رسالة رومية الأصحاح12 ج5 – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب
رسالة رومية الأصحاح12 ج5 – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب
رسالة رومية الأصحاح12 ج5 – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب
” باركوا على الذين يضطهدونكم. باركوا ولا تلعنوا ” (رو14:12).
1 ـ بعدما علّمهم كيف يجب أن يسلكوا فيما بينهم، وبعدما وحّد بين الأعضاء بإحكام، هكذا يقودهم إلى التعامل السليم خارج الكنيسة، جاعلاً إياه، من خلال التعامل داخل الكنيسة، أكثر سهولة. لأنه كما أن من لا ينجح في تسديد احتياجات أقربائه، يصعب عليه أن يفي بالتزاماته نحو الغرباء، هكذا فإن مَن درّب نفسه جيدًا على هذه الأمور، فإنه من السهل أن يفي بالتزاماته نحو الغرباء أيضًا. ولهذا فإن القديس بولس يتقدم رويدًا رويدًا، ويذكر هذه بعد تلك، ويقول: ” باركوا على الذين يضطهدونكم “. لم يقل لا تنسوا الإساءة، ولا أن تحاربوهم، بل طلب ما هو أكثر بكثير من هذا كله. لأن هذا بالتأكيد يعد سمة الإنسان الحكيم، بينما ذلك الأمر هو بالأكثر صفة الإنسان الملائكي. وبعد أن قال: ” باركوا” أضاف ” ولا تلعنوا” حتى لا نفعل هذا وذاك، بل نفعل شيئًا واحدًا، نبارك ولا نلعن. خاصةً أن هؤلاء الذين يضطهدوننا، هم سبب المكافأة لنا. أما إن كنت يقظًا، فستُعد لنفسك مكافأة أخرى، من خلال ذاك. لأن ذاك سيُعطيك مكافأة من خلال الاضطهاد، بينما أنت ستُعطى لذاتك المكافأة من خلال مباركتك له، مُظهرًا قدرًا عظيمًا من محبتك للمسيح، كبيرًا جدًا. فأن مَن يلعن المضطهد لا يشعر بالفرح لأنه تألم من أجل المسيح، لكن الذي يبارك هو الذي يُظهر محبته الكبيرة نحو المسيح.
إذًا لا تُسيء إلي الذي يلعنك، لكي تربح أنت ذاتك مكافأة عظيمة، وأن تُعلم ذاك أن الأمر يتوقف على رغبتك، ولا يعتبر التزامًا، هو احتفاء واحتفال وليس نكبة، ولا ضيقة. ولهذا فإن المسيح له المجد قال أيضًا: ” طوبى لكم إذا عيروكم وطردوكم وقالوا عليكم كل كلمة شريرة من أجلي كاذبين “[1]. ولهذا فإن الرسل رجعوا فرحين، ليس لأنهم أهينوا في، بل لأنهم جُلدوا. لأنه بالإضافة إلى ما سبق ستربح مكافأة أخرى كبيرة، أن تجعل أعداءك هكذا يتحيرون ويندهشون، وأن تُعلّمهم بالأعمال، أنك تسير نحو حياة أخرى. لأنه إن رآك تفرح وتقفز من الفرح، فلماذا يُسيئ إليك، سيعرف جيدًا أن لديك رجاء آخر أعظم من الرجاء في الأمور الحاضرة. لأنه إن لم تصنع هذا، بل تبكي وتئن، فمن أين سيعرف ذاك، أنك تنتظر حياة أخرى؟ لكن بالإضافة إلى هذا فإنك ستُحقق شيئًا أخر. لأنه إن رآك لا تتضايق بسبب الإهانات، بل وتُبارك، فسيتوقف عن إضطهادك. إذًا لاحظ مقدار المزايا التي تأتي من وراء ذلك، فإن المكافأة ستصير أكبر بالنسبة لك، والتجربة ستصير أقل، وذاك (الذي يضطهد) سيوقف إضطهاده، والله سيتمجد، وإيمانك سيتحول إلى تعليم عن بالنسبة لمن يعيش في الخداع. ولهذا فقد أوصانا أن نحسن ليس فقط للذين يُهينوننا، بل وللذين يسيئون مُعاملتنا، وذلك من خلال الأعمال.
” فرحًا مع الفرحين وبكاءً مع الباكين ” (رو15:12).
إذًا لأنه من الممكن أن نُبارك ولا نلعن، بسبب المحبة، فهو يُريد أن نشتعل تمامًا بالمحبة. ولهذا أضاف ” فرحًا مع الفرحين وبكاءً مع الباكين “، حتى أننا لا نُبارك فقط، بل وأن نشارك في الحزن وفي المعاناة، إن رأينا الناس في نكبة في وقت ما.ولكننا بأن نُشارك الذين يبكون على أحزانهم، فهذا أمر صحيح، ولكن بالجانب الأخر إذا كان لا يعتبر أمرًا مهمًا؟ فهذا أي أن نفرح مع الفرحين يحتاج إلى نفس حكيمة ، أكثر من أن نبكي مع الباكين. لأن هذا (أى البكاء مع الباكين) بالتأكيد تُمليه الطبيعة ذاتها، ولا يوجد أحد جامدًا مثل الصخرة، حتى لا يبكي مع مَن يواجه كارثة، لكن ذاك (أى الذي يفرح مع الفرحين) يحتاج إلى نفس سخية جدًا، حتى أننا ليس فقط يجب علينا ألا نحسد مَن هو في حالة يُسر ورخاء، بل وأن نفرح معه. ولذلك فقد ذكر هذا أولاً “فرحًا مع الفرحين”. لأنه لا يوجد شيئًا يقوي المحبة بهذا القدر الكبير، سوى أن نشترك فيما بيننا في الفرح وفي الحزن.
إذًا ينبغي ألا تبقى (متجمد الأحاسيس) لأنك أنت ذاتك بعيد عن النكبات، ولا تحتاج إلى الرأفة. لأنه حين يُصاب القريب بمكروه، فأنت مدين أن تشاركه الألم. إذًا فلتشارك في البكاء، لكي تُخفف من الحزن، أن تشارك في الفرح لكي تُمكن الابتهاج، وتؤصل المحبة، ولكي تنفع نفسك من تشاركه، لأنه بالبكاء تجعل نفسك تشارك في الحزن، بينما بواسطة الشركة في الفرح، تُنقيها تمامًا من الحسد والغيرة. أرجو أن تلحظ أن الرسول بولس لا يشعر مطلقًا بأي ضجر أو سأم. لأنه لم يقل، عليك أن تمنع الكارثة، حتى لا تقول أن هذا مستحيل، لكنه أوصى بما هو أكثر سهولة، أوصى بما هو في استطاعتك أن تفعله. لأنه إن لم تستطع أن تزيل الكارثة فلتبك، وبهذا تكون قد محوت الجزء الأكبر، وإن لم تستطع بعد أن تُزيد من السعادة، فلتفرح، وبهذا تُزيد الفرح جدًا.
ومن أجل هذا ينصح، ليس فقط بألا نحسد، بل ينصح بما هو أكثر بكثير من هذا، أى أن نفرح معه. لأن هذا يعتبر أعظم كثيرًا من عدم الحسد.
2 ـ ” مُهتمين بعضكم لبعض اهتمامًا واحدًا غير مُهتمين بالأمور العالية بل مُنقادين إلى المتضعين ” (رو16:12).
