Site icon فريق اللاهوت الدفاعي

مفهوم الولادة – الحوار الثاني ج4 حول الثالوث – القديس كيرلس الاسكندري

مفهوم الولادة – الحوار الثاني ج4 حول الثالوث – القديس كيرلس الاسكندري

مفهوم الولادة – الحوار الثاني ج4 حول الثالوث – القديس كيرلس الاسكندري

الحوار الثانى

عن أن الابن أزليّّ مع الله الآب ومولود منه حسب الطبيعة

 

فحص الاعتراضات على مفهوم الولادة:

إرميـــا: هذا صحيح ولكن المضاّدين ربما سيقولون لنا: إنك إذا قلت إن الابن الذى هو كائن بالولادة، يشترك مع الله الآب فى الجوهر، فإنك لن تترّدد فى أن تقول إنه كائن دائمًا مع الآب، وإنه لم يُولَد بدون التغيّر الذي يصاحب ما نسميّه عادة، بالولادة. بينما المنطق يقنعنا بأن نفكر أن العلّة توجد قبل المعلول، وأن طبيعة الذى يَلد يلحقها تغييّر ما بسبب ولادتها للكائن الذى يُولد منها، لأن المولود يشكَّل جزءً من طبيعة الذى يلد. إذن يجب أن نستبعد فكرة الولادة الطبيعية البشرّية من أذهاننا لأنها تعنى تغييرًا قد دخل إلى الطبيعة الإلهية التي تسمو على كل تغيير.

كيرلس: أليس هذا هو ما سبق أن قلته؟ فأفكارهم تشبه الصبغة التى يلونون بها الأمور حسب ظنونهم، ويعطونها أشكالاً عديدة وفى أى اتجاه. فهم يشبهون المعتوهين والأطفال الصغار، بل وحتى الأطفال لديهم القدرة على التفكير، بينما ‎هؤلاء الناس يتمسكّون بدون فحص بكل ما يأتى على أذهانهم، ويكرّمون كل ما هو قبيح وعفن. هذا حسب رأيى هو حال العبيد والنفوس التى أضعفتها الغفلة. وهكذا يقول لنا بولس أَيُّهَا الإِخْوَةُ لاَ تَكُونُوا أَوْلاَدا ًفِي أَذْهَانِكُمْ بَلْ كُونُوا أَوْلاَدا ًفِي الشَّرِّ وَأَمَّا فِي الأَذْهَانِ فَكُونُوا كَامِلِينَ[1]. والحقيقة أن الذى لا يملك القدرّة على التميّيز وهو رجل وليس مراهقًا، بل ووصل إلى مستوى النضوج الذى فيه يتحقق الملء فى المسيح، فإذا لم يتحقق ذلك فيه فإن ما يفعله حينذاك سيكون أمرًا لا يليق بالقديسين. ولا نشك لحظة فى الضرر الفادح الذى ينتظر أولئك الذين لا يملكون القدرة على التمييّز.

إرميـــا: بالفعل لأني لا أعتقد شيئًا غير ذلك، والحق معك.

كيرلس: هل تريد إذن أن نترك الحديث عن التميّيز ونعود إلى تسليط نور الحق على ادعاءات هؤلاء الناس.

إرميـــا: بكل تأكيد لأننا سنجد ما نقوله فى هذا الاتجاه.

كيرلس: لا أعرف من أين جاء هؤلاء بكلمتى “العّلة” و”المعلول”. ولا أعتقد أنهم سيدّعون أنهم وجدوها فى الكتب المقدّسة، فما الذى سيقولونه فى هذا الأمر؟

إرميــا: لقد سمعتنا نقول منذ قليل إن “العلّة” أقدم من حيث الوجود ومن حيث الفكر، من “المعلول”، وإن مَنْ يَلدِ لا يمكن أن يَلدِ بدون ألم وتغيّير. وهم يقدّمون هذه الأفكار بشكل مزّيف لكى يظهروا أن الابن أقلّ من الآب، وأنه فى المرتبة الثانية لأنه جاء متأخرًا، وهكذا ينكرون بشكل قاطع أن الولادة حقيقية. ويدّعون باطلاً أن الولادة من الجوهر ليست أصيلة.

