مضمون تعبيرّى “ابن” و”ولادة” – الحوار الأول ج6 حول الثالوث – القديس كيرلس الاسكندري
الحوار الأول
الابن أزلي مع الله الآب ومساوٍ له في الجوهر
مضمون تعبيرّى “ابن” و”ولادة”:
إرميـــا: إنهم يقولون إنه ابن وإنه مولود، ويخجلون من أظهار أنهم يتناقضون مع الكتب المقدَّسة، إذ هم لا يرونه مولودًا من جوهر الآب ولا يرون أنفسهم ملزمين بقبول الولادة كأمر خاص بالطبيعة.
كيرلس: إنهم يعطون معنى مزيفًا لتعبيري البنوّة والولادة. فهم يبعدونهماـ كما ترى بنفسكـ عن جوهر الله الآب. وهكذا يزدرون بالمعنى الصحيح للولادة وبذلك يحرمون الابن من كونه ابنًا بالطبيعة. ولكنهم إن كانوا يعتقدون أنهم حاذقون وذوو رؤية ثاقبة وقد أصابتهم أفكارهم بنشوة كبيرة، فكيف فاتتهم الحقيقة الواضحة وهى أنهم بأفكارهم هذه إنما يقللّون من كرامة الله الآب نفسه؟ لأنهم بهذا يؤكدون أنه عقيم ولا قدرة له على الولادة بينما الخصوبة مغروسة في طبيعة الكائنات الفانية، وهى بنعمته تثمر وتملأ الأرض.
إرميــا: ربما يقولون إنه إذا طبقّنا مبدأ الولادة على الله فهناك آلاف المولودين الذين يجب نسبتهم لله كما يقول الكتاب بخصوص الشعب: “رَبَّيْتُ بَنِينَ وَنَشَّأْتُهُمْ…“[1].
كيرلس: هؤلاء الذين يقولون هذا ينطبق عليهم ما يقوله الطوباوي داود إنهم “َيتَعَلَّلَون بِعِلَلِ الشَّرِّ مَعَ أُنَاسٍ فَاعِلِي إِثْمٍ“[2]، فإذا اتفقنا أن ننسب للابن شيئًا آخرً فيما يخص طبيعته وحسب ما نؤمن به فهو إنه ابن وإنه مولود. وهم قد ارتكبوا خطأ كبيرًا ضد الحق حينما غيرّوا طبيعة الابن وذلك لكي ينعتوه “بالوسيط”. وسوف نقنعهم بأنهم قد صنعوا بمماحكة الكلام خرافات مصطنعة ولم يتوقفوا حتى أنزلوه من عُلُّوه الجوهري مع الآب. وحتى بعد هذا لم يكف هؤلاء البؤساء من أن يصفوا الابن الحقيقي بأحط الألفاظ حتى دَعُوه ابن “زنا”. فالابن الوحيد لم يرتفع إلى المجد، مجد التبنّى، لكونه من نفس طبيعتنا ولكونه اشترك معنا فى كل شئ، فهذا محض افتراء، لأنه بذلك يكون قد صار ابنًا بالنعمة مثلنا ويُحسب فى عداد الخليقة. ولكن هذا الكلام لا يتعدى الهذيان، والثرثرة وركام من الأفكار الكافرة. فالابن الوحيد لا يحتاج أن يصير على مستوى الأولاد بالتبنى لأنه يدرك سمو مكانته الإلهية، وعمق بنوّته الطبيعية لله. ولهذا لا نجد صعوبة فى فهم ما قاله لليهود “إِنْ قَالَ آلِهَةٌ لأُولئِكَ الَّذِينَ صَارَتْ إِلَيْهِمْ كَلِمَةُ اللهِ، وَلاَ يُمْكِنُ أَنْ يُنْقَضَ الْمَكْتُوبُ، فَالَّذِي قَدَّسَهُ الآبُ وَأَرْسَلَهُ إِلَى الْعَالَمِ، أَتَقُولُونَ لَهُ: إِنَّكَ تُجَدِّفُ، لأَنِّي قُلْتُ: إِنِّي ابْنُ اللهِ؟“[3].
فإذا كانوا قد دُعوا أبناءً وآلهةً لأن الكلمة قد جاءت إليهم، فكيف لا يكون هو ابنًا بالأولى، بل إن الله، بواسطته سمّى هؤلاء أبناءً؟ فهو ابن بالحقيقة، ولقب “ابن” ليس شيئًا مضافًا إليه. بل إن لقب ابن يكشف عن كينونته، كما أن لقب “آب” يكشف عن أبوّة الله. فالآب يُدعى آب لأنه وَلَدَ الابن، والابن من جانبه يُدعى ابنًا لأنه مولود من الآب. ولهذا فقد شرحنا بطرق كثيرة ومختلفة خصائص الطبيعة الإلهية، ووصلنا إلى المعرفة المطلوبة للموضوع، ولا أريد أن أضع تعبيرّي البنوّة والأبوّة ضمن طرق الشرح هذه [4].
إرميـــا: ماذا تعنى؟
كيرلس: سوف أشرح لك مادُمتَ تريد أن تعرف. يوجد عندنا طريقان اعتدنا أن نميّز بهما الخصائص الأساسية للطبيعة الإلهية. فنحن نعّرف الطبيعة الإلهية:سواء بما تمثله كما هي (إيجابي). أو بما لا تمثله (سلبي).
فحينما نسميها نور وحياة فنحن ننطلق مما نعرف عنها. وحينما نقول إنها غير مرئية وغير فانية فنحن ننطلق من التعريف بما ليس فيها. فهي غير قابلة للفساد وغير مرئية[5]، وهذا هو معنى الصفات التي نطلقها. أليس ذلك صحيحًا؟
إرميــــا: نعم.
كيرلس: وإذا كنا نقول إن الآب هو نور وحياة وفوق ذلك هو غير فاني وغير مرئي، أفلا يكون من العدل والصواب أن نفكر بنفس الطريقة المستقيمة وننسب كل ذلك إلى طبيعة الابن، أي نحتفظ لله الكلمة بنفس ألقاب الله الآب؟
إرميــــا: نعم.
كيرلس: وإذا قلت إن الآب هو مَلِكْ أفلا يكون للابن نصيب في المُلك؟
إرميـــا: وكيف يكون غير ذلك؟
كيرلس: قد يُظَنْ أن المزايا المشتركة توجد فقط في التفوّق والمجد. فالحقيقة التي لا تُكذب أبدًا هي أن المسيح قال لأبيه السماوي “َكُلُّ مَا هُوَ لِي فَهُوَ لَكَ، وَمَا هُوَ لَكَ فَهُوَ لِي، وَأَنَا مُمَجَّدٌ فِيهِمْ“[6]، فلو كنا ننسب للآب إنه آب وللابن إنه ابن، على سبيل الكرامة والأمور الأخرى، فما الذي يمنعنا (في هذه الحالة) من أن نزيل التمييّز بين الاثنين، وندعو كلا منهما آب وابن معًا على أساس أنهما يملكان نفس المزايا المشتركة.
إرميـــا: هذه أفكار غير مقبولة ولا مألوفة؛ فالآب لا يكون أبدًا غير ما هو عليه أي آب، والابن كذلك فهو يبقى ابنًا ولا يمكن أن يكون آبًا.
كيرلس: هذا إيمان مستقيم وحقيقي يا إرميا. فأنت توافق بشكل حاسم على أن اسم الآب ليس لقبًا شرفيًا واسم الابن كذلك. فكل اسم مثلما سبق وتكلّمنا عن النور والحياة هو اسم كل واحد ويُظهره كما هو.
إرميــــا: بكل تأكيد .
كيرلس: هناك حقيقة يجب أن لا نجهلها وهى أن الأسماء، كل اسم حسب قيمته، تنشئ نوعًا من الالتباس الذى يحتاج إلى إيضاح ويستدعى أن نحدد لكل لفظ معناه الثابت، ولهذا فيجب أن نعطى لكل من الآب والابن ألقابًا تليق بكينونتهما، فالآب يُدعى “آب” وليس “ابن”، لأنه وَلَدَ، والابن يُدعى “ابن” وليس “آب” لأنه مولود. وتخّيل للحظة ولو بالتأمل، أننا لا ننسب للآب أنه آب ولا للابن أنه ابن، فكيف إذن يمكن أن نُحددّ أقنوم كل واحد؟ فهل نُحددّه بالصدفة، بأن نُسميّه مَرّة الله ومَرّة حياة أو عديم الفساد أو غير المرئي أو الملك؟ ولكن هذا لا يكفى لتحديد الأقنوم! فلكل من الاثنين ما يميّزه عن الآخر، فكيف نميّز بينهما؟ حينما نقول الآب فنحن نُحددّ إنه آب لأنه وَلَدَ، والابن هو ابن لأنه بالحقيقة وُلِدَ، إذن خصوصيات كل أقنوم هي ما يعود إليه، وإليه فقط. بينما عموميات اللاهوت تقال عن الاثنين. وفى العموميات تندرج كل الكرامات التي للطبيعة، ولكن الخصوصيات تُحددّ من ناحية الذي وَلَد، ومن ناحية أخرى المولود، أي الآب والابن.
95 يو10: 35-36. لقد تناول ق. كيرلس هذه الآية بالشرح المستقيم في سياق شرحه لإنجيل يوحنا. انظر: شرح إنجيل يوحنا: ترجمة ومقدمة، د. موريس تاوضروس ود. نصحي عبد الشهيد. المركز الأرثوذكسى للدراسات الآبائية. ديسمبر 2003، ج5، ص154-157.
[4] يقصد القديس كيرلس أن طُرق الشرح هذه تقودنا إلى معرفة البنوّة والأبوّة، ولذلك فالبنّوة والأبوة ليست ضمن الشرح.
97 الملاحظ أن ق. كيرلس يعود مرّه أخرى إلى شرح نفس النقطة التي سبق أن تعرّض لها من قبل انظر ص25.