أبحاث

رسالة رومية الأصحاح12 ج6 – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب

رسالة رومية الأصحاح12 ج6 – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب

رسالة رومية الأصحاح12 ج6 – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب

رسالة رومية الأصحاح12 ج6 – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب
رسالة رومية الأصحاح12 ج6 – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب

 

3 ـ ” لا تنتقموا لأنفسكم أيها الأحباء بل اعطوا مكانًا للغضب. لأنه مكتوب لي النقمة أن أجازي يقول الرب ” (رو19:12).

          عن أى غضب يتحدث؟ عن غضب الله. إذًا لأن الغضب الذي يشتهيه يتراجع ليعطي مكانًا لغضب الله. لأن ما يقوله ق. بولس، هو إن لم ينتقم من وقع عليه الظلم، فإن الله سيصير هو الذي يعاقب. إذًا فلتسمح لله أن يُعاقب، وطالما أن الرسول بولس،قد أقنع المظلوم بقبول ذلك مبدأ فإنه يطلب منه ما هو الأكثر ، أي الإيمان، قائلاً:

 

” فإن جاع عدوك فأطعمه. وإن عطش فأسقه. لأنك إن فعلت هذا تجمع جمر نار على رأسه. لا يغلبنك الشر بل اغلب الشر بالخير ” (رو20:12ـ21).

          هو هنا يتساءل هل ينبغي أن تكون علاقاتي سلمية؟ خاصةً وهو يُعطي وصية بالإحسان. لأنه يقول إطعمه وإسقه. ثم بعد ذلك، لأنه أمر بشئ مجهد وكبير بشكل مُبالغ فيه، أضاف: ” لأنك إن فعلت هذا تجمع جمر نار على رأسه “. قال هذه الأمور، بهدف أن العدو يردع بالخوف، وأن يجعل المحسن يعطي بدافع الرغبة في العطاء على رجاء نيل الجزاء. إن الرسول بولس كان يعرف أن المظلوم لا تسره الخيرات التي ينالها عندما يشعر بالضعف أمام من ظلمه، ويشعر بالارتياح عندما يُعاقب ويتألم الظالم ، فلا يسره شيء أكثر من رؤيته لعدوه وهو يُعاقب. ولذلك فقد قدم الرسول بولس، بحكمة منه، هذا أولاً ، وبعدما يتوقف السم، أخذ ينصح بما هو أسمى، قائلاً: ” لا يغلبنك الشر “. لأنه كان يعرف أن العدو وإن كان بعد وحشًا كاسرًا إلاّ أنه لا يبقى عدوًا عندما تطعمه. وحتى وإن كان المظلوم بعد صغير النفس آلاف المرات، حين تُطعمه، وتسقيه، فإنه لن يشتهي عقاب العدو بعد أن يطعمه. ولهذا، فنظرًا لأن الرسول لديه ثقة في نتيجة ذلك الأمر، فإنه لم يُهدد فقط، بل أيضًا يُعبّر عن العقوبة في شدتها. لأنه لم يقل ستعاقب عدوك، بل قال ” نجمع جمر نار على رأسه “. ثم يناشد المنتصر قائلاً: ” لا يغلبنك الشر. بل اغلب الشر بالخير “. وبأسلوب هادئ يقصد أنه لا ينبغي إذًا أن ننساق لرغبة الشر، لأنه ألا ننسى الإساءة بعد فهذا يُعد هزيمة من الشر.

          لكنه لم يُشر إلى هذا في البداية، بل بعد أن أنتزع الغضب من المظلوم، أضاف عندئذ: ” اغلب الشر بالخير “، لأن هذا أيضًا هو الانتصار. كذلك فإن لا عندما يضع نفسه إلى أسفل فيتلقى الضربات، بل حين يقف منتصبًا إلى أعلى، ويجعل خصمه يُفرغ قوته في الهواء. وبذلك لا يتلقى ضربات وستصير قوة الخصم بلا نفع. هذا بالضبط ما يحدث بالنسبة للإهانات. إذًا فعندما توجه الإهانة فإنك تُهزم لا من إنسان بل من العبودية المرة للغضب وهو الأمر المخجل للغاية. أما إن صمت، فستكون قد انتصرت أيضًا، وتقيم نُصب الانتصار دون تعب، وسيكون لديك أعدادًا لا تُحصى من الذين يتوجونك، ويدينوا أكذوبة الإهانة. لأن ذاك الذي يعارض من الواضح أنه يعارض لأنه يُجرح أو يُهان، أما من يُهان يُتيح التفكير، لأنه تعرف الأقوال جيدًا. إذًا لو أنك تستهين بالإهانة، فستُبطل الحكم ضدك. وإن أردت أن تأخذ دليلاً واضحًا على كل ما قيل، اسأل العدو نفسه: من يتضايق أكثر، هل أنت عندما تغضب وترد الإهانة، أم الأخر عندما يُهين وأنت تستهين بالإهانة. وهذا ما ستسمعه. فهو لا يفرح حين لا يهان، بقدر ما يتضايق لأنه لا يستطيع أن يُهينك.

