قانون إيمان مجمع نيقية – الحوار الأول ج2 حول الثالوث – القديس كيرلس الاسكندري
الحوار الأول
الابن أزلي مع الله الآب ومساوٍ له في الجوهر
قانون إيمان مجمع نيقية واصطلاح “`ομοούσιος” أي ”المساوى فى الجوهر”:
كيرلس: أشعر أن كلامك قد شجّعنى وأضرم فىَّ رغبة شديدة للعمل.. هيّا بنا.. ولكن دعنا نبدأ بعرض الإيمان كما حدّده بدقة وعرضه بكل وضوح المجمع المقدّس والمشهور الذى انعقد فى الوقت المناسب في مدينة نيقيا وسنفحص، إذا أردت، بكل وضوح ما هو الأمر الذي يبدو وكأنه راسخ بالنسبة لأولئك الذين يفضلّون أن يكون لهم أيمان مختلف، لأن من يقول إن الإيمان الذي قد تحدّد وعُرِضَ بشكل فائق وبحسب مشيئة الله في هذا المجمع المقدس العظيم، هو أساس وقاعدة ثابتة تسند نفوسنا، هو شخص يتكلّم بالصواب ويُمتدح من المسيح وهو شديد الإيمان وعابد حقيقي.
دعنا نذكر الإنجاز العظيم لهذا المجمع، وهو قانون الإيمان الذى قدّم لنا مفاهيمًا إيمانية صادقة، وهكذا فإن الذين ينتقدوننا لن يجدوا فى النهاية أى دافع يثير شوقهم لأن يتكلّموا ضدنا، وكأننا نتبع عقائد غريبة تاركين الطريق الملوكى لكى نتلّفت يسارًا ويمينًا حسب شهوتنا الخاصة. وهذا حسب رأيى يعبّر عن مرض عقلّى ليس من السهل الشفاء منه، لأن الحكمة التى بلا فحص هى عرضة للانحراف، كما هو مكتوب.
وها هو عرض لما نؤمن به:[1]
“نؤمن بإله واحد، الأب ضابط الكل، خالق كل ما يرى وما لا يرى. وبرب واحد يسوع المسيح، ابن الله الوحيد المولود من الآب أى من جوهره، إله حق من إله حق. مولود غير مخلوق واحد مع الآب فى الجوهر[2] الذى به كان كل شئ ما فى السموات وما على الأرض؛ الذى لأجلنا نحن البشر ولأجل خلاصنا نزل وتجسد وتأنس وتألم وقبر وقام فى اليوم الثالث وصعد إلى السموات. وسيأتى ليدين الأحياء والأموات. وبالروح القدس”.
“والذين يقولون إنه كان هناك وقت، لم يكن فيه الابن موجودًا وأنه قَبْل ولادته لم يكن موجودًا أو أنه صار من العدم، أو أن الابن من جوهر أو أقنوم آخر، أو أنه مخلوق، أو أنه تعرّض للتغّير والتحوّل، هؤلاء جميعًا تحرمهم الكنيسة الجامعة الرسولية”[3].
إرميـــا: يا للحذق الذى بلا عيب وما يؤدي إليه من سمو. إن كل من نطق بمثل هذه الكلمات يستحق أن يُدعى ابن الرعد[4] لأنه نطق بشيء رائع وفائق.
كيرلس: إذن فرؤيتى للأمور صائبة وقد بذلت ما فى وسعى وأشعر أن الواجبـ الذى ألقىّ على عاتقى وقَبِلَته بكل سرورـ هو أن نحفظ ما كشفه الروح لنا وأنت تعلّم ذلك جيدًا.
