حوار حول الثالوث ج1 (الحوار الأول والثاني) – القديس كيرلس الاسكندري
المقدمة
القديس كيرلس:
القديس كيرلس الأسكندرى المعروف بعمود الدين هو أحد أبرز الآباء المعلّمين في الكنيسة الجامعة في القرون الأولى للمسيحية. وبالنسبة لكنيستنا القبطية الأرثوذكسية فهو أبرز معلّميها بعد القديس أثناسيوس الرسولى.
ومن المعروف أن القديس كيرلس قد صار بطريركًا لكرسى مار مرقس بالإسكندرية سنة 412م، وظلّ يخدم الإيمان ويقوم بالرعاية الأمينة حتى انتقاله سنة 444م.
في هذه الفترة التي تبلغ 32 عامًا، كتب القديس كيرلس عشرات الكتب في الدفاع عن الإيمان المستقيم، وفي شرح الكتاب المقدس بعهديه، وغيرها من الرسائل والعظات وموضوعات أخرى[1].
وقد درج الباحثون في علم الآباء على تقسيم كتابات القديس كيرلس إلى مرحلتين: مرحلة ما بعد ظهور النسطورية، ومرحلة ما قبل ظهورها.
ففي مرحلة ما بعد ظهور النسطورية (428ـ444م) كرّس ق. كيرلس معظم كتاباته للدفاع عن التعليم الصحيح حول طبيعة المسيح ضد البدعة النسطورية، وهو الدفاع الذي صار سببًا في شهرته بلقب عمود الدين. ولكن القديس كيرلس كان مدافعًا عن الإيمان المستقيم من قبل ظهور البدعة النسطورية.
ففي المرحلة الأولى من خدمته (412 ـ 428م)، أى ما قبل ظهور البدعة النسطورية، دافع ق. كيرلس أيضًا عن الإيمان المستقيم إذ أنه كان قد انشغل ـ في قسم من هذه المرحلة ـ بالدفاع عن إلوهية المسيح ابن الله ومساواته للآب في الجوهر ضد البدعة الآريوسية، وذلك في كتابين هما ” الكنز في الثالوث “، ” حوار حول الثالوث “.
التعليم عن الثالوث
I ـ عقيدة الثالوث القدوس المساوى في الجوهر:
نحاول أولاً إيضاح أهمية عقيدة الثالوث القدوس لإيماننا المسيحي وحياتنا وخلاصنا وكيف علّم آباء الكنيسة ـ وبالأكثر ق. أثناسيوس ـ عنها لأن كتاباته العقيدية كانت هى مصدر أساسي لتعاليم ق. كيرلس عن هذه العقيدة الخلاصية، بل أن الأخير قد اتخذ منهج ق. أثناسيوس في فهم وشرح عقيدة الثالوث ـ كما سنرى بالتفصيل فيما بعد ـ منهجًا له.
إن عقيدة الثالوث القدوس، أى الآب والابن والروح القدس، الأقانيم الثلاثة المتساوون في الجوهر وذوو القداسة الكليّة، هى الأساس الراسخ لكل فكر ديني وتقوي ولكل الحياة والخبرة الروحية، فالنفس المسيحية في بحثها عن الله هى في الواقع تبحث وتفتش عن الثالوث[1].
وعقيدة الثالوث القدوس ليست من اختراع بشر، بل هى حقيقة أعلنها الله نفسه لأجل خلاص الإنسان، أو كما يدعوها ق. غريغوريوس النيسي بـ “العقيدة الخلاصية”[2]، لأنها عطية الله لنا لأجل خلاصنا. وبالتالي فعقيدة الثالوث ـ مثلها مثل كل العقائد الإيمانية ـ ليست هى نتيجة لفكر بشري بل أن جذورها هى في الاعلان الإلهي، ومنه تستمد كل تعاليمها وبه ترتبط كل الإرتباط. وبحسب التعليم الأرثوذكسي فإنه لا توجد عقيدة غير نابعة من ذلك الاعلان الإلهي الذي تم في المسيح يسوع ” فالله لم يعرفه أحد قط، الابن الوحيد الذي في حضنه هو الذي خبر“[3]. والابن وكلمة الله، عندما أُستعلن، كشف لنا سر الثالوث فهو الذي “ أظهر لنا نور الآب وأعطانا شركة الروح القدس الحقيقية“[4]. لهذا فإن الإنسان لا يستطيع بقوته أن يكتشف الحقيقة، فالعقل المحدود لا يستطيع أن يدرك الحقيقة التي هى فوق كل إدراك. وبالتالي فعقيدة الثالوث ليست هى نتيجة أفكار بشرّية وليست لها علاقة بالمعرفة والحكمة البشرّية، والمعرفة البشرّية بالتالي ليست هى مصدر عقيدة الثالوث كما أنها لا يمكن أن تكون حكمًا عليها، كما أن لا التاريخ ولا الخبرة الدينية يمكن أن تفعل هذا. فعقيدة الثالوث ليست هى ثمرة تجارب أو خبرات تاريخية ودينية. فالإنسان لا يستطيع أن يصل إلى هذه العقيدة بل هى أُعطيت للإنسان. فأصلها أبعد من قدرات الإنسان إذ هى واقع آخر يفوق واقعه الحالي وتختلف عنه في النوع. فالمسيح الإله الحيّ هو الذي أعلن وكشف لنا عن هذه الحقيقة. وهدف كل عقيدة هى الحياة في المسيح. ولهذا فهذه العقيدة أو بمعنى آخر هذه الحقيقة قد أُعطيت للإنسان لكى تقوده إلى علاقة مع الله مثلث الأقانيم وشركة في حياة الثالوث القدوس كما يقول ق. يوحنا “ أما شركتنا نحن فهى مع الآب ومع ابنه يسوع المسيح“[5] في الروح القدس.
ولقد أدرك آباء الكنيسة تلك الحقيقة وعاشوها، لهذا نجد مثلاً أن القديس غريغوريوس الناطق بالإلهيات يصف عقيدة الثالوث القدوس بأنها “رأس الإيمان” ويشدّد القديس أثناسيوس أيضًا على أن الكنيسة قد تأسست على الإيمان بهذه العقيدة والتي بدونها لا يمكن أن يكون المرء مسيحيًا فيقول “دعونا ننظر إلى تقليد الكنيسة وتعليمها وإيمانها الذي هو منذ البداية والذي أعطاه الرب وكرز به الرسل وحفظه الآباء وعلى هذا الأساس تأسست الكنيسة ومَن يسقط منه فلن يكون مسيحيًا ولا ينبغي أن يدعى كذلك فيما بعد. وإذن يوجد ثالوث قدوس وكامل يُعتّرف بلاهوته في الآب والابن والروح القدس”[6].
لقد أوصى الرب القائم من بين الأموات، تلاميذه عندما التقاهم في الجليل بعد القيامة قائلاً: ” اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس“[7]، وهذا الإيمان بالثالوث هو الذي أعطاه الرب وكرز به الرسل وحفظه الآباء كما قال ق. أثناسيوس، غير أن حقيقة الثالوث لم تبدأ بتجسد الابن الوحيد، بل هى حقيقة أبدية، إذ نجد أن في العهد القديم نصوصًا استشف منها الآباء ما يوضح حقيقة الثالوث مثل قول الرب في صيغة الجمع ” لنخلق الإنسان على صورتنا كشبهنا“[8]، غير أنه بتجسد الابن الوحيد استُعلنت طبيعة الله وحقيقته، وكُشف لنا سر الثالوث القدوس كاملاً.
وبالرغم من أن الرسل قد آمنوا ثم كرزوا بما آمنوا به وعلّموا وتلمذوا كثيرين على هذه العقيدة الخلاصية إلاّ أن عقيدة الثالوث قد تعرّضت على مر العصور الأولى للمسيحية لهجوم كثير من الهراطقة الذين علّموا بأفكار متعددة وخاطئة، فمنهم من اتهم المسيحيين بأنهم يعبدون ثلاثة آلهة مثلهم مثل الوثنيين الذين كانوا يؤمنون بتعدد الآلهة، ومنهم من أنكر عليهم إيمانهم بإلوهية الابن المتجسد، فأنكروا علاقته الجوهرية بالآب وغيرهم من الذين بعدما أنكروا إلوهية الابن حاسبين إياه من بين المخلوقات، تحول هجومهم ضد الأقنوم الثالث فأنكروا إلوهية الروح القدس.
وهذه التعاليم الخاطئة سواء كانت ضد إلوهية الابن أو إلوهية الروح القدس، هى في الواقع موجهة ضد عقيدة الثالوث القدوس لأن إنكار إلوهية أى من الأقانيم الثلاثة هو إنكار لعقيدة الثالوث كلها حتى وإن كانت الهرطقات قد وجَهَت سهامها إلى أقنومي الابن والروح القدس فقط.
هذا ولقد وصلت هذه التعاليم الخاطئة إلى ذروتها بظهور بدعة آريوس الذي أنكر إلوهية الابن، الأمر الذي واجهته الكنيسة بكل حزم وشدة متمثلة في موقف ق. أثناسيوس وقرارات مجمع نيقية الأول 325م والذي حدّد موقف الكنيسة وإيمانها بإلوهية الابن المتجسد ومساواته في الجوهر لله الآب. وأيضًا بظهور بدعة مقدونيوس التي أنكرت إلوهية الروح القدس فجاء انعقاد المجمع المسكوني الثاني في القسطنطينية 381م ليعبّر عن إيمان الكنيسة الجامعة بربوبية الروح القدس المحيي والمسجود له مع الآب والابن.. وهكذا استطاع الآباء أن يحدّدوا صياغة عقيدة الثالوث ويردوا على التعاليم الخاطئة التي علّم بها الهراطقة سواء عن طريق الصياغة التي أقروها في مجمعي نيقية والقسطنطينية أو في كتاباتهم الدفاعية التي سجلوا فيها تعاليمهم عن إلوهية الابن وولادته الأزلية من الآب ومساواته في الجوهر للآب والروح القدس، أو تلك التي سجلوا فيها تعاليمهم عن إلوهية الروح القدس وانبثاقه من الآب وإرساله بالابن وأنه من ذات جوهر الآب والابن.
ولقد كان القديس أثناسيوس الرسولي من بين هؤلاء الآباء الذين دافعوا عن عقيدة الثالوث. غير أن دفاعه عن إلوهية أقانيم الثالوث قد تميّز ببعده الخلاصي والكياني، فمن الواضح تمامًا أن مدخل ق. أثناسيوس إلى فهم وشرح عقيدة الثالوث القدوس كان يقوم على أساس أعمال الله الخلاصية والإعلانية التي تحققت في ظهور ابنه الوحيد بالجسد. ومن خلال مفهوم ” هوموأوسيوس ÐmooÚsioj ” كان القديس أثناسيوس يصل إلى العلاقات الأزلية والتمايز داخل جوهر اللاهوت الواحد[9].
لقد كان شغله الشاغل ـ وهو يرد على الآريوسيين الذين أنكروا إلوهية الابن المتجسد ـ هو أن يحافظ على ما أتمه المسيح من أجلنا ومن أجل خلاصنا ـ فلو لم يكن المسيح هو الله بالحقيقة كما أن الآب هو الله بالحقيقة (بسبب وحدتهما في الجوهر) لما كان في الإمكان أن يعرّفنا بالآب أو أن يفدى البشرية من الموت والفساد ولو لم يكن الابن هو الإله الذي تجسد لما كان ممكنًا ـ عندما اتحد بطبيعتنا ـ أن يعطينا الحياة الإلهية أى حياة الثالوث.
وأيضًا كان هذا البُعد الخلاصي لفهم وشرح عقيدة الثالوث القدوس واضحًا جدًا في رسائل ق. أثناسيوس عن الروح القدس والتي كتبها بين عامي 356، 361 بناء على طلب من صديقه سرابيون أسقف تيمي من أجل الرد على رفض أنصاف الآريوسيين[10]، لألوهية الروح القدس على أساس بدعة تقول إنه من “جوهر مختلف šteroÚsioj” عن الآب والابن. ولأن هذا الانحراف كان يشكّل تهديدًا واضحًا لعقيدة الثالوث القدوس وبالطبع لسر المعمودية المقدسة ـ وذلك بسبب تمزيقه لوحدة الله ـ فقد واجهه ق. أثناسيوس بنفس البراهين الخرستولوجية والخلاصية والكيانية التي استخدمها في جداله الطويل مع الآريوسيين[11] وقد ظل على تأكيده القاطع بأنه من خلال عقيدة إلوهية الروح القدس ووحدانيته في ذات الجوهر (مع الآب والابن) يكتمل فهمنا للثالوث القدوس في فكر الكنيسة وعبادتها[12].
فكما أننا نأخذ معرفتنا للآب من معرفتنا للابن فهكذا تمامًا ينبغي أيضًا أن نأخذ معرفتنا للروح القدس من معرفتنا للابن، أى من العلاقات الداخلية التي بين الآب والابن والروح القدس في جوهر الثالوث الواحد غير المنقسم[13]. وكان ق. أثناسيوس قد أقام حجته الدفاعية على أساس رؤية خلاصية، من منطلق أننا لو لم نكن في الروح القدس نُعطى علاقة مع الله، لما كان للإنجيل أى مضمون حقيقي وهو بالضبط ما كان سيحدث لو لم يكن الابن واحدًا في ذات الجوهر والقدرة مع الله الآب، فكل شئ إذًا يرتبط بحقيقة الوحدانية في ذات الجوهر التى للروح القدس والآب والابن. وبما أن الابن هو من جوهر الآب وخاص بجوهره، فكذلك روح الله الذي هو واحد مع الابن (وخاص به) لابد أن يكون معه (أى مع الابن) من جوهر الآب وواحد معه في ذات الجوهر[14].
II ـ تعاليم القديس كيرلس عن عقيدة الثالوث:
ولقد اقتفى ق. كيرلس أثار مَن سبقوه من الآباء في محاولاتهم للدفاع عن عقيدة الثالوث. غير أنه تأثر تأثرًا كبيرًا بكتابات ق. أثناسيوس الرسولى وخصوصًا تلك التي دافع فيها عن إلوهية الابن مثل مقالاته ضد الآريوسيين، وأيضًا تلك التي دافع فيها عن إلوهية الروح القدس مثل رسائله إلى الأسقف سرابيون[15]، وذلك لأن ق. كيرلس كان على قناعة تامة بأن الدفاع عن إلوهية أحد أقانيم الثالوث هو دفاع عن عقيدة الثالوث القدوس كله.
ولما كانت مسألة إلوهية أقنوم الآب غير واردة في محاورات المعارضين[16]، فإنه لم ينشغل بها في هذا الحوار[17] بل كان كل تركيزه على إيضاح إلوهية الابن والروح القدس[18].
وفي محاولته هذه اقتفى أيضًا آثار ق. أثناسيوس، مشددًا على الآتي:
1ـ أن إلوهية الابن والروح القدس هى بسبب أنهما واحد فى ذات الجوهر مع الآب ÐmooÚsioj فيقول: “إن الابن قد وُلِدَ من جوهر الله الآب وأنه إله حق من إله حق وأنه لم يولد من طبيعة غريبة ومختلفة وأن له كل ما للآب حسب الجوهر عدا كونه أبًا وإذ نحصى الروح القدس مع الآب والابن في الألوهة الواحدة فإننا هكذا نسجد لثالوث واحد مساوٍ في الجوهر الإلهى”[19].
2 ـ ” الابن لم يأتِ إلاّ من الآب إذ ولد من جوهر الله الآب “[20].
3 ـ ” الابن بطبيعته مختلف عن كل الآلهة المخلوقة ولا يحسب ضمن المخلوقات إذ هو كائن دائمًا مع أبيه وهو يُدرك دائمًا مع الذي ولده في طبيعة إلهية واحدة”[21].
4 ـ إننا قد اعتمدنا باسم الآب والابن والروح القدس وبالطبع أننا لا نؤمن بثلاثة آلهة لكن بألوهة واحدة ممجّدة في الثالوث الأقدس”[22].
وفي موضع آخر يرّد على الذين يتساءلون عن كيفية أن يكون الله واحد بينما نقول إن لكل من الآب والابن أقنومه الخاص، فيقول ” إن ما يساعدنا في فهم هذا الأمر هو أن نأخذ في الاعتبار حقيقة وحدة الجوهر تلك الوحدة التي بها يكون للأقنومين جوهر واحد مع حفظ كل ما يخص كل منهما كأقنوم”[23].
III ـ عمل الابن المتجسد فينا يشهد لألوهيته:
سبق أن أوضحنا أن القديس أثناسيوس كان يدافع عن إلوهية الابن ـ وبالتالي عن أقانيم الثالوث ـ من خلال إيضاح عمل الفداء الذي أتمه الابن المتجسد من أجلنا ومن أجل خلاصنا مبينًا أنه إن لم يكن الابن ربًا وإلهًا لم استطاع أن يأخذ ما لنا ويهبنا ما له، وهنا نجد أن ق. كيرلس يتبع نفس هذا المنهج الأسكندرى الذي يجعل من عقيدة الثالوث التي نؤمن بها واقعًا حيًا وملموسًا في حياتنا، بواسطة عمله فينا هذا من جهة، ومن جهة أخرى يمكننا أن نشهد من خلال أعمالنا أن مَنْ نؤمن به هو الله الواحد الآب والابن والروح القدس.
والجدير بالذكر أن ق. كيرلس لم يستخدم لهذا الغرض، فقط نصوصًا كتابية كان قد رجع إليها ق. أثناسيوس، لكنه استخدم بجانبها نصوصًا كتابية أخرى رأى فيها دليلاً واضحًا على إلوهية الابن من خلال عمله فينا، وفي نفس الوقت تبيّن وحدة الجوهر للآب والابن وكمثال لهذه النصوص الأخرى نستعرض الآتي[24]:
1 ـ في قول بولس الرسول عن الله ” ليكون الله الكل في الكل “[25] وعن الابن أنه هو الذي ” يملأ الكل في الكل “[26].
يرى ق. كيرلس أن هذا القول يجعلنا [ أن نفكر بأنه إن لم يكن الواحد منهما في الآخر جوهريًا فحينئذٍ فإن ملء الكل بواسطة الآب سيكون لا لزوم له لأن الملء سيكون كافيًا بواسطة الابن أو عكس ذلك إذ أنه إن كان الله الآب يملأ الكل فحينئذٍ سيكون الملء المعطى للكل من الابن بدون داع طالما أن الآب كان قادرًا أن يملأ الكل ][27]. ويجب أن نلاحظ هنا تشديده على مفهوم الاحتواء المتبادل للأقانيم داخل الجوهر الواحد، لأن هذا المفهوم يدخل ضمن مفهوم القديس أثناسيوس عن العلاقة بين الآب والابن والتي عبّر عنها بمصطلح هوموأوسيوس ÐmooÚsioj[28] والذي عبّر بصورة دقيقة وقاطعة عن الوحدانية في ذات الجوهر والعمل بين الابن المتجسد والله الآب والتي يُبنى عليها كل شئ في الإنجيل.
2 ـ ” ومن ملئه نحن جميعًا أخذنا “[29].
شاهد كتابي آخر اعتمد عليه ق. كيرلس لإيضاح نفس الحقيقة هو ما جاء على لسان القديس يوحنا اللاهوتى في الإنجيل ” ومن ملئه نحن جميعًا أخذنا ” فبعدما فند حجج المعارضين وإنكارهم لإلوهية الابن، تساءل في استنكار [ إن لم يكن للابن طبيعة مساوية لطبيعة الآب، طالما أن الابن ـ حسب ما يعتقد هؤلاء ـ أقل في جوهره من جوهر الآب، فلا أعرف كيف سيفعلان (أى الآب والابن) شيئًا في داخلنا طالما أن الابن غير مساوٍ (للآب) ومتغيّر في كل شئ، وحينئذٍ كيف سيمكن اعتبار أن ملء الآب والابن قد تم فينا؟][30].
3 ـ ” إن أحبني أحد يحفظ كلامي ويحبه أبي وإليه نأتي وعنده نصنع منزلاً “[31]. دليل آخر على إلوهية الابن ومساواته للآب في الجوهر هو سكنى الإله الواحد فينا. لأن المعارضون فهموا من الآية أنه يسكن فينا إله واحد هو الآب ولكن ليس معنى ذلك أن كون الابن هو إله فإنه يسكن فينا إلهان، ولهذا فنّد ق. كيرلس هذه الأفكار الخاطئة وأوضح إيمان الكنيسة بقوله: [ نحن نتفق على أن طبيعة الألوهة واحدة، وأن الابن ليس كما يقولون هؤلاء غريب عن الآب، وإنه إله حقيقي يأتي منه ويوجد فيه، وهكذا فإن طبيعته هى طبيعة الذي وَلَده، ولذلك فنحن لا نؤمن أنهما إلهان، لكن إله واحد وفريد يُعبد في ثالوث قدوس ][32].
4ـ ” نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا“[33]. ” فخلق الله الإنسان على صورته“[34].
رغم إجماع كثير من آباء الكنيسة ومنهم ق. كيرلس على الرجوع لهذا الشاهد (تك26:1) عند تعليمهم عن عقيدة الثالوث إلاّ أن ق. كيرلس هنا قد استخدم الشاهد الثاني (تك27:1) أيضًا تمشيًا مع منهجه الذي اقتفى فيه أثار ق. أثناسيوس وهو المنهج الذي يتسم بالبُعد الخلاصي الخرستولوجى أى بما فعله الابن المتجسد. فلأنه هو واحد مع الآب والروح القدس في الجوهر فإن تجديدنا الذي أعاد تشكيلنا على صورة الابن أرجع الإنسان إلى رتبته الأولى ليكون على شبه الله. يقول ق. كيرلس إذًا [ لأننا تشكّلنا من جديد حسب الصورة الأولى إذ ختمنا بختم الابن، كي نصبح مثله لأنه هو صورة الآب وختمه وليس هو آخر بجانب الآب وذلك بسبب الجوهر الواحد][35].