 

الخلق والولادة :

كيرلس: فليتفضّلوا ويعطونا إجابة عن هذا السؤال: هل أنتم مقتنعون بأن الآب هو “سبب” كينونة الابن؟ هل دور الآب هو دور “الصانع” الذى أحضر الابن إلى الوجود مثل باقى الخلائق المصنوعة؟ أم سيقولون معنا أن المولود قد خرج من جوهر الآب بميلاد حقيقى؟

إرميـــا: حسب رأيهم، أن يكون الله أبًا فهذا معناه أنه خالق، وإذ هو الكائن العظيم البسيط فى جوهره، فإنهم عندما يقولون إن الله قد وَلَدَ، فهم يقصدون بذلك أنه قد خَلَقَ. ويمكن أن يقولوا إنه ما لم يكن فعْل الولادة هو فعل الخلق فهذا سوف يجعل الكائن البسيط كائنًا مركبًا.

كيرلس: هذا فى الحقيقة خلط كبير فى الأمور وتشويش على الطبيعة البسيطة والواضحة، ورغم أن هناك صفات ذاتية فى هذه الطبيعة تبيّن التماّيز بوضوح، إلاّ أنهم يخلطون الأمور مثل خلط مياه نهرين مستقلين حسب رأى أحد الحكماء اليونانيين. وبالنسبة لى، هناك فارق كبير بين “يخلق ” و” يَلدْ “، وذلك بغض النظر عن كل المماحكات الفكريّة . وأنا أرى أنه يجب ألاّ نخلط بين أن ننسب للآب أن طبيعته بسيطة وبين أن نستغل هذه البساطة بدون تعقل، لكى نفكر عنه أفكارًا غير منطقية ولا تليق به. فإذا كان الله بالخلق وَلَدَ أيضًا، وإذا أراد أحد رؤية الخلق والولادة كشيء واحد، بدون أى تميّيز بينهما ولا اختلاف، ولا يرى أن الخلق غير الولادة، فإنى لا أستطيع أن أوافق على ذلك، لأن هذا سوف يؤدى لاعتبار كل شئ خَلَقَه الله، مولودًا منه. تصوّروا معى العدد الذى لا يُحصَى للمخلوقات والأنواع، وهذا يستحيل أن نحصيه، ولكن مَنْ يريد ذلك فعلّيه أن يحاول إحصاءها، لأنه لا يوجد كائن واحد لا ينتمى لطغمة المخلوقات، وعليه أن يُحصِى أيضًا أصغر المخلوقات وأقلها شأنًا، فهل سيصير الله أبًا لكل هذه المخلوقات الدنيا؟

إرميـــا: هذا كلام غير مقبول طبعًا.

كيرلس: بل لتقل بأكثر وضوح إنهم قد خرجوا عن كل حدود التقوى. لأن التفكير بأن الخَلقْ والولادة فى الله هما أمران لا تمايز بينهما بسبب بساطة الطبيعة، فهذا معناه أن نُظهِر الكتب المقدّسة أنها خرافات باطلة، لأنها تُسمِى الابن، بـ “الوحيد الجنس” (المونوجينيس). وإذا كان ما يقوله المضاّدون صحيحًا، فيجب أن يكون له أخوة كثيرون. وهذا معناه أن الابن الوحيد قد جاء إلى الوجود مثله مثل باقى المخلوقات عن طريق الخلق، وذلك لأنهم لا يفرّقون بين الخَلقْ والولادة. وهذا معناه أن الرسول يوحنا الذى أدخلنا إلى هذا السَّر، قد جانبه الصواب حينما يقدّم لنا الابن على أنه “الابن الوحيد” (المونوجينيس)، وهو يقول عنه إنه فِي حِضْنِ الآبِ[2] وهذا معناه أن الولادة من الآب حقيقية تمامًا، وهذا كلام واضح جدًا. فإن حاولوا إنكاره فإنهم بذلك يتجاسرون على الابن نفسه. فقد كان من الأسهل عليه أن يقاوم اعتراضات اليهود، ولكن نجده فى الواقع يستثيرها. فلماذا لم يقل لهم بوضوح إن الله قد خَلِقة، ولماذا دعا الله أباه، مساويًا نفسه بالله؟[3]، مَنْ أجبره على أن يصرخ فى مجامعهم: اَلَّذِي يُؤْمِنُ بِهِ لاَ يُدَانُ؟[4]، بينما كان فى إمكانه أن يُسكّن غضب سامعيه؟ فلو كان قد قال: “إن الذى يؤمن بالمخلوق لا يدان ” لَمَا رأيناهم فى حاجة أن يتهمّوه بالكفر، أو أن يرجموه أو أن يقودوه إلى الجبل ليلقوه من أعلى[5].