          ألا ترى أولئك الذين يغضبون، كيف أنهم دون أن يتكلمون كثيرًا عن ضرباتهم، يهاجمون باندفاع كبير، ساعين بإصرار، وبصورة أسوأ من الخنازير المتوحشة نحو احداث إصابات في القريب، ليحققوا ما يريدوا دون أن يتوخوا الحرص من إمكانية تعرضهم للإصابات؟ إذا حين تحرمه من فعل ما يشتهيه، فإنك تحرمه كل شئ، طالما أنك حقّرته، وأظهرته وضيعًا، وطفلاً أكثر منه رجلاً، وهكذا اعتبرت أنت حكيم، بينما ذاك فقد أحاطت به سمعة وحش شرير. فلنصنع نحن هذا الأمر إزاء الضربات، وعندما نريد أن نوجه ضربات، فيجب ألا نرد الضربات، بل إن أردت أن توجه له الضربة القاضية، حوّل له الخد الآخر، وستُصيبه بإصابات لا تُحصى. لأن أولئك الذين يُصفقون لك ويُعجبون بك، هم بالنسبة له، أكثر خطورة من أولئك الذين يقتلون بالرجم. وقبل هؤلاء، فإن ضميره سيُدينه، وسيحكم عليه بعقوبات كبيرة، كما لو كان قد أُصيب بأسوأ أنواع الشرور، وهكذا فعندما يخجل لابد إنه سيرحل. لكن إن كنت تطلب المجد من الكثيرين، فإنك ستتمتع بهذا المجد أيضًا إلى حد كبير. لأنه على أية حال فنحن نحمل رأفة تجاه الذين يتألمون، ولكن حين نراهم لا يردوا الضربات، وليس هذا فقط، بل ويسلمون أنفسهم أيضًا، عندئذ فأننا لا نتراءف بهم فقط، بل ونُعجب بهم.

          4 ـ من أجل ذلك، أشعر بأنني أريد أن أبكي بصوت مرتفع، لأننا نحن الذين يُمكننا أن نحصل على خيرات العالم الحاضر، وننال خيرات الدهر الآتي، إذًا سمعنا لنواميس المسيح كما ينبغي، فإننا نفقد الاثنين لأننا لا نخضع لكل ما قيل، ونُفلسف كل شئ بشكل زائد عن الحد. خاصةً وأن (أى المسيح) وضع قانونًا لكل شئ وفقًا لمنفعتنا، وهو يعّلم ما يجعلنا مُمجدين، وما يجعلنا نتصف بالبذاءة. وما كان له أن يأمر بهذا (أى أن نقابل الإساءة بالإحسان)، إن كان يهدف إلى أن يضع تلاميذه موضع سخرية. ولكنه أمر بهذا السلوك لأنهم أصبحوا أكثر مجدًا عندما يطبقونه، أى حين لا يغتابون، عندما يُتهمون، وحين لا يُهينون، عندما يُساء مُعاملتهم. لكن إن كان ذلك يجعلهم مُمجدين أكثر من أى سلوك آخر، فبالأكثر جدًا فإن الكلام الحسن الذي يقولونه حين يُتهمون، سيجعلهم مُمجدين، وحين يُباركون عندما يشتمون، وحين يُحسنون عندما يعانون الألم. ولذلك فقد قنن كل هذه الأمور. كذلك فهو يهتم كثيرًا بتلاميذه، لأنه يعرف جيدًا، ما الذي يجعل الإنسان وضيعًا، وما الذي يجعله عظيمًا. إذًا إن كان الله يهتم بك، ويعرف كل شئ فلماذا تتشاجر مع عدوك، وتريد أن تتسير في طريق آخر؟ أن الانتصار الذي يأتي عن الطريق المعاملة السيئة يتعلق بنواميس الشيطان.