5 ـ ” أنا أظهرت اسمك للناس“، ” لستم تعرفوني أنا ولا أبي..“.
كان من نتيجة تجسد كلمة الله الابن الوحيد، أنه عرّفنا بالإله الحقيقي، فالابن إذ هو صورة الله الآب، أظهر لنا ” نور الآب وأعطانا شركة الروح القدس الحقيقية”[36] وإذ هو واحد معه في الجوهر وهو الابن الوحيد الحقيقي. فقد علّم البشر عن الآب[37]. وهنا يستشهد ق. كيرلس بما جاء على لسان المسيح له المجد في صلاته للآب “ أنا أظهرت اسمك للناس“[38]. وأيضًا ما قاله لليهود “ لستم تعرفوني أنا ولا أبي. لو عرفتموني لعرفتم أبي أيضًا“[39]. ويوضح ق. كيرلس أنه بمجىء الابن في الجسد أصبحت معرفتنا عن الله أكمل مما كانت في العهد القديم فيقول: [ وبعد الكرازة بالإنجيل توقف سريان تعاليم الناموس التي كانت تعلّم القدماء أن الله هو واحد فقط، بدون أن تتحدث عن الطبيعة الإلهية ـ الثلاثة أقانيم أو عن وحدة الجوهر، لأن هذه التعاليم هى التي تحدث عنها العهد الجديد. لأننا إن لم نؤمن أن الابن واحد مع الآب في الجوهر سيكون هناك تخبط ومتاهة ][40]. وعلى هذا الأساس فهم ق. كيرلس قول القديس بولس ” لكن ما كان لي ربحًا فهذا قد حسبته من أجل المسيح خسارة بل أنى أحسب كل شئ خسارة من أجل فضل معرفة المسيح يسوع ربي“[41].
6 ـ ” واحد هو واضع الناموس“[42]، ” الذي وحده له عدم الموت“[43].
وإلوهية الابن المتجسد ووحدته في الجوهر مع الآب والروح القدس تتضح أيضًا ليس فقط من خلال أعماله المعجزيّة التي أتمها بالجسد بل في أنه هو أيضًا الديَّان والمشرّع الذي وضع الناموس والذي وحده له عدم الموت. وإذ فهم ق. كيرلس أن المعارضين ينسبون هذه الصفات للآب وحده دون الابن، فإنه يرد قائلاً: [ هل يجب إذًا أن نؤمن أن الابن هو أقل من واضع الناموس والديّان وأنه غير أبدي؟ وأن الحياة التي فيه قد حصل عليها من خارجه؟ وماذا ستحصد من هذا الفكر غير أن الابن سيكون خاضعًا بغير إرادته للناموس والدينونة وأنه بذلك يُحصى مع الذين هم بطبيعتهم اثنين؟ وفضلاً عن ذلك كيف لا يمكن اعتبار البشارة الإلهية ـ أى الإنجيل ـ هى كذب وبهتان طالما أنها تعتمد على شهادة الابن كي تثبت حقيقتها؟ لأن الابن قال في الإنجيل ” أنا هو الحياة” بينما هو ـ حسب اعتقادهم ـ ليس عديم الموت لأن الآب فقط هو الذي لا يموت][44]. ويشدّد على حقيقة الابن فيقول إنه هو ” الديان وواضع الناموس” ويستشهد بقول المسيح نفسه لليهود ” قد سمعتم أنه قيل للقدماء لا تزن أما أنا فأقول لكم إنه مَن ينظر إلى امرأة ليشتهيها فقد زنى بها في قلبه“[45]. وأيضًا يستحضر شهادة ق. يوحنا الإنجيلي ” لأن الآب لا يدين أحدًا بل قد أعطى كل الدينونة للابن“[46]. ومن الواضح هنا اعتماد ق. كيرلس على إيمان الكنيسة الذي قد حدّده الآباء في مجمع نيقية ـ القسطنطينية عندما ذكروا في قانون الإيمان عن الابن المتجسد الذي صلب وقبر وقام وصعد، أنه ” أيضًا سيأتي في مجده ليدين الأحياء والأموات” معبّرين بذلك عن إلوهيته ومساواته للآب في الجوهر. وأخيرًا يؤكد على هذه الحقيقة بقوله: [هذا أمر غير مشكوك فيه بالمرة أن مَن له دائمًا مجد المشرّع (واضع الناموس) يجب أن يكون وبطريقة طبيعية هو الديَّان][47]. وبسبب الوحدة الجوهرية للآب والابن فإن الابن له خاصية عدم الموت مثله مثل الآب [ إن كان الله الآب هو مَن له خاصية عدم الموت، فإن الابن أيضًا له نفس الخاصية في جوهره وهو بالتأكيد عديم الموت بمعنى أن طبيعته غير مائتة ومشرقة ببهاء خصائص طبيعة الذي ولده][48] ولهما أيضًا فعل واحد ومماثل يتضح في أنهما يهبان الحياة لمن يشاء ” لأنه كما أن الآب يقيم من الأموات ويحيي كذلك الابن أيضًا يحيي مَن يشاء“[49].
7 ـ ” أما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطانًا أن يصيروا أولاد الله أى المؤمنين باسمه“[50].
شاهد كتابي آخر يوضح عملاً خلاصيًا آخر يتممه الابن الوحيد فينا، نحن الذين نؤمن به، وهو أنه يصيّرنا أبناءً لله، ويخلص ق. كيرلس إلى أن هذا لم يكن ليتم لو لم يكن الابن المتجسد هو ابن الله بالطبيعة. ويحذر ق. كيرلس من قبول عكس ذلك بقوله: [ انتبه إذًا يا صديقي إلى النتيجة التي يمكن أن يصل إليها الحديث عن الابن الوحيد لو أنه أصبح مساويًا لنا نحن الذين دُعينا للبنوة، لأنه لا يمكن أن يصير الإنسان المخلوق ابنًا إلاّ عن طريق ابن الله وبواسطة نعمة الروح القدس، وهذا ما يؤكده الرسول بولس بقوله ” وبما أنكم أبناء أرسل الله روح ابنه إلى قلوبكم صارخًا يا أبا الآب“][51]. [ فإن كان الأمر هكذا ففيمَنْ سيصير الابن ابنًا هو أيضًا؟ لأني لا أعتقد أنهم سيقولون إنه صار ابنًا بذاته في ذاته على الرغم من أنه حُسب بين الذين دعوا أبناء بالتبني طالما أنه ـ حسب فكرهم قد استبعد عن أن يكون ابنًا حقيقيًا بالطبيعة][52]. وسكنى الابن بالروح القدس تجعلنا أبناء بالتبني وتحضرنا إلى علاقة أبوة الله لنا لأن [ كل كلامنا هنا هو عن الإيمان بالطبيعة الإلهية الواحدة والتي هى في ثلاثة أقانيم متمايزة ولها نفس الجوهر فهى تمثل إلهًا واحدًا أسمى من الكل والذي نتشكل على هيئته كما يقول الكتاب، ولكننا نأخذ ختم التبني عن طريق الابن بالروح القدس، فالبنوة هى صورة الابن والأبوة هى صورة الآب، إذًا فنحن أبناء بسبب الابن كما أننا على صورة الله وشبهه إذ قد خلقنا هكذا منذ البداية على صورة كمال الطبيعة (الإلهية) أعني الطبيعة الفائقة ][53].
8 ـ ” بهذا نعرف أننا نثبت فيه وهو فينا أنه قد أعطانا من روحه“[54]. جانب آخر من العمل الخلاصي الذي ساعد ق. كيرلس في فهم وشرح عقيدة الثالوث هو ثباتنا في الله وتقديسنا عن طريق روحه القدوس. ومرة أخرى يشدّد ق. كيرلس على المساواة في الجوهر للأقانيم الثلاثة والتي هى أساس العمل الواحد والفعل الواحد الخلاصي الذي تم فينا. فالروح القدس رب محيي يثبّت ويقدّس البشر، وهو يتمّم هذا لأنه هو روح الابن الذي هو إله بالحقيقة مولود من جوهر الله الآب، لذا وضع ق. كيرلس هذه الآية من رسالة ق. يوحنا أمامه ورأى فيها بكل وضوح الوحدة الجوهرية للآب والابن والروح القدس من خلال عملهم وفعلهم الواحد، لهذا تعجب ممن لم يستطيعوا أن يدركوا كيف [ أن الابن هو إله بالحقيقة وأنه قد جاء من جوهر الآب، حيث إن روحه الساكن فينا هو الله وليس شيئًا آخر؟][55]. وأضاف قائلاً [ لو لم يكن روح الآب هو الله ـ الذي به يُعطى حياة وقداسة للبشر ـ هو روح الابن أيضًا، فمن ذا الذي يصل تفكيره إلى هذا الحد الدنئ حتى يفكر ويقول إن الابن ليس واحدًا في الجوهر مع الله الآب بل هو ضمن المخلوقات ويقول أيضًا إن الابن لا يُعطِى ولا حتى يهب البشر أن يكونوا شركاء الطبيعة الإلهية أو تلك المواهب المميزة الخاصة بها، الأمر الذي يجعله لا يكون مختلفًا بالمرة عن المخلوقات وأيضًا يجعل طبيعة المخلوقات مساوية في المجد مع تلك الطبيعة (الإلهية) التي تضبط كل الأشياء][56].
9 ـ ” كل عطية صالحة وكل موهبة تامة هى من فوق نازلة من عند أبى الأنوار الذي ليس عنده تغيير أو ظل دوران“[57].
يستخدم ق. كيرلس طريقة الحوار بالأسئلة والإجابات السابق الإشارة إليها في المقدمة ليصل إلى هدفه الذي هو إثبات إلوهية الابن، ومن خلال الوحدة الجوهرية للأقانيم يصل إلى أن الثالوث القدوس هو رب وإله واحد. وهنا يتوقف أمام هذه الآية ويتساءل حتى يعطى إجابة تخدم هدفه وتثبّت التعليم القويم فيقول: من أين تتوزع علينا الهبات الإلهية؟ لقد ظن مَن أنكروا إلوهية الابن أن الآية تتكلّم صراحةً على أن هذه الهبات تأتي لنا فقط من عند الله الآب، وهم في هذا أنكروا على الابن مساواته في الجوهر للآب والروح القدس وبالتالي أنكروا عليه وحدة العمل والفعل بينهما. غير أن الواقع العملي في حياة مَن يؤمنون بالمسيح يشهد بعكس ذلك لأن [ المسيح أعطى للرسل السلطان كى يخرجوا الشياطين ويشفوا الأمراض وكل ضعف بين الناس والأمر الأعظم من كل هذا أنه أعطاهم السلطان حتى يقدروا أن يهزموا الموت نفسه عندما حثّهم بكلام يليق به كإله ” اشفوا المرضى، طهروا برصًا، أقيموا موتى اخرجوا شياطين ” كما أن يوحنا الناطق بالإلهيات يعترف بكل وضوح قائلاً ” من ملئه نحن جميعًا أخذنا”]. ويرى ق. كيرلس أن العطية الصالحة والهبة الكاملة والتي تثبت إلوهية الابن هى أن نكون شركاء الروح القدس فيقول إن الابن [ يرسل من ملئه روحه القدوس الذي هو واحد معه في الجوهر بدون أن ينفصل عنه، وعن طريق الروح القدس يصير لنا كل عطية صالحة][58].
لقد كانت قيامة المسيح هى أعظم دليل على إلوهيته، ثم كانت عطيته الإلهية لتلاميذه أى عطية الروح القدس بعد القيامة، فهو يعطى كل العطايا بسلطة إلهية وليس كخادم يستمد سلطته من آخر [ فطالما أنه قد قام مبطلاً الفساد ومحطمًا قيود الموت فإنه جاء بنا مرة أخرى إلى القداسة معطيًا للرسل جمال الطبيعة كما كانت عندما خلق الجنس البشرى ونفخ في وجوههم قائلاً: ” اقبلوا الروح القدس“. إذًا فطالما أن كل عطية صالحة تأتي من فوق من الآب وتوزع بواسطة الابن الذي له السلطة الإلهية وليس كخادم، فبأى طريقة إذًا لا يكون واحدًا في الجوهر مع الآب الذي ولده، بمعنى كيف لا يكون إلهًا بالحق، وليس مزينًا من الخارج بكرامات مثل اللوحات المرسومة][59].
10 ـ ” إن الله كان في المسيح مصالحًا العالم بنفسه غير حاسب لهم خطاياهم واضعًا فينا كلمة المصالحة إذ نسعى كسفراء عن المسيح كأن الله يعظ بنا نطلب عن المسيح تصالحوا مع الله“[60].
إن الإيمان بالمسيح يدخلنا إلى معرفة الله الآب وشركة الروح القدس وهكذا نعترف بأقانيم الثالوث التى من نفس الجوهر وهذا الإيمان يبعدنا عن ضلال تعدد الآلهة ويصالحنا مع الله.
ويعلّق ق. كيرلس على ما كتبه بولس الرسول المشار إليها هنا قائلاً: [ عندما يأتي شخص ما للمسيح فإنه يتصالح مع الله. ومن خلال المسيح يتصالح العالم كله مع الله ][61] وهو يرى أن في هذا ما يثبت وحدة جوهر الآب والابن فهذا يستكمل قوله بسؤال استنكارى [ وبالتالي كيف لا يكون من المضحك أن يعتقد هؤلاء أن الكلمة الذي أتى من الآب وهو باق فيه، هو بعيد عن جوهر الآب ][62]. إذًا مَن يعرف الابن يعرف الآب. الإله الحقيقي أيضًا كما يشهد معلّمنا يوحنا ” هذه هى الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته “[63].
11ـ ” لأن الكل عبيدك“[64]، “هلم نسجد ونركع ونجثو أمام الرب خالقنا لأنه هو إلهنا ونحن شعب مرعاه وغنم يده“[65]، “خرافي تسمع صوتي وأنا أعرفها فتتبعني وأنا أعطيها حياة أبدية ولن تهلك إلى الأبد ولا يخطفها أحد من يدي“[66].
قد يرى من لا يؤمنون بإلوهية الابن وبأنه مساوٍ للآب والروح القدس في الجوهر، أن الابن كان غير محق في أن يدعو مَن يؤمنون به بأنهم خرافه هو، وكان الأجدر به أن يدعوهم خراف الآب، على أساس أن الابن ـ حسب اعتقادهم ـ ليس إلهًا حقيقيًا مثل الآب. والخطورة الواضحة في هذا التفكير تكمن في إنكار عقيدة الثالوث كله لأنها تنكر أحد أقانيمه كما سبق القول، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فإنها تهدر قيمة العمل الخلاصي والمحبة الإلهية نحو البشر. فلقد ارتضت محبته أن تفتقدنا من ضلالنا وأن يشملنا كراع صالح برعايته بل أنه صيّرنا خرافه وأعطانا حياة أبدية ووعدنا بألاّ تهلك إلى الأبد وألاّ يخطفها أحد من يده”[67]. غير أن القديس كيرلس كان يؤمن ـ كما أخبرنا ق. يوحنا ـ بأن [ الابن قد جاء إلى خاصته وأنه سمى كل سكان الأرض بل كل الخليقة خاصته وأنه يعمل كل ما يعمله الآب لا كأنه أقل منه، لكن كمن له سلطان وربوبية حقيقية وليست غريبة عنه ][68].
12ـ ” إن الحصاد كثير والفعلة قليلون فاطلبوا من رب الحصاد أن يرسل فعلة إلى حصاده“[69]، ” الذي رفشه في يده وسينقي بيدره ويجمع القمح إلى مخزنه“[70].
كانت وصية الرب القائم منتصرًا من بين الأموات، لتلاميذه أن يذهبوا ويتلمذوا جميع الأمم، وهكذا أعطاهم المسيح له المجد شرف وامتياز نشر أسرار ملكوته. وهذا عكس ما قد يفهمه بعض المعارضين من قول المسيح لتلاميذه ” اطلبوا من رب الحصاد أن يرسل فعلة إلى حصاده ” وكأنه هو لا يملك حصاده أو أن الحصاد ليس له على اعتبار أنه هو ليس مثل الآب إله حقيقي حسب اعتقادهم، غير أن شهادة يوحنا المعمدان عنه كما سجلها إنجيل لوقا توضح أنه هو ـ مثله مثل الآب ـ رب الحصاد وأن المخزن هو مخزنه أو كما يقول ق. كيرلس أنه [ في نفس الوقت الذي يُرجع فيه للآب تعيين فعلة لحصاده، فهو يكشف عن مَن يكون رب الحصاد وذلك حينما أعطى لتلاميذه امتياز نشر أسرار ملكوته، كما أن البشير لوقا يؤكد أن الحصاد هو له ][71].
13ـ ” الذي لم يشفق على ابنه بل بذله لأجلنا أجمعين كيف لا يهبنا معه كل شئ“[72]، ” أنا قلت إنكم آلهة وبنو العلي كلكم“[73].
فهم بعض المعارضين أن معنى هذه الآيات أن يكون لكلمة الله طبيعة مخلوقة لكونه ابن مثلنا نحن الذين صرنا أبناءً بالتبني وبالتالي ستكون طبيعة الابن مختلفة عن طبيعة مَن ولده. ولقد دافع ق. كيرلس عن إلوهية الابن عندما شرح المعنى السليم لهذه الآيات وأوضح [ أنه بينما كثيرون قد دعوا آلهة وأبناء إلاّ أن تعبير الابن “الذاتي” أو “الخاص” ينسب حرفيًا وبالفعل لواحد فقط][74]. ويستطرد فيقول إن هذا بسبب أن [ هؤلاء بالتأكيد صاروا أبناء بسبب نوالهم عطية المحبة السماوية بدعوتهم للتبني بينما الابن ليس كذلك لكنه هو ابن حقيقي وذاتي لله الآب وله نفس الطبيعة التي هى أرفع وأسمى من طبيعة الكل][75]. وردًا على أفكار المعارضين المنحرفة يقول [ لابد أن نفكر بطريقة سليمة ونؤمن أن الابن هو ابن ذاتي (خاص) لله الآب وهو لا يحصى ضمن من نالوا التبني بل هو إله من إله. كما أنه لا يمكن التفريق أو الفصل بين من هم من جنس واحد ونوع واحد في طبيعة طريقة وجودهم ومرتبطين معًا في وحدة كاملة حسب الجوهر. إذًا فالابن ليس إلهًا من طبيعة أخرى غير طبيعة ذلك الذي ولده فهو إله حقيقي طالما دعى ابنًا ذاتيًا (خاصًا) لله الحقيقي حسب الطبيعة وهو يختلف بالتأكيد عن كل هؤلاء الذين صاروا أبناء بالتبني كما أن له نفس المجد الحقيقي الذي لله][76].
13 ـ ” رأس كل رجل هو المسيح أما رأس المرأة فهو الرجل ورأس المسيح هو الله“[77]. من بين الآيات الرائعة التي استخدمها ق. كيرلس في دفاعه عن إلوهية الابن تلك الآية التي جاءت في رسالة معلّمنا بولس الرسول الأولى إلى أهل كورنثوس. ورغم ما يبدو في أن معنى هذه الآية لا يحمل أى بُعد يساعد على فهم وشرح عقيدة الثالوث فإن ق. كيرلس ربما كان هو الوحيد الذي اعتقد بأن الرسول بولس [ يقصد بهذه الآية أن يوضح وحدة الجوهر وأن الابن قد وُلد بالحقيقة من نفس هذا الجوهر][78] بينما رأى المعارضون [ أن هذا الكلام يجرّد الابن من أن يكون واحدًا مع الله الآب][79]. فقد رأى ق. كيرلس [ أن الرجل هو رأس المرأة لأن المرأة خلقت من البدء من جنبه وعلى صورته كما خلق هو على صورة الله كما جاء في الكتب. كما أننا تعلّمنا أن رأس الرجل هو المسيح الذي هو الأصل الثاني للجنس البشرى وبكر البشرّية التي تقدست بالروح فنالت عدم الموت ولهذا السبب عينه يدعى المسيح آدم الثاني، ونحن نقبل بل ونؤمن أن رأس المسيح هو الآب لأنه مساوٍ له في الجوهر ومتحد معه حسب الطبيعة، ولهذا يُدرك على أنه هو الله مع أنه ظهر في الجسد وصار كواحد منا][80]. ولأن عقيدة الثالوث مرتبطة بسر الفداء الذي تم بمسرة الآب بتجسد الابن الوحيد من الروح القدس ومن مريم العذراء، لهذا تابع ق. كيرلس شرحه للآية السابقة معطيًا لها بعدًا خرستولوجيًا وخلاصيًا بقوله: [ والمسيح ليس إلهًا فقط وليس إنسانًا فقط بل أنه ـ حسب التدبير ـ قد وحّد في شخصه طبيعتين مختلفتين هما اللاهوتية والناسوتية في اتحاد لا يدركه العقل ولا يدنى منه ولا يُعبّر عنه باللسان. لأن المسيح هو إله وإنسان معًا، فالآب السماوى هو مصدر (نبع) وأصل أقنومه وهو كائن معه وأزلي معه بدون أن يكون الآب سابقًا على الابن زمنيًا، طالما أن الرأس (الآب) كائن مع من دعى رأسًا (الابن) ومن جهة أخرى فالمسيح مرتبط معنا من حيث طبيعته البشرية][81]. ويختم ق. كيرلس شرحه لهذه الآية بالتأكيد مرة أخرى على أن الابن له نفس جوهر مَن ولده فيؤكد : [ عندما نقول إن الله هو رأس المسيح وهو كذلك بدون شك، كيف لا يكون إلهًا ذلك الذي أصله هو الألوهة الحقيقية وله نفس جوهر من ولده؟ لأنه لابد أن ندرك أن الرأس هى من نفس طبيعة باقي الجسد][82]. ويلفت نظر المعارضين إلى ما قاله المسيح له المجد بأن الشجرة تعرف من ثمارها وأن هذا يثبت إلوهة الابن أيضًا فيقول: [ لكن إن كانوا يعتقدون أن الكلمة الذي وُلد من الله الآب لابد أن يخرج خارج نطاق الألوهة ويحسب ضمن المخلوقات فليسمعوا جيدًا هذا القول ” اجعلوا الشجرة جيدة وثمرها جيدًا أو اجعلوا الشجرة ردية وثمرها رديًا لأنه من الثمر تعرف الشجرة“][83].
14 ـ ” لكن شكرًا لله الذي يقودنا في موكب نصرته في المسيح كل حين ويُظهر بنا رائحة معرفته في كل مكان لأننا رائحة المسيح الذكية لله“[84].
فسّر ق. كيرلس معظم أسفار الكتاب المقدس وكان له منهج مميز ذو توجهات ثلاثة: خرستولوجى وروحى وكنسي[85]. فمن بين الأناجيل الأربعة نجد تفسيره لإنجيل يوحنا هو أكثر التفاسير التي تعكس هذه التوجهات وخصوصًا التوجه الخرستولوجى ومن بين رسائل بولس الرسول نجد أن رسالة كورنثوس هى من أكثر الرسائل المستخدمة في كتاباته. وهنا نجده يستحضر هذه الآية ليدلّل بها على أن رائحة المسيح الذكية فينا هى شهادة لإلوهيته، مشددًا بذلك ـ كعادته ـ على البُعد الخلاصي في فهم وشرح عقدية الثالوث، لأن من نتائج تدبير الخلاص أن الابن عرّفنا بالله الآب، لهذا نجد ق. كيرلس هنا يوجه للمعترضين سؤالاً استنكاريًا فيقول: [ كيف لا يكون إلهًا وبالحرى إلهًا حقيقيًا من بواسطته، وبواسطته وحده يستطيع المرء أن يعرف أن الآب هو إله حق حسب الطبيعة؟ لأن بولس الرسول يكتب لهؤلاء الذين آمنوا ” لكن شكرًا لله الذي يقودنا في موكب نصرته في المسيح كل حين ويُظهر بنا رائحة معرفته في كل مكان لأننا رائحة المسيح الذكية لله “[86]. فعندما تظهر رائحة الله الآب الذكيّة من خلال المسيح وتصبح معروفة بواسطته، كيف تشك في أن هذا يجب أن يحدث؟ وكيف يقدر المسيح أن يكون هو رائحة المعرفة الحقيقية لله الآب ولا يصدّق أنه صَدَر من الألوهة الحقيقية؟][87]. ويخلص إلى الحقيقة الإلهية بأن ” الابن الوحيد وُلد ـ بطريقة لا يُعبّر عنها ـ من جوهر الله الآب. ولهذا فإن كنيسة الأمم تناديه كعريس قائلة ” اسمك كالطيب المسكوب، لهذا أحبتك العذارى ” كما أننا أيضًا عن طريقه وبواسطته قد قبلنا رائحة معرفة الآب“[88].
15 ـ ” يا رب تجعل لنا سلامًا لأنك كل أعمالنا صنعهتا لنا. يا رب لا نعرف آخر سواك نحن ندعوك باسمك“[89].
وأخيرًا يختم ق. كيرلس هذا الحوار الثالث حول الثالوث والذي وضع له عنوانًا ” أن الابن هو إله حقيقي كما أن الآب إله حقيقي”، وذلك بالحديث عن فعل سماوى إلهى وعطية وُهبت للبشر، حسب العمل التدبيرى للثالوث. فكل شئ أعطى للبشرية من الآب بالابن في الروح القدس.
إذًا هو يتحدث هنا عن عطية وهبة السلام الذي يأتي إلينا بتفضل من الله كما تشهد الآية عن لسان إشعياء النبي فيقول: [ السلام هو ثمر فعل سماوى وهو عطية بالفعل، لا يهبه أى كائن مخلوق بل فقط الله حسب الطبيعة … ولهذا فإن إشعياء قد قال بأنه يعرف الله وحده ولا يعرف آخر سواه ]. إذًا بسبب الوحدة الجوهرية لأقانيم الثالوث فإن الابن إذ هو إله حقيقي كما أن الآب إله حقيقي فهو يعطينا سلامه الإلهي، لهذا يشدّد ق. كيرلس على هذه الحقيقة بقوله [ إن الكلمة المولود من الآب هو ضابط الكل وهو المانح لما يعطيه الله الآب لنا، لأنه قال لتلاميذه ” سلامي أنا أعطيكم، سلامي أترك لكم ” وقال إن هذا السلام هو سلامه لأنه بالفعل هو سلام يُعطى من الله وحده وليس بأى طريقة أخرى ][90].
وهكذا يصل ق. كيرلس إلى هدفه والذي عبّر بنفسه عنه بقوله [ غير أن هدفنا ليس هو أن نفحص من أين يأتي هذا التجديف بل بالحرى أن نعترف أنه يجب أن ندرك كيف أن الابن قد وُلِدَ من جوهر الله الآب وأنه إله حق من إله حق وأنه لم يولد من طبيعة غريبة ومختلفة، وأن له كل ما للآب حسب الجوهر عدا كونه أبًا وإذ نُحصى الروح القدس مع الآب والابن في الألوهة الواحدة، فإننا هكذا نسجد لثالوث واحد مساوٍ في الجوهر الإلهى][91].
IV ـ الربوبية الواحدة للآب والابن:
لقد ظن المعارضون حسب فكرهم المنحرف أن مَن يؤمن بالابن، لن يكون إيمانه صحيحًا، لأن الإيمان بالابن ليس كالإيمان بالآب، على اعتبار أن الله الحقيقي ـ حسب اعتقادهم ـ هو الآب فقط. ويستنكر ق. كيرلس هذا الفكر الخاطئ ويتساءل قائلاً: [ هل يستطيع الذين هم خاصة الآب أن يكونوا بنفس الكيفية خاصة المسيح إن لم يكن جوهر الواحد هو نفسه جوهر الآخر؟][92]. ويتابع تعليمه معبرًا عن إيمان الكنيسة بقوله: [ لأن الآب فيه كل ملء الربوبية والمجد كإله، كما أن الابن هو أيضًا رب وإله. فبدون الربوبية لن يكون الآب إلهًا ولا يكون الابن ربًا حقيقيًا إن كان منفصلاً عن الألوهة الحقيقية حسب الطبيعة ][93]. ويستدل على ما يؤمن به مما جاء في رسائل بولس الرسول الذي [ يربط بين الاسمين في وحدة واحدة ][94]. ولهذا فإنه يورد مجموعة من الآيات يرد في أحدها اسم المسيح أو الابن والأخرى اسم الله أو الآب لأنه يؤمن بأن [ كل ما نستطيع أن نقوله عن الله كإله نقوله عن الابن أيضًا ][95]، وهذه الآيات كالآتي:
1 ـ |
+ ” الذين هم للمسيح قد صلبوا الجسد مع الأهواء والشهوات“ (غلا24:5)[96]. |
+ ” لك أنا فخلصني لأنني حفظت وصاياك” (مز56:119)[97]. |
|
2 ـ |
+ ” بولس الرسول عبد ليسوع المسيح المدعو رسولاً المفرز لإنجيل الله” (رو1:1)[98]. |
+ ” لكننا لم نستعمل هذا السلطان بل نتحمل كل شئ لئلا نجعل عائقًا لإنجيل المسيح” (1كو12:9)[99]. |
|
3 ـ |
+ ” بل في كل شئ نظهر أنفسنا كخدام الله “ (2كو4:6)[100]. |
+ ” هم خدام المسيح أقول كمختل العقل فأنا أفضل” (2كو23:11)[101]. |
|
4ـ |
+ ” كونوا بلا عثرة لليهود واليونانيين ولكنيسة الله” (1كو32:10)[102]. |
+ ” موسى كان أمينًا في كل بيته كخادم شهادة للعتيد أن يتكلم به وأما المسيح فكابن على بيته وبيته نحن” (عب5:3ـ6)[103]. |
وأخيرًا يضع ق. كيرلس اعتراف إيمانه على لسان إرميا حينما يقول: [ إذًا لا يوجد شئ على الاطلاق يمكن أن يعوقنا على أن نؤمن إيمانًا حقيقيًا بأنه طالما أن الابن قد وُلِدَ من جوهر الله الآب ذاته فلا يمكن أن يُدرك على أنه مختلف عن الآب][104].
مقدمة القديس كيرلس
لكتاب الثالوث القدوس الواحد في الجوهر
إن الدخول إلى الأمور الإلهية هو أمر صعب بكل تأكيد حتى بالنسبة لأولئك الذين لديهم الحواس المدرّبة على إدراك الأسرار الإلهية، أو حسب ما يقول بولس الحكيم جدًا كأنهم ينظرون إلى الأمور التي تفوق كل إدراك كما “فِي مِرْآةٍ، فِي لُغْزٍ“[1]. ولعل السبب وراء تلك الصعوبة يكمن فى أن ذهن الإنسان مثقّل جدًا وغير قادر على إدراك الأمور الدقيقة، ولهذا فرغم أنه من الواجب أن نتحدّث عن الأمور الإلهية، إلاّ أن الأكثر حكمة هو أن نصمت. وبالنسبة للمكلّفين بتعليم هذه الأمور فإن الأمر لا يخلو من مخاطر. والرسول بولس القديس حينما صرخ “فَوَيْلٌ لِي إِنْ كُنْتُ لاَ أُبَشِّرُ“[2]، كان على دراية كاملة بصعوبة التبشير بالإلهيات .
وهكذا توصّلتُ إلى أن أكتب لك هذا الكتاب وهو موّجه لك أيها المحب للمعرفة نيميسيوس، وقد قمت بجهدٍ مضنٍ لتأليف هذا الكتاب لأجلك، عن الثالوث القدوس الواحد في الجوهر. وقد قمنا بتجميع الأفكار المتشابهة من حيث النوع والجنس. وهكذا صار الكتاب يتكوّن من سبع مقالات. والحوار التالي[3] هو مع إرميا المجتهد والمؤَهل للخوض في هذه القضايا بسبب غزارة علمه وبحثه الدائم.
وأسلوب الكتاب سلس وهو عبارة عن أسئلة وأجوبة متبادلة بين شخصين، فالشخص الأول نضع أمامه حرف “أ” والثاني “ب”[4]. وقد لزم تقديم الأشخاص منذ البداية نظرًا لدقة التساؤلات، والإجابات تميّز الأفكار المختفية، فتبنى بعضها وتهدم البعض الآخر مما يسبب مرارة للنفس. ولهذا السبب يجب أن نحفظ ترتيب الحروف منذ البداية حتى لا يحدث اختلاط للأفكار التى سوف نكتشفها أثناء الحوار، وهكذا نحفظ للكتاب نظامه وقوته. أرجو لك أيها العزيز أن تكون معافى فى الرب.
محتويات الكتاب:
الحوار الأول: أن الابن أزلى مع الله الآب ومساوٍ له فى الجوهر.
الحوار الثاني: إن الابن أزلى مع الله الآب وهو مولود منه حسب الطبيعة.
الحوار الثالث: إن الابن هو إله حق مثل الآب.
الحوار الرابع: إن الابن ليس مخلوقًا أو مصنوعًا.
الحوار الخامس: إن كل خواص الألوهية ومجدها كائنة فى الابن بالطبيعة تمامًا مثل الآب.
الحوار السادس: إن خواص الطبيعة البشرية وما يتبعها، لا تنسب للألوهية، بل هى منسوبة للابن بالجسد حسب التدبير (الإيكونوميا). وهذه الخواص البشرية ليست من طبيعة اللوغوس والذي هو الله بالحقيقة.
الحوار السابع: في أن الروح القدس هو الله ومن الله حسب الطبيعة.
حوار بين أبينا القديس كيرلس والأب إرميا
الحوار الأول
الابن أزلي مع الله الآب ومساوٍ له في الجوهر
مقدمة: الأب إرميا وغِيرَته اللاهوتية[5].
كيرلس: نحن لم نرَ الأب الموقر إرميا لا بالأمس ولا أول أمس ولعله فضّل ألاّ يخرج إلى ساحة المدينة ومكث فى البيت، ربما دفعه الشتاء إلى عدم الخروج ولقد أحسن الصنع، والآن لقد خرج مع ظهور الطقس الجميل.
إرميـــا: حقًا قلت، فالشيخوخة دائمًا فترة حرجة والشيخ يتردّد كثيرًا قبل الخروج من البيت وخاصة حينما تكون السماء ممطرة.
كيرلس: نستطيع بكل محبة وصراحة أن نشبِّهك بسمك البحر فحينما تهب ريح شديدة تحرك الأمواج، تجتمع الأسماك معًا على هيئة سرب واحد في التجاويف التي في أعماق البحار، وتدخل فيها كما في غابة أو حرجة الأشجار، وتأكل من النبات الكثيف الذي تجده. ولكن بمجرد أن تشرق أشعة الشمس على المياه، وحينما ترى هذه الأشعة كإبتسامة على وجه البحر كله، تدخلها الشجاعة وتخرج على قمة الأمواج تاركة وراءها الخوف والتردد.
إرميــا: هذا هو ما يحدث لي تمامًا وهو لا يخفى عليك أيها الصديق العزيز.
كيرلس: وعلى حد علمى فأنت الآن بعيد عن ضجيج الناس والمشغوليات وذهنك فى حالة استجمام.
إرميــــا: وما الفائدة من ذلك؟
كيرلس: الفائدة عظيمة وتليق بالقديسين، وهل هناك حياة هادئة ومستقرة بدون ثمر؟
إرميــــا: إن نوعية الحياة أهم من طولها.
كيرلس: إن كلام الله في المزمور الذي ترتّله على القيثارة يثبت صحة ما تقول.
إرميــــا: عن أى مزمور تتكلّم؟
كيرلس: “كُفُّوا وَاعْلَمُوا أَنِّي أَنَا اللهُ“[6]. إن العيون الجسدية تبصر جيدًا الأشياء التي تَعبْر أمامها، إذا كانت خالية من العوائق مثل التراب والدخان وكل ما يشوّش الرؤية، ولكن إذا أصابتها الأوجاع فإنها لا تبصر بوضوح وتعوزها الرؤية الثاقبة للأمور وهذا ينطبق على فكر الإنسان. ففكر الإنسان المستقر والهادئ والبعيد عن التخيّلات غير النقيّة، تكون نظرته حادة ونافذة وسيتعرّف على الكائنات معرفة بدون خطأ. ولكن إذا تشوش بالأهواء[7] فإنه سيصير عاجزًا عن رؤية الجمال الإلهى وسوف يسكن وسط الأشياء الأرضية.
إرميــــا: بالصدق تتكلّم.
كيرلس: إذًا هل اختليت إلى نفسك فى وقت فراغك فى المنزل، تتذكّر (أيها الأب) إرميا، الصوت الإلهى؟ هل تقرأ كل يوم كتبًا مقدّسة؟ هل هناك غيرة تدفعك إلى طلب العلم؟ هل لديك حاسة مرهفة تسعى وراء ما يجب أن تتعلّمه؟ أم يجب علينا أن ننسب عدم رغبتك الشديدة للعمل إلى أنك لم تعد في سن الشباب، إلاّ إذا كان لديك سبب آخر غير حقيقي؟ وسأذهب إلى حد أن أتجرأ وأجرح مشاعرك بقولي إن الإنسان المسن يميل إلى عدم قول الصدق وهو يبحث عمن يقبل إسرافه في الأمور التي يريدها وعمن يثق بكلامه.
إرميــــا: سأستطيع أن أقول الكثير والكثير عن مرض الجسد لأن شمس حياتنا الأرضية بدأت فى الغروب، ولكنى سأدخل فى لب الموضوع تاركًا هذه الشكوى (من الأمراض) لوقت مناسب. لأن ذهنى يشتاق للمعرفة ولا يطلب شيئًا غيرها. وحالتى تشبه المُهر[8] الأصيل والسريع فى العدو، فكلما أراد أن يُظهر مهارته فى العدو، يجد نفسه رغمًا عنه، بسبب الأرض غير المهيأة للعدو، يقدّم عرضًا ناقصًا لا يتناسب مع قوته. وهكذا أشعر بنفس الشىء. فكلّما تدفعنى غيرتى على أن أكرّس وقتى لدراسة الأسفار المقدّسة، أجد نفسى أمام صعوبات بلا مخرج، والتغلّب على هذه الصعوبات ليس بالأمر المتاح لكل إنسان. وهكذا كما ترى فإن الصعوبات القائمة تدفعنى إلى التردّد، وأنا أزداد ترددًا بالأكثر أمام كل ما يخص الإيمان الذى هو أساس الرجاء الذى فينا.
كيرلس: سأقول لك إنك تتكلّم الحق، وذلك لأن اقتناء العطايا الصالحة النازلة من فوق، من الله، ليس بالأمر الذى يتم بدون معاناة، وهذا الأمر واضح للجميع وذلك لأن الأمور الفائقة وتلك التي عظمتها هى في السماء ليس بالأمر المتاح لكل من يُظهر مجرد الاشتياق لكنها تقتنى بالجهد وهى أمور صعبة المنال إذ هى مليئة بالصعوبات والتعب.
إرميـــا: إذن، ماذا يمكن أن يفعله أولئك الذين يرغبون بغيرة صادقة أن يكتشفوا كل هذه العطايا وخاصة أنه حسب قولكم، ليس بالأمر السهل؟
كيرلس: ليس أمامهم إلاّ أن يطيعوا أقوال القديسين الذين صرخوا عاليًا “وَإِنَّمَا إِنْ كَانَ أَحَدُكُمْ تُعْوِزُهُ حِكْمَةٌ فَلْيَطْلُبْ مِنَ اللَّهِ الَّذِي يُعْطِي الْجَمِيعَ بِسَخَاءٍ وَلاَ يُعَيِّرُ، فَسَيُعْطَى لَهُ“[9].
وبكل تأكيد فالنور الإلهى الروحانى سوف ينير لمن لا نور له، والحكمة سوف تجعل من لا حكمة له، حكيمًا، ومن ينقصه الوعى، أكثر وعيًا. والنور والحكمة هما المسيح “الَّذِي أَشْرَقَ فِي قُلُوبِنَا، لإِنَارَةِ مَعْرِفَةِ مَجْدِ اللهِ“[10] لأنه حسب قول المغبوط بولس فإن الله الآب “أَنْقَذَنَا مِنْ سُلْطَانِ الظُّلْمَةِ، وَنَقَلَنَا إِلَى مَلَكُوتِ ابْنِ مَحَبَّتِهِ“[11]، ولقد سمى أحد القديسين هذا النور بزوغ النهار وكوكب الصبح حينما قال “إِلَى أَنْ يَنْفَجِرَ النَّهَارُ، وَيَطْلَعَ كَوْكَبُ الصُّبْحِ فِي قُلُوبِكُمْ“[12] وهو يعنىـ حسب اعتقادى ـ بانفجار النهار وطلوع كوكب الصبح، الاستنارة فى الروح بالمسيح.
إرميــا: لا يوجد أحد يشك فى أن المسيح هو النور وهو النهار وهو كوكب الصبح، وخاصة هؤلاء الداخلين ليصيروا مختارين بالإيمان (الموعوظين). وإذا سألناك أن تشرح لنا عقيدة الإيمان بطريقة مبسطّة وسهلة الفهم، هل ستوافق أم سترفض وتعطى الفرصة للمتشككين لكى يفتخروا على شيخوختى؟ ويجب ألاّ نعطى أى اهتمام للآراء الباطلة التى يروجها بعض الناس والتى يهدفون من ورائها إلى تزّييف الحق الإلهى وتحويله حسب خيالاتهم، ويتجولون كسرب من النحل يجول فى المدن والقرى محدثًا طنينًا كثيرًا “يَتَكَلَّمُونَ بِرُؤْيَا قَلْبِهِمْ لاَ عَنْ فَمِ الرَّبِّ“[13].
كيرلس: كم تعجبنى فيك هذه المحبة الإلهية التى لا نظير لها ولذلك أرجوك ألاّ تتخلى أبدًا عن هذه الاستقامة فى الرأى وهى الجديرة حقًا بالإعجاب. ومن يستحق غيرك أيها الصديق فى أن يستمتع بالمحبة الإلهية؟! ولست أدّعى أننى سأقول شيئًا أفضل من الذى قاله أسلافنا أو أنى سوف أسبر غور الأمور الروحية بشكل أحسن، لأننا نجد كفايتنا فيما كتبه الآباء القديسون، لأن من يقرر أن يتعّرف بحكمة على الآباء و يستعمل كتاباتهم بالحرص الواجب فسوف يسكن النور الإلهى فى عقله، لأنه حسب كلام المخلّص “لأَنْ لَسْتُمْ أَنْتُمُ الْمُتَكَلِّمِينَ بَلْ رُوحُ أَبِيكُمُ الَّذِي يَتَكَلَّمُ فِيكُمْ“[14]. وذلك لأن “كُلُّ الْكِتَابِ هُوَ مُوحًى بِهِ مِنَ اللهِ، وَنَافِعٌ لِلتَّعْلِيمِ وَالتَّوْبِيخِ“[15]، أليس كذلك يا صديقى؟
إرميـــا: نعم ما تقوله صحيح. و لكن إذا أصابك التردّد ولم يكن لديك رغبة في التعاون معنا، أي إذا أغلقت فمك فسوف نصاب نحن بالشلل، وأخشى ما أخشاه أن يصير قولك إن الآباء قد كلّمونا بطريقة كافية ومُرضِية مجرّد حجة، لكى تمتنع عن أن تكلّم الذين يشتاقون إلى الاستماع إليك حول موضوعات الإيمان. وأنا بدوري لن أمدحك أبدًا على هذا المسلك، وألزمك أن تجيب على أسئلتى.