          ومن أين أتى التلاميذ، وهم الحكماء، بهذا الاعتقاد عنه أنه الابن الوحيد لله وليس مخلوقًا؟ فالمسيح غيّر طبيعة الماء، واستطاع أن يمشى على مياه البحر كأرض صلبة بدلاً من أن يغوص فى أعماقها، مما أثار دهشة الرسل القديسين بقوة. وعندما دخل السفينة معهم، سجدوا له معترفين وقائلين بِالْحَقِيقَةِ أَنْتَ ابْنُ اللَّهِ[6]. وما فعله المسيح (فى هذه المعجزة) جعلهم يؤيدون اعترافهم به بصيغة توكيد بقولهم “بالحقيقة”. هل بعد هذا نستطيع أن نتهمهم بالكذب؟ هل تختلط علينا الأمور ونتهمهم بأنهم حادوا عن الحق؟ وإذا كان (الرّب) ليس ابنًا خارجًا من جوهر الذى وَلَده، أى الآب، بل هو مجرد مخلوق، وإن كان لقب ابن الله ليس إلاّ مظهرًا فقط، فبماذا كان التلاميذ يفكرون حينما سجدوا له؟ لماذا دعوه “ابن الله” وهم معلّمو أسرار الإيمان وكارزو الحق الإلهى؟

إرميــــا: لا نستطيع أن نقول أحسن من ذلك حسب رأيى.

كيرلس: إن بولس الطوباوي وهو القديس والذى دعاه الله إِنَاءٌ مُخْتَارٌ[7]، وعُيّن خادمًا للأمم، والمؤتمن على أسرار مخلّصنا، ماذا كان يريد أن يقول يا ترى حينما صرخ بخصوص الابن والملائكة القديسين قائلاً:     “ الَّذِي، وَهُوَ بَهَاءُ مَجْدِهِ، وَرَسْمُ جَوْهَرِهِ، وَحَامِلٌ كُلَّ الأَشْيَاءِ بِكَلِمَةِ قُدْرَتِهِ، بَعْدَ مَا صَنَعَ بِنَفْسِهِ تَطْهِيرًا لِخَطَايَانَا، جَلَسَ فِي يَمِينِ الْعَظَمَةِ فِي الأَعَالِي، صَائِرًا أَعْظَمَ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ بِمِقْدَارِ مَا وَرِثَ اسْمًا أَفْضَلَ مِنْهُمْ. لأَنَّهُ لِمَنْ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ قَالَ قَطُّ: أَنْتَ ابْنِي أَنَا الْيَوْمَ وَلَدْتُكَ؟ اِجْلِسْ عَنْ يَمِينِي حَتَّى أَضَعَ أَعْدَاءَكَ مَوْطِئًا لِقَدَمَيْكَ؟ أَلَيْسَ جَمِيعُهُمْ أَرْوَاحًا خَادِمَةً مُرْسَلَةً لِلْخِدْمَةِ لأَجْلِ الْعَتِيدِينَ أَنْ يَرِثُوا الْخَلاَصَ! وأيضًا ” لأَنَّهُ إِنْ كَانَتِ \لْكَلِمَةُ \لَّتِي تَكَلَّمَ بِهَا مَلاَئِكَةٌ قَدْ صَارَتْ ثَابِتَةً، وَكُلُّ تَعَدٍّ وَمَعْصِيَةٍ نَالَ مُجَازَاةً عَادِلَةً، فَكَيْفَ نَنْجُو نَحْنُ إِنْ أَهْمَلْنَا خَلاَصًا هَذَا مِقْدَارُهُ؟”[8]. كيف يمكن إذن أن نعتقد نحن أو الملائكة القديسين ـ بشكل أكيد ـ أن الابن هو رسم المجد الذى لا يُعبّر عنه وبهاء جوهر الله الآب، لو لم يكن يمتلك امتياز كونه مولودًاولكانت ولادته مجرّد كلمات جوفاء، ولكان مختلفًا فى طبيعته (عن الآب)، وبذلك يُحسب ضمن المخلوقات؟ وفى هذه الحالة ما الذى يمنعنا من أن نحسب الآب أيضًا ضمن باقى المخلوقات، ونضطر نتيجة لذلك أن نعتبر الآب مثل باقى الكائنات التى تخضع للتغيير مادام مَنْ هو صورته ورسم جوهره (أي الابن) خاضعًا أيضًا للتغيير؟ كيف يمكن للابن فى هذه الحالة أن يكون وارثًا لاسم أفضل من الملائكة؟ وإذا كان الخلق ـ عند الله ـ مساويًا للولادة، فإن ذلك الذى له هذه المكانة، أي الابن، سوف يكون من ضمن المخلوقات، وإن كان أى مخلوق سيصير مولودًا، فما الذى يمنع الله إذن أن يقول لكل واحد من الملائكة القديسين: أَنْتَ ابْنِي، أَنَا الْيَوْمَ وَلَدْتُكَ”[9]؟ فإذا كانت الملائكة تمتلك هذه المكانة فلماذا يحرمها الله من هذا الحق؟ لماذا يحرمهم من مجد الولادة، ومن نوال لقب ابن؟ وحسب الآراء الغبية التى يتمسك بها هؤلاء الناس، لا يوجد فرق بين الولادة والخلق، على اعتبار أن الله بسيط . فهم يجعلون معنى الولادة والخلق متداخلين، ويخلطون بين هاتين الحقيقتين.

إرميــــا: هذا وصف قليل على أفكارهم وتعبيراتهم.

كيرلس: نحن لا نوافق على ذلك أبدًا، لأن الفارق بين الأسماء وبين ما تدّل عليه الأسماء، هو فارق عظيم. وأنا أريد أن أسألك  سؤالاً وأجبني من فضلك.

إرميــا: تفَضّل…

كيرلس: لقد كَتَب العظيم يوحنا، وهو أعمق مَنْ أدخلنا إلى الأسرار الإلهية، عن الابن قائلاً: إِلَى خَاصَّتِهِ جَاءَ، وَخَاصَّتُهُ لَمْ تَقْبَلْهُ. وَأَمَّا كُلُّ الَّذِينَ قَبِلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ سُلْطَانًا أَنْ يَصِيرُوا أَوْلاَدَ اللهِ[10]. مَنْ الذي يحصل على مجد الابن ونعمة التبني، هل هم الذين لا يمتلكونه، أم أولئك الذين لا يحتاجون إلى هذا الغنى بل ويمتلكونه في طبيعتهم، ولم يسبق لهم أن أخذوه من مصدر آخر؟

إرميــا: أعتقد أن نعمة البنّوة تعطى للذين لا يملكونها، وهذه هي الحقيقة.

كيرلس: إذن، ما هي الكائنات المخلوقة التي لا تمتلك هذه النعمة مادامت الولادة ليست شيئًا آخر سوى إنها هي الخلق، أو مادام الأمران لا يختلفان ولا يتمايزان، وهكذا فإن كل ما يوجد بالولادة فهو مخلوق؟

إرميـــا: وهل الآب وَلَدنا من طبيعته الذاتية؟

كيرلس: لا، الله لم يلدنا من طبيعته الذاتية، ولكن يجب ألاّ نخلط بين حالتنا البشرّية وحالة الذي هو الابن بالطبيعة، ولذلك لا ينبغي أن نستخدم نفس الكلام الخاص بحالتنا البشريّة لنتحدّث به عن الابن. نحن خُلقنا، وهذا كلام يوافق عليه الجميع، أما هو فقد وُلِدَ من جوهر الله الآب. أما نحن فقد نلنا نعمة أن نتشبّه بالابن في الولادة من الله. إذ نلنا من رحمته نعمة جعلتنا أبناء الله، إذ حصلنا على كرامة من خارج طبيعتنا أُضيفت إلينا، بها صرنا أبناء بالتبني مشابهين الابن الحقيقي ودُعينا لمجد ذلك الذي هو الابن بالطبيعة.

