغيّر والتحوّل، وبكلمات أخرى، هي تنتقل من “الإمكانية” إلى “الفعل”.

كيرلس: هذا ما أردت قوله حينما طلبت أن نفحص الفرق في الحركة بين الحالتين فليس هناك شيء يقودنا إلى أن نقبل أن طبيعة الله قد تغيّرت، أو أنها قد تعرّضت للاضطراب في إحدى خصائصها الجوهرية حينما قرر الله أن يخلق زمن معيّن. كما أننا لا نقبل أن يتعرّض جوهر الله للتغيّر بانتقاله من حالة (الأبوّة) حسب الإمكانية إلى الأبوة “بالفعل” أي إلى الولادة.

إرميـــا: هذا صحيح.

كيرلس: هناك شيء آخر، لأني أعتقد أننا يجب أن نُقلّد الكلاب في حاسة الشّم القوية، وذلك حينما نريد أن نبحث عن الحقيقة. وهناك أمر يساعدنا على أن نكتشف ضَعْف وحماقة أفكار معاندينا. لأنه لا يوجد سبب قهري يمنع الابن الفائق في طبيعته على كل البشر من أن يكون دائمًا مع مَنْ وَلَدهَ أي مع مَنْ يُدرَك على أنه دائمًا آب وهو الله. أما بالنسبة للخليقة فهي من عمل القدرة الخالقة. كيف إذن أو بأي كيفيّه يمكن لها أن تتشارك مع الله في مجد وجوده الأزليّ وهي التي ليس بدون بداية زمنيّة كما أنها قد أتت من العدم إلى الوجود؟ أم أنك ربما ستقول أن الخلائق يمكن أن توجد بدون فعل هذه القوة الخالقة؟

إرميــــا: بلى.

كيرلس: وبالتالي، بينما الخليقة لم تكن قد جاءت بعد إلى الوجود، لكن كان الله حينذاك خالقًا، ولم يكن الله أبًا لأنه كان خالق لكن لأنه قد وَلَد، والابن هو ابن لأنه وِلد. وإن كان في علاقة الخالق بالخليقة ليس ضروريًا أن يكونوا دائمًا معًا، ألاّ إنه ضروري أن يكون الابن مع الآب دائمًا لكي نفهم بدقة الأمور الخاصة بالله سواء الله الآب أو الله الابن، وعليه فكيف يمكن أن يظهر أحدهما قبل الآخر ما دامت كينونة كل واحد منهما تعتمد على كينونة الآخر؟ ولا يمكن وجودها بمعزل كل منهما عن الآخر؟ لأن الآب هو آب في علاقته بالابن والعكس صحيح. أم إنه يبدو لك أن الحديث قد أتخذ مجرى خاطئًا؟

إرميــــا: إطلاقًا …

كيرلس: فإذا كانت الولادة هي من ذاته، وإعلان الله نفسه أبًا للابن بالطبيعة يُظهران حكمة الله الآب وصلاحه، فلماذا يتأخر الآب في ولادته للابن؟ ما هو الشيء النافع الذي منع الله أن يصير آبًا منذ البداية؟ فالبشر آباء دائمًا “بالإمكانية” ولكن ليس “بالفعل”، وهذا ينطبق على كل الناس والسبب وراء عدم كونهم كلهم آباء واضح. فالجسد لم يصل بعد إلى سن النضوج والبلوغ. وإلى أن يصلوا إلى هذه اللحظة، فإن ملكات الطبيعة تكون كامنة وتنتظر اللحظة المناسبة التي تظهر فيها وتثبت ذاتها. ولكن في حالة الله، فهو دائمًا كامل، وهو دائمًا هو نفسه، وليس في الله نمو نحو امتلاك صفة أو خاصية ليست فيه، ولهذا فهو لا يحتاج للزمن لإظهار قدراته، وهو من أجلنا يشع الابن من جوهره الذاتي. وهذا المولود كائن في الآب بالجوهر. فكيف نتصوّر ونفهم إذن، إنه لم يلد “بالفعل” منذ الأزل بل إنه بقى في حالة “الإمكانية” فقط. وهذا يجعلنا نظن أنه قد حدث له تغيير معين عند الولادة عما كان عليه منذ الأزل؟ إن كلام المعاندين هو عدم تقوى موجهة ضد الابن. وذلك لأن الابن الوحيد سوف لا يكون خالقًا للأزمنة إذا كان الزمن ـ بطريقة ما ـ يحاصره من كل جانب. وكأن ولادة الابن “بالإمكانية” من الله الآب، هي أقدم من ولادته منه “بالفعل”، وهذا يفترض أن يكون الآب في حركته من حالة عدم الولادة، أي من حالة الولادة حسب “الإمكانية” إلى الولادة “بالفعل”، قد مرّ بفترة زمنية- حتى لو كانت قصيرة ـ بين المرحلتين إذ سبقت أحدهما الأخرى. يا للعار ويا للرعب الذي أشعر به من هذا الكلام، أن نفكر ونتصور أن الشمس والنار لا يمكن أن تتغيّرا عن طبيعتهما، وأنهما لم تتوقفا أبدًا عند مجرد مرحلة يمكن أن نصفها بمرحلة الوجود حسب “الإمكانية”، وأنهما لم تنتقلا من هذه المرحلة إلى مرحلة “الفعل”، أي تحوّل “الإمكانية” إلى “فعل”، عن طريق حركة داخل الزمن تفصل بين الطبيعة والفعل. ولكن عكس ذلك نجد أن الصفات الذاتية للشمس والنار لا تنفصل عنهما، وهى قائمة فيهما منذ بداية وجودهما، بينما يقولون عن الله إنه ليس أسمى من الأجساد ولا حتى إنه يمتلك في طبيعته قوانينه الخاصة به من جهة الولادة الإلهية غير المدركة، التي لا تليق إلاّ به وحده.

65 يع1: 13.

هل الولادة هي عملية تحوّل؟ – الحوار الثاني ج8 حول الثالوث – القديس كيرلس الاسكندري

Exit mobile version