كيرلس: حول أى موضوع تريد سؤالى أيها النبيل؟ ولا تحاول الضغط بشدة على ذكائى المتواضع.
إرميـــا: إن هدفى ليس هو الضغط عليك وإن كان يجب أن أفعل اكثر من ذلك، في تلك الأمور التي أرى إنه من الضروري أن أسألك فيها.
كيرلس: اطرح أسئلتك الآن إذا كنت تعتقد إنك يجب أن تفعل ذلك.
إرميـــا: إذا أراد أحدنا أن يرعى الخراف والماعز فى الريف ألا تعتقد أنه يحتاج إلى عصا الراعى ومجموعة من الكلاب المدرّبة، لكى من ناحية يحمى نفسه فى حالة إذا ما هجم عليهم وحش مفترس، ومن ناحية أخرى فإن نباح الكلاب يحمى القطيع؟
كيرلس: هذا صحيح .
إرميــا: فإذا قام الراعىـ بمرور الزمنـ بإحضار كلاب أخرى محل الكلاب التى ماتت، هل تعتبر أن سهر ونباح الجيل الثانى من الكلاب ليس له فائدة لأن الجيل السابق من الكلاب كان شجاعًا ومتفوقًا؟!
كيرلس: وكيف نجرؤ على القول بأن شيئًا نافعًا لا فائدة له؟
إرميــا: أظن أنك تنسحب لكى تبقى بلا لوم وتتركنى أمام كتابات الآباء فقط، موحيًا بذلك أننا لا يجب أن نبذل جهدًا مثلهم، وأن لا نجاهد مسنودين بمحبة الله، بينما الهراطقة الأشرار المتوحشون يفترسون النفوس البسيطة بدون أن يقف أمامهم عائق ولا مانع.
قانون إيمان مجمع نيقية واصطلاح “`ομοούσιος” أي ”المساوى فى الجوهر”:
كيرلس: أشعر أن كلامك قد شجّعنى وأضرم فىَّ رغبة شديدة للعمل.. هيّا بنا.. ولكن دعنا نبدأ بعرض الإيمان كما حدّده بدقة وعرضه بكل وضوح المجمع المقدّس والمشهور الذى انعقد فى الوقت المناسب في مدينة نيقيا وسنفحص، إذا أردت، بكل وضوح ما هو الأمر الذي يبدو وكأنه راسخ بالنسبة لأولئك الذين يفضلّون أن يكون لهم أيمان مختلف، لأن من يقول إن الإيمان الذي قد تحدّد وعُرِضَ بشكل فائق وبحسب مشيئة الله في هذا المجمع المقدس العظيم، هو أساس وقاعدة ثابتة تسند نفوسنا، هو شخص يتكلّم بالصواب ويُمتدح من المسيح وهو شديد الإيمان وعابد حقيقي.
دعنا نذكر الإنجاز العظيم لهذا المجمع، وهو قانون الإيمان الذى قدّم لنا مفاهيمًا إيمانية صادقة، وهكذا فإن الذين ينتقدوننا لن يجدوا فى النهاية أى دافع يثير شوقهم لأن يتكلّموا ضدنا، وكأننا نتبع عقائد غريبة تاركين الطريق الملوكى لكى نتلّفت يسارًا ويمينًا حسب شهوتنا الخاصة. وهذا حسب رأيى يعبّر عن مرض عقلّى ليس من السهل الشفاء منه، لأن الحكمة التى بلا فحص هى عرضة للانحراف، كما هو مكتوب.
وها هو عرض لما نؤمن به:[16]
“نؤمن بإله واحد، الأب ضابط الكل، خالق كل ما يرى وما لا يرى. وبرب واحد يسوع المسيح، ابن الله الوحيد المولود من الآب أى من جوهره، إله حق من إله حق. مولود غير مخلوق واحد مع الآب فى الجوهر[17] الذى به كان كل شئ ما فى السموات وما على الأرض؛ الذى لأجلنا نحن البشر ولأجل خلاصنا نزل وتجسد وتأنس وتألم وقبر وقام فى اليوم الثالث وصعد إلى السموات. وسيأتى ليدين الأحياء والأموات. وبالروح القدس”.
“والذين يقولون إنه كان هناك وقت، لم يكن فيه الابن موجودًا وأنه قَبْل ولادته لم يكن موجودًا أو أنه صار من العدم، أو أن الابن من جوهر أو أقنوم آخر، أو أنه مخلوق، أو أنه تعرّض للتغّير والتحوّل، هؤلاء جميعًا تحرمهم الكنيسة الجامعة الرسولية”[18].
إرميـــا: يا للحذق الذى بلا عيب وما يؤدي إليه من سمو. إن كل من نطق بمثل هذه الكلمات يستحق أن يُدعى ابن الرعد[19] لأنه نطق بشيء رائع وفائق.
كيرلس: إذن فرؤيتى للأمور صائبة وقد بذلت ما فى وسعى وأشعر أن الواجبـ الذى ألقىّ على عاتقى وقَبِلَته بكل سرورـ هو أن نحفظ ما كشفه الروح لنا وأنت تعلّم ذلك جيدًا.
إرميـــا: هذا الكلام صحيح جدًا ولكن بالمقابل يجب أن نقنع الناس أن يفكروا بنفس الطريقة، فهم مثل العجول المسمّنة التى تنحرَف عن القطيع كله فهؤلاء قد إمتلأوا من السفاهة وصاروا يندفعون بطياشة إلى كل ما يوافق رغباتهم. ولكي يصلوا إلى ذلك فهم يتركون المرعى الخصيب الذي يحوى أفضل وأكمل طعام، لينخرطوا في أحاديث حمقاء لمعلّمين كذبة[20]، تدمي كأشواك. وهذا هو الذي جعل الحكمة نفسها تقول في حزن شديد عن هؤلاء: “التَّارِكِينَ سُبُلَ الاسْتِقَامَةِ لِلسُّلُوكِ فِي مَسَالِكِ الظُّلْمَةِ، الْفَرِحِينَ بِفَعْلِ السُّوءِ، الْمُبْتَهِجِينَ بِأَكَاذِيبِ الشَّرِّ، الَّذِينَ طُرُقُهُمْ مُعْوَجَّةٌ، وَهُمْ مُلْتَوُونَ فِي سُبُلِهِمْ“[21].
كيرلس: لقد حكمت بالصواب ويجب أن نبكى على هؤلاء قائلين مع النبي “يا ليت رأسي ماء وعيناي ينبوع دموع لأبكى ليلاً نهارًا على شعبي”[22]. وكيف لا نبكى نهارًا وليلاً على ذلك الذي يكون أمامه فرصة اختيار معرفة الحق وينحرف إلى معرفة الضلال وإلى الآراء الفاسدة والكاذبة؟ وعن مثل هؤلاء أيضًا قال أحد تلاميذ المخلّص القديسين: “مِنَّا خَرَجُوا، لكِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مِنَّا، لأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا مِنَّا لَبَقُوا مَعَنَا“[23]. ثم ماذا يمكن أن يكون لديهم من اعتراضات على هذا الإيمان أو الاعتراف بالإيمان الأرثوذكسي والدقيق والذي لا يملك إنسان أن يعّدله بأي شكل؟
إرميـــا: نعم إنهم يقولون إننا قد أدخلنا كلمة “هوموأوسيوس” (الواحد في الجوهر) وهى كلمة غير واردة في الكتب المقّدسة وأنها شيء جديد وغير كتابي.
كيرلس: هذا كلام خالى من المعنى، يا صديقى، لأن كلمة “هوموأوسيوس” يجب أن لا تسبب قلقًا ما دامت تحمل معنىً صحيحًا، أم أنك أنت أيضًا لا تقبل حقيقة ما أقول؟
إرميــــا: إننى أقبل.
كيرلس: إفحص إذن في كلمات وأوصاف أخرى تعوّدنا أن نطلقها على طبيعة الله ولا توجد في الكتب المقدسة والإلهية.
إرميــــا: أي كلمات تقصد ؟
كيرلس: حينما نَصِف الذات الإلهية بأنها غير مادية وغير مرئية وغير محدودة وغير ممكن قياسها، هل نحن نتكلّم بطريقه غير مناسبة؟ وحينما نصفها بأنها غير محدودة ولا تخضع لشيء، فهل يتهمّنا أحد أننا نتكلّم بدون فائدة رغم أننا نقدّم الرأى السليم؟
إرميــــا: هذا مجرد لغو بكل تأكيد.
كيرلس: لماذا إذن يُظهِرون أنفسهم كأناس بلا وعى ويُهاجمون مصطلح “هوموأوسيوس” كأطفال صغار مُدّعين أن هذا التعبير غريب وهو المليء بالمعاني الحكيمة القيّمة؟ ورغم أن المعنى الحقيقي معروف ومعتّرف به على الأقل من قِبَل الذين فحصوا بعمق الأمور الإلهية وترّبوا فى الأسرار؛ إلاّ أننا نقول إن معنى “الهوموأوسيوس” حسب رأينا هو: إن الابن وُلِدَ من نفس طبيعة الله الآب، وبذلك يكون الابن ليس من جنس آخر كما يريد أولئك الناس، ولا هو غريب عن الذي وَلدَه ولكنه مساوي له فى الجوهر وله نفس خواصه وطبيعته. ولن أخجل أبدًا من استخدام أي كلمة تستطيع أن تشارك في إظهار الجمال والحق. ونحن نعلم أن الله هو فوق كل جنس. ولكن إذا قرّرنا التخلّي عن البحث عن الوسائل التي تقودنا إلى المعرفةـ وهى معرفة محدودة بكل تأكيدـ أي معرفة الجوهر الذي يفوق كل عقل، فسوف نصير غير صادقين وجَهَلَة ولن نتعلّم أبدًا عن الله الحقيقى وطبيعته .. وسنصير “مُضْطَرِبِينَ وَمَحْمُولِينَ بِكُلِّ رِيحِ“[24] حسب المكتوب. وحينما نصبح مذعورين ورافضين للرؤية حتى “فِي مِرْآةٍ، فِي لُغْزٍ“[25]، ورافضين للمعرفة “جزئيًا” فسنصير كلنا مثل الحجارة الصماء والتى بلا شعور، مثلما قال أحد شعراء اليونان “مثل أناس بطالين وهم عبء على الأرض ..”[26].
إرميــــا: ولكن هذا لا يلغى السؤال: أين يذكر الكتاب المقدس تعبير “هوموأوسيوس”؟
كيرلس: إنك تُجبرنا يا صديقي أن نكرّر ما سبق وقلناه: أين وصَفَت الكتب المقدّسة إله الكون بأنه “غير الجسدي”، “غير الموصوف” و”غير المحدود” و”غير الخاضع لأحد”؟![27] ورغم ذلك فهو كل هذا بالطبيعة سواء أراد هؤلاء أم لم يريدوا؟
وإذا كنا قد وضعنا فى قلوبنا أن نُفكر بطريقة مستقيمة فلا يحق لنا أن نرفض التعبيرات التى تساعدنا على معرفة الحقيقة. ألا يوافقون أن الله قد قال لموسى القديس، وقوله حق: “أَهْيَهِ الَّذِي أَهْيَهْ. وَقَالَ: هكَذَا تَقُولُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: أَهْيَهْ أَرْسَلَنِي إِلَيْكُمْ. وَقَالَ اللهُ أَيْضًا لِمُوسَى: هكَذَا تَقُولُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: يَهْوَهْ إِلهُ آبَائِكُمْ، إِلهُ إِبْرَاهِيمَ وَإِلهُ إِسْحَاقَ وَإِلهُ يَعْقُوبَ أَرْسَلَنِي إِلَيْكُمْ. هذَا اسْمِي إِلَى الأَبَدِ وَهذَا ذِكْرِي إِلَى دَوْرٍ فَدَوْرٍ“[28]، ولكنى أعتقد أنهم لن يتركوا أنفسهم لكى يصلوا إلى مثل هذه الحماقة، ويعتقدون أن الله ليس هو يهوه. لأنه بالحقيقة هو “الكائن” وهذه التسميّة لا تناسب غيره، حتى ولو بسبب استعمال اللغة أُطلق الاسم على غيره. وبنفس المنطق نحت أسلافنا[29] تعبير “هوموأوسيوس” الذى هو أصدق تعبير على الإطلاق. وحينما يقول أحد إن الابن مساوٍ للأب فى الجوهر فإنه لا يرتكب حسب رأينا أى خطأ، ولا يُعتبر مُبتدعًا، ولا يفرض أسماء على الألوهة بدون داعٍ. ولكنه يستخدم هنا كلمة، أستطيع أن أقول بلا تردد إن جذورها الأولى توجد فى الأسفار الموحى بها. وهكذا فالاشتقاقات التى تخرج من الكلمة ليست بلا أصل، ولكن جذورها كامنة منذ البدء.
فإذا خرج علينا من يقول إن تعبير “هوموأوسيوس” مخالف لتقاليدنا المقدّسة، فقد جانبه الصواب ويخطئ فى فهم اشتقاقات الكلمة فى تسلسلها الطبيعى. فالجوهر والمساواة فى الجوهر هما من الكائن. وبسبب أنهم جهلاء للغاية فهم يحرموننا من الكلمات الأخرى والتى هى معطاة لنا لكى نستطيع أن نتسامى للتأمل فى الإلهيات كما تستوعبها أذهاننا، وليكن ذلك مبدئيا كما “فى مرآة فى لغز”.
إرميـا: هل لديك اعتراض إن فضّلوا تعبير “مشابه في الجوهر” على تعبير “مساوٍ في الجوهر” [30].
كيرلس: كلامهم هذا غير مستقيم يا صديقي العزيز، فَهُم يُناقضون أنفسهم بعد أن بذلوا جهدًا كبيرًا لإثبات أن التعبير غير كتابي. فإما أن الابن مساوٍ للأب في الجوهر أو أنه لا شئ. وإذا أرادوا أن يقولوا “مشابه في الجوهر” حسب ما يستحسنون فإن عبارة “مساوٍ في الجوهر” هي أساس كل شئ عندنا. وكيف يُفسرون موقفهم بعد أن احتقروا العبارة ووصفوها بأنها كلمة غير صائبة وغير متفقة مع الأسفار المقدسة، ورفضوا أن يقبلوا أي خطاب يحمل ما يشير إلى هذا التعبير، ثم يعودون ويقبلونها ويضعونها في مصاف الألفاظ القيّمة وبافتراض أننا سمحنا لهم باستعمال عبارة أن الابن مشابه للأب في الجوهر، فماذا سيكون موقفهم في نظرك؟
إرميـــا: موقف ظالم جدًا ويعكسه موقفهم المتذبذب أمام تعبيرنا المملوء بالعمق والوضوح.
كيرلس: الأمر لا يحتمل أكثر من ذلك يا عزيزي، فإن اللغو
الكثير والتعاليم الفاسدة التى يُلقنها لهم معلّموهم قد جعلتهم يتصرّفون كالصبية، وذلك بمحاولتهم قطع كل صلة وشركة طبيعية بين الآب والابن، وكأنهم أشفقوا عليه فسمحوا له أن يكون مشابهًا الآب وهكذا لا نرى الفرق بين الابن الوحيد وباقي الناس المخلوقين على صورة الله والذين يظهر فيهم بعض هذا الجمال الإلهي.
إرميــــا: ماذا تقصد من وراء ذلك؟
كيرلس: ألم تسمع أيها العزيز وصيّة المسيح الواضحة “فَكُونُوا رُحَمَاءَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمْ أَيْضاً رَحِيمٌ“[31].
إرميــــا: نعم.
كيرلس: ألا تدرك أن هذه الصفة الإلهية تُطبع فينا، وبذلك تُشكّل طريقة حياتنا بممارستنا للصلاح؟ فالصلاح فائق بحسب ما يليق بجوهر الله، ورغم ذلك فنحن نستطيع أن نصير صالحين بالاقتداء به، وذلك بفضل طريقة حياتنا، بشرط أن نختار بإشتياق وامتداد للأمام كل ما يستحق الاقتداء به. ولأننا نتمتّع بذهن صافٍ ورؤيةٍ صائبةٍ فلا يمكن أن ندّعى أننا لكى تنطبع طريقة الحياة الإلهية فى نفوسنا، لابد لنا أن نكون مشابهين لله فى الجوهر، فهذه المشابهة تقودنا إلى أن نصير مساويين له في كل صفاته، حاشا!. لأن ذلك سيقودنا إلى أن نعطى ذواتنا ذات المقام الإلهى بدون أى اختلاف بيننا وبينه، على اعتبار إننا خُلِقنا على صورته كشبهه.
وهنا يجب التنّويه بأنه رغم أننا خُلقنا على صورته ومثاله إلاّ أن الفارق بين الله والإنسان فارق شاسع.. فالله بسيط فى طبيعته وغير مرّكب بينما نحن نملك طبيعة مركبّة، إذ أن طبيعتنا البشرية مكونة من أجزاء متعددة. ونحن من التراب فيما يخص الجسد وهذا يعنى أننا معرّضون للفساد والزوال مثل الأعشاب. بينما الله فوق كل ذلك، والنفس الإنسانية عرضة لتقلبات كثيرة من الصالح إلى الطالح ومن الطالح إلى الصالح، ولكن الله هو هو دائمًا، صالح إلى الأبد ولا يتّحول ولا يتغّير من حال إلى حال. وعدم تغّير الله ليس صفة عرضّية بل يرجع إلى جوهره. وهكذا أصبح من الواضح أن البشر الذين أتوا إلى الوجود من العدم لا يتشابهون مع الله حسب الطبيعة، بل يمكن أن يتشابهوا معه في نوعية الحياة الجديدة والسلوك المستقيم[32].
إرميـــا: إن حديثنا يسير في الطريق السليم وذلك لأنه رغم سقوطنا، إلاّ أنه لا نحن ولا الملائكة الذين سقطوا، لم ننحرف كليّة عن طبيعتنا ولم ننحدر إلى العدم الكلىّ، رغم عدم اقتنائنا للفضيلة، ولقد فقدنا القدرة على المعرفة الصحيحة وفن الحياة وذلك بسبب ميلنا للشر، ولكن المسيح جاء ودعانا إلى أن نتشّكل من جديد حسب الصورة الأولى بكل بهائها. ولا نقول أبدًا إن الوصول إلى هذا المجد يعنى أن الطبيعة البشرّية تصير طبيعة أخرى، ولكن الأمر يتعلّق باختيار الإرادة في أن يتغيّر الإنسان من حياة شريرة إلى حياة مقدّسة في القول والفعل.
كيرلس: يبدو لي أن الأمر واضح يا صديقي إرميا فإن صفات الله تضئ في صورتنا لأننا اخترنا بملء حريتنا أن نسير في الصلاح، ولكننا، وكما ذكرت ذلك أنت نفسك، لسنا واحدًا مع الله في الجوهر، لأنه لو صح ذلك كما يدّعون، فما الذي يمنعنا أن نكون من نفس طبيعة خالقنا؟ وذلك لأن الكائنات التي تتشابه فيما بينها لابد أن تكون طبيعتها واحدة. ألا يتشابه الملاك مع ملاك آخر في طبيعته؟! وألا يتشابه الإنسان مع إنسان آخر فى نفس الطبيعة؟!
إرميـــا: نعم إنه كذلك.
كيرلس: وهكذا كما ترى، فرغم أن تعبير “هوموأوسيوس” (الواحد في الجوهر) يُعبّر وبشكل رائع عن تطابق الطبيعة، فإن هؤلاء الذين لا يفكرّون بشكل مستقيم يرفضونه على أنه شئ من اختراعنا وذلك لكي يتمسّكوا برأيهم هم وأقصد بذلك “المشابه في الجوهر”[33]، وهم بذلك يُلبسون اللوغوس رداءً دنيويًا. فهم يتظاهرون أنهم يرفضون الحطّ من قيمة الابن، ويدعونه الله وابن ومخلّص وفادى وهم على قناعة تامة ـ قناعة جاءتهم من تمحكات حكمة هذا الدهرـ أن الابن ليس ابنًا بالطبيعة ولا هو إله حق. هؤلاء التعساء يضعونه في عداد المشابهين لله وهم لا يتورّعون عن وضع خالق الكون في مصاف المخلوقات، ويدّعون أنه ليس من نفس الجوهر بل أنه من طبيعة مشابهة. ولهذا السبب يحق لنا أن نطلب منهم أن يرفضوا هذه المصطلح الغريب والشاذ وذلك لكي نستطيع أن نتكلّم، إذا أرادوا، عن تشبّهنا به[34]، وأعتقد أن هذا سوف يزعجهم. وعلى كل حال فمن السهل أن نفهم نواياهم حتى لو لم يقولوا ذلك، وكيف أنهم يرفضون تعبير “هوموأوسيوس” ليس لأنه تعبير غير كتابى كما يعتقدون ويؤكدون مرارًا و تكرارًا، ولكنهم يرفضونه لأنه يُعبّر عن الحق، وذلك لأنه يُظهر بوضوح أن الابن ليس من طبيعة مختلفة عن طبيعة الآب بل هو من نفس طبيعته.
إرميـــا: هذا شيء رائع حقًا.
كيرلس: إنني أعتقد أن هؤلاء المحاربين لله عن سبق إصرار، يتناسون قول المخلّص الذي يؤكد فيه أنه من طبيعة الله الآب بدون انفصال وأنه لم يأتِ إلى الوجود زمنيًا: “أَنْتُمْ مِنْ هذَا الْعَالَمِ، أَمَّا أَنَا فَلَسْتُ مِنْ هذَا الْعَالَمِ“ وأيضًا “أَنْتُمْ مِنْ أَسْفَلُ، أَمَّا أَنَا فَمِنْ فَوْقُ“[35]. والحكيم يوحنا يكتب عن الابن قائلاً: “اَلَّذِي يَأْتِي مِنْ فَوْقُ هُوَ فَوْقَ الْجَمِيعِ“[36]. ماذا يعنى تعبير “مِنْ فَوْقُ“ إلاّ أنه من الطبيعة الفائقة جدًا والتي تعلو على كل الكائنات؟ وماذا يعنى “لَسْتُ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ“ إلاّ أنه مختلف تمامًا ولا ينتمي إلى أي كائن خاضع للتغيّر ـ إنه حالة فريدة ـ إذ أن الله هو أبوه.
إن الابن لا يمكن أن يكون من طبيعة متوسطة بين الله والبشر:
إرميــــا: وماذا لو أرادوا أن يقنعونا أن نفهم تعبير “من فوق” بطريقه تختلف عما قلته لنا توًا؟ مثلاً يمكن أن يقولوا إن “من فوق” تعنى أنه لا صلة له بالأرض ولا بالإنسانية، ولكنه من السماء أو أنه من طبيعة أخرى تسمو كثيرًا عن طبيعتنا؟ فماذا نقول لهم وأي إجابة نقدّم؟
كيرلس: وإذا قَبِلنَا أن الابن هو كما يقولون ويدّعون، فماذا تبقّى فيه من مجد نتأمله؟ أليس كل واحد من الملائكة القديسين “من فوق” ونحن نؤمن أنه يأتي إلينا من السماء؟ أليس الملائكة ـ العروش والرياسات والسيادات والسيرافيم ـ أسمى منّا بكثير على الأقل فيما يخص طبيعتهم؟ فإذا لم يكن للابن شئٌ أكثر من ذلك وقسناه بالمقاييس الطبيعية[37]، فهو كما يبدو ليَّ لن يختلف كثيرًا عن المخلوقات العاقلة التى تأتينا “من فوق” من وقت لآخر. “أَلَيْسَ جَمِيعُهُمْ أَرْوَاحًا خَادِمَةً مُرْسَلَةً لِلْخِدْمَةِ لأَجْلِ الْعَتِيدِينَ أَنْ يَرِثُوا الْخَلاَصَ!“[38]. وفى هذه الحالة فإن المجد الإلهي سوف يكون مُضافًا إليه وليس من طبيعته، ويكون المسيح كاذبًا حينما يقول: “أنا هو الحق”. أين هو الحق وكيف يكون الحق كائنًا في مَنْ لا ينطبق عليه قول الأسفار المقدّسة الموحى بها؟ وما المعنى الحقيقي لما تقوله الأسفار المقدسة من أن الابن ليس من هذا العالم؟
إرميـــا: دعني أكرّر أمامك ما يقولون، فإنهم يؤكدون أنه ليس مساويًا في الجوهر لله الآب ويُنزِلونه من الطبيعة الفائقة إلى أسفل، ولكنهم والحق يقال يعطونه مركزًا أسمى من باقي الخليقة، ويقولون إنه لا يشارك باقي المخلوقات في نفس الطبيعة. ولكنه يحتل مكانة متوسطة. وبكلام أخر فهو يتسامى عن مستوى الطبيعة، ولكنه لا يشارك الآب الذي وَلَده، في الجوهر، وفى نفس الوقت لا يمكن أن نحط من قَدْرِه ونحسبه مع المخلوقات.
كيرلس: إذا قرّروا أن يتكلّموا بوضوح وصراحة عن طبيعة الابن، فإنهم، بلا شك، سيقولون إنه ليس هو الله بالطبيعة، كما أنه ليس مخلوقًا؛ وبذلك فإنهم يبعدونه عن جوهر الله الآب كما يجعلونه أعلى من طبيعة الكائنات المخلوقة، هادمين بذلك ألوهيته. وأنا لا أرى كيف أنه طبقًا لهذا الرأي لا يُحسب ضمن المخلوقات؟
إرميـــا: لقد فهمت الأمر بشكل جيّد. وهم يستمرون فى الدفاع عن رأيهم قائلين إنهم إذا دعوه وسيطًا بين الله والناس فهذا لا يعنى أكثر من إنه وسيط بالمعنى الذي يريدونه.
كيرلس: وهل هناك غباء أكثر من ذلك لأن “أعدائنا أغبياء” حسب المكتوب[39]. فكم سيكون بعيدًا عن الأفكار الحكيمة أن يتصّور أولئك أنهم بإمكانهم هزيمة عقائد الحق وذلك باختراعات خيالهم، ولقد علّمنا القديس بولس الحكيم حقًا، بل وكل خورس القديسين أن نؤمن بأن الابن قد إتخّذ جسدًا أي صار مشابهًا لنا في كل شئ ما خلا الخطية. ولهذا فالقديسون يقدمّون لنا زوايا متعدّدة للدخول إلى هذا السّر العظيم، فأحيانًا نجدهم يقدّمون الابن الوحيد مرتفعًا عن طبيعتنا وفوق الخليقة وأحيانًا يقدّمونه آخذًا شكل العبد وقد تنازل عن كل أمجاد اللاهوت، ولكنه هو هو دائمًا وليس به تغيير ولا ظل دوران. ويقول عنه حامل الروح “يَسُوعُ الْمَسِيحُ هُوَ هُوَ أَمْسًا وَالْيَوْمَ وَإِلَى الأَبَدِ“[40].
إرميـــا: أي علاقة توجد بين هذه الأعماق وما يقولونه؟!
كيرلس: لا يجب أن نلجأ للكتب المقدّسة بنفسٍ رخوة[41]، إذ أنهم يفعلون ذلك ويحيدون عن الطريق المستقيم حتى يصلوا إلى التطرّف سواء يسارًا أو يمينًا. بينما إتباعنا للطريق الملوكي يُوجب علينا ويعلّمنا ألاّ ننحرف لا يمينًا ولا يسارًا. ولنلاحظ كيف أنهم بسبب فقدان البصيرة يتركون أنفسهم للانقياد بأهوائهم دون أن يفحصوا أيّ من آيات الكتب المقدّسة تتحدّث عن اللوغوس في حد ذاته، أي قبل التجسّد، وأي آيات تتحدّث عنه بعد أن تَشَبه بنا.
ولكن ربما يعتقدون أنه لا يجب أن نأخذ هذه الأمور فى الاعتبار، وعلينا أن نقبل كل المكتوب بدون فحص. وأرجو أن يوضحّوا لنا ويعرفّوننا ماذا يمنعهم من قبول أن اللوغوس، كلمة الله المتجسّد يحتاج إلى الطعام وإلى الراحة وأنه يتعرّض للتعب: “فَإِذْ كَانَ يَسُوعُ قَدْ تَعِبَ مِنَ السَّفَرِ، جَلَسَ هكَذَا عَلَى الْبِئْرِ“[42]. وأكثر من ذلك حين نتكلّم عن موته، نَخلُص إلى أن التمييز بين هذه النصوص أمر هام جدًا لنا لأن هذا يقودنا إلى تمييز الأزمنة والأوقات[43].
إرميـــا: وكيف لا يكون هذا التمييز هامًا بل وهامًا جدًا؟
كيرلس: بل ويجب التمييز أمام كل العالم بين الأقوال الإلهية التي تقال عنه بعضها عن بعض. فاسمع ما يقوله بولس عن طبيعته الإلهية “الَّذِي، وَهُوَ بَهَاءُ مَجْدِهِ، وَرَسْمُ جَوْهَرِهِ، وَحَامِلٌ كُلَّ الأَشْيَاءِ بِكَلِمَةِ قُدْرَتِهِ“[44]. ومرة أخرى في موضع آخر يقول “لأَنَّ كَلِمَةَ اللهِ حَيٌَّ وَفَعَّالٌَ وَأَمْضَى مِنْ كُلِّ سَيْفٍ ذِي حَدَّيْنِ، وَخَارِقَةٌ إِلَى مَفْرَقِ النَّفْسِ وَالرُّوحِ وَالْمَفَاصِلِ وَالْمِخَاخِ، وَمُمَيِّزَةٌ أَفْكَارَ الْقَلْبِ وَنِيَّاتِهِ. وَلَيْسَتْ خَلِيقَةٌ غَيْرَ ظَاهِرَةٍ قُدَّامَهُ، بَلْ كُلُّ شَيْءٍ عُرْيَانٌ وَمَكْشُوفٌ لِعَيْنَيْ ذلِكَ الَّذِي مَعَهُ أَمْرُنَا“[45]. وهذه الآيات تخص الابن الوحيد قبل التجسد. وهناك آيات تقال عنه وهو مولود مثلنا في الجسد “الَّذِي، فِي أَيَّامِ جَسَدِهِ، إِذْ قَدَّمَ بِصُرَاخٍ شَدِيدٍ وَدُمُوعٍ طَلِبَاتٍ وَتَضَرُّعَاتٍ لِلْقَادِرِ أَنْ يُخَلِّصَهُ مِنَ الْمَوْتِ، وَسُمِعَ لَهُ مِنْ أَجْلِ تَقْوَاهُ، مَعَ كَوْنِهِ ابْنًا تَعَلَّمَ الطَّاعَةَ مِمَّا تَأَلَّمَ بِهِ“[46].
إذا نظرنا لهذه الحقائق ألا نستنتج أن هناك اختلافًا في طبيعة الأمور؟؛ فنحن نسمع أن بهاء مجد الله الآب وختم جوهره ذاك الذي يحمل كل الأشياء بكلمة قدرته، الكلمة الحيّ، اللوغوس الحيَّ الفعال، بعد كل هذا المجد نسمع أنه قدَّم بصراخ شديد ودموع، طلبات وتضرعات لكي يَخلُص من الموت.
ولكن الرسول يقول “فى أيام جسده” أى أنه وهو كلمة الله، صار جسدًا حسب الكتب[47]، ولكنه لم يحلّ فى إنسان كما يحدث فى القديسين الذين يسكن فيهم (الكلمة) بالروح القدس. إذن هناك طريقتان للكلام عن الابن: فمن جهة يجب أن ننسب له كل ما لله بكونه هو الله، ومن جهة أخرى ننسب له كل ما يخصّنا لأنه صار مثلنا. ويجب أن نرفض كل خلط وعدم تمييز بين هذه الأمور لأن هذا ينفى الفهم الحقيقي للمعاني ويحجب عن عيوننا نصف حقيقة الجمال الإلهي.
إرميــــا: ما أروع هذه الكلمات.
كيرلس: فحينما نسميّه “الوسيط” يجب ألاّ نفهم أن هذا يحدّد ماهية جوهر الابن الوحيد. بل بالحري ينبغي أن تقود كل الأفكار إلى الخضوع للمسيح. وهكذا فليبعد كل فكر غير نقىّ كما هو مكتوب “هَادِمِينَ ظُنُونًا وَكُلَّ عُلْوٍ يَرْتَفِعُ ضِدَّ مَعْرِفَةِ اللهِ، وَمُسْتَأْسِرِينَ كُلَّ فِكْرٍ إِلَى طَاعَةِ الله“[48].
إرميــــا: هذا كلام حق، ولكن أيها الشجاع لنكتفِ بهذا فيما يخص هذا الموضوع. لأني لا أرى بعد ذلك مكانًا للشك وسأكون سعيدًا جدًا أن أتعلّم منك كيف نفهم طريقة الوساطة، وهذا الأمر سيفضح عدم التناسق في آراء الهراطقة الخادعة .
كيرلس: هيّا بنا إذا أردت ولنحصر الحديث في هذه النقطة . قبل كل شئ يجب أن نبدأ بفحص متى دَعَتَ الكتب المقدّسة الابن “بالوسيط”. فبولس يقول “لأَنَّهُ يُوجَدُ إِلهٌ وَاحِدٌ وَوَسِيطٌ وَاحِدٌ بَيْنَ اللهِ وَالنَّاسِ: الإِنْسَانُ يَسُوعُ الْمَسِيحُ“[49].
وهكذا فالرسول يُحدّد، على ما أعتقد، أن الفترة الوحيدة التي تَتَناسب مع “الوساطة” هي الأزمنة الأخيرة، والتي فيها حسب كلام الرسول “الَّذِي إِذْ كَانَ فِي صُورَةِ اللهِ، لَمْ يَحْسِبْ خُلْسَةً أَنْ يَكُونَ مُعَادِلاً ِللهِ. لكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذًا صُورَةَ عَبْدٍ“[50]. ورغم أنه الإله والرَّب فلكى يُرجعنا بواسطة نفسه لله الآب، ولكى يصالح الكّل حسب المكتوب “وَأَنْ يُصَالِحَ بِهِ الْكُلَّ لِنَفْسِهِ، عَامِلاًالصُّلْحَ بِدَمِ صَلِيبِهِ، بِوَاسِطَتِهِ، سَوَاءٌ كَانَ مَا عَلَى الأَرْضِ امْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ“[51] لكى يصنع ذلك كله، توّسط كإنسان. ولهذا يقول بولس “نَطْلُبُ عَنِ الْمَسِيحِ: تَصَالَحُوا مَعَ اللهِ“[52] وذلك بالاتحاد بشخص المسيح. ولأن طبيعة الإنسان لا تحتمل أن تستوعب مجد الله بحسب ما كان قَبِل التجسّد، لذلك فقد لبس الابن الوحيد لأجلنا ولأجل خلاصنا، جَسَدنَا وتشبّه بنا.
وهكذا يُكْشَف لنا قصد الله الآب كما يُكشف للساجدين بالروح وليس للمتمسكين بظلال الحقيقة وليس للملتصقين بالناموس الذى لا يؤدى إلى الكمال. وهكذا ما دام “الله روح” فلنسرع نحن أيضًا لكى نعبده بالروح والحق. ألم يقل العظيم إشعياء “لأَنَّهُ يُولَدُ لَنَا وَلَدٌ وَنُعْطَى ابْنًا، وَتَكُونُ الرِّيَاسَةُ عَلَى كَتِفِهِ، وَيُدْعَى اسْمُهُ عَجِيبًا، مُشِيرًا، إِلهًا قَدِيرًا، أَبًا أَبَدِيًّا، رَئِيسَ السَّلاَمِ“[53].
إرميــا: إن هذا كلام رائع، وإذا أردت أن تقنعنا نهائيًا بهذا الكلام فأذكر لنا بعض الأمثلة القديمة التى تشير إلى وساطة المسيح وسأكون ممنونًا لك.
كيرلس: دعنا نتوجّه إلى موسى العالم بالأسرار الإلهية ولنلاحظ أن أعماله وأقواله بكل ما تحمل من قوّة، هى عبارة عن أيقونة لوساطة المسيح، وهكذا يثبت صحة ما نتمسك به لأننى أعتقد أنه من الغباء[54] بمكان أن يترك الإنسان نفسه فى التقليل من شأن خصومه الذين صنعوا من لذتهم منهجًا فكريًا ويتناقضون مع الكتب المقدّسة، وبعد ذلك يترك نفسه يسقط فى نفس الأخطاء.
إرميــــا: الحق معك.
كيرلس: حينما خرج الإسرائيليون من أرض مصر بعد أن تخلّصوا من نير العبودية وحينما جاءوا إلى الجبل الذى يُسمّى جبل سيناء، رأى الله أنه حسن أن يعطيهم نواميس لكى يعرفوا ماذا عليهم أن يفعلوا. وأمرهم أن يجتمعوا أسفل الجبل وأن يغسلوا ثيابهم[55]، وبعد تطهّرهم يتقّدمون إلى رؤية الله غير المعتادة. وحينما تّم كل ذلك حسب أوامر موسى، نزل الربُّ على الجبل على شكل نار وصعد دخانه كدخان الأتون وارتجف كل الجبل جدًا فكان صوت البوق يزداد اشتدادًا جدًا وموسى يتكلّم، وقاد موسى الشعب للقاء الله على الجبل.
هذا هو المكتوب، والأمر هنا، حسب اعتقادي، أن موسى هو مثال (TÚpoj)[56] لوساطة المسيح. والمسيح الربّ نفسه يؤكد ذلك “لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَى الآبِ إِلاَّ بِي“[57] ونحن لا نأتي إلى الله الآب إلاّ بالمسيح، وذلك بأن نتطّهر من كل دنس عن طريق تغييّر ثياب عقولنا لنقتنى النقاوة التي في المسيح كما يأمرنا القول الإلهي: “الْبَسُوا الرَّبَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ“[58]. وما غَسْلُ الثياب إلاّ تعبير عن قوّة الروح المُطِّهر. فإذا قُلتْ إن كل ذلك حق، فلابد أن تكون قد اقتنعت.
إرميـــا: بكل تأكيد.
كيرلس: لقد نزل الله على شكل نار وأظهر للناظرين إليه مجدًا ملموسًا وغير عادى، ولم يكن من السهل على الشعب أن يحتمل هذه الرؤية العينيّة، ولمّا خافوا وارتعدوا ترجّوا قائدهم، أعنى موسى، صارخين: “تَكَلَّمْ أَنْتَ مَعَنَا فَنَسْمَعَ. وَلاَ يَتَكَلَّمْ مَعَنَا اللهُ لِئَلاَّ نَمُوتَ“[59]، وهنا الأمر واضح، لقد طلبوا من موسى أن يصير “وسيطًا” لأنهم لم يكونوا يستطيعون أن يلقوا بأنفسهم أمام مجد الله فى ملء لاهوته.
دعونا ننتقل الآن من هذه الإيقونة المضيئة التى لموسى إلى الأصل الذى هو المسيح الابن الوحيد، الذى إذ لم يشأ أن يأتى إلينا فى مجده الساطع الإلهى فإنه صار مثلنا (عندما تجسَّد)، وبهذا أصبح وسيطًا بين الله والناس من أجل أن يرّبى البشرّية على معرفة إرادة الله، وهكذا صار هو سلامنا كما تقول الكتب[60].
ولهذا فلست أكذب ولا أدّعى إذا ما قلت إن خدمة موسى إنما هى إيقونة لعمل المسيح. وأعتقد أنك تقدر أن تدرك ذلك بدون عناء. وفى ختام اجتماع بنى إسرائيل يقول سفر التثنية “تَكُونُ كَامِلاً لَدَى الرَّبِّ إِلهِكَ. إِنَّ هؤُلاَءِ الأُمَمَ الَّذِينَ تَخْلُفُهُمْ يَسْمَعُونَ لِلْعَائِفِينَ وَالْعَرَّافِينَ. وَأَمَّا أَنْتَ فَلَمْ يَسْمَحْ لَكَ الرَّبُّ إِلهُكَ هكَذَا. يُقِيمُ لَكَ الرَّبُّ إِلهُكَ نَبِيًّا مِنْ وَسَطِكَ مِنْ إِخْوَتِكَ مِثْلِي. لَهُ تَسْمَعُونَ. حَسَبَ كُلِّ مَا طَلَبْتَ مِنَ الرَّبِّ إِلهِكَ فِي حُورِيبَ يَوْمَ الاجْتِمَاعِ قَائِلاً: لاَ أَعُودُ أَسْمَعُ صَوْتَ الرَّبِّ إِلهِي وَلاَ أَرَى هذِهِ النَّارَ الْعَظِيمَةَ أَيْضًا لِئَلاَّ أَمُوتَ. قَالَ لِيَ الرَّبُّ: قَدْ أَحْسَنُوا فِي مَا تَكَلَّمُوا. أُقِيمُ لَهُمْ نَبِيًّا مِنْ وَسَطِ إِخْوَتِهِمْ مِثْلَكَ، وَأَجْعَلُ كَلاَمِي فِي فَمِهِ، فَيُكَلِّمُهُمْ بِكُلِّ مَا أُوصِيهِ بِهِ. وَيَكُونُ أَنَّ الإِنْسَانَ الَّذِي لاَ يَسْمَعُ لِكَلاَمِي الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِهِ بِاسْمِي أَنَا أُطَالِبُهُ“[61]. ألا يوضّح ذلك بالصورة والمثال إلى أي مدى تحتاج البشرّية بسبب ضعفها إلى وسيط؟ ولك هنا أمر آخر يجب أن نلتفت إليه.
إرميــــا: ما هو هذا الأمر؟
كيرلس: حينما اقترب الشعب من موسى قالوا له “تَكَلَّمْ أَنْتَ مَعَنَا فَنَسْمَعَ. وَلاَ يَتَكَلَّمْ مَعَنَا اللهُ لِئَلاَّ نَمُوتَ“، وهذا الأمر طلبوه في حوريب في يوم الاجتماع، عندما ظهر لهم الله على هيئة نار على جبل سيناء، وقد قَبِلَ الربّ كلامهم ورتّب الخالق حسب سابق علمه وساطة موسى كمثال لوساطة المسيح وقال “قَدْ أَحْسَنُوا فِي مَا تَكَلمُوا. أُقِيمُ لهُمْ نَبِيّاً مِنْ وَسَطِ إِخْوَتِهِمْ مِثْلكَ”[62]. وهذا يعنى بوضوح ضرورة وجود وسيط لكي ينقل الوصايا الإلهية الآتية من فوق، ويُظِهر للشعب إرادة الله. ولا نحتاج إلى جهد كبير لنفهم أن هذه الأمور تنطبق على المسيح الذي صرخ بصوت مدوي قائلاً “لأَنِّي لَمْ أَتَكَلَّمْ مِنْ نَفْسِي، لكِنَّ الآبَ الَّذِي أَرْسَلَنِي هُوَ أَعْطَانِي وَصِيَّةً: مَاذَا أَقُولُ وَبِمَاذَا أَتَكَلَّم“ُ[63]. وأيضًا يقول “الْكلاَمُ الَّذِي أُكَلِّمُكُمْ بِهِ لَسْتُ أَتَكَلَّمُ بِهِ مِنْ نَفْسِي لَكِنَّ الآبَ الْحَالَّ فِيَّ“[64] ويقول عنه الحكيم يوحنا “وَمَنْ قَبِلَ شَهَادَتَهُ فَقَدْ خَتَمَ أَنَّ اللَّهَ صَادِقٌ. لأَنَّ الَّذِي أَرْسَلَهُ اللَّهُ يَتَكَلَّمُ بِكلاَمِ اللَّهِ“[65]. والآن أيها الصديق المحبوب، هل ستقبل الحق الكامن في هذا الكلام أم سترفضه؟
إرميـــا: أرفضه؟! إطلاقًا لا …
كيرلس: إذن هذا هو ما قيل لنا عن موسى، هل تريد أن نؤكد شيئًا آخر علاوة على ما قيل لكي يشرح لنا وساطة الابن أم نترك هذا الموضوع ونتحدّث في موضوع آخر؟
إرميـــا: أيها الشجاع، أليس أحرى بنا أن نستفيد من الموضوع الذى بين أيدينا بدلاً من أن نفتح بابًا أخر للمناقشة، علمًا بأن لا شئ يمنعنا من ذلك؟
كيرلس: إذن سأوجّه حديثي في الاتجاه الذي سيروقك وأقول: نعرف إن قورح وداثان وأبيرام وُلِدوا من سبط لاوي ولكن القرعة كانت قد وقعت عليهم لا لكي يصيروا كهنة، لكن لكي يخدموا في خيمة الشهادة وكانوا لاويين، وهذا الأمر كان على قدر قامتهم. ولكنهم قد اشتهوا رتبة الكهنوت قبل الأوان ولم يقنعوا بالشرف الذي حباهم به الله، فاندفعوا إلى الأمام وأهاجوا الشعب على موسى وهارون وتكلّموا بكلام مّر ضد رجل مُسالم، وحينئذ عاقبهم القاضى العادل بأن هلكوا مع منازلهم حينما انفتحت الأرض وابتلعتهم هم و أولادهم وبهائمهم ومقتنياتهم. وحينئذ قام بعض أتباعهم بغباء بالهجوم على موسى فاستدعوا غضب الطبيعة الإلهية عليهم، إذ قال الله لموسى وهارون “افْتَرِزَا مِنْ بَيْنِ هَذِهِ الجَمَاعَةِ فَإِنِّي أُفْنِيهِمْ فِي لحْظَةٍ! فَخَرَّا عَلى وَجْهَيْهِمَا… قَال مُوسَى لِهَارُونَ: خُذِ المَجْمَرَةَ وَاجْعَل فِيهَا نَارًا مِنْ عَلى المَذْبَحِ وَضَعْ بَخُورًا وَاذْهَبْ بِهَا مُسْرِعًا إِلى الجَمَاعَةِ وَكَفِّرْ عَنْهُمْ لأَنَّ السَّخَطَ قَدْ خَرَجَ مِنْ قِبَلِ الرَّبِّ. قَدِ ابْتَدَأَ الوَبَأُ. فَأَخَذَ هَارُونُ كَمَا قَال مُوسَى وَرَكَضَ إِلى وَسَطِ الجَمَاعَةِ وَإِذَا الوَبَأُ قَدِ ابْتَدَأَ فِي الشَّعْبِ. فَوَضَعَ البَخُورَ وَكَفَّرَ عَنِ الشَّعْبِ. وَوَقَفَ بَيْنَ المَوْتَى وَالأَحْيَاءِ فَامْتَنَعَ الوَبَأُ“[66]. هل بعد كل ذلك يا إرميا تحتاج وساطة الابن الوحيد إلى شرح؟
إرميـــا: الأمر واضح و لكن في رأيي أنه يجب فحص مغزى هذا الحادث بأكثر دقة. ومَنْ غَيركَ أَقَدرْ على فعل ذلك ؟
كيرلس: ألا ترى أن هارون يشكّل منذ القديم صورة ومثالاً لكهنوت مخلّصنا. هارون الذي كان يرتدى رداءً حتى قدميّه، ويلبس ما نسمّيه غطاء الكتف وعلى جبهته صفيحة من ذهب، وكان يُسمح له أن يدخل إلى قدس الأقداس مرَّة فقط كل عام ويرش الدّم، كفارة عن كلّ الشعب؟
إرميـــا: بالصواب قلت، وهكذا يقول بولس ذو الصوت الإلهي “وَأَمَّا الْمَسِيحُ، وَهُوَ قَدْ جَاءَ رَئِيسَ كَهَنَةٍ لِلْخَيْرَاتِ الْعَتِيدَةِ، فَبِالْمَسْكَنِ الأَعْظَمِ وَالأَكْمَلِ، غَيْرِ الْمَصْنُوعِ بِيَدٍ، أَيِ الَّذِي لَيْسَ مِنْ هَذِهِ الْخَلِيقَةِ. وَلَيْسَ بِدَمِ تُيُوسٍ وَعُجُولٍ، بَلْ بِدَمِ نَفْسِهِ، دَخَلَ مَرَّةً وَاحِدَةً إِلَى الأَقْدَاسِ، فَوَجَدَ فِدَاءً أَبَدِيًّا.”[67].. ومَنْ يستطيع أن ينكر مهما كان مستوى معرفته قليلاً، الحقيقة الساطعة أن هذه الأمور القديمة إنما هي ظلال وصِوَر لما فَعَلَه المسيح؟
كيرلس: وهكذا نحن قَبِلنا يسوع المسيح رئيس كهنة ورسول اعتراف إيماننا. ولنعترف جميعًا وبصدق، وبدون أن نجعل إرادتنا ضد إرادة الله و معجزاته، إننا نحن سكان الأرض قد أغضبنا الخالق وأهنّا الذي أراد أن يعطى للبشر المجد والكرامة على قدر احتمالهم، وهكذا دخل إلينا الفساد الذي سحقنا بالموت ” لَكِنْ قَدْ مَلَكَ \لْمَوْتُ مِنْ آدَمَ إِلَى مُوسَى وَذَلِكَ عَلَى \لَّذِينَ لَمْ يُخْطِئُوا عَلَى شِبْهِ تَعَدِّي آدَمَ “[68]. ولقد وَسَعَّت الهاوية نفسها، كما يقول النبي إشعياء، وفغرت فاها بلا حد..[69]. وكان يمكن أن تفنى الأرض عن بكرة أبيها، وذلك بوقوعها في فخ لا يمكن أن تخرج منه لو لم يأتِ الحلّ الإلهي من فوق، من السموات، وذلك بأن ينزل إلينا الابن الوحيد، وتّم ذلك حسب مسرّة الله الآب، إذ “أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذًا صُورَةَ عَبْدٍ“[70] وصار رئيس كهنة، وقدّم نفسه بخورًا لأجلنا إلى الله الآب لكي يُسقِط الغضب ويمنَع الوباء: “وَوَقَفَ بَيْنَ المَوْتَى وَالأَحْيَاءِ فَامْتَنَعَ الوَبَأُ”[71]. وبعد هذا كلّه ألا يرى الإنسان بكل وضوح ويدرك أن يسوع صار وسيطًا بين الله والناس؟ فالمعركة انتهت لصالحنا وكل حائط قديم يفصلنا عن الله قد هُدِمَ. واقتربا اللذين كانا قبلاً منفصلين من بعضهما، أقصد الله والبشرّية. وكان المسيح هو عامل التقارب الذي وحّد في نفسه ما هو فوق وما هو أسفل أي الله و الإنسان. وكما قال الصوت الإلهي بولس: “هُوَ سَلاَمُنَا، الَّذِي جَعَلَ الاِثْنَيْنِ وَاحِدًا، وَنَقَضَ حَائِطَ السِّيَاجِ الْمُتَوَسِّطَ”[72]. وفى موضع أخر يقول: “فَإِذْ قَدْ تَبَرَّرْنَا بِالإِيمَانِ لَنَا سَلاَمٌ مَعَ اللهِ بِرَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ“[73].
إرميـــا: لقد رفع المسيح الخطيّة التي كانت تعوق محبتنا لله وأُلفَتنا معه[74]، وهكذا أبطل العداوة. هل بهذه الطريقة نعتبره وسيطًا، أم هناك طرق أخرى ومظاهر أخرى للوساطة؟ سوف أسعد بإجابتك على هذا السؤال لأني ظمآن إلى أن أتعلّم منك.
كيرلس: بكل سرور وبدون تردد أقول إنه أبطل العداوة بجسده[75] حسب المكتوب، وصار وسيطًا ومصالحًا لنا، نحن الذين سقطنا من محبة الله بسبب مَيِلنَا لملذّات العالم، وعَبَدْنا المخلوق دون الخالق[76]، فقدّمنا فى ذاته لله الآب[77] واقتنانا لنفسه مُبرِرًا إيانا بالإيمان و نحن لا نقول أبدًا إن هذا العمل التدبيري هو العمل الوحيد الذي أظهر به المسيح وساطته، ولكن يمكننا ذكر أمور أخرى مملوءة بالاسرار تكون بها الوساطة قولاً وفعلاً.
إرميــــا: ماذا تعنى بذلك؟
كيرلس: وهل أعنى شيئًا غير المكتوب: “فَلْيَكُنْ فِيكُمْ هَذَا الْفِكْرُ الَّذِي فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ أَيْضًا: الَّذِي إِذْ كَانَ فِي صُورَةِ اللهِ، لَمْ يَحْسِبْ خُلْسَةً أَنْ يَكُونَ مُعَادِلاً لِلَّهِ. لَكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذًا صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِرًا فِي شِبْهِ النَّاسِ، وَإِذْ وُجِدَ فِي الْهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ“[78]، فالمسيح الذي هو بهاء وصورة الله الآب وشكله، وهو كلمة الله، الذي هو من الله وفى الله، أخلى ذاته وصار إنسانًا وذلك بإرادته ومسّرة أبيه، ولم يكن مجبرًا على فعل هذا. ومع صيرورته إنسانًا ظلَّ محتفظًا بكرامة اللاهوت وأخذ ما للإنسان حسب التدبير.
ونحن نرى أن الابن واحد من اثنين، إذ فيه التقت الطبيعتان الإلهية والإنسانية واتحدتا في واحد بشكل غير موصوف ولا يُعَّبر عنه. وبكل تأكيد نحن لا نعنى أن كلمة الله قد تحّول إلى الطبيعة الجسدّية الأرضّية ولا الجسد تحّول إلى طبيعة الله الكلمة. والذي يتبنّى أحد هذين الموقفين المتطرّفين لابد أن يكون مختل العقل. فكل من الطبيعتين تبقى في خصوصيتها ولكنهما تُعدّان في وحدة تامة لا تنفصل، وهذه الوحدة يكشفها تعبير “المسيرة الواحدة”[79]، فهو نفسه إنسان وإله. وحينما نقول الله فنحن لا نلغى الإنسانية بعد الاتحاد وحينما نقول إنسان فنحن لا ننفى صفات اللاهوت، وهذا واضح للذي يريد أن يفكر في الأمر بطريقة مستقيمة[80].
وهو الابن الوحيد والكلمة لأنه المولود من الله الآب، وهو البكر بين إِخوَة كثيرين[81] لأنه صار إنسانًا، ولُقِبَ بـ “الابن الوحيد” الذي هو لقب خاص باللوغوس، يطلق أيضًا على اللوغوس متحدًا بالجسد. ونفس الأمر مع لقب “البكر” فهذا اللقب لم يكن لَقَبَه قَبِلْ التجسّد، ولكنه صار لقبًا له بعد التجسد. وهو وسيط بهذا المعنى: إنه جمع ووحّد في شخصه أمورًا متباعدة فيما بينها، وهى اللاهوت والناسوت، الله والإنسان، وربط الإنسان بوساطته بالله الآب لأنه هو واحد مع الآب في الطبيعة، لأنه كائن فيه ويحيا فيه. وهو واحد في الطبيعة مع البشر لأنه خرج من بينهم، وحاضر وسطهم، وذلك لأنه ليس غريبًا عنا فيما يخص إنسانيته وهو عمانوئيل الذي شابهنا في كل شئ ما خلا الخطية وحدها.
إرميـــــا: هذا رأي مستقيم مائة في المائة، وهكذا وصلنا بالضرورة إلى الإيمان بأن الابن مساوٍ للآب في الجوهر.
طبيعة الوحدة بين الآب والابن:
كيرلس: الابن مساوٍ للآب في الجوهر، لأنه بالحق خرج من الآب، وهو فيه بالطبيعة والجوهر. وكما إننا لا نستطيع أن نقول بشكل قاطع إنه مساوٍ لنا في الجوهر بدون أن يكون قد صار إنسانًا، كذلك بنفس الدرجة لا نستطيع أن نقول إنه في الله وواحد معه، إلاّ إذا كان له فعلاً كل خصائص طبيعته، ولا كان ممكنًا للبشر أن يكونوا شركاء الطبيعة الإلهية إلاّ بواسطة الغنى الذي سكبه عليهم الابن، وبواسطته. إن الابن له اتحاد حقيقي وطبيعي بالآب، ونستطيع بدون عناء أن نتعرّف على مكانة الابن من حديثه مع الآب السماوي حينما يقول: “لِيَكُونَ الْجَمِيعُ وَاحِدًا كَمَا أَنَّكَ أَنْتَ أَيُّهَا الآبُ فِيَّ وَأَنَا فِيكَ لِيَكُونُوا هُمْ أَيْضًا وَاحِدًا فِينَا لِيُؤْمِنَ الْعَالَمُ أَنَّكَ أَرْسَلْتَنِي. وَأَنَا قَدْ أَعْطَيْتُهُمُ الْمَجْدَ الَّذِي أَعْطَيْتَنِي لِيَكُونُوا وَاحِدًا كَمَا أَنَّنَا نَحْنُ وَاحِدٌ. أَنَا فِيهِمْ وَأَنْتَ فِيَّ لِيَكُونُوا مُكَمَّلِينَ إِلَى وَاحِدٍ“[82].
إرميـــا: وإذا قالوا إن وحدة الابن مع الآب، تشبه ما نلاحظه فى علاقاتنا نحن البشر، فبماذا نجيب؟ دعنى أوضح ما أريد قوله. مكتوب: “َكَانَ لِجُمْهُورِ الَّذِينَ آمَنُوا قَلْبٌ وَاحِدٌ وَنَفْسٌ وَاحِدَةٌ”[83]، فعلى الرغم من كونهم نفوسًا عديدة صاروا نفسًا واحدة. وهذا لا يعنى وحدة الطبائع ولكن وحدة الإرادة والهدف والفكر، ولأن الابن له نفس مسرّة الآب، فهو واحد معه فى الإرادة والفكر مثلنا نحن البشر فى علاقتنا بعضنا ببعض. وهكذا يذهب هؤلاء البؤساء إلى كل مكان ويدمّدمون بهذه الكلمات.
كيرلس: ولكن هذا يدل مرّة أخرى على أنهم يرتكبون جريمة واضحة بغباوتهم التى وصلت إلى حد بعيد، وأن حالة من التوتر تقود أفكارهم. ومعروف أن الأفكار المنحرفة إنما تصدر عن أناس فقدوا إتزانهم، وكما هو مكتوب أن “اللَّئِيمَ يَتَكَلَّمُ بِاللُّؤْمِ وَقَلْبُهُ يَعْمَلُ إِثْمًا لِيَصْنَعَ نِفَاقًا وَيَتَكَلَّمَ عَلَى الرَّبِّ بِافْتِرَاءٍ”[84]. وكيف لا نرى اللؤم والجهل والعبث الذى وصل إلى حد لا يطاق فى حديثهم وتأييدهم لفكرة أن وحدة الابن مع الله الآب ليست أمرًا جوهريًا؟ بل هى أمر اختيارى أو اتحاد بالإرادة، وهو بذلك لا يختلف كثيرًا عن البشر المدعوّين للتبني، والذين يطلق عليهم الاسم الإلهي بإرادة الآب بسبب أن فضائلهم جعلتهم أهلاً للحصول على هذا المجد العظيم. وبهذا الشكل ماذا يمنع أي واحد من القديسين من أن يفكر، بما إنه صَنَع ما يرضى الله ومسّرة السيد، فيمكنه أن يستخدم كلمات الابن الوحيد ويتوّجه بها إلى الآب قائلاً “كَمَا أَنَّنَا نَحْنُ وَاحِدٌ“؟[85]. فليُظهروا لنا إذا كان أحد القديسين قد تجرأ ونطق بهذا الكلام. والحقيقة أن القديسين كلّما وصلوا إلى مرتبة عالية في القداسة، كلّما تذّكروا خطاياهم ولم ينسوا طبيعتهم البشرية[86]. وهناك آلاف الشواهد الكتابيّة على ذلك، ولكنى أترك هذا التدرّيب الروحي للذين يحّبون العلوم المقدّسة، غير إنى سأواجه ما يقدّم من حجج، وأعود إلى الوراء قليلاً لأكلّمهم عن الوحدة كما نحياها نحن البشر فيما بيننا، إنها وحدة بالإيمان كما يتفق على ذلك الجميع، هذه التي تقرّبنا من بعضنا وليس هناك اختلاف في الجوهر يمكن أن يفرّق بيننا حتى ولو كان لكل واحد فينا أقنومه الخاص. نحن جميعًا واحد في الجوهر الإنساني الواحد، أما فيما يخص وحدتنا مع الله، فالأمر لا يقتصر على مجرد ميل الإرادة، ولكن هناك عامل أخر يُكلّمنا عنه الطوباوي بولس حينما يقول “فَإِنَّنَا نَحْنُ الْكَثِيرِينَ خُبْزٌ وَاحِدٌ جَسَدٌ وَاحِدٌ لأَنَّنَا جَمِيعَنَا نَشْتَرِكُ فِي الْخُبْزِ الْوَاحِدِ”[87]. وهل تجهل أن الأمم يتحدّون بالمسيح بالإيمان والأولوجيا (البركة) السرائرية؟
إرميــــا: لا طبعًا أنا لا أجهل ذلك ..
كيرلـس: هل نحن فيما بيننا نحيا في وحدة الطبيعة والإرادة مثل تلك الوحدة التي سوف نكتشف إنها لنا في المسيح.
إرميــا: ماذا تريد أن تقول، فإني لا أستطيع أن أفهمك بسهولة.
كيرلس: لا يوجد شئ صعب في هذا الكلام، وما أقوله يفهمه كل إنسان حكيم ومطلّع على الأمور. نحن الذين ننتسب للبشّرية، نحن نرتبط أولاً بعضنا ببعض ارتباطًا وثيقًا، وذلك برباط طبيعتنا الواحدة وفى نفس الوقت مرتبطون ومتحدون بطريقة أخرى، فكل منا له أقنومه الخاص، فالواحد بطرس والآخر يوحنا، وواحد توما والآخر متى، وقد صرنا أعضاء في جسد المسيح، نتغذى على نفس الجسد ومختومين في الوحدة بالروح القدس. ولأن المسيح غير منقسم فنحن واحد فيه وهذا هو السبب وراء قوله للآب السماوي “لِيَكُونُوا وَاحِدًا كَمَا أَنَّنَا نَحْنُ وَاحِدٌ“. ففي المسيح وبالروح القدس نحن واحد بالجسد وبالروح. وما نعيبه على الذين لهم رأى أخر إنهم لا يفهمون النصوص الخاصة بطبيعتنا البشرية.
إرميـــا: إنهم مخطئون وملامون بكل تأكيد، ولكن اسمح لي ـ أنا المشتاق للمعرفة ـ أن أسألك، إذا كنا نقبل أن يُقال إن الابن متحد بالآب تمامًا مثل اتحادنا نحن ببعضنا البعض، أم أن وحدة الابن بالآب أسمى من وحدة البشر؟
كيرلس: الابن متحد بالآب مثلنا، وفى نفس الوقت أسمى منا، فالكلّ متفقون على أنه واحد في الجوهر (هوموأوسيوس) مع ذاك الذي وَلَده، لأنه ابنه الحقيقي. وهذا الأمر كائن في أقنومه الخاص، ولكن وحدتهما طبيعية، ولا يمكن أن تتعّرض الأقانيم لأي تغييّر كما يظن البعض، بحيث إن نفس الأقنوم يكون أبا وابنًا. ولكن كل أقنوم قائم بذاته ويمتلك وجودًا خاصًا به. ووحدة الجوهر هي التي تُعرِّف وحدة الأقانيم معًا.
إرميــا: أتريد أن تقول إن الابن موجود بجوهره الذاتي
(῎ιδια οὐσία) بجانب جوهر الآب ؟
كيرلس: ليس بجوهر أخر غير جوهره كإله، ولكن بأقنومه الخاص كابن.
إرميــــا: إذن يجب أن نميّز بين الجوهر و الأقنوم.
كيرلس: نعم، هناك فارق كبير بين الاثنين وذلك لأن الجوهر يحتوى كل الصفات الجوهرية.
إرميـــا: كيف تشرح ذلك، أعذرني لأني بطئ الفهم في مثل هذه الأمور.