إرميـــا: هذا الكلام صحيح جدًا ولكن بالمقابل يجب أن نقنع الناس أن يفكروا بنفس الطريقة، فهم مثل العجول المسمّنة التى تنحرَف عن القطيع كله فهؤلاء قد إمتلأوا من السفاهة وصاروا يندفعون بطياشة إلى كل ما يوافق رغباتهم. ولكي يصلوا إلى ذلك فهم يتركون المرعى الخصيب الذي يحوى أفضل وأكمل طعام، لينخرطوا في أحاديث حمقاء لمعلّمين كذبة[5]، تدمي كأشواك. وهذا هو الذي جعل الحكمة نفسها تقول في حزن شديد عن هؤلاء: “التَّارِكِينَ سُبُلَ الاسْتِقَامَةِ لِلسُّلُوكِ فِي مَسَالِكِ الظُّلْمَةِ، الْفَرِحِينَ بِفَعْلِ السُّوءِ، الْمُبْتَهِجِينَ بِأَكَاذِيبِ الشَّرِّ، الَّذِينَ طُرُقُهُمْ مُعْوَجَّةٌ، وَهُمْ مُلْتَوُونَ فِي سُبُلِهِمْ“[6].
كيرلس: لقد حكمت بالصواب ويجب أن نبكى على هؤلاء قائلين مع النبي “يا ليت رأسي ماء وعيناي ينبوع دموع لأبكى ليلاً نهارًا على شعبي”[7]. وكيف لا نبكى نهارًا وليلاً على ذلك الذي يكون أمامه فرصة اختيار معرفة الحق وينحرف إلى معرفة الضلال وإلى الآراء الفاسدة والكاذبة؟ وعن مثل هؤلاء أيضًا قال أحد تلاميذ المخلّص القديسين: “مِنَّا خَرَجُوا، لكِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مِنَّا، لأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا مِنَّا لَبَقُوا مَعَنَا“[8]. ثم ماذا يمكن أن يكون لديهم من اعتراضات على هذا الإيمان أو الاعتراف بالإيمان الأرثوذكسي والدقيق والذي لا يملك إنسان أن يعّدله بأي شكل؟
إرميـــا: نعم إنهم يقولون إننا قد أدخلنا كلمة “هوموأوسيوس” (الواحد في الجوهر) وهى كلمة غير واردة في الكتب المقّدسة وأنها شيء جديد وغير كتابي.
كيرلس: هذا كلام خالى من المعنى، يا صديقى، لأن كلمة “هوموأوسيوس” يجب أن لا تسبب قلقًا ما دامت تحمل معنىً صحيحًا، أم أنك أنت أيضًا لا تقبل حقيقة ما أقول؟
إرميــــا: إننى أقبل.
كيرلس: إفحص إذن في كلمات وأوصاف أخرى تعوّدنا أن نطلقها على طبيعة الله ولا توجد في الكتب المقدسة والإلهية.
إرميــــا: أي كلمات تقصد ؟
كيرلس: حينما نَصِف الذات الإلهية بأنها غير مادية وغير مرئية وغير محدودة وغير ممكن قياسها، هل نحن نتكلّم بطريقه غير مناسبة؟ وحينما نصفها بأنها غير محدودة ولا تخضع لشيء، فهل يتهمّنا أحد أننا نتكلّم بدون فائدة رغم أننا نقدّم الرأى السليم؟
إرميــــا: هذا مجرد لغو بكل تأكيد.
كيرلس: لماذا إذن يُظهِرون أنفسهم كأناس بلا وعى ويُهاجمون مصطلح “هوموأوسيوس” كأطفال صغار مُدّعين أن هذا التعبير غريب وهو المليء بالمعاني الحكيمة القيّمة؟ ورغم أن المعنى الحقيقي معروف ومعتّرف به على الأقل من قِبَل الذين فحصوا بعمق الأمور الإلهية وترّبوا فى الأسرار؛ إلاّ أننا نقول إن معنى “الهوموأوسيوس” حسب رأينا هو: إن الابن وُلِدَ من نفس طبيعة الله الآب، وبذلك يكون الابن ليس من جنس آخر كما يريد أولئك الناس، ولا هو غريب عن الذي وَلدَه ولكنه مساوي له فى الجوهر وله نفس خواصه وطبيعته. ولن أخجل أبدًا من استخدام أي كلمة تستطيع أن تشارك في إظهار الجمال والحق. ونحن نعلم أن الله هو فوق كل جنس. ولكن إذا قرّرنا التخلّي عن البحث عن الوسائل التي تقودنا إلى المعرفةـ وهى معرفة محدودة بكل تأكيدـ أي معرفة الجوهر الذي يفوق كل عقل، فسوف نصير غير صادقين وجَهَلَة ولن نتعلّم أبدًا عن الله الحقيقى وطبيعته .. وسنصير “مُضْطَرِبِينَ وَمَحْمُولِينَ بِكُلِّ رِيحِ“[9] حسب المكتوب. وحينما نصبح مذعورين ورافضين للرؤية حتى “فِي مِرْآةٍ، فِي لُغْزٍ“[10]، ورافضين للمعرفة “جزئيًا” فسنصير كلنا مثل الحجارة الصماء والتى بلا شعور، مثلما قال أحد شعراء اليونان “مثل أناس بطالين وهم عبء على الأرض ..”[11].
إرميــــا: ولكن هذا لا يلغى السؤال: أين يذكر الكتاب المقدس تعبير “هوموأوسيوس”؟
كيرلس: إنك تُجبرنا يا صديقي أن نكرّر ما سبق وقلناه: أين وصَفَت الكتب المقدّسة إله الكون بأنه “غير الجسدي”، “غير الموصوف” و”غير المحدود” و”غير الخاضع لأحد”؟![12] ورغم ذلك فهو كل هذا بالطبيعة سواء أراد هؤلاء أم لم يريدوا؟
وإذا كنا قد وضعنا فى قلوبنا أن نُفكر بطريقة مستقيمة فلا يحق لنا أن نرفض التعبيرات التى تساعدنا على معرفة الحقيقة. ألا يوافقون أن الله قد قال لموسى القديس، وقوله حق: “أَهْيَهِ الَّذِي أَهْيَهْ. وَقَالَ: هكَذَا تَقُولُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: أَهْيَهْ أَرْسَلَنِي إِلَيْكُمْ. وَقَالَ اللهُ أَيْضًا لِمُوسَى: هكَذَا تَقُولُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: يَهْوَهْ إِلهُ آبَائِكُمْ، إِلهُ إِبْرَاهِيمَ وَإِلهُ إِسْحَاقَ وَإِلهُ يَعْقُوبَ أَرْسَلَنِي إِلَيْكُمْ. هذَا اسْمِي إِلَى الأَبَدِ وَهذَا ذِكْرِي إِلَى دَوْرٍ فَدَوْرٍ“[13]، ولكنى أعتقد أنهم لن يتركوا أنفسهم لكى يصلوا إلى مثل هذه الحماقة، ويعتقدون أن الله ليس هو يهوه. لأنه بالحقيقة هو “الكائن” وهذه التسميّة لا تناسب غيره، حتى ولو بسبب استعمال اللغة أُطلق الاسم على غيره. وبنفس المنطق نحت أسلافنا[14] تعبير “هوموأوسيوس” الذى هو أصدق تعبير على الإطلاق. وحينما يقول أحد إن الابن مساوٍ للأب فى الجوهر فإنه لا يرتكب حسب رأينا أى خطأ، ولا يُعتبر مُبتدعًا، ولا يفرض أسماء على الألوهة بدون داعٍ. ولكنه يستخدم هنا كلمة، أستطيع أن أقول بلا تردد إن جذورها الأولى توجد فى الأسفار الموحى بها. وهكذا فالاشتقاقات التى تخرج من الكلمة ليست بلا أصل، ولكن جذورها كامنة منذ البدء.