          إلا أن هذا القانون لا يطبق في المسابقات التي يديرها المسيح، بل ما هو على العكس تمامًا، فقانون المسيح يُتوج المهزوم وليس الفائز. لأن هذه هى طبيعة ساحة مسابقات المسيح : يتم تقييم كل شئ فيها بشكل عكسي، حتى أن المعجزة تصير أعظم، ليس فقط بالانتصار، بل بطريقة الانتصار. فعندما تكون العوامل التي تؤدي إلى الهزيمة في مكان ما، يعرضها كسبب للانتصار، فإن هذه هى قوة الله، هذه هى ساحة السماء، هذا هو مسرح الملائكة. أعرف أنكم صرتم أكثر حرارة الآن، وقد صرتم أكثر ليونة من الشمع، لكن عندما ترحلون من هنا، تلقون عنكم كل شئ. ولهذا فإنني أحزن وأشعر بالضيق، لأننا نُظهر الأقوال في الأعمال، خاصةً حين ننوي أن نربح هنا ما هو الأكثر عظمة. لأننا إن أظهرنا رأفة، فسوف لا نُهزم أمام الجميع، ولن يوجد أحد في البشر سواء كان صغيرًا أم كبيرًا يستطيع أن يُصيبنا بضرر. إذًا إن تكلّم أحد بكلام سئ عنك، فإنه لن يضرك مطلقًا، بل يؤذي نفسه بشدة، وإن ظلم فإن الضرر سيُحيط بمن اقترف الظلم. ألا ترى ما يحدث في المحاكم؟ نجد أن المظلومين هم أكثر إشراقًا، ويقفوا ويتكلموا بكل جرأة، وبفم حر، بينما الذين ظلموا يتكلمون مُنحنين الرأس إلى أسفل بخجل وخوف.

          ولماذا أتحدث عن الكلام السئ والظلم؟ لأنه وإن كان بعد يُشهر سيفه ضدك، وإن كان بعد يغرز يده اليمنى في رقبتك، فإنه لم يضرك أنت على الاطلاق، بينما قد ذبح نفسه. وسيؤكد هذا الكلام أول من قُتل باليد الأخوية[1]. لأن الواحد (أى هابيل) ذهب إلى الميناء الهادئ، بعدما ربح مجدًا أبديًا، بينما الآخر (أى قايين) عاش حياة أكثر تعاسة من كل موت، كان يئن ويرتجف، ويلصق بنفسه تهمة القتل[2]. إذًا يجب ألا نسعى نحو هذا (أى الظلم والكلام السئ)، بل نحو ذلك (أى الاحسان). لأن من الذي يُعاني الألم، لا يحتل الشر بيته على الدوام، وبالطبع لم يُنشأه هو نفسه، بل بعدما يستقبله من آخر يجعله بصبره شيئًا حسنًا، بينما الذي أساء فيكون لديه مصدر الشر. ألم يكن يوسف في السجن، بينما العاهرة، التي صنعت به الشر في بيت لامع ومشهور؟ إذًا مَن منهما تريد أن تكون؟ ولا نشير بعد إلى التعويض، بل أفحص هذه الأحداث في ذاتها. هكذا ستفضل السجن مع يوسف، ألاف المرات، على أن تكون في البيت مع العاهرة. لأنه بالحقيقة إذا نظرت إلى نفس كليهما سترى أن نفس يوسف قائمة في راحة وفي جرأة كبيرة، بينما نفس المصرية قائمة في ضيق وخجل، في عبوس واضطراب، وحزن شديد. ولكن يبدو أن هذه المرأة قد انتصرت، لكن ما حدث ليس انتصارًا.

          وإذ نعرف هذه الأمور، فلنُعد أنفسنا لتحمل الإساءة، حتى نتحرر من المعاملة السيئة، وننال خيرات الدهر الآتي، والتي ليتنا جميعًا نتمتع بها، بالنعمة ومحبة البشر اللواتي لربنا يسوع المسيح الذي يليق به مع الآب والروح القدس المجد إلى أبد الدهور آمين.

[1] يُشير إلى هابيل الذي قتله اخوة قايين (تك8:4).

[2] تك7:39ـ23.

رسالة رومية الأصحاح12 ج6 – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب