Site icon فريق اللاهوت الدفاعي

العلة ليست بالضرورة سابقة على المعلول – الحوار الثاني ج6 حول الثالوث – القديس كيرلس الاسكندري

العلة ليست بالضرورة سابقة على المعلول – الحوار الثاني ج6 حول الثالوث – القديس كيرلس الاسكندري

العلة ليست بالضرورة سابقة على المعلول – الحوار الثاني ج6 حول الثالوث – القديس كيرلس الاسكندري

 

الحوار الثانى

عن أن الابن أزليّّ مع الله الآب ومولود منه حسب الطبيعة

 

في أن العلّة ليست بالضرورة سابقه على المعلول:

إرميـــا: نعم سيبقى هكذا لأن الطبيعة الإلهية لا تتغيّر، ولكن إذا وَلَدَ الله ابنًا فسوف يعتبرونه أنه سابق على ابنه، أي أنه أسبق في الوجود على مولوده.

كيرلس: أكرّر أن غير الجسدي لا يتبع في ولادته قوانين الجسد، وهو في ولادته يلد حسب طبيعته وليس حسب طبيعة الأجساد. فالأجساد البشريّة هي بالضرورة سابقه على ما تلده. والمنطق يُظهر ذلك بطريقة حاسمة وبدون مراوغة، فهي تتميّز بأنها أقَدَم من مولودها، لأن المولود يُعتبر الثاني في الزمن والوالد هو الأول. فالكائنات هي التي تلد عادة، في زمن معيّن، وذلك لأنها لا تملك في ذاتها ولادة أزليّة بلا بداية، أما الله الذي هو كائن منذ الأزل بلا بداية ولا نهاية، فكيف يتفق مع طبيعته أن ننسب لابنه الوحيد بالطبيعة، بدايةً في الزمن؟ فالذي يلده الله بحسب قوانين طبيعته سيكون ذا طبيعة وجنس مختلفين عن البشر، لأنه يحمل طبيعة الذي وَلَدَه، وإلاّ تحوّل الأمر إلى مسخ وتشويه للمولود. لأنه شيء فظيع أن نعزل المولود عن طبيعة الآب الذي وَلَدَه. إذن، غير الجسدي سوف يلد بما يتفق مع طبيعته الخاصة بدون أن نضع عملية الولادة والمولود تحت حدود الزمن، بل يكون المولود، له نفس طبيعة ذاك الذي وَلَدَه، ولن يكون بأي حال من الأحوال من بين الذين يولَدون في الزمن، لأنه مولود من أصل أزليّ بلا بداية، فوق الدهور نفسها.

إرميـــا: بالصواب قلت، وأعتقد أنه كلّما بيّنت قصدك بالتبسيط بطريقة أو بأخرى بالإشارة إلى طبيعة الأشياء المتغيّرة كلما زاد الأمر وضوحًا، وذلك لأن الأمثلة المفهومة تجعل الأمور التي تفوق أذهان السامعين جلّية وواضحة.

كيرلس: هذا صحيح أيها الطوباوي ولكن بفحصنا طبائع الكائنات، هل يمكن أن تدّلني على كائن يمكن أن نقارنه بالله ويتشابه معه من كل جانب بدون أي فارق؟

إرميـــا: لا يوجد، لأنه من المسلّم به أن الله بطبيعته ليس فيه أية صفة  من صفات الكائنات الخاضعة للزمن والتغيّر.

كيرلس: يجب أن نُعجب إذن بالقديس بولس الذي يقول: فَإِنَّنَا نَنْظُرُ الآنَ فِي مِرْآةٍ، فِي لُغْزٍ[1]، وأيضًا بقوله الآنَ أَعْرِفُ بَعْضَ الْمَعْرِفَةِ”[2] وليس من التقوى ولا الحكمة أن ندع كلام بولس يمّر بدون إعجاب.

إرميــــا: بكل تأكيد.

كيرلس: لنلجأ بسرعة إلى الكتب المقدّسة ذاتها التي هي مثل مرج ملئ بالزهور الزاهية الألوان والتي تزهر في حينها. هيّا بنا نفعل كالنحل ونذهب إلى الأمثلة الواضحة والمناسبة لهدفنا وموضوعنا، ولنعطِ صورة عن كيفيّة الولادة الإلهية التي تفوق كل عقل ولسان.

          وكما يعلّق البعض أنظاره الجسدّية على أمور دقيقة، لنركز نحن بعيون أذهاننا، لنتأمل على قدر طاقتنا وكما في مرآة في لغز، الطبيعة الإلهية ـ وإن كان بطريقة غير كاملة بالتأكيد ـ وذلك لنعرف كيف تُوجد، فالآب يُشبِّه الابن “بكلمة” قائلاً فَاضَ قَلْبِي بِكَلاَمٍ صَالِحٍ[3]. والآن أجب يا صديقي عن أسئلتي المُلِّحة، أين نجد هنا الانقسام والتمزّق؟ فالذهن البشرى يَلد وينطق كلامًا خارجًا منه ويختار ما يناسبه، ومسيرة الكلام من أعماق الإنسان إلى لسانه تقدّم لنا شرحًا للميلاد الجوهري. ويمكن أن تكون “الكلمة” شيئًا آخر غير الذهن الذي نطقها، ولكنهما لا يتجزآن، والذهن لا يُعتبر بأي حال أقدّم من الكلمة التي نطقها. لأن الكلام هو دائمًا من الذهن وللذهن، والذهن كامن في الكلام. وإن لم يكن الأمر هكذا فهذا معناه أن الذهن موجود  بغير كلام والكلام بغير ذهن، الأمر الذي يؤدى في النهاية إلى أن معرفتنا بهما سوف تتلاشى تمامًا. لأن الذهن دائمًا هو أصل الكلام ووالده، والكلام بدوره هو ثمرة ونتاج الذهن، والذهن لا يكون أبدًا بدون كلام، وحينما يلد كلامًا، فإن هذا الكلام يحمل طبيعة الذهن الذي وَلَده وشَكْلُه دون أن ينقصه شيء. ولهذا فإذا قال أحدهم ـ في هذا الصدد ـ إن الوالد (أي الذهن) أقدم من المولود (أي الكلام)، فهذا حسب رأيي ضربٌ من البلاهة، وذلك لأن الكلمة تخرج من الذهن، ومادام الذهن هو ذهن لأن الكلمة كائنه فيه، والكلمة بدورها هي كلمة لأنها مملوءة عقلاً وفهمًا، فكيف نستطيع أن نتصوّر لحظة، وجود ذهن بدون كلمة أو كلمة بدون ذهن؟ والكائنات التي لها ما تملكه، إذ قيل عنها إنها أقدم ممّا تملكه فإن هذا يؤدى إلى تفتيت كيانها حسب الخيال، وإلى تشبيهها في علاقتها بما تملك، بأناس ضرب رأسهم الشيبُ  في علاقتهم كآباء بأبنائهم.

          ولكن هذه الكائنات وما تملكه موجودة معًا بالضرورة، ويجب أن ندركها معًا. فحينما يَربُط أحدهم ما هو أصغر زمنيًا بما هو أقدم منه ـ دون أن يذوب أحدهما في الآخر، إذ أن أحدهما قد ظهر قبل الآخر ـ فإنه يلغى بذلك ما هو كيان منفرد ويُظهر كيانين مُشتركين معًا.

إرميــــا: إنني أصير بطئ الفهم حينما تتناول قضايا من هذا النوع، ولهذا لا أفهم تمامًا ماذا تريد أن تقول، أرجوك أَوضِح بدون اتهامي بالكسل ولا تعاقبني بصمتك.

كيرلس: أنا مستعد للكلام لأنه لا يجب أن نترّدد في شرح أمورٍ بهذه الدقة، وذلك مادام الكلام يأتينا فيّاضًا من الينبوع. إن التفكير العميق والانطلاق من فوق للنزول إلى أسفل وتناول الموضوعات بشكل متسّع من منطلقات صعبة ليس دائمًا ضارًا، ويمكن أن يكون مفيدًا فائدة ليست بقليلة. لهذا يمكن أن تفهم ما أقول تمامًا إذا ما تأملت طبيعة الألوان. قل لي هل إذا لم يُوضع ـ على سبيل المثال ـ اللون الأبيض أو الأسود على شيء ما، فهل يمكن أن يوجدا بذاتيهما بدون ذلك الشيء؟

إرميــــا: لا، لأن الأشياء التي لا ترى، لابد أن تملك خواصًا تجعلنا ندرك ماهيتها، وحينئذ فقط تصير ظاهرة.

كيرلس: هذا صحيح، وبالتالي فهناك مواد تُدرَك وتُخضَع للمنطق. بعضها يوجد فيها اللون الأبيض واللون الأسود. وهذه الألوان توجد داخل هذه المواد، فلو أن أحدًا أراد أن يفصل الألوان في جانب آخر مدعّيًا أن المواد سابقة الوجود على الألوان وأن الألوان أحدث زمنيًا منها، ففي أي موضع من هذه المواد سيحدد ذلك الشيء الذي هو أبيض بطبيعته، أو ذلك الشيء الذي ليس هو أبيض، أو كيف للون الأبيض أن يكون كذلك إلاّ إذا أقترن بما هو أبيض بطبيعته وبالتالي يُعرف إنه أبيض؟ لأنه إن لم تلتقِ معًا الصفات التي تحدد طبيعة شيء ما والتي لا يمكن أن توجد فعلاً بطريقة أخرى فحينئذ يمكن أن ندركها بطريقة نظرية فقط ولكنها لن توجد منفصلة عن بعضها وذلك وفق المنطق الذي يليق بها.

إرميـــا: هذا كلام حق وأوافق عليه ويوافق معي آخرون ولكن كيف ينطبق هذين التشبيهين على علاقة الآب والابن؟

كيرلس: يمكن أن نقول من ناحية، إن خروج الكلام من الذهن وولادته منه بدون أي ضرر وإن المولود لا ينفصل عنه، ومن ناحية أخرى فإن الكلام يظل في الذهن الذي ولده ويكون واحدًا معه. هذا كله يمكن إثباته بوضوح ليس بعده وضوح. وأيضًا يمكن أن نثبت حقيقة أن الذهن يمتلك مع الأفكار شركة طبيعة واحدة ووجود واحد، بدون وسيط بينهما. أما ما قلناه عن الكائنات التي تمتلك ألوانًا بطبيعتها، وأنه لا توجد أقدميّة للكائنات على الألوان والعكس، وهى موجودة معًا بالضرورة ـ هذا الذي قلناه ـ لا يكفى لكي يوضّح لنا كيفيّة الولادة الإلهية، بل بالحري نزيد على ما قلناه ما يلي: إذا كان الله هو آب، فليس هذا معناه أنه صار آبًا خلال الزمن (مثل الآباء الجسدييّن)، ولكنه هو كائن هكذا دائمًا، هو هو ذاته، لا يعتريه تغيّر ولا ظل دوران، لأن الله كامل ولا يشوبه أي نقص بأي معنى ولا تعترى طبيعته أيّة أوجاع بشرّية. وهذا معناه بالضرورة أن ولادة كائن آخر من هذا الآب لا تجعله أصغر منه زمنيًا، ولا يمكن أن يكون هذا الابن أقل في المجد بالنسبة للذي وَلَدَه. لأنه من الضروري أن يكون في الله شركة، وأن يكون الابن له وجود أزلىّ مع الآب ولذلك، فأزليّة الابن مشهود لها من الآب، إذ هو مولود من الآب أزليًا بالطبيعة. والطوباوي بولس يُظهِر صحة كلامنا وحقيقته حينما يدعو الابن أنه بهاء مجد الآب ورسم جوهره[4].