كيرلس: يجب أن تعرف أنه حتى بالنسبة لي شخصيًا، فالحديث في هذه الأمور ليس بالأمر السهل، ولكن لابد أن نفحص الأمر، فالجوهر هو حقيقة مشتركة، بينما الأقنوم يُطلق على الأقانيم المُشتَرِكة في هذا الجوهر الواحد، انتبه فسوف أشرح لك ذلك:
إرميــا: وكيف يكون ذلك؟
كيرلس: نحن نُعرّف الإنسان بأنه “حي وناطق وفاني” وهذا هو المفهوم المناسب له، ونحن نقول إن هذا يُعبّر عن جوهره. وهذا التعريف ينطبق على كل الأفراد فردًا فردًا، وهنا يجد توما ومرقس وبطرس وبولس مكانهم الصحيح حسب اعتقادي، وهكذا نحدّد الجوهر ولكننا لا نحدّد بعد ماهية الأشخاص الذين نتكلّم عنهم بشكل دقيق. فحينما نقول “إنسان” بشكل عام فهو ليس بطرس ولا بولس، وحينما نقول توما وبطرس فنحن لا نخرج من حدود ما نسميه بالجوهر الواحد وهذا لا يقلّل من كل منهم “كإنسان”، فقد أظهرناه موجودًا بأقنومه الخاص.
إذن الجوهر هو لكل إنسان دليل على النوع، أما الأقنوم فهو يطلق على كل واحد في ذاته، دون أن ننسى أنه يشير أيضًا إلى شركة الجوهر ولكن دون أن نخلط بين العام والخاص.
إرميــــا: الآن أفهم ما تعنى، لأن عرضك لا يخلو من لباقة وبراعة.
كيرلس: وبقولنا واعترافنا بأن الابن “هوموأوسيوس” مع الله الآب، نُقّر أيضًا أن له “أقنومه الخاص” وهذا معناه أنهما متحدان ومتميّزان في نفس الوقت. وهكذا نصل من الوحدة إلى تمايز الأقانيم. ووحدة الجوهر في كل شئ، والوحدة والمساواة القائمة بين الآب والابن تتعدى تمايز الأقانيم في الآب والابن وتُقدمهما بشكل غير منقسم، ولا نستطيع أن ننزع عن كل أقنوم ما هو خاص به، وذلك لأن الواحد آب وليس ابنًا والابن ابن وليس أبًا.
إرميــا: إذا وافقتني، نستطيع القول إنه يوجد جوهران الآب والابن وهكذا فالتمايز يصير واضحًا .
كيرلس: لا يمكن أن نميّز جوهرين، لا تترك نفسك تُخدع بآراء أولئك الناس ذوى الأفكار الفاسدة، لا تترك الطريق الممّهدة، لتضيع في متاهات.
إرميــــا: كيف يكون ذلك؟
كيرلس: إذا قلنا إن هناك طبيعة للآب وطبيعة أخرى للابن منفصلة عن الأولى، فسنصل إلى أن نفصل بينهما. لأنه بالنسبة للبشر لا يمكن أن نقول “جوهر وجوهر آخر، ونوزّع على كل كائن خاص، الصفات المشتركة، كما لو كانت تخصه هو وحده، وفى الحقيقة إذا قبلنا مبدأ وجود أكثر من جوهر واحد كوسيلة لإظهار التمايز، فإن الجوهر العام الواحد سوف يضيع وسوف يؤدى الاختلاف الجوهري (حسب تصورهم) إلى خلق حالة من الانفصالية والاختلاف، وهكذا نصل إلى وجود تعدّد[88] واختلاف حسب الطبيعة.
إرميـــا: أعتقد أن هذا صحيح .
كيرلس: بهذا الشكل لا يتبقى لنا إلاّ أن نقول إن كان الابن حسب رأيهم ليس مساويًا لله الآب في الجوهر، وأنه من جوهر آخر مختلف ومن طبيعة أخرى فهذا يُخرجنا من الحدود التي تُعرّف بها الألوهة. ففي حالة كون الابن له جوهره الخاص، فسيكون غريبًا عن جوهر الله الآب.
عودة إلى موضوع الهوموأوسيوس (الواحد في الجوهر) ووساطة الابن :
إرميــــا: إنهم يؤكدون أن الابن مختلف عن الآب حسب الطبيعة. ولهذا فهم لا يقولون شيئًا عن “مساواته للآب في الجوهر”، وأضافوا ملحوظة غريبة وهى أننا يجب أن نسميّه “مشابه للآب في الجوهر” مع الاحتفاظ بلقبه كوسيط، معتبرين أن هذا أنسب لقب له.
كيرلس: وماذا نُسمىِّ ذلك إلاّ لونًا من الهذيان وثرثرة العجائز؛ إنهم يعطونه طبيعة متوسطة ثم يقولون إن هذا يفرض علينا أن نسميّه “وسيطًا”، وإلى أين يؤدى بنا هذا الكلام؟ وإلى أي فكر سنصل؟ أنا لا أرى مخرجًا، وإذا كنت تعرف أنت فقل لي، فإن اشتياقي للمعرفة لا يساويه شئ في الكون.
إرميــــا: وماذا أستطيع أن أقول أمام هذه الأمور؟
كيرلس: اسأل نفسك وتعلّم بأقصى سرعة إذا كان الوسيط هو مولود أو مخلوق، أهو الله الحقيقي أم نحسبه من ضمن المخلوقات، وحسب رأى أولئك لا هو الله الحقيقي ولا هو مخلوق بشكل واضح فأي موضع سنجد له بين الكائنات؟ وحتى لو تركت نفسي للتأملات العالية، لا أجرؤ أن أقول شيئًا.
إرميـــا: إنه موجود (حسب رأيهم) بين الاثنين، الله والخليقة ولهذا فهُم يدعونه وسيطًا.
كيرلس: لا يوجد كلام غير واضح مثل ذلك ولا تفكير غبي مثل هذا التفكير. وحتى ولو تتبّعنا كل درجات الكائنات وفحصنا طبائعها بشكل دقيق، فلن نجد طبيعة مجرّدة من كل معايير الألوهة الحقة، وهى لا تخضع لمفهوم الكائن المخلوق، طبيعة تشكّل لونًا من ألوان الكائنات الأكثر سموًا من البشر. فهل هناك كائن متوسط بين المولود وغير المولود، بين المخلوق وغير المخلوق، بين المتغّير وغير المتغّير؟
إرميـــا: لا أعتقد ذلك والحق معك .
كيرلس: حينما نفحص الطبائع في مجملها، نجد اثنتين:
الأولى هي الكائنة دائمًا والمكتفيّة بذاتها، والثانية هي التي تحصل على الوجود بالخلق. والطبيعة الكائنة بشكل غير مخلوق تعلو على كل شئ، وتملك كل إمكانيات التفوّق والسمّو، والأخرى توجد تحت أقدام سيدها. ونتّعلم ذلك بوضوح من كلام المسيح مع جمع اليهود: “أَنْتُمْ مِنْ أَسْفَلُ أَمَّا أَنَا فَمِنْ فَوْقُ“ويشرح الحكيم يوحنا كيف جاء إلينا الابن الوحيد من فوق “اَلَّذِي يَأْتِي مِنْ فَوْقُ هُوَ فَوْقَ الْجَمِيعِ”[89]. وهو يعتقد أنه يجب أن نُعطِى للذي هو الله بالطبيعة كل المقام الذي يليق به، لأن قوله “من فوق” ليس المقصود به المكان أو الارتفاع، ولكن يدل على جوهر الآب. وكيف نترّدد في ذلك وقد قال أحد القديسين بوضوح “كُلُّ عَطِيَّةٍ صَالِحَةٍ وَكُلُّ مَوْهِبَةٍ تَامَّةٍ هِيَ مِنْ فَوْقُ، نَازِلَةٌ مِنْ عِنْدِ أَبِي الأَنْوَارِ، الَّذِي لَيْسَ عِنْدَهُ تَغْيِيرٌ وَلاَ ظِلُّ دَوَرَانٍ”[90]؟ فإن مَنْ يفوق الملائكة والكائنات الاسمي منها ـ ليتفوّق على السيرافيم أنفسهم ـ فلن يكون قد تعدّى الطبيعة الخاضعة للتغيّير أي المخلوقة. لأنه إما أن يكون “من فوق” أي من أبى الأنوار، والوحيد الذي من فوق هو الابن، أو أن نعتبره “من أسفل” وبالتالي فهو ينتمي إلى الخليقة، وبين الخالق والخليقة لا يوجد شئ. وإذا سألنا هؤلاء الذين يقفون ضدنا، هل الابن خاضع للتغيّير أم لا؟ وكيف يكون وسيطًا وخاضعًا للتغيير؟ ماذا سيقولون؟
إرميــــا: أعتقد أنهم سيقعون في مأزق.
كيرلس: في مأزق؟! وأي مأزق، لأنه مكتوب: “لأن الحق حي وهو غالب وسيغلب إلى الأبد”[91] ولنحاول أن نفحص بأنفسنا النهاية التي سوف يقودنا إليها التمعّن في الطريقتين. فإذا قالوا إن هذا الوسيط غير خاضع للتغييّر أي غير مولود، فإنهم بهذا ينسبون إليه الطبيعة اللائقة بالله، وبهذا فإنهم يظهرونه وكأنه يتعدّى حدود الوساطة، ويصير أعلى من وضعه الطبيعي، لأن الذي هو فوق الجميع هو الله حسب المجد والطبيعة، وله خصوصية عدم التغييّر ويستحيل أن نضع هذه الطبيعة بين الطبائع الخاضعة للتغّير والفساد. وإذا تراجعوا وقالوا إنه مخلوق، فكيف ينفرد عن باقي المخلوقات وبأي حق؟ فكيف يكون وسيطًا مَنْ هو أصغر من الله بالطبيعة وأكبر من المخلوقات بالطبيعة؟ فلو أنه غير قابل للتغيّير فسوف يرتفع إلى مجد اللاهوت ويتعدّى حدود الوساطة. وأما إذا كان قابلاً للتغييّر فسوف يهبط إلى أسفل، ويصير غير أهل للوساطة لأنه سيتساوى مع باقي الكائنات. ما هذه السفسطة الخالية من كل محبة حقيقية للحكمة!.
والذي يُقدّم أمرًا على أنه مفهوم وهو غير مفهوم ويوهمنا أنه يمكن أن نحدد مكانًا لطبيعة ما، لا يستطيع أي فكر أن يصل إليها، فهذا يعتبر كلام مبتدع وغير مفهوم، بينما الكلام في مثل هذه الأمور يجب أن يكون واضحًا. وهكذا يتضّح أنهم يخدعون الناس بأفكارهم غير المنطقية وأعمالهم الخالية من التقوى. وهم بهذا يَهينون الابن ويحرمونه من المساواة مع الله الآب في الطبيعة ويحاولون أن يجدوا له وضعًا وسطًا، أو مجدًا صغيرًا بأن يرفعوه قليلاً فوق الكائنات المتغيّرة، ويُغلقون عليه الطريق إلى الآب، ويحرموننا من رؤيته إلهًا بالطبيعة. وهم بهذا يحددّون له المجد الذي يتلائم مع أفكارهم وأمزجتهم. وهؤلاء الناس أُشبهّهم بصانعي التماثيل وهم ذوو صيت في هذه الحرفة، فهم ينحتون الخشب أو الصخر ويُعطونه شكلاً إنسانيًا ثم يُضيفون عليه من الخارج قشرة من الذهب أو ألوانًا أخرى جذابة حتى يفتنوا العيون التي تنظر إليها، وهكذا يصرفون النظر عن التمتّع بما هو مُخفى في الداخل، ويصلون إلى إقناع الناظرين بأن يستنفذوا كل فرحهم واهتمامهم بالشكل الخارجي الفاني. وفى رأيي أن هذا هو ما يحدث تمامًا في حديثهم عن الوسيط. فهم يخدعون عقول البسطاء بأفكار جذابة وشكليّة، وهؤلاء (البسطاء) لا يستطيعون أن يسبروا أغوار أفكارهم المتناقضة واستنتاجاتهم المزيّفة.
إرميــــا: ما أروع هذا الكلام .
كيرلس: وإذا كان لديهم أقل تقدير للتفكير السليم فما كان يجب أن يلصقوا بالمسيح أمورًا غير مفهومة ولا أن يطلقوا العنان للتعبيرات التى تصدر من مجرد تأملات نظّرية بلا مضمون فعلى، ويجب عليهم أن يروا بوضوح وبلا دوران أن الابن يسكن في الأعالي اللاهوتية أي أنه من ذات طبيعة الآب ـ وما عليهم سوى التمعّن في الأمر ـ فالابن مولود من الآب، أي صادر من جوهره، ولأنه ابنه فلابد أن يكون له نفس الجوهر. ألم يعلن الله الآب نفسه أن الابن هو “ابن حقيقي وليس شيئًا آخرً حينما أعلنها مدوّية “هذَا هُوَ ابْني الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ“[92]. ولماذا لا نتصّور أنه يقول “هذا هو الوسيط بيني وبين الناس”؟ وأعتقد أنه كان سيقولها، لو كان قد وضع في حسابه أنه سوف يوجد مَنْ يتصّور وساطة الابن بهذا الشكل المريض. ولكن حتى لو اكتفينا بقوله “ابني الحبيب” فقد قال الله كل شئ بهذه العبارة، لأنه حدّد فعلاً مَنْ سيكون وسيطًا. بينما فيما يخص الإعلان عن الابن الذي صار إنسانًا، فالله الآب له الحرّية أن يختار الاسم المناسب. وقل أنت هل وَصَلَت بهم الحماقة والغباء إلى درجة أنهم لا يعترفون به حتى كابن.
مضمون تعبيرّى “ابن” و”ولادة”:
إرميـــا: إنهم يقولون إنه ابن وإنه مولود، ويخجلون من أظهار أنهم يتناقضون مع الكتب المقدَّسة، إذ هم لا يرونه مولودًا من جوهر الآب ولا يرون أنفسهم ملزمين بقبول الولادة كأمر خاص بالطبيعة.
كيرلس: إنهم يعطون معنى مزيفًا لتعبيري البنوّة والولادة. فهم يبعدونهماـ كما ترى بنفسكـ عن جوهر الله الآب. وهكذا يزدرون بالمعنى الصحيح للولادة وبذلك يحرمون الابن من كونه ابنًا بالطبيعة. ولكنهم إن كانوا يعتقدون أنهم حاذقون وذوو رؤية ثاقبة وقد أصابتهم أفكارهم بنشوة كبيرة، فكيف فاتتهم الحقيقة الواضحة وهى أنهم بأفكارهم هذه إنما يقللّون من كرامة الله الآب نفسه؟ لأنهم بهذا يؤكدون أنه عقيم ولا قدرة له على الولادة بينما الخصوبة مغروسة في طبيعة الكائنات الفانية، وهى بنعمته تثمر وتملأ الأرض.
إرميــا: ربما يقولون إنه إذا طبقّنا مبدأ الولادة على الله فهناك آلاف المولودين الذين يجب نسبتهم لله كما يقول الكتاب بخصوص الشعب: “رَبَّيْتُ بَنِينَ وَنَشَّأْتُهُمْ…“[93].
كيرلس: هؤلاء الذين يقولون هذا ينطبق عليهم ما يقوله الطوباوي داود إنهم “َيتَعَلَّلَون بِعِلَلِ الشَّرِّ مَعَ أُنَاسٍ فَاعِلِي إِثْمٍ“[94]، فإذا اتفقنا أن ننسب للابن شيئًا آخرً فيما يخص طبيعته وحسب ما نؤمن به فهو إنه ابن وإنه مولود. وهم قد ارتكبوا خطأ كبيرًا ضد الحق حينما غيرّوا طبيعة الابن وذلك لكي ينعتوه “بالوسيط”. وسوف نقنعهم بأنهم قد صنعوا بمماحكة الكلام خرافات مصطنعة ولم يتوقفوا حتى أنزلوه من عُلُّوه الجوهري مع الآب. وحتى بعد هذا لم يكف هؤلاء البؤساء من أن يصفوا الابن الحقيقي بأحط الألفاظ حتى دَعُوه ابن “زنا”. فالابن الوحيد لم يرتفع إلى المجد، مجد التبنّى، لكونه من نفس طبيعتنا ولكونه اشترك معنا فى كل شئ، فهذا محض افتراء، لأنه بذلك يكون قد صار ابنًا بالنعمة مثلنا ويُحسب فى عداد الخليقة. ولكن هذا الكلام لا يتعدى الهذيان، والثرثرة وركام من الأفكار الكافرة. فالابن الوحيد لا يحتاج أن يصير على مستوى الأولاد بالتبنى لأنه يدرك سمو مكانته الإلهية، وعمق بنوّته الطبيعية لله. ولهذا لا نجد صعوبة فى فهم ما قاله لليهود “إِنْ قَالَ آلِهَةٌ لأُولئِكَ الَّذِينَ صَارَتْ إِلَيْهِمْ كَلِمَةُ اللهِ، وَلاَ يُمْكِنُ أَنْ يُنْقَضَ الْمَكْتُوبُ، فَالَّذِي قَدَّسَهُ الآبُ وَأَرْسَلَهُ إِلَى الْعَالَمِ، أَتَقُولُونَ لَهُ: إِنَّكَ تُجَدِّفُ، لأَنِّي قُلْتُ: إِنِّي ابْنُ اللهِ؟“[95].
فإذا كانوا قد دُعوا أبناءً وآلهةً لأن الكلمة قد جاءت إليهم، فكيف لا يكون هو ابنًا بالأولى، بل إن الله، بواسطته سمّى هؤلاء أبناءً؟ فهو ابن بالحقيقة، ولقب “ابن” ليس شيئًا مضافًا إليه. بل إن لقب ابن يكشف عن كينونته، كما أن لقب “آب” يكشف عن أبوّة الله. فالآب يُدعى آب لأنه وَلَدَ الابن، والابن من جانبه يُدعى ابنًا لأنه مولود من الآب. ولهذا فقد شرحنا بطرق كثيرة ومختلفة خصائص الطبيعة الإلهية، ووصلنا إلى المعرفة المطلوبة للموضوع، ولا أريد أن أضع تعبيرّي البنوّة والأبوّة ضمن طرق الشرح هذه [96].
إرميـــا: ماذا تعنى؟
كيرلس: سوف أشرح لك مادُمتَ تريد أن تعرف. يوجد عندنا طريقان اعتدنا أن نميّز بهما الخصائص الأساسية للطبيعة الإلهية. فنحن نعّرف الطبيعة الإلهية:سواء بما تمثله كما هي (إيجابي). أو بما لا تمثله (سلبي).
فحينما نسميها نور وحياة فنحن ننطلق مما نعرف عنها. وحينما نقول إنها غير مرئية وغير فانية فنحن ننطلق من التعريف بما ليس فيها. فهي غير قابلة للفساد وغير مرئية[97]، وهذا هو معنى الصفات التي نطلقها. أليس ذلك صحيحًا؟
إرميــــا: نعم.
كيرلس: وإذا كنا نقول إن الآب هو نور وحياة وفوق ذلك هو غير فاني وغير مرئي، أفلا يكون من العدل والصواب أن نفكر بنفس الطريقة المستقيمة وننسب كل ذلك إلى طبيعة الابن، أي نحتفظ لله الكلمة بنفس ألقاب الله الآب؟
إرميــــا: نعم.
كيرلس: وإذا قلت إن الآب هو مَلِكْ أفلا يكون للابن نصيب في المُلك؟
إرميـــا: وكيف يكون غير ذلك؟
كيرلس: قد يُظَنْ أن المزايا المشتركة توجد فقط في التفوّق والمجد. فالحقيقة التي لا تُكذب أبدًا هي أن المسيح قال لأبيه السماوي “َكُلُّ مَا هُوَ لِي فَهُوَ لَكَ، وَمَا هُوَ لَكَ فَهُوَ لِي، وَأَنَا مُمَجَّدٌ فِيهِمْ“[98]، فلو كنا ننسب للآب إنه آب وللابن إنه ابن، على سبيل الكرامة والأمور الأخرى، فما الذي يمنعنا (في هذه الحالة) من أن نزيل التمييّز بين الاثنين، وندعو كلا منهما آب وابن معًا على أساس أنهما يملكان نفس المزايا المشتركة.
إرميـــا: هذه أفكار غير مقبولة ولا مألوفة؛ فالآب لا يكون أبدًا غير ما هو عليه أي آب، والابن كذلك فهو يبقى ابنًا ولا يمكن أن يكون آبًا.
كيرلس: هذا إيمان مستقيم وحقيقي يا إرميا. فأنت توافق بشكل حاسم على أن اسم الآب ليس لقبًا شرفيًا واسم الابن كذلك. فكل اسم مثلما سبق وتكلّمنا عن النور والحياة هو اسم كل واحد ويُظهره كما هو.
إرميــــا: بكل تأكيد .
كيرلس: هناك حقيقة يجب أن لا نجهلها وهى أن الأسماء، كل اسم حسب قيمته، تنشئ نوعًا من الالتباس الذى يحتاج إلى إيضاح ويستدعى أن نحدد لكل لفظ معناه الثابت، ولهذا فيجب أن نعطى لكل من الآب والابن ألقابًا تليق بكينونتهما، فالآب يُدعى “آب” وليس “ابن”، لأنه وَلَدَ، والابن يُدعى “ابن” وليس “آب” لأنه مولود. وتخّيل للحظة ولو بالتأمل، أننا لا ننسب للآب أنه آب ولا للابن أنه ابن، فكيف إذن يمكن أن نُحددّ أقنوم كل واحد؟ فهل نُحددّه بالصدفة، بأن نُسميّه مَرّة الله ومَرّة حياة أو عديم الفساد أو غير المرئي أو الملك؟ ولكن هذا لا يكفى لتحديد الأقنوم! فلكل من الاثنين ما يميّزه عن الآخر، فكيف نميّز بينهما؟ حينما نقول الآب فنحن نُحددّ إنه آب لأنه وَلَدَ، والابن هو ابن لأنه بالحقيقة وُلِدَ، إذن خصوصيات كل أقنوم هي ما يعود إليه، وإليه فقط. بينما عموميات اللاهوت تقال عن الاثنين. وفى العموميات تندرج كل الكرامات التي للطبيعة، ولكن الخصوصيات تُحددّ من ناحية الذي وَلَد، ومن ناحية أخرى المولود، أي الآب والابن.
[1] انظر عرضًا مفصلاً عن حياة القديس كيرلس وكتاباته للدكتور نصحي عبد الشهيد في مقدمة كتاب “شرح إنجيل يوحنا” للقديس كيرلس، الجزء الثانى. وكتاب “القديس كيرلس حياته وأعماله” وهما من إصدارات المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية عام 1995، 1998.
[1] The Faith, Clark Cariton, Salisbury, AM, 1997, p. 53.
[2] رسالة 24 PG. 46.1089A
[3] يو18:1
[4] هكذا نصلي في القداس الغريغوري.
[5] 1يو4:1
[6] الرسائل عن الروح القدس إلى الأسقف سرابيون، ترجمة د. موريس تاوضروس د. نصحي عبد الشهيد، المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية 1994. الرسالة الأولى: 28.
[7] مت19:28.
[8] تك26:1.
[9] Tomas F. Torrance, The Trinitarian Faith. T.&T. Clark. Edinburgh 1988. p.305
أى أن ق. أثناسيوس كان يبدأ في إيضاح عمل الله التدبيرى ـ في حياة الإنسان ـ بواسطة المسيح، ومن المسيح ـ الأقنوم الثاني ـ يصل بعد ذلك من خلال ” الهوموأوسيوس ” (الوحدانية في ذات الجوهر الذي للآب والابن والروح القدس) إلى العلاقات الأقنومية داخل الثالوث أى العلاقات الداخلية في جوهر الله الواحد.
[10] كان يتزعمهم يوسابيوس أسقف قيصرية. أصروا على التمييز المشدّد بين الآب والابن، رفضوا مصطلحات مجمع نيقية واعتبروها سابيلية ولأنها لم ترد في نصوص العهد الجديد، إلاّ أنهم كانوا على استعداد لقبول معنى التساوى في الجوهر ÐmooÚsioj لكن بتعبير مخالف لهذا تمسكوا بالتعبير “مماثل للآب في كل شئ ” وأنكروا فيما بعد ألوهية الروح القدس.
[11] انظر الرسالة الأولى إلى سرابيون: 2.
[12] T.F. Torrance. Ibid. p.306.
[13] انظر الرسالة الثانية إلى سرابيون: 3ـ4، الثالثة: 1.
[14] T.F. Torrance. Ibid. p.306.
وأيضًا ق. أثناسيوس. الرسالة الأولى إلى سرابيون 4ـ14، 23.
[15] لقد حاولنا إيضاح هذا التأثير من خلال إشارتنا في هوامش الكتاب إلى نصوص ق. أثناسيوس التي شرحت نفس تعاليم ق. كيرلس. وخصصنا فهارس للوصول بسهولة إلى هذه النصوص وإلى نصوص آبائية أخرى.
[16] [ إرميا: يقولون إنه واحد هو الإله الحقيقي وهو الآب ومعه لا يحسبون آخر.
كيرلس: وبالتالي وحسب ما يقوله هؤلاء فإن الابن والروح القدس لا يحسب أى منهما إلهًا حقيقيًا بل يحسبونهما ضمن المخلوقات العديدة والتي ـ حسب قولهم ـ لها نفس طبيعة الابن وهى بعيدة كل البُعد عن جوهر الله الآب ] ص22.
[17] فيقول: [ لأننا نتكلم في الوقت الحاضر عن ولادته الإلهية التي لا توصف وأن الابن لم يأتِ إلاّ من الآب إذ ولد من جوهر الله الآب، فما هو الأمر الذي يجعل المعارضين يؤمنون بأن الله هو واحد، الذي هو الآب وأنه إله حق، ولا يحسبون معه أحدًا آخر بالمرة، بل ويبعدون الألوهة الحقة عن طبيعة الابن الوحيد والحقيقي ذاتها ] انظر ص2.
[18] بالرغم من عدم تعرضه هنا باستفاضة لإثبات ألوهية الروح القدس حيث إنه قد خصص الحوار الأخير من حواراته السبعة لهذه المسألة.
[19] انظر ص10.
[20] انظر ص2.
[21] انظر ص7.
[22] انظر ص12.
[23] انظر ص14.
[24] استعرضنا هذه الشواهد هنا بالترتيب الوارد في الحوار ولم نتعرض هنا في المقدمة للنصوص التي سبق أن استخدمها ق. أثناسيوس.
[25] 1كو28:15.
[26] أف23:1
[27] انظر ص16.
[28] بالنسبة للقديس أثناسيوس كان مفهوم هوموأوسيوس يحمل في طياته مفهوم علاقة التواجد (الاحتواء) المتبادل للأقانيم داخل جوهر الله الواحد، والتي أشار إليها اعلان الله عن ذاته في تدبير الخلاص. ولم يكن هذا التواجد المتبادل يعني مجرد ارتباط أو اتصال متبادل بين الأقانيم الثلاثة الإلهية، ولكنه كان يعني السكنى الكاملة المتبادلة بينهم. فبينما كل أقنوم يظل “كما هو” محتفظًا بتمايزه كآب أو ابن أو روح قدس إلاّ أنه يكون بكامله في الآخرين كما أن الآخرين هما بالكامل فيه” انظر أيضًا T.F. Torrance. Ibid. p.306.
[29] يو16:1
[30] انظر ص19.
[31] يو23:14
[32] انظر ص25.
[33] تك26:1.
[34] تك27:1.
[35] انظر ص25ـ31.
[36] مثلما نصلي لأقنوم الابن في القداس الغريغوري.
[37] سبق أن أوضح ق. أثناسيوس هذه الحقيقة، انظر “تجسد الكلمة” إصدار المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، ترجمة د. جوزيف موريس فلتس، فصل 1:20.
[38] يو6:17.
[39] يو19:8.
[40] انظر ص36.
[41] فيلبي7:3ـ8 ص32.
[42] يع12:4.
[43] 1تيمو16:6.
[44] انظر ص36ـ37.
[45] مت27:5.
[46] يو22:5.
[47] انظر ص46.
[48] انظر ص46.
[49] يو21:5 ص49.
[50] يو12:1.
[51] غلا6:4.
[52] ص61ـ62.
[53] انظر ص66ـ67.
[54] 1يو13:4.
[55] انظر ص69.
[56] انظر ص69.
[57] يع17:1.
[58] انظر ص73.
[59] انظر ص73ـ74.
[60] 2كو19:5ـ20.
[61] انظر ص76.
[62] انظر ص76.
[63] يو3:17.
[64] مز91:119.
[65] مز6:95ـ7.
[66] يو27:10ـ28.
[67] انظر يو27:10ـ28.
[68] انظر ص77.
[69] مت37:9ـ38.
[70] لو17:3.
[71] ص78.
[72] رو11:8ـ12.
[73] مز6:82.
[74] ص82.
[75] ص83.
[76] ص83ـ84.
[77] 1كو3:11.
[78] ص84.
[79] ص84.
[80] ص86.
[81] انظر ص87.
[82] انظر ص87.
[83] انظر ص78.
[84] 2كو14:2ـ15.
[85] انظر: أمثلة من تفسير الآباء لآيات الكتاب المقدس. د. جوزيف موريس فلتس. دراسات آبائية ولاهوتية، المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، السنة الثامنة العدد الخامس عشر. يناير 2005 ص44ـ53.
[86] 2كو14:2ـ15.
[87] انظر ص89.
[88] انظر ص89.
[89] إش12:26ـ13س.
[90] ص90.
[91] ص9ـ10.
[92] انظر ص78.
[93] انظر ص78.
[94] انظر ص78.
[95] انظر ص78.
[96] انظر ص79.
[97] انظر ص79.
[98] انظر ص79.
[99] انظر ص79.
[100] انظر ص80.
[101] انظر ص80.
[102] انظر ص80.
[103] انظر ص81.
[104] انظر ص81.
[1] 1كو13: 12.
[3] أسلوب الحوار الافتراضى بالأسئلة والأجوبة هو طريقة معروفة في تلك العصور، لشرح التعاليم اللاهوتية.
[4] للتسهيل على القارئ سنستبدل حرف (أ) الذي يشير إلى الشخص الأول بكتابة الاسم كاملاً حيث إن الشخص الأول هو ق. كيرلس، والشخص الثاني (ب) هو إرميا.
[5] العناوين الجانبية عن الترجمة الفرنسية.
[7] كلمة هامة عند الآباء ويترجمها بستان الرهبان “الأوجاع” وباليونانية πάθος وهى غالبًا ما تعني الأهواء.
[8] المُهر هو ابن الفرس، الصغير.
16 هنا يعرض ق. كيرلس النص الذي أقره الآباء في مجمع نيقية سنة 325م، والملاحظ أن المجمع الثاني في القسطنطينية قد تبَني هذا النص مع بَعض التعديلات وأضاف الجزء الخاص بإلوهية الروح القدس، وهكذا استقرت صياغة قانون الإيمان على النحو الذي نتلوه الآن.
[17] هذه العبارة هي ترجمة للكلمة اليونانية المركبة “هوموأوسيوس “`ομοούσιος” وهي من مقطعين وهي تعنى من جوهر الآب ذاته أو مساوى للآب فى الجوهر أو واحد مع الآب فى الجوهر.
18 هذه الفقرة وردت أيضًا في قرارات المجمع بعد إقرار الإيمان الذي أجمعت عليه الكنيسة، وهذه الفقرة تشير إلى ما كان يعلّم به آريوس الهرطوقي.
20 ويقصد أتباع الآريوسيين الذين أنكروا ألوهية الابن المتجسّد، والملاحظ أن وصفهم بأنهم كذبة هو نفس الوصف الذي أعطاه ق. يوحنا لمن أنكروا أن يسوع هو المسيح (انظر: 1يو2: 22).
23 1يو2: 19. يقارن هنا ق. كيرلس بين الآريوسيين وتعاليم هؤلاء الهراطقة الذين يتكلّم عنهم ق. يوحنا في رسالته ويصفهم بهذا الوصف إذ أنهم أيضًا أنكروا الابن: 1يو2: 23.
26 هوميروس: الإلياذة 43: 104 . استخدام ق. كيرلس ـ مثل غيرة من الآباء ـ لبعض أفكار الفلاسفة اليونانيين، يعكس سعه اطلاعهم وثقافتهم الواسعة. والجدير بالذكر أن الفلسفة اليونانية كانت من بين المواد التي تدرّس في مدرسة الإسكندرية اللاهوتية بجانب العلوم الرياضية والموسيقية والفنية… الخ.
27 تُستخدم هذه الصفات فيما يُسمىَّ بعلم اللاهوت السلبي Apophatic theology بمعنى وصف الله بما ليس هو، وهي صفات شائعة في كتابات كثير من آباء الكنيسة بالرغم من أنها لم ترد في نصوص الكتاب المقدس، فنجدها مثلاً في كتابات ق. غريغوريوس اللاهوتي، ففي القداس المعروف باسمه يتوجه بالصلاة إلى قنوم الابن فيصفه بأنه “غير المرئي، غير المحوَى، غير المبتدئ، غير الزمني، غير المفحوص، غير المستحيل”. انظر: الخولاجي المقدّس، طبعه دير البراموس: 2002 ص325.
[29] نلاحظ إشارة ق. كيرلس إلى “أسلافنا” άρχιότεροι أى الأقدم منّا وهذا يشير إلى معنى الإيمان المسلّم بواسطة الآباء الأقدمين.
[30] الفرق بين التعبيرين فى اليونانية هو (حرف i يوتا). مشابه فى الجوهر ÐmoioÚsioj، بينما مساوٍ فى الجوهر ÐmooÚsioj .
31 لو6: 36. يستخدم ق. كيرلس نفس هذه الآية وطريقة تفسيرها كما سبق إن استخدمها وشرحها ق. أثناسيوس في الدفاع عن إلوهية الابن المتجسد وإنه لا يشابه في طبيعته الإلهية أي من المخلوقات. انظر ق. أثناسيوس: المقالة الثالثة ضد الآريوسيين، فصل 10:25.
32 في سياق شرحه لقانون الإيمان يشددّ ق. كيرلس على العلاقة الوثيقة بين الإيمان والأعمال، فلابد إن تعكس أعمالنا، إيماننا القويم وأيضًا من الضرورى أن نعبّر عن إيماننا بأعمال وسلوك مستقيم= =فيقول: “لأن الإيمان الصحيح الذي لا يُسخر به بسبب ما له من بهجة التلازم مع الأعمال الصالحة، هو يملؤنا بكل صلاح ويُظهر أولئك الذين قد حصلوا على مجد متميزّ. وإن كان بهاء أعمالنا يبدو إنه لا يرتبط بالتعاليم الصحيحة والإيمان الذي بلا لوم، فإن هذه الأعمال لن تنفع نفس الإنسان، بحسب رأيي. فكما أن “الإيمان بدون أعمال ميت” يع2: 20، هكذا أيضًا نحن نقول إن العكس صحيح. وهكذا فليقترن الإيمان الذي بلاعيب ويشرق مع أمجاد الحياة المستقبلية وبذلك نصير كاملين… وأولئك الذين بسبب الجهل قد قللّوا من قيمة امتلاك الإيمان المستقيم ممجدين حياتهم بسبب أعمال الفضائل يشبهون أناسًا ذو ملامح حسنه في وجوههم ولكن نظرة عيونهم مصابه بتشويه وحَوَل”. رسائل ق. كيرلس: ترجمة د. موريس تاوضروس د. نصحي عبد الشهيد. المركز الأرثوذكسى للدراسات الآبائية. يونيو 1997م، ج4، الرسالة رقم55، ص26 فقرة: 2، 3.
[33] القديس كيرلس يقول إن تعبير “المشابه فى الجوهر” وباليونانية `οmoioÚsioj هو تعبير يناسب المخلوقات ولا يناسب الابن لأن الابن غير مخلوق.
34 نحن نشبه الابن من حيث طبيعته البشريّة التي اتحد بها. فهو قد شابهنا في كل شيء ما عدا الخطية وحدها. أمَّا من جهة طبيعته الإلهية فنحن لا نشابهه فيها بالمرّة فهو الخالق ونحن بشر مخلوقين. وسبب انزعاج المقاومين، من القول بإننا نشبه الابن، هو التفسير السليم لهذا القول، لأنهم اعتقدوا أن الابن هو مثل بقية أبناء البشر بالتالي هو مخلوق.
[37] يقصد بالمقاييس الطبيعية مقاييس الطبائع المخلوقة.
41 ينصح ق. أثناسيوس أيضًا كل من يريد أن يعرف ما يختص بالله الكلمة قائلاً: “إن دراسة الكتب المقدسة ومعرفتها معرفة حقيقية تتطلبان حياة صالحه ونفسًا طاهرة وحياة الفضيلة التي بالمسيح، وذلك لكي يستطيع الذهن ـ باسترشاده بها ـ أن يصل إلى ما يتمناه وأن يدرك بقدر استطاعه الطبيعة البشرية ما يختص بالله الكلمة“. انظر: تَجسُّد الكلمة ترجمة د. جوزيف موريس فلتس، المركز الأرثوذكسى للدراسات الآبائية. طبعة4، 2006 فصل 57: 1. ص167.
43 يكررّ هنا القديس كيرلس ما سبق أن علّم به القديس أثناسيوس من أهمية تمييز النصوص بمعنى إنه يجب معرفة الشخص الذي تتكلّم عنه الآية وزمان كتابتها والسياق التي وردت فيه هذه الآية. انظر المقالة الأولى ضد الآريوسيين فقرة45.
[48] 2كو10: 5. الآية حرفيًا “إلى طاعة المسيح” و لكن القديس كيرلس يستخدم تعبير “طاعة الله” للتأكيد على إلوهية المسيح له المجد وإنه هو الله الكلمة المتجسّد.
[54] يستعمل ق. كيرلس نفس الكلمة اليونانية التي يستعملها ق. بولس في 1كو1: 3 (ولليونانيين جهالة).
[56] كلمة TÚpoj التي يستعملها ق. كيرلس، صارت فيما بعد مدرسة للتفسير اسمها typology (انظر رومية5: 14 حيث يذكر الرسول أن آدم هو مثال الآتي أي المسيح).
63 يو12: 49. في موضع آخر يشرح ق. كيرلس المعنى اللاهوتي السليم لهذه الآية التي أساء الهراطقة فهمها فأنكروا ألوهية الكلمة، فكتب قائلاً “لا ينبغي أن يفترض أحد أن قول الربُّ إنه لا يتكلّم من نفسه وإن كل كلامه هو من الآب ـ يتعارض بأي حال مع التقدير الخاص به. سواء من جهة جوهره أو كرامته الإلهية؛ بل ينبغي أولاً أن نفكر في الأمر مرّه أخرى ونقول “هل يستطيع أحد حقًا أن يفترض أن اسم الوظيفة النبوية وممارسة عمل النبوّة تليق بذاك الذي هو الكائن دائما والذي يُعتبر أنه الله بالطبيعة؟” أظن بالتأكيد أن أي واحد مهما كان بسيطًا سوف يجيب بالنفي ويقول إنه من غير المعقول أن الله الذي يتكلّم في الأنبياء يُسمِىّ هو نفسه نبيًا: لأنه هو الذي “كَثَّرْتُ الرُّؤَى وَبِيَدِ الأَنْبِيَاءِ مَثَّلْتُ أَمْثَالاً“ كما هو مكتوب انظَر هو 12: 10. ولكن حيث إنه اتخذ اسم العبودية. الشكل الخارجي المشابه لنا وبسبب مشابهته لنا دعىّ نبيًا، فيتبع بالضرورة أيضًا أن الناموس قد وشحّه بالصفات الملائمة للنبي أي خاصية الاستماع من الآب وأَخذْ وصيه، ماذا يقول وبماذا يتكلّم. انظر يو12: 49.” وإضافة إلى ذلك أشعر أنه من الضروري أن أقول هذا أيضًا: إن اليهود كانت عندهم غيرة شديدة من جهة الناموس، مؤمنين أنه قد أُعطِىَ من الله، ولذلك لم يكن متوقعًا أن يقبلوا كلمات المخلّص حينما غيّر صورة الفرائض القديمة إلى العبادة الروحانية. وما هو السبب الذي يجعلهم غير راغبين في قبول تحويل الظلال إلى معانيها الحقيقية؟ إنهم لم يدركوا أنه هو الله= =بالطبيعة ولا حتى سمحوا بالافتراض أن الابن الوحيد الذي هو كلمة الآب، قد لبس جسدنا لأجل خلاصنا. وإلاّ لكانوا قد خضعوا في الحال وغيرّوا رأيهم بدون أي تردد ولكانوا قد كرّموا مجده الإلهي بإيمان صحيح” انظر: شرح إنجيل يوحنا. ترجمة د. نصحي عبد الشهيد. المركز الأرثوذكسى للدراسات الآبائية الجزء السابع أكتوبر 2007 ص53ـ54
[74] حرفيًا تأتى من كلمة بيت أي نشعر إننا معه في بيته .
[79] يشير إلى انفراج الساقين عند المسير، فالساقين يظهران عند المشي، منفرجتين وهما في وحدة السير معًا… (المترجم).
80 تُعبّر هذه الفقرة باختصار، عن التعاليم الخريستولوجية التي علّم بها ودافع عنها ق. كيرلس ضد نسطور وأتباعه، الذين حاولوا التعليم بوجود شخصين وابنين منفصلّين، ولقد أدان مجمع أفسس سنة 431م نسطور وتعاليمه، وأقر ما علّم به بابا الأسكندرية. انظر رسائل ق. كيرلس إلى نسطور ويوحنا الأنطاكي. ترجمة المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية. ومن الجدير بالذكر أن الكنيسة تضع هذه الصيغة المختصرة للإيمان في نص الاعتراف الأخير في القداس الإلهي الذي يردده الكاهن بقوله: آمين آمين آمين… ألخ.
86 هنا يعتمد ق. كيرلس على شرح القديس أثناسيوس لهذه الآية ويتبع نفس تعليمه. انظر المقالة الثانية ضد الآريوسيين فقرة 19.
89 يو3: 31. سبق أن تعرّض ق. كيرلس لشرح هذه الآية بالتفصيل وبيان المعنى الحقيقي لتعبير “مِنْ فَوْقُ” الذي يدل على وحده جوهر الآب والابن وذلك في سياق شرحه لإنجيل يوحنا. انظر: شرح إنجيل يوحنا ترجمة د. جرجس كامل. مقدمة ومراجعة د. نصحي عبد الشهيد المركز الأرثوذكسى للدراسات الآبائية مايو 1995 ج2. الفصل الثاني ص35 ـ40.
91 عزرا الأول 3: 12، 4: 38 وهو أحد الأسفار التي لم تعتبرها الكنيسة من ضمن الأسفار القانونية.
95 يو10: 35-36. لقد تناول ق. كيرلس هذه الآية بالشرح المستقيم في سياق شرحه لإنجيل يوحنا. انظر: شرح إنجيل يوحنا: ترجمة ومقدمة، د. موريس تاوضروس ود. نصحي عبد الشهيد. المركز الأرثوذكسى للدراسات الآبائية. ديسمبر 2003، ج5، ص154-157.
[96] يقصد القديس كيرلس أن طُرق الشرح هذه تقودنا إلى معرفة البنوّة والأبوّة، ولذلك فالبنّوة والأبوة ليست ضمن الشرح.
97 الملاحظ أن ق. كيرلس يعود مرّه أخرى إلى شرح نفس النقطة التي سبق أن تعرّض لها من قبل انظر ص25.