          ولقد كان من المستحيل أن يوجد أبناء بالتبني لو لم يكن الابن الوحيد بالطبيعة كائنًا من قبل، كما أنه كان من المستحيل أن توجد ولادة على صورة الأصل لو لم تكن ولادته هي الأصل والمصدر. فإذا كان الآب لم يَلِد بالحقيقة وإذا كانت الولادة بالنسبة له هي نوع من الخلق ولا تتميّز عنه، إذن يصير الحديث عن الابن الوحيد عبثا وتبدو لنا طبيعة الآب كأنها طبيعة عقيمة، وينتهي رجاء أولئك الذين آمنوا ويصير كأمر تافه، فأين إذن التبني؟ وأين الكرامة التي ننالها منه والتي تنقل كائن من حالة إلى حالة أفضل بين المخلوقات إذا كان المخلوق يتساوى في القيمة ـ حسب رأيهم ـ مع المولود؟ وهكذا فإنهم يخلطون الخلق والولادة معتبرين كليهما حقيقة واحدة، وهذا أمر يدعو إلى الخجل الشديد.

إرميـــا: تمامًا.

كيرلس: وأيضًا عندما يُقال عن الابن إنه جليس مع الآب[11] وهو كذلك بالفعل ـ لأن الولادة الحقيقة للابن من الآب لا تعطيه (حسب قولهم) أن يتحلّى بصفات مَنْ وَلَده عن طريق المساواة الكاملة والطبيعة الواحدة، أفلا يعني قولهم هذا أنهم يقرّون بكل وضوح أن المجد الذي يليق بالخالق فقط قد أنسكب أيضًا على طبيعة المخلوقات وإن العبد قد نال كرامة السيد؟ وعندما يكتب بولس الرسول متسائلاً “لِمَنْ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ قَالَ قَطُّ: أَنْتَ ابْنِي أَنَا الْيَوْمَ وَلَدْتُكَ؟”[12] وأيضًا “لِمَنْ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ قَالَ قَطُّ: اِجْلِسْ عَنْ يَمِينِي؟”[13]، فلأي سبب رأى الله أنه حسن للملائكة أن يخدموه ويسجدون له بينما يجعل الآخر (الابن) جليسًا معه على عرشه متمتعًا بالمجد اللائق بالإله برغم إنه ليس من نفس الطبيعة؟ وقد يقول قائل ربما يوجد عند الآب الضابط الكّل تحيّز أو يُماَرس عليه ضغط من نوع ما، لكي يضع البعض (الملائكة) في موضع أقل بينما يكرّم الواحد، وهذا بدون أن يكون هناك إدانة ضد الكثيرين منهم، أو تهمة معيّنة تبرّر التقليل من شأنهم . لأنه قد رسم لهم منذ البدء أن يعيشوا بلا عيب، وكان باستطاعتهم الحفاظ على مكانتهم الأولى في الصعود والنزول من أجل خدمة الله.

          هل يُعَد هذا ظلم من جهة الله الآب لأنه لم يعطهم أيضًا أن يتمتّعوا بنفس المجد؟ لا، لا يمكن أن نتكلّم عن ظلم أو تحيّز عند الله! يجب ألاّ نكون عادمي الحس والفكر مثل هؤلاء الناس. فإن هناك مسافة كبيرة وفارقًا عظيما بين المخلوق والمولود. فالابن يشارك عرش الله، والآخرون يخدمونه، لأنهم دُعوا إلى الوجود بالخلق، ولماذا نخلط الأمور التي هي واضحة تمامًا ولا تقبل الخلط؟ لماذا يحاولون بشكل غير منطقي أن يمزجوا معًا كائنات لا تتشابه في طبائعها، بل تصرخ من نفسها شاهدة على ذلك، ويبدو لنا أن هدف هؤلاء الناس النهائي ليس هو سعادة اكتشاف الحق، ولكن هدفهم هو التسليّة غير التقيّة والكلام الذي لا يعرف حدودًا ولا ضوابط.

إرميـــا: أنت تتكلّم بالصدق، هؤلاء الناس لا يبحثون عن الأمور الضرورية والنافعة. وأنا أعتقد أنهم سيقولون الآتي: كيف يمكن لمَنْ هو بسيط في طبيعته (الله) أن يفعل أفعالاً مختلفة، فَيِلَد ويَخِلْق دون أن يهدم بذلك مبدأ أن طبيعته بسيطة؟

كيرلس: ما هذا إلاّ مثال لمن يتكئ على عكاز من قصبة مرضوضة حسب تعبير إشعياء النبي[14]. إن الاتكال على هذه الأفكار والظن أن التمّسك بها هو الإيمان المستقيم عينه، هو كَمَنْ اختار بغباء قصبة مرضوضة ليتكئ عليها. ومن السهل أن ننقض هذه الطريقة في التفكير التي يُظن أنها حكيمة، وسوف تجد نفسك عندما تدرس الكائنات وتفحصها بذهن دقيق ومملوء بحب المعرفة، أن طبائع هذه الكائنات كثيرة جدًا متعدّدة ومن بينها، هناك كائنات تفنى بعضها البعض بالعداوة وأخرى ليس بينها عداوة بحسب طبيعتها، غير أنها لا تستطيع أن تعيش فى توافق. هل تفهم ما أقول؟

إرميـــا: ليس تمامًا ..

كيرلس: ستفهم حالاً لأني سأشرح كلامي.

إن الله بقدرته وإبداعه قد خَلَق الملاك والإنسان، والسماء والأرض، البقرة والحصان، الخشب والصخر .. وكل كائن من هذه الكائنات يتبع طبيعته الخاصة والتي لا تتشابه مع الطبائع الأخرى. ولكن هذا لا يعنى أن هناك تناقضًا بين هذه الطبائع. فطبيعة الملاك ليست مناقضة لطبيعة الإنسان، ووجود السماء لا يتناقض مع وجود باقي الكائنات. فليس هناك عداوة بين السماء والأرض، أو بين الخشب والصخر، لأنها لا تأخذ وجودها من أصول متناقضة يفصل بينها تناقض الطبيعة. وبجانب هذه الكائنات، فإن الله بقوّته قد خَلَقَ النار التى تحرق والماء الذى يرّطب، ومع ذلك فالاثنان من صنع كائن واحد بسيط. ومادام هناك كائنات مختلفة من صنع قوّة بسيطة، فلماذا لا نقبل أفعالاً متعدّدة لجوهر بسيط. وإن لم يقبلوا هذا، فهم يقلبون الحقيقة ويهدمونها باسم التقوى. وهناك أمر آخر يجب ألاّ نهمله، فحسب رأيهم إن كان الله بسيطًا، فإن عمله لا يأخذ إلاّ شكلاً واحدًا، وأن هذا هو المناسب لله. فإن كان الأمر كذلك، فلماذا لا نؤمن أيضًا أن هناك بساطة بهذا المعنى في ما يريده الله وما يفعله معنا؟

إرميـــا: ماذا تريد أن تقول؟

كيرلس: ألا يشعر هو أيها العزيز، بالحزن والاشمئزاز من جهة الأشرار؟ ألا يصير الشرير مصدر اشمئزاز لله؟ بينما يفرح بالقديسين ويمدح أولئك الذين يسلكون باستقامة ؟

إرميــــا: كيف يكون غير ذلك؟

كيرلس: أتوافق على أن هذا يثير الغضب الذي يؤدى إلى الجحيم، بينما يكون نصيب القديسين أن ينالوا الكرامة والنعمة كثمرة لوداعتهم؟

إرميــــا: أنا أقبل ذلك لأنه فعلاً هكذا.

