هل ولادة الله إرادية؟ – الحوار الثاني ج7 حول الثالوث – القديس كيرلس الاسكندري
الحوار الثانى
عن أن الابن أزليّّ مع الله الآب ومولود منه حسب الطبيعة
هل ولادة الله إرادية ؟
إرميا: إن المناقشة عمل رائع يا صديقي ولقد أجهدتك كثيرًا، وأخالك تعتقد أنك أنهّيت الموضوع ولست بحاجة إلى شيء أخر لكي تثبت أن الآب لا يوجد زمنيًا قبل الابن، وإنه يجب التفكير فيهما على أن لهما طبيعة واحدة وأنهما كائنان معًا، ولكنى لا أعتقد أننا وصلنا إلى هذه النتيجة بصورة مرضّية تمامًا وذلك لصعوبة الوصول إليها بسهولة.
كيرلس: ماذا تريد القول بهذا؟
إرميــا: يجب أن تعرف أنهم سوف يسألون ـ وذلك لأن أفكارهم دائمًا لاذعة ـ هل الآب وَلَدَ الابن بإرادته أم بغير إرادته؟
كيرلس: أنى سأسّر جدًا إذا عَلمِت إلى أين ستقودنا هذه الاختراعات.
إرميـــا: إنهم سوف يقولون أو يضيفون الآتي: إذا لم تكن الولادة بإرادة الآب، إذن الآب وَلَدَ رغمًا عنه، أي أن آخر قد أرغمه على الولادة، ولنقلها بصراحة، فإنه قد وَلَدَ مضطّرًا أو أنه فوجئ بحدث لم يكن يتوقّعه، أي حدث رغم إرادته. وما داموا قد وصلوا بفكرهم إلى كلام بلا معنى فسوف يجعلونك مضطّرًا أن تؤكد وتعترف بأن الابن لم يُولَد رغم إرادة الآب، ومن ثم يغالون قائلين إذا كان الآب قد وُلِدَ الابن بإرادته فمعنى ذلك أن إرادة الآب قد سبقت عملية الولادة.
كيرلس: إنها حقًا مؤامرات ودسائس لا تمت للتقوى بِصِلة، هذه التي يخترعها ضدنا هؤلاء المضلِّون. وهم يُسيئون إلى عقائد الحق وأعتقد أن من يسأل أين توجد المبالغات في الخطأ لن يجدها إلاّ فيما يقولون.
ولقد أحرزوا نصرًا غير مشرّف، ولأن مبالغتهم غير التقّية وغباءهم قد تعدى كل حدود، فلم يتبقّ أمامهم إلا أن يسمعوا: “سَدُومَ أُخْتَكِ لَمْ تَفْعَلْ هِيَ وَلاَ بَنَاتُهَا كَمَا فَعَلْتِ أَنْتِ وَبَنَاتُكِ!”[1]. كفانا أفكارًا لاذعة ومتناقضة ولنذهب مباشرة إلى الحقيقة، ولنؤكد أن الآب لم يكن يومًا محرومًا من ابنه، بل الابن كائن دائمًا في الآب الأزليّ الذي بلا بداية. وهو لم يكن أبدًا أبًا للابن رغمًا عنه وهذه الإرادة لا تنشأ ولا تظهر أبدًا قبل الولادة. ولأن إرادة الآب حكيمة جدًا وعاقلة، فلا يجرؤ أحد على أن يدّعى أن إرادة الله غير حكيمة أو غير عاقلة. وهكذا فإن الابن هو حكمة الله الآب وعقله. وهكذا ففي الابن توجد كل إرادة الآب، وهكذا فإن الذين يثرثرون بهذا الكلام سوف يجدون أن الأمور ترتد ضدهم، لأنه لا شيء يمنعنا نحن أيضًا أن نطرح أسئلة كثيرة بغض النظر عن إن كانت هذه الأسئلة صحيحة أم لا. فهل الآب يوجد بإرادته أم بغير إرادته؟ وإذا كان يوجد بغير إرادته فمعنى ذلك أن وجوده اضطراري، وإذا كان الجواب هو أنه يوجد بإرادته، فمعنى ذلك أن إرادته سابقة لوجوده لأن الإرادة تتصّرف بحكمة وتُعبّر عن نفسها بالعقل، ولأن الابن هو حكمة الله وكلمته، فإنه يكون موجودًا قبل الآب. والوحي الإلهي يدعو الابن إرادة الله الآب ومشورته، وذلك لأن داود يقول بالروح في المزمور، باسم أولئك الذين آمنوا “أمسكت بيدي اليمنى. بمشورتك تهديني”[2]. وأيضًا يقول في مزمور آخر “يا رب بإرادتك ثبّتَ لجبلي عزً”[3]. وذلك لأننا بالمسيح نسير نحو إرادة الله الآب، وقد تحولنا فيه[4] إلى جمال يفوق جمال العالم، ونحن نتشّدد به في كل صلاح.