فإذا خرج علينا من يقول إن تعبير “هوموأوسيوس” مخالف لتقاليدنا المقدّسة، فقد جانبه الصواب ويخطئ فى فهم اشتقاقات الكلمة فى تسلسلها الطبيعى. فالجوهر والمساواة فى الجوهر هما من الكائن. وبسبب أنهم جهلاء للغاية فهم يحرموننا من الكلمات الأخرى والتى هى معطاة لنا لكى نستطيع أن نتسامى للتأمل فى الإلهيات كما تستوعبها أذهاننا، وليكن ذلك مبدئيا كما “فى مرآة فى لغز”.
إرميـا: هل لديك اعتراض إن فضّلوا تعبير “مشابه في الجوهر” على تعبير “مساوٍ في الجوهر” [15].
كيرلس: كلامهم هذا غير مستقيم يا صديقي العزيز، فَهُم يُناقضون أنفسهم بعد أن بذلوا جهدًا كبيرًا لإثبات أن التعبير غير كتابي. فإما أن الابن مساوٍ للأب في الجوهر أو أنه لا شئ. وإذا أرادوا أن يقولوا “مشابه في الجوهر” حسب ما يستحسنون فإن عبارة “مساوٍ في الجوهر” هي أساس كل شئ عندنا. وكيف يُفسرون موقفهم بعد أن احتقروا العبارة ووصفوها بأنها كلمة غير صائبة وغير متفقة مع الأسفار المقدسة، ورفضوا أن يقبلوا أي خطاب يحمل ما يشير إلى هذا التعبير، ثم يعودون ويقبلونها ويضعونها في مصاف الألفاظ القيّمة وبافتراض أننا سمحنا لهم باستعمال عبارة أن الابن مشابه للأب في الجوهر، فماذا سيكون موقفهم في نظرك؟
إرميـــا: موقف ظالم جدًا ويعكسه موقفهم المتذبذب أمام تعبيرنا المملوء بالعمق والوضوح.
كيرلس: الأمر لا يحتمل أكثر من ذلك يا عزيزي، فإن اللغو
الكثير والتعاليم الفاسدة التى يُلقنها لهم معلّموهم قد جعلتهم يتصرّفون كالصبية، وذلك بمحاولتهم قطع كل صلة وشركة طبيعية بين الآب والابن، وكأنهم أشفقوا عليه فسمحوا له أن يكون مشابهًا الآب وهكذا لا نرى الفرق بين الابن الوحيد وباقي الناس المخلوقين على صورة الله والذين يظهر فيهم بعض هذا الجمال الإلهي.
إرميــــا: ماذا تقصد من وراء ذلك؟
كيرلس: ألم تسمع أيها العزيز وصيّة المسيح الواضحة “فَكُونُوا رُحَمَاءَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمْ أَيْضاً رَحِيمٌ“[16].
إرميــــا: نعم.
كيرلس: ألا تدرك أن هذه الصفة الإلهية تُطبع فينا، وبذلك تُشكّل طريقة حياتنا بممارستنا للصلاح؟ فالصلاح فائق بحسب ما يليق بجوهر الله، ورغم ذلك فنحن نستطيع أن نصير صالحين بالاقتداء به، وذلك بفضل طريقة حياتنا، بشرط أن نختار بإشتياق وامتداد للأمام كل ما يستحق الاقتداء به. ولأننا نتمتّع بذهن صافٍ ورؤيةٍ صائبةٍ فلا يمكن أن ندّعى أننا لكى تنطبع طريقة الحياة الإلهية فى نفوسنا، لابد لنا أن نكون مشابهين لله فى الجوهر، فهذه المشابهة تقودنا إلى أن نصير مساويين له في كل صفاته، حاشا!. لأن ذلك سيقودنا إلى أن نعطى ذواتنا ذات المقام الإلهى بدون أى اختلاف بيننا وبينه، على اعتبار إننا خُلِقنا على صورته كشبهه.
وهنا يجب التنّويه بأنه رغم أننا خُلقنا على صورته ومثاله إلاّ أن الفارق بين الله والإنسان فارق شاسع.. فالله بسيط فى طبيعته وغير مرّكب بينما نحن نملك طبيعة مركبّة، إذ أن طبيعتنا البشرية مكونة من أجزاء متعددة. ونحن من التراب فيما يخص الجسد وهذا يعنى أننا معرّضون للفساد والزوال مثل الأعشاب. بينما الله فوق كل ذلك، والنفس الإنسانية عرضة لتقلبات كثيرة من الصالح إلى الطالح ومن الطالح إلى الصالح، ولكن الله هو هو دائمًا، صالح إلى الأبد ولا يتّحول ولا يتغّير من حال إلى حال. وعدم تغّير الله ليس صفة عرضّية بل يرجع إلى جوهره. وهكذا أصبح من الواضح أن البشر الذين أتوا إلى الوجود من العدم لا يتشابهون مع الله حسب الطبيعة، بل يمكن أن يتشابهوا معه في نوعية الحياة الجديدة والسلوك المستقيم[17].
إرميـــا: إن حديثنا يسير في الطريق السليم وذلك لأنه رغم سقوطنا، إلاّ أنه لا نحن ولا الملائكة الذين سقطوا، لم ننحرف كليّة عن طبيعتنا ولم ننحدر إلى العدم الكلىّ، رغم عدم اقتنائنا للفضيلة، ولقد فقدنا القدرة على المعرفة الصحيحة وفن الحياة وذلك بسبب ميلنا للشر، ولكن المسيح جاء ودعانا إلى أن نتشّكل من جديد حسب الصورة الأولى بكل بهائها. ولا نقول أبدًا إن الوصول إلى هذا المجد يعنى أن الطبيعة البشرّية تصير طبيعة أخرى، ولكن الأمر يتعلّق باختيار الإرادة في أن يتغيّر الإنسان من حياة شريرة إلى حياة مقدّسة في القول والفعل.
كيرلس: يبدو لي أن الأمر واضح يا صديقي إرميا فإن صفات الله تضئ في صورتنا لأننا اخترنا بملء حريتنا أن نسير في الصلاح، ولكننا، وكما ذكرت ذلك أنت نفسك، لسنا واحدًا مع الله في الجوهر، لأنه لو صح ذلك كما يدّعون، فما الذي يمنعنا أن نكون من نفس طبيعة خالقنا؟ وذلك لأن الكائنات التي تتشابه فيما بينها لابد أن تكون طبيعتها واحدة. ألا يتشابه الملاك مع ملاك آخر في طبيعته؟! وألا يتشابه الإنسان مع إنسان آخر فى نفس الطبيعة؟!
إرميـــا: نعم إنه كذلك.
كيرلس: وهكذا كما ترى، فرغم أن تعبير “هوموأوسيوس” (الواحد في الجوهر) يُعبّر وبشكل رائع عن تطابق الطبيعة، فإن هؤلاء الذين لا يفكرّون بشكل مستقيم يرفضونه على أنه شئ من اختراعنا وذلك لكي يتمسّكوا برأيهم هم وأقصد بذلك “المشابه في الجوهر”[18]، وهم بذلك يُلبسون اللوغوس رداءً دنيويًا. فهم يتظاهرون أنهم يرفضون الحطّ من قيمة الابن، ويدعونه الله وابن ومخلّص وفادى وهم على قناعة تامة ـ قناعة جاءتهم من تمحكات حكمة هذا الدهرـ أن الابن ليس ابنًا بالطبيعة ولا هو إله حق. هؤلاء التعساء يضعونه في عداد المشابهين لله وهم لا يتورّعون عن وضع خالق الكون في مصاف المخلوقات، ويدّعون أنه ليس من نفس الجوهر بل أنه من طبيعة مشابهة. ولهذا السبب يحق لنا أن نطلب منهم أن يرفضوا هذه المصطلح الغريب والشاذ وذلك لكي نستطيع أن نتكلّم، إذا أرادوا، عن تشبّهنا به[19]، وأعتقد أن هذا سوف يزعجهم. وعلى كل حال فمن السهل أن نفهم نواياهم حتى لو لم يقولوا ذلك، وكيف أنهم يرفضون تعبير “هوموأوسيوس” ليس لأنه تعبير غير كتابى كما يعتقدون ويؤكدون مرارًا و تكرارًا، ولكنهم يرفضونه لأنه يُعبّر عن الحق، وذلك لأنه يُظهر بوضوح أن الابن ليس من طبيعة مختلفة عن طبيعة الآب بل هو من نفس طبيعته.