مرة أخرى يُعطى اهتمامًا كبيرًا للتواضع، من حيث بدأ حديثه. خاصةً وأنه كان من الطبيعي أن يكون لدى هؤلاء فكر متعاليًا، بسبب تواجدهم في المدينة، ولأسباب أخرى كثيرة. ولهذا فإنه يُقوّض هذا المرض بصفة دائمة، ويُقلل من لهيبه. لأنه لا يوجد شيئًا يُقسم جسد الكنيسة بهذا القدر، سوى التباهي. وما معنى ” مهتمين بعضكم لبعض اهتمامًا واحدًا “؟ هل أتى إلى بيتك أحد الفقراء، فليصر اهتمامك به واحدًا، ولا تنتفخ أكثر، بسبب الغنى. لا يوجد غنيًا وفقيرًا في المسيح. لا ترفضه بسبب مظهره الخارجي، بل أن تقبله بسبب إيمانه الداخلي. وعندما ترى شخصًا يئن، تعتبره غير مستحق لأن تُعزيتك. ولا حين ترى شخصًا في رغد وابتهاج، تخجل من مشاركته الفرح، بل تفرح معه، وتظهر له نفس الاهتمام الذي تحمله لنفسك. لأنه يقول: ” مهتمين بعضكم لبعض اهتمامًا واحدًا “. على سبيل المثال، هل تعتقد أنك عظيم؟ إذًا فليكن لك نفس الفكر نحو الآخر. هل تفترض أن الآخر متضع وبسيط؟ إذًا فليكن لديك نفس الرأي عن نفسك، ولتبعد عن ذاتك كل ما يتعلق بعدم المساواة.
لكن كيف يمكن أن يحدث هذا؟ يتحقق ذلك إن ابتعدت عن التباهي. ولهذا أضاف: ” غير مهتمين بالأمور العالمية بل منقادين إلى المتضعين “. أى أن تنزل إلى مستوى مكانتهم المتضعة، أن تمتثل لحالتهم، وتُخالطهم. لا تتضع في الفكر فقط، بل عليك أن تساعد، وتقدم بسخاء، لا للآخرين فقط بل لذاتك، مثل أب يعتني بابنه، كرأس للجسد، الأمر الذي قاله في موضع آخر: ” اذكروا المقيدين كأنكم مقيدون معهم “[2]. لكنه لا يقصد بالمتضعين هنا الخاشعين فقط، بل المتواضعين والمهمشين. ” لا تكونوا حكماء عند أنفسكم “. أى لا تعتقدوا بأنكم مُكتفين بذواتكم. لأن الكتاب يقول في موضع آخر ” ويل للحكماء في أعين أنفسهم والفهماء عند ذواتهم “[3]. وهو بهذا يقوض الافتخار، ويقضي على الانتفاخ، ويُبطل لهيبهما. لأنه لا يوجد شيئًا يمكن أن يستفز، ويقطع من الشركة، سوى أن يعتقد المرء أنه مُكتفى بذاته. ولهذا فإن الله خلقنا ولدينا احتياج، الواحد نحو الآخر. إذًا فإن كنت بعد حكيمًا، سيكون لديك احتياجًا لآخر، لكن إن كنت تعتقد أنك غير محتاج، فقد صرت أكثر غباءً، وأكثر ضعفًا من الجميع. لأن مثل هذا الإنسان سيحرم ذاته من العون، وفي الأمور التي سيرتكب فيها الخطية، لن يتمتع بإصلاح، ولا بأي مسامحة، بل أنه سيُثير غضب الله بافتخاره، وسيرتكب خطايا كثيرة.
لأنه من الممكن في مرات كثيرة أن الحكيم أيضًا، لا يعرف جيدًا ما هو الصواب، والأكثر غباءً يسلك بشيء من الاستقامة، الأمر الذي حدث مع موسى وحماه، وفي حالة شاول وعبده أو خادمه، ومع اسحق ورفقة. إذًا لا تتصور أنك تكون قليل الشأن، لأنك إذا كنت تشعر بأحتياج لآخر. فالاحتياج للآخر يرفعك بالأكثر، ويجعلك أكثر قوة، وأكثر إشراقًا، وأكثر ثباتًا.
” لا تُجازوا أحدًا عن