وهكذا إذا أطلقنا العنان لمفاهيم فاسدة وعفنة ولأفكار ليست في محلها، فإننا نقول إن الابن كائن قبل الآب، وذلك لأنه هو الإرادة. وهكذا فالسؤال هو: كيف يوجد المولود قبل الوالد؟ أرأيت إلى أي مدى توغلوا في الشر؟ وذلك لأنهم ازدروا بالوصية القائلة “جَرِّبُوا أَنْفُسَكُمْ، هَلْ أَنْتُمْ فِي الإِيمَانِ؟ امْتَحِنُوا أَنْفُسَكُمْ“[5].
إرميا: حقًا إنهم ابتعدوا كثيرًا ..
كيرلس: يمكن أن نستمرـ وبدون تعب كبيرـ في تحويل فكرهم المهذار إلى سخافة أخرى، ونطلب منهم إجابة فورّية على هذا السؤال.
إرميـــا: ما هو هذا السؤال؟.
كيرلس: هل يجب أن نؤمن ونعتقد نحن والملائكة القديسون أن الله الآب هو خالق وملك رحيم، أم لا يجب؟
إرميـــا: نعم، نحن لا نتردد في القول بهذا، وإذا لم يكن هكذا فماذا يكون؟
كيرلس: السؤال الذي أطرحه عليهم هو، هل كل هذا ـ أي كون الله ملك وخالق ـ تّم بإرادته أم بغير إرادته؟ وإذا قالوا “بغير إرادة” فإنهم ينسبون لله “عدم الإرادة” أي الأفعال اللاإرادية، وبالتالي فهو خاضع للضرورات التي يَخَضَع لها البشر. وإذا قالوا إن كل ذلك تم بإرادته فإذن الإرادة قد سبقت الوجود، فهو إذن لم يخلق دائمًا بملء قوّته ولم يكن ملكًا بلا بداية، ولا رحومًا ولا صالحًا، ويكون هناك بالتالي مسافة من الزمن في داخل الله نفسه، لم يكن فيها شيء من ذلك، بل كان فيها يفكر في أن يكون هكذا. مَنْ يقدر أن يسمع هذا الكلام ولا يبكى كثيرًا على جنون هؤلاء الناس. ولا نكتفي بالحزن عليهم بل نُقصيهم من التعرّض لهذه المسائل ونقوم نحن بفحص عمق الأمور، ونخلُص إلى أن في مجال الأشياء التي نعملها أو لا نعملها، يمكن أن نتكلّم عن إرادي وغير إرادي، ولكن هذا غير ممكن في مجال الولادة. وإذا سأل أحد عن السبب في ذلك، فمن الحكمة أن نجيب بقول مأثور: “الطبيعة أرادت وهى لا تبالي بالقوانين”، فلا الإرادة ولا عدم الإرادة يعوقها. وفى رأيك ألست أقول الصدق إذا أكدت أن الله هو بالجوهر آب ولم يصر آبًا نتيجة لنشاط في إرادته، جعله في وضع أفضل كآب. مستحيل أن يكون الله قد صار أبًا نتيجة فعل إرادي.
إرميـــا: ماذا تقصد بذلك؟
كيرلس: ألا تقول أن الآب قدوس وصالح؟
إرميــا: بكل تأكيد.
كيرلس: هل هذه الفضائل ذاتية فيه ومن جوهره، أم إنها مضافة إليه بفعل إرادي، أي أنها يمكن أن تختفي إذا ظهرت إرادة معاكسة؟ فهذا هو معنى الحركة الإرادية.
إرميــا: هي صفات جوهرية في الله والذين لا يقولون بذلك، سوف يَسخر منهم الرأي المستقيم.