إرميـــا: هذا شيء رائع حقًا.
كيرلس: إنني أعتقد أن هؤلاء المحاربين لله عن سبق إصرار، يتناسون قول المخلّص الذي يؤكد فيه أنه من طبيعة الله الآب بدون انفصال وأنه لم يأتِ إلى الوجود زمنيًا: “أَنْتُمْ مِنْ هذَا الْعَالَمِ، أَمَّا أَنَا فَلَسْتُ مِنْ هذَا الْعَالَمِ“ وأيضًا “أَنْتُمْ مِنْ أَسْفَلُ، أَمَّا أَنَا فَمِنْ فَوْقُ“[20]. والحكيم يوحنا يكتب عن الابن قائلاً: “اَلَّذِي يَأْتِي مِنْ فَوْقُ هُوَ فَوْقَ الْجَمِيعِ“[21]. ماذا يعنى تعبير “مِنْ فَوْقُ“ إلاّ أنه من الطبيعة الفائقة جدًا والتي تعلو على كل الكائنات؟ وماذا يعنى “لَسْتُ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ“ إلاّ أنه مختلف تمامًا ولا ينتمي إلى أي كائن خاضع للتغيّر ـ إنه حالة فريدة ـ إذ أن الله هو أبوه.
16 هنا يعرض ق. كيرلس النص الذي أقره الآباء في مجمع نيقية سنة 325م، والملاحظ أن المجمع الثاني في القسطنطينية قد تبَني هذا النص مع بَعض التعديلات وأضاف الجزء الخاص بإلوهية الروح القدس، وهكذا استقرت صياغة قانون الإيمان على النحو الذي نتلوه الآن.
[2] هذه العبارة هي ترجمة للكلمة اليونانية المركبة “هوموأوسيوس “`ομοούσιος” وهي من مقطعين وهي تعنى من جوهر الآب ذاته أو مساوى للآب فى الجوهر أو واحد مع الآب فى الجوهر.
18 هذه الفقرة وردت أيضًا في قرارات المجمع بعد إقرار الإيمان الذي أجمعت عليه الكنيسة، وهذه الفقرة تشير إلى ما كان يعلّم به آريوس الهرطوقي.
20 ويقصد أتباع الآريوسيين الذين أنكروا ألوهية الابن المتجسّد، والملاحظ أن وصفهم بأنهم كذبة هو نفس الوصف الذي أعطاه ق. يوحنا لمن أنكروا أن يسوع هو المسيح (انظر: 1يو2: 22).
23 1يو2: 19. يقارن هنا ق. كيرلس بين الآريوسيين وتعاليم هؤلاء الهراطقة الذين يتكلّم عنهم ق. يوحنا في رسالته ويصفهم بهذا الوصف إذ أنهم أيضًا أنكروا الابن: 1يو2: 23.
26 هوميروس: الإلياذة 43: 104 . استخدام ق. كيرلس ـ مثل غيرة من الآباء ـ لبعض أفكار الفلاسفة اليونانيين، يعكس سعه اطلاعهم وثقافتهم الواسعة. والجدير بالذكر أن الفلسفة اليونانية كانت من بين المواد التي تدرّس في مدرسة الإسكندرية اللاهوتية بجانب العلوم الرياضية والموسيقية والفنية… الخ.
