الابن أزلي مع الله الآب – الحوار الأول ج1 حول الثالوث – القديس كيرلس الاسكندري
الحوار الأول
الابن أزلي مع الله الآب ومساوٍ له في الجوهر
مقدمة: الأب إرميا وغِيرَته اللاهوتية[1].
كيرلس: نحن لم نرَ الأب الموقر إرميا لا بالأمس ولا أول أمس ولعله فضّل ألاّ يخرج إلى ساحة المدينة ومكث فى البيت، ربما دفعه الشتاء إلى عدم الخروج ولقد أحسن الصنع، والآن لقد خرج مع ظهور الطقس الجميل.
إرميـــا: حقًا قلت، فالشيخوخة دائمًا فترة حرجة والشيخ يتردّد كثيرًا قبل الخروج من البيت وخاصة حينما تكون السماء ممطرة.
كيرلس: نستطيع بكل محبة وصراحة أن نشبِّهك بسمك البحر فحينما تهب ريح شديدة تحرك الأمواج، تجتمع الأسماك معًا على هيئة سرب واحد في التجاويف التي في أعماق البحار، وتدخل فيها كما في غابة أو حرجة الأشجار، وتأكل من النبات الكثيف الذي تجده. ولكن بمجرد أن تشرق أشعة الشمس على المياه، وحينما ترى هذه الأشعة كإبتسامة على وجه البحر كله، تدخلها الشجاعة وتخرج على قمة الأمواج تاركة وراءها الخوف والتردد.
إرميــا: هذا هو ما يحدث لي تمامًا وهو لا يخفى عليك أيها الصديق العزيز.
كيرلس: وعلى حد علمى فأنت الآن بعيد عن ضجيج الناس والمشغوليات وذهنك فى حالة استجمام.
إرميــــا: وما الفائدة من ذلك؟
كيرلس: الفائدة عظيمة وتليق بالقديسين، وهل هناك حياة هادئة ومستقرة بدون ثمر؟
إرميــــا: إن نوعية الحياة أهم من طولها.
كيرلس: إن كلام الله في المزمور الذي ترتّله على القيثارة يثبت صحة ما تقول.
إرميــــا: عن أى مزمور تتكلّم؟
كيرلس: “كُفُّوا وَاعْلَمُوا أَنِّي أَنَا اللهُ“[2]. إن العيون الجسدية تبصر جيدًا الأشياء التي تَعبْر أمامها، إذا كانت خالية من العوائق مثل التراب والدخان وكل ما يشوّش الرؤية، ولكن إذا أصابتها الأوجاع فإنها لا تبصر بوضوح وتعوزها الرؤية الثاقبة للأمور وهذا ينطبق على فكر الإنسان. ففكر الإنسان المستقر والهادئ والبعيد عن التخيّلات غير النقيّة، تكون نظرته حادة ونافذة وسيتعرّف على الكائنات معرفة بدون خطأ. ولكن إذا تشوش بالأهواء[3] فإنه سيصير عاجزًا عن رؤية الجمال الإلهى وسوف يسكن وسط الأشياء الأرضية.
إرميــــا: بالصدق تتكلّم.
كيرلس: إذًا هل اختليت إلى نفسك فى وقت فراغك فى المنزل، تتذكّر (أيها الأب) إرميا، الصوت الإلهى؟ هل تقرأ كل يوم كتبًا مقدّسة؟ هل هناك غيرة تدفعك إلى طلب العلم؟ هل لديك حاسة مرهفة تسعى وراء ما يجب أن تتعلّمه؟ أم يجب علينا أن ننسب عدم رغبتك الشديدة للعمل إلى أنك لم تعد في سن الشباب، إلاّ إذا كان لديك سبب آخر غير حقيقي؟ وسأذهب إلى حد أن أتجرأ وأجرح مشاعرك بقولي إن الإنسان المسن يميل إلى عدم قول الصدق وهو يبحث عمن يقبل إسرافه في الأمور التي يريدها وعمن يثق بكلامه.
إرميــــا: سأستطيع أن أقول الكثير والكثير عن مرض الجسد لأن شمس حياتنا الأرضية بدأت فى الغروب، ولكنى سأدخل فى لب الموضوع تاركًا هذه الشكوى (من الأمراض) لوقت مناسب. لأن ذهنى يشتاق للمعرفة ولا يطلب شيئًا غيرها. وحالتى تشبه المُهر[4] الأصيل والسريع فى العدو، فكلما أراد أن يُظهر مهارته فى العدو، يجد نفسه رغمًا عنه، بسبب الأرض غير المهيأة للعدو، يقدّم عرضًا ناقصًا لا يتناسب مع قوته. وهكذا أشعر بنفس الشىء. فكلّما تدفعنى غيرتى على أن أكرّس وقتى لدراسة الأسفار المقدّسة، أجد نفسى أمام صعوبات بلا مخرج، والتغلّب على هذه الصعوبات ليس بالأمر المتاح لكل إنسان. وهكذا كما ترى فإن الصعوبات القائمة تدفعنى إلى التردّد، وأنا أزداد ترددًا بالأكثر أمام كل ما يخص الإيمان الذى هو أساس الرجاء الذى فينا.
كيرلس: سأقول لك إنك تتكلّم الحق، وذلك لأن اقتناء العطايا الصالحة النازلة من فوق، من الله، ليس بالأمر الذى يتم بدون معاناة، وهذا الأمر واضح للجميع وذلك لأن الأمور الفائقة وتلك التي عظمتها هى في السماء ليس بالأمر المتاح لكل من يُظهر مجرد الاشتياق لكنها تقتنى بالجهد وهى أمور صعبة المنال إذ هى مليئة بالصعوبات والتعب.
إرميـــا: إذن، ماذا يمكن أن يفعله أولئك الذين يرغبون بغيرة صادقة أن يكتشفوا كل هذه العطايا وخاصة أنه حسب قولكم، ليس بالأمر السهل؟
كيرلس: ليس أمامهم إلاّ أن يطيعوا أقوال القديسين الذين صرخوا عاليًا “وَإِنَّمَا إِنْ كَانَ أَحَدُكُمْ تُعْوِزُهُ حِكْمَةٌ فَلْيَطْلُبْ مِنَ اللَّهِ الَّذِي يُعْطِي الْجَمِيعَ بِسَخَاءٍ وَلاَ يُعَيِّرُ، فَسَيُعْطَى لَهُ“[5].
وبكل تأكيد فالنور الإلهى الروحانى سوف ينير لمن لا نور له، والحكمة سوف تجعل من لا حكمة له، حكيمًا، ومن ينقصه الوعى، أكثر وعيًا. والنور والحكمة هما المسيح “الَّذِي أَشْرَقَ فِي قُلُوبِنَا، لإِنَارَةِ مَعْرِفَةِ مَجْدِ اللهِ“[6] لأنه حسب قول المغبوط بولس فإن الله الآب “أَنْقَذَنَا مِنْ سُلْطَانِ الظُّلْمَةِ، وَنَقَلَنَا إِلَى مَلَكُوتِ ابْنِ مَحَبَّتِهِ“[7]، ولقد سمى أحد القديسين هذا النور بزوغ النهار وكوكب الصبح حينما قال “إِلَى أَنْ يَنْفَجِرَ النَّهَارُ، وَيَطْلَعَ كَوْكَبُ الصُّبْحِ فِي قُلُوبِكُمْ“[8] وهو يعنىـ حسب اعتقادى ـ بانفجار النهار وطلوع كوكب الصبح، الاستنارة فى الروح بالمسيح.
إرميــا: لا يوجد أحد يشك فى أن المسيح هو النور وهو النهار وهو كوكب الصبح، وخاصة هؤلاء الداخلين ليصيروا مختارين بالإيمان (الموعوظين). وإذا سألناك أن تشرح لنا عقيدة الإيمان بطريقة مبسطّة وسهلة الفهم، هل ستوافق أم سترفض وتعطى الفرصة للمتشككين لكى يفتخروا على شيخوختى؟ ويجب ألاّ نعطى أى اهتمام للآراء الباطلة التى يروجها بعض الناس والتى يهدفون من ورائها إلى تزّييف الحق الإلهى وتحويله حسب خيالاتهم، ويتجولون كسرب من النحل يجول فى المدن والقرى محدثًا طنينًا كثيرًا “يَتَكَلَّمُونَ بِرُؤْيَا قَلْبِهِمْ لاَ عَنْ فَمِ الرَّبِّ“[9].
كيرلس: كم تعجبنى فيك هذه المحبة الإلهية التى لا نظير لها ولذلك أرجوك ألاّ تتخلى أبدًا عن هذه الاستقامة فى الرأى وهى الجديرة حقًا بالإعجاب. ومن يستحق غيرك أيها الصديق فى أن يستمتع بالمحبة الإلهية؟! ولست أدّعى أننى سأقول شيئًا أفضل من الذى قاله أسلافنا أو أنى سوف أسبر غور الأمور الروحية بشكل أحسن، لأننا نجد كفايتنا فيما كتبه الآباء القديسون، لأن من يقرر أن يتعّرف بحكمة على الآباء و يستعمل كتاباتهم بالحرص الواجب فسوف يسكن النور الإلهى فى عقله، لأنه حسب كلام المخلّص “لأَنْ لَسْتُمْ أَنْتُمُ الْمُتَكَلِّمِينَ بَلْ رُوحُ أَبِيكُمُ الَّذِي يَتَكَلَّمُ فِيكُمْ“[10]. وذلك لأن “كُلُّ الْكِتَابِ هُوَ مُوحًى بِهِ مِنَ اللهِ، وَنَافِعٌ لِلتَّعْلِيمِ وَالتَّوْبِيخِ“[11]، أليس كذلك يا صديقى؟
إرميـــا: نعم ما تقوله صحيح. و لكن إذا أصابك التردّد ولم يكن لديك رغبة في التعاون معنا، أي إذا أغلقت فمك فسوف نصاب نحن بالشلل، وأخشى ما أخشاه أن يصير قولك إن الآباء قد كلّمونا بطريقة كافية ومُرضِية مجرّد حجة، لكى تمتنع عن أن تكلّم الذين يشتاقون إلى الاستماع إليك حول موضوعات الإيمان. وأنا بدوري لن أمدحك أبدًا على هذا المسلك، وألزمك أن تجيب على أسئلتى.
كيرلس: حول أى موضوع تريد سؤالى أيها النبيل؟ ولا تحاول الضغط بشدة على ذكائى المتواضع.
إرميـــا: إن هدفى ليس هو الضغط عليك وإن كان يجب أن أفعل اكثر من ذلك، في تلك الأمور التي أرى إنه من الضروري أن أسألك فيها.
كيرلس: اطرح أسئلتك الآن إذا كنت تعتقد إنك يجب أن تفعل ذلك.
إرميـــا: إذا أراد أحدنا أن يرعى الخراف والماعز فى الريف ألا تعتقد أنه يحتاج إلى عصا الراعى ومجموعة من الكلاب المدرّبة، لكى من ناحية يحمى نفسه فى حالة إذا ما هجم عليهم وحش مفترس، ومن ناحية أخرى فإن نباح الكلاب يحمى القطيع؟
كيرلس: هذا صحيح .
إرميــا: فإذا قام الراعىـ بمرور الزمنـ بإحضار كلاب أخرى محل الكلاب التى ماتت، هل تعتبر أن سهر ونباح الجيل الثانى من الكلاب ليس له فائدة لأن الجيل السابق من الكلاب كان شجاعًا ومتفوقًا؟!
كيرلس: وكيف نجرؤ على القول بأن شيئًا نافعًا لا فائدة له؟
إرميــا: أظن أنك تنسحب لكى تبقى بلا لوم وتتركنى أمام كتابات الآباء فقط، موحيًا بذلك أننا لا يجب أن نبذل جهدًا مثلهم، وأن لا نجاهد مسنودين بمحبة الله، بينما الهراطقة الأشرار المتوحشون يفترسون النفوس البسيطة بدون أن يقف أمامهم عائق ولا مانع.
[1] العناوين الجانبية عن الترجمة الفرنسية.
[3] كلمة هامة عند الآباء ويترجمها بستان الرهبان “الأوجاع” وباليونانية πάθος وهى غالبًا ما تعني الأهواء.
[4] المُهر هو ابن الفرس، الصغير.