الواحد في الجوهر – الحوار الأول ج5 حول الثالوث – القديس كيرلس الاسكندري
الحوار الأول
الابن أزلي مع الله الآب ومساوٍ له في الجوهر
عودة إلى موضوع الهوموأوسيوس (الواحد في الجوهر) ووساطة الابن :
إرميــــا: إنهم يؤكدون أن الابن مختلف عن الآب حسب الطبيعة. ولهذا فهم لا يقولون شيئًا عن “مساواته للآب في الجوهر”، وأضافوا ملحوظة غريبة وهى أننا يجب أن نسميّه “مشابه للآب في الجوهر” مع الاحتفاظ بلقبه كوسيط، معتبرين أن هذا أنسب لقب له.
كيرلس: وماذا نُسمىِّ ذلك إلاّ لونًا من الهذيان وثرثرة العجائز؛ إنهم يعطونه طبيعة متوسطة ثم يقولون إن هذا يفرض علينا أن نسميّه “وسيطًا”، وإلى أين يؤدى بنا هذا الكلام؟ وإلى أي فكر سنصل؟ أنا لا أرى مخرجًا، وإذا كنت تعرف أنت فقل لي، فإن اشتياقي للمعرفة لا يساويه شئ في الكون.
إرميــــا: وماذا أستطيع أن أقول أمام هذه الأمور؟
كيرلس: اسأل نفسك وتعلّم بأقصى سرعة إذا كان الوسيط هو مولود أو مخلوق، أهو الله الحقيقي أم نحسبه من ضمن المخلوقات، وحسب رأى أولئك لا هو الله الحقيقي ولا هو مخلوق بشكل واضح فأي موضع سنجد له بين الكائنات؟ وحتى لو تركت نفسي للتأملات العالية، لا أجرؤ أن أقول شيئًا.
إرميـــا: إنه موجود (حسب رأيهم) بين الاثنين، الله والخليقة ولهذا فهُم يدعونه وسيطًا.
كيرلس: لا يوجد كلام غير واضح مثل ذلك ولا تفكير غبي مثل هذا التفكير. وحتى ولو تتبّعنا كل درجات الكائنات وفحصنا طبائعها بشكل دقيق، فلن نجد طبيعة مجرّدة من كل معايير الألوهة الحقة، وهى لا تخضع لمفهوم الكائن المخلوق، طبيعة تشكّل لونًا من ألوان الكائنات الأكثر سموًا من البشر. فهل هناك كائن متوسط بين المولود وغير المولود، بين المخلوق وغير المخلوق، بين المتغّير وغير المتغّير؟
إرميـــا: لا أعتقد ذلك والحق معك .
كيرلس: حينما نفحص الطبائع في مجملها، نجد اثنتين:
الأولى هي الكائنة دائمًا والمكتفيّة بذاتها، والثانية هي التي تحصل على الوجود بالخلق. والطبيعة الكائنة بشكل غير مخلوق تعلو على كل شئ، وتملك كل إمكانيات التفوّق والسمّو، والأخرى توجد تحت أقدام سيدها. ونتّعلم ذلك بوضوح من كلام المسيح مع جمع اليهود: “أَنْتُمْ مِنْ أَسْفَلُ أَمَّا أَنَا فَمِنْ فَوْقُ“ويشرح الحكيم يوحنا كيف جاء إلينا الابن الوحيد من فوق “اَلَّذِي يَأْتِي مِنْ فَوْقُ هُوَ فَوْقَ الْجَمِيعِ”[1]. وهو يعتقد أنه يجب أن نُعطِى للذي هو الله بالطبيعة كل المقام الذي يليق به، لأن قوله “من فوق” ليس المقصود به المكان أو الارتفاع، ولكن يدل على جوهر الآب. وكيف نترّدد في ذلك وقد قال أحد القديسين بوضوح “كُلُّ عَطِيَّةٍ صَالِحَةٍ وَكُلُّ مَوْهِبَةٍ تَامَّةٍ هِيَ مِنْ فَوْقُ، نَازِلَةٌ مِنْ عِنْدِ أَبِي الأَنْوَارِ، الَّذِي لَيْسَ عِنْدَهُ تَغْيِيرٌ وَلاَ ظِلُّ دَوَرَانٍ”[2]؟ فإن مَنْ يفوق الملائكة والكائنات الاسمي منها ـ ليتفوّق على السيرافيم أنفسهم ـ فلن يكون قد تعدّى الطبيعة الخاضعة للتغيّير أي المخلوقة. لأنه إما أن يكون “من فوق” أي من أبى الأنوار، والوحيد الذي من فوق هو الابن، أو أن نعتبره “من أسفل” وبالتالي فهو ينتمي إلى الخليقة، وبين الخالق والخليقة لا يوجد شئ. وإذا سألنا هؤلاء الذين يقفون ضدنا، هل الابن خاضع للتغيّير أم لا؟ وكيف يكون وسيطًا وخاضعًا للتغيير؟ ماذا سيقولون؟
إرميــــا: أعتقد أنهم سيقعون في مأزق.
كيرلس: في مأزق؟! وأي مأزق، لأنه مكتوب: “لأن الحق حي وهو غالب وسيغلب إلى الأبد”[3] ولنحاول أن نفحص بأنفسنا النهاية التي سوف يقودنا إليها التمعّن في الطريقتين. فإذا قالوا إن هذا الوسيط غير خاضع للتغييّر أي غير مولود، فإنهم بهذا ينسبون إليه الطبيعة اللائقة بالله، وبهذا فإنهم يظهرونه وكأنه يتعدّى حدود الوساطة، ويصير أعلى من وضعه الطبيعي، لأن الذي هو فوق الجميع هو الله حسب المجد والطبيعة، وله خصوصية عدم التغييّر ويستحيل أن نضع هذه الطبيعة بين الطبائع الخاضعة للتغّير والفساد. وإذا تراجعوا وقالوا إنه مخلوق، فكيف ينفرد عن باقي المخلوقات وبأي حق؟ فكيف يكون وسيطًا مَنْ هو أصغر من الله بالطبيعة وأكبر من المخلوقات بالطبيعة؟ فلو أنه غير قابل للتغيّير فسوف يرتفع إلى مجد اللاهوت ويتعدّى حدود الوساطة. وأما إذا كان قابلاً للتغييّر فسوف يهبط إلى أسفل، ويصير غير أهل للوساطة لأنه سيتساوى مع باقي الكائنات. ما هذه السفسطة الخالية من كل محبة حقيقية للحكمة!.
والذي يُقدّم أمرًا على أنه مفهوم وهو غير مفهوم ويوهمنا أنه يمكن أن نحدد مكانًا لطبيعة ما، لا يستطيع أي فكر أن يصل إليها، فهذا يعتبر كلام مبتدع وغير مفهوم، بينما الكلام في مثل هذه الأمور يجب أن يكون واضحًا. وهكذا يتضّح أنهم يخدعون الناس بأفكارهم غير المنطقية وأعمالهم الخالية من التقوى. وهم بهذا يَهينون الابن ويحرمونه من المساواة مع الله الآب في الطبيعة ويحاولون أن يجدوا له وضعًا وسطًا، أو مجدًا صغيرًا بأن يرفعوه قليلاً فوق الكائنات المتغيّرة، ويُغلقون عليه الطريق إلى الآب، ويحرموننا من رؤيته إلهًا بالطبيعة. وهم بهذا يحددّون له المجد الذي يتلائم مع أفكارهم وأمزجتهم. وهؤلاء الناس أُشبهّهم بصانعي التماثيل وهم ذوو صيت في هذه الحرفة، فهم ينحتون الخشب أو الصخر ويُعطونه شكلاً إنسانيًا ثم يُضيفون عليه من الخارج قشرة من الذهب أو ألوانًا أخرى جذابة حتى يفتنوا العيون التي تنظر إليها، وهكذا يصرفون النظر عن التمتّع بما هو مُخفى في الداخل، ويصلون إلى إقناع الناظرين بأن يستنفذوا كل فرحهم واهتمامهم بالشكل الخارجي الفاني. وفى رأيي أن هذا هو ما يحدث تمامًا في حديثهم عن الوسيط. فهم يخدعون عقول البسطاء بأفكار جذابة وشكليّة، وهؤلاء (البسطاء) لا يستطيعون أن يسبروا أغوار أفكارهم المتناقضة واستنتاجاتهم المزيّفة.
إرميــــا: ما أروع هذا الكلام .
كيرلس: وإذا كان لديهم أقل تقدير للتفكير السليم فما كان يجب أن يلصقوا بالمسيح أمورًا غير مفهومة ولا أن يطلقوا العنان للتعبيرات التى تصدر من مجرد تأملات نظّرية بلا مضمون فعلى، ويجب عليهم أن يروا بوضوح وبلا دوران أن الابن يسكن في الأعالي اللاهوتية أي أنه من ذات طبيعة الآب ـ وما عليهم سوى التمعّن في الأمر ـ فالابن مولود من الآب، أي صادر من جوهره، ولأنه ابنه فلابد أن يكون له نفس الجوهر. ألم يعلن الله الآب نفسه أن الابن هو “ابن حقيقي وليس شيئًا آخرً حينما أعلنها مدوّية “هذَا هُوَ ابْني الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ“[4]. ولماذا لا نتصّور أنه يقول “هذا هو الوسيط بيني وبين الناس”؟ وأعتقد أنه كان سيقولها، لو كان قد وضع في حسابه أنه سوف يوجد مَنْ يتصّور وساطة الابن بهذا الشكل المريض. ولكن حتى لو اكتفينا بقوله “ابني الحبيب” فقد قال الله كل شئ بهذه العبارة، لأنه حدّد فعلاً مَنْ سيكون وسيطًا. بينما فيما يخص الإعلان عن الابن الذي صار إنسانًا، فالله الآب له الحرّية أن يختار الاسم المناسب. وقل أنت هل وَصَلَت بهم الحماقة والغباء إلى درجة أنهم لا يعترفون به حتى كابن.
89 يو3: 31. سبق أن تعرّض ق. كيرلس لشرح هذه الآية بالتفصيل وبيان المعنى الحقيقي لتعبير “مِنْ فَوْقُ” الذي يدل على وحده جوهر الآب والابن وذلك في سياق شرحه لإنجيل يوحنا. انظر: شرح إنجيل يوحنا ترجمة د. جرجس كامل. مقدمة ومراجعة د. نصحي عبد الشهيد المركز الأرثوذكسى للدراسات الآبائية مايو 1995 ج2. الفصل الثاني ص35 ـ40.
91 عزرا الأول 3: 12، 4: 38 وهو أحد الأسفار التي لم تعتبرها الكنيسة من ضمن الأسفار القانونية.