27 تُستخدم هذه الصفات فيما يُسمىَّ بعلم اللاهوت السلبي Apophatic theology بمعنى وصف الله بما ليس هو، وهي صفات شائعة في كتابات كثير من آباء الكنيسة بالرغم من أنها لم ترد في نصوص الكتاب المقدس، فنجدها مثلاً في كتابات ق. غريغوريوس اللاهوتي، ففي القداس المعروف باسمه يتوجه بالصلاة إلى قنوم الابن فيصفه بأنه “غير المرئي، غير المحوَى، غير المبتدئ، غير الزمني، غير المفحوص، غير المستحيل”. انظر: الخولاجي المقدّس، طبعه دير البراموس: 2002 ص325.
[14] نلاحظ إشارة ق. كيرلس إلى “أسلافنا” άρχιότεροι أى الأقدم منّا وهذا يشير إلى معنى الإيمان المسلّم بواسطة الآباء الأقدمين.
[15] الفرق بين التعبيرين فى اليونانية هو (حرف i يوتا). مشابه فى الجوهر ÐmoioÚsioj، بينما مساوٍ فى الجوهر ÐmooÚsioj .
31 لو6: 36. يستخدم ق. كيرلس نفس هذه الآية وطريقة تفسيرها كما سبق إن استخدمها وشرحها ق. أثناسيوس في الدفاع عن إلوهية الابن المتجسد وإنه لا يشابه في طبيعته الإلهية أي من المخلوقات. انظر ق. أثناسيوس: المقالة الثالثة ضد الآريوسيين، فصل 10:25.
32 في سياق شرحه لقانون الإيمان يشددّ ق. كيرلس على العلاقة الوثيقة بين الإيمان والأعمال، فلابد إن تعكس أعمالنا، إيماننا القويم وأيضًا من الضرورى أن نعبّر عن إيماننا بأعمال وسلوك مستقيم= =فيقول: “لأن الإيمان الصحيح الذي لا يُسخر به بسبب ما له من بهجة التلازم مع الأعمال الصالحة، هو يملؤنا بكل صلاح ويُظهر أولئك الذين قد حصلوا على مجد متميزّ. وإن كان بهاء أعمالنا يبدو إنه لا يرتبط بالتعاليم الصحيحة والإيمان الذي بلا لوم، فإن هذه الأعمال لن تنفع نفس الإنسان، بحسب رأيي. فكما أن “الإيمان بدون أعمال ميت” يع2: 20، هكذا أيضًا نحن نقول إن العكس صحيح. وهكذا فليقترن الإيمان الذي بلاعيب ويشرق مع أمجاد الحياة المستقبلية وبذلك نصير كاملين… وأولئك الذين بسبب الجهل قد قللّوا من قيمة امتلاك الإيمان المستقيم ممجدين حياتهم بسبب أعمال الفضائل يشبهون أناسًا ذو ملامح حسنه في وجوههم ولكن نظرة عيونهم مصابه بتشويه وحَوَل”. رسائل ق. كيرلس: ترجمة د. موريس تاوضروس د. نصحي عبد الشهيد. المركز الأرثوذكسى للدراسات الآبائية. يونيو 1997م، ج4، الرسالة رقم55، ص26 فقرة: 2، 3.
[18] القديس كيرلس يقول إن تعبير “المشابه فى الجوهر” وباليونانية `οmoioÚsioj هو تعبير يناسب المخلوقات ولا يناسب الابن لأن الابن غير مخلوق.
34 نحن نشبه الابن من حيث طبيعته البشريّة التي اتحد بها. فهو قد شابهنا في كل شيء ما عدا الخطية وحدها. أمَّا من جهة طبيعته الإلهية فنحن لا نشابهه فيها بالمرّة فهو الخالق ونحن بشر مخلوقين. وسبب انزعاج المقاومين، من القول بإننا نشبه الابن، هو التفسير السليم لهذا القول، لأنهم اعتقدوا أن الابن هو مثل بقية أبناء البشر بالتالي هو مخلوق.