كيرلس: رائع يا صديقي وإنني لمعجب بغيرتك وحماسك للمعرفة والتعلّم، فكيف يكون الله الآب أبًا بإرادته أو بدون إرادته بدلاً من أن يكون أبًا بالطبيعة؟ الله كائن بطبيعته وليس بالإرادة، وهكذا فهو قدوس وصالح بالطبيعة؛ وكيف أيضًا لا ترى أمرًا آخرًا، مع إنه يُغضب بشدة هؤلاء المعاندين؟
إرميـــا: ما هو هذا الأمر؟
كيرلس: بكل سرور أشرح لك مادمت ترغب في معرفة أمور مفيدة. ولكن افهم ما أقول. هل هم على استعداد أن يعترفوا بأن الآب هو والد بطبيعته وأن هذا الأمر جوهري فيه أم ينكرونه، مفكرون في كل هذا بغير تقوى؟ فإذا قالوا إنه ليس والد بالطبيعة، فإنهم ينفون تمامًا وجود الابن الذي هو مولود من الآب، والذي خرج من الآب كما تشهد بذلك الكتب المقدّسة. فإذا كان الله الآب لا يملك طبيعة قادرة حقًا في جوهرها على الولادة، وتحتاج إلى دفع من إرادته لتفعل ذلك، فإنه قد آن الأوان لنقول إنه طبقًا لهذا المنطق، نقول إن الله قد صنع طبيعته الخاصة وجعلها قادرة على الولادة، وجعلها قادرة على أشياء لم تكن قادرة عليها قبلاً. وبذلك نرى أن إرادة الله، أقدم من الله نفسه وأنه بالإرادة أعطى نفسه أن يكون أبًا.
ولكن علينا أن ندوس هذه الأفكار الفاسدة والتي تحمل غباء لا يُحتمل. أما نحن المؤمنون والذين نتبع التفكير المستقيم بأمانة فنحن نعتقد أنه من العبث أن نفكر في أن الآب قد وَلَدَ إراديًا أو لاإراديًا. فهو والد بالطبيعة والجوهر. وما هو طبيعي في الكائن، لا يكون غير إرادي لأن طبيعته وإرادته متلازمتان.
إرميــــا: وأنا أعتقد إنها هي هكذا.
كيرلس: وزيادة على ذلك، فهناك سخافة أخرى لا تَقل عن سابقتها، فحسب رأيهم فإنه في حالة كَونْ الله هو أب، لابد أن تكون الإرادة سابقة على الولادة. فلنفحص هذا من فضلك، هل الله الآب هو أب لأنه وَلَدَ أم كان من الأفضل له عدم الولادة؟ فإذا كانت طبيعته لم تتغيّر بالولادة، فكيف لا يخجل هؤلاء التعساء من أن ينسبوا إليه خزي عدم الولادة؟ أما إذا كان عدم الولادة أفضل له، فما الذي يدفعه لأن يصير في وضع أقل عن طريق الولادة؟ وهكذا يكون الله قد عمل عملاً غير ملائم وغير معقول وقَبِلَ بإرادته ما يهين مجده وطبيعته . وهذا اتهام خطير ضد قصد الآب وإرادته التي لا يُعبّر عنها. ألا تعتقد أن كلامهم الرديء وخبثهم قد تعدى كل حدود حتى وصل إلى التقزز، وهكذا وصل عدم تقواهم إلى أقصى مدى؟
إرميـــا: هذا حق .
كيرلس: فلنهرب إذن من هناك بسرعة ونلتفت إلى أمورنا.
إرميــــا: ماذا تقصد؟
كيرلس: أقول إنه من الواجب علينا أن نحمل في نفوسنا أنصع وأصدق اعتقاد عن الله، ولنمعن النظر في إنه لا يوجد ما هو سابق على ميلاد الابن، وأن إرادة الوالد لا تسبق وجود المولود، وأن الله الآب هو أب بطبيعته وهذه هي إرادته أيضًا. وذلك لأن الله الكائن لا يكون هكذا بدون إرادة. ونفس الشيء إذا فكّرنا في قداسة الآب وصلاحه، فالله صالح وقدوس بطبيعته وإرادته. ولا يمكن أن نعتقد عنه أنه كان يمكن أن يوجد بطريقة أخرى. فهو الله وهو آب في نفس الوقت، والولادة عنده ليست شيئًا لاحقًا للوجود، وفى الوقت الذي نفكر فيه أنه موجود وكائن يجب أن نفكر في أنه أيضًا أب. وهكذا فالآب الذي له هذه الطبيعة يقودنا إلى الاعتقاد بأن هذه الولادة هي أزليّة، وهكذا يكون الابن مولود من الآب أزليًا.
[4] يستعمل كيرلس فعل “ ΜορφοÚμεθα “ بمعنى تحولّنا أو تشكلّنا، من هذا الفعل تأتي نفس الكلمة التي في رسالة فيلبى2: 5 ” آخذًا شكل ” Μορφ»” ” العبد ” أي أن تحوّل المسيحيين ليصيروا على صورة الله، يتّم في المسيح .