إرميــــا: كيف ذلك؟

كيرلس: لاحظ ما سوف أقوله لأني سأوضّح لك الأمر كالآتي، فلأني درست الموضوع، فحسب رأيي فإن شعاع النور الذي يشع من جسم ما، هو الذي يعطى للكائنات التي توجد خارجه، معرفة جوهر النور الذي يشرق، وهذه المعرفة تتم عن طريق أن يشرق هذا النور على الحواس بشكل مستمر أو أن يحدث اتصال بينه وبين الأجساد بطريقة ما، وهذا الشعاع يعطى الفرصة أن نعرف الأصل الذي يخرج منه النور. لنحاول أن ننظم أفكارنا أكثر، ونأخذ مثالاً وليكن طبيعة الشمس والشعاع الذي يخرج منها. لا يمكن أن نطبق معاناة الولادة البشرّية وما يحدث فيها من تغيّر وتمزّق وإنقسام وخلافه على خروج الشعاع من الشمس[5]، وهو كائن فيها رغم إشعاعه. وهكذا فالشمس تمتلك في طبيعتها الخاصة، شعاع النور الذي لا ينفصل عنها، ولكنه يبدو بعد خروجه منها أن له فراده خاصة به. وأحيانًا يفكر البعض في الشمس نفسها ولكنهم لا يستطيعون أن يتخيّلوا جوهرها. ففي هذا الجوهر يوجد الشعاع ومن الجوهر يخرج الشعاع دون أن ينفصل الشعاع عن الجوهر، إلاّ أنه متميز عنه، إذ أن الشعاع يخرج من الشمس إلى خارجها. ولهذا فمن العبث والمضحك أن نتصوّر أن الشمس أقدم من الشعاع، وكأن الشعاع الخارج منها يجئ متأخرًا. ولا أعتقد أن إنسانًا حكيمًا وسليم العقل يفكر هكذا. فهذا التصّور معناه أن الشمس غير موجودة بسبب أنها لا تمتلك النور موجودًا معها، وهو الذي يجعلنا ندرك أنها موجودة. هكذا ترى أن الأمثلة الماديّة الملموسة لها قيمتها في صياغتنا للتعبيرات السليمة، فهي تعطينا إمكانية أن نُعبّر عن المعاني الفائقة، دون أن تُفسد هذه التعبيرات معنى الميلاد الإلهي، بأن تدخل عليه التمّزق والانقسام، وذلك لأن ولادة الجوهر الذي هو فوق الكّل، خالية من المعاناة، والمولود الإلهي يأتي من صميم الجوهر، ولا يوجد به انقسام أو تغيّر وهو كائن مع الذي وَلَدَه، وهذا ما يلزم أن نفهمه لأن هذا هو الواقع. ولقد شهد الحكيم يوحنا لأزليّة الابن وعدم وجود بداية له حينما قال فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ[6] وأيضًا قال هوالْكَائِنُ وَالَّذِي كَانَ وَالَّذِي يَأْتِي[7].

 

53 1كو13: 12.

54 1كو13: 12.

55 مز45: 1.

56 انظر عب1: 3

57 سبق أن استخدم الآباء ومنهم ق. أثناسيوس مَثَل الشمس والشعاع لشرح معنى الولادة الأزليّة للابن من جوهر الآب. انظر المقالة الأولى ضد الآريوسيين. المرجع السابق الفصول 7، 13، 17، 37. المقالة الثالثة، المرجع السابق: فصل 25، فقرة: 11.

58 يو1: 1.

59 رؤ1: 8.

 

العلة ليست بالضرورة سابقة على المعلول – الحوار الثاني ج6 حول الثالوث – القديس كيرلس الاسكندري

Exit mobile version