كيرلس: هل لمجرّد أن قلنا إن الطبيعة الإلهية طبيعة بسيطة، ينكرون أن تكون أفعال الله متنوعة. يجب عليهم أن يعرفوا أن هذه الطبيعة لها إرادة بسيطة حكيمة، وليس إرادات متعددة، وذلك لأن الله يمكن أن يلوم الذين يمدحهم ويؤدب الذين يحبهم. والذي يعمله الله في غضبه هو نتيجة لطفه، وهكذا فغضب الله ينسجم مع لطفه. وأنا أريد أن أضيف شيئًا آخرً: إن اللاهوت طبيعة واحدة وبسيطة، ولكنه أيضًا هو الحياة والقوّة والحكمة والمجد. والحياة تُحيى الأحياء والقوة تقّوى الأقوياء والحكمة تحكّم الحكماء والمجد يرفع المُمجدين. أم أنك ترى أن ما أقوله ليس صحيحًا؟

إرميـــا: صحيح تمامًا.

كيرلس: إن كان الجوهر بسيط، فكيف لا تكون أفعاله متنوّعة، الأمر الذي ينكره أولئك الناس؟ فالله يعمل بطرق متنوّعة مع أنه بسيط في طبيعته. لابد من الاعتراف بذلك يا إرميا فهذا هو المنطق السليم. أليس من المنطقي أن نقبل بساطة الطبيعة في الله وفى نفس الوقت لا ننشغل كثيرًا بما يفعله، لأن الله وحده يعلم كيف يعمل بطرق متنوعة. لأن أمور الله تفوق كل عقل وكل كلام.

إرميــــا: حسنًا قلت.

كيرلس: سيكون من الغباء بمكان أن ننسب للطبيعة الخالقة للكون عقمًا وجفافًا، أو أنها غير مثمرة، وذلك لأن كل الكائنات المخلوقة هي مثمرة وغير عقيمة، وما الثمار التي تأتى منها إلاّ نتيجة لمشابهتها للطبيعة الإلهية في الإثمار وعدم العقم.

 

26 1كو14: 20.

27 يو1: 18. سبق أن شرح ق. كيرلس بالتفصيل معنى أن الابن هو في حضن الآب وذلك في سياق شرحه لانجيل يوحنا فكتب قائلاً: [ لإننا يجب أن نلاحظ إنه يدعوه “الابن” الإله الابن الوحيد ويقول إنه “في حضن الآب” لكي ندرك أنه لا يمكن أن يُحسب مثل المخلوقات أو أنه له طبيعة مخلوقه بل أن له اقنومه المتميّز عن الآب والذي هو في الآب” ]. انظر شرح إنجيل يوحنا للقديس كيرلس الجزء الأول. إصدار مركز دراسات الآباء سنة 1989م.

28 يو5: 18.

29 يو3: 18.

30 يو5: 18.

31 انظر مت14: 25-33.

32 أع9: 15.

33 عب1: 3-5، 2: 2، 13: 14-3. راجع شرح ق. أثناسيوس للمعنى اللاهوتي لهذا الآيات في سياق دفاعه عن الوهية الابن المتجسد. المقالة الأولى ضد الآريوسين. المرجع السابق. فصل 13 ص126-144.

34 مز2: 7. من الملاحظ هنا أن ق. كيرلس يستخدم هذا المزمور ضمن سؤال ليؤكد به على تعليمه بأن الخلق ليس مساويًا للولادة. فالابن هو مولود من جوهر الآب وبالتالي هو غير مخلوق ولا يُحسَب من ضمن المخلوقات. ومن الجدير بالذكر أن ق. أثناسيوس سبق أن استخدم نفس هذا المزمور مع آية أخرى هَذَا هُوَ ابْنِي الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ”مت3: 17 للدفاع عن ألوهية الابن المتجسد. انظر المقالة الثانية ضد الآريوسيين فقرة: 23 ص50. 

35 يو1: 11-12.

36 يردّد الكاهن في صلاة الصلح نفس هذه العبارة في القداس الغريغوري الموجّه إلى الابن حيث يقول…”أيها الكائن الذي كان الدائم إلى الأبد الذاتي والمساوي والجليس والخالق مع الآب” انظر الخولاجي المقدس، جمع وترتيب القمص عبد المسيح صليب المسعودي البرموسي اصدار دير السيدة العذراء برموس الطبعة الثالثة أكتوبر 2002 ص316.

37 عب1: 5.

38 عب1: 13.

39 إش36: 6.

 

مفهوم الولادة – الحوار الثاني ج4 حول الثالوث – القديس كيرلس الاسكندري

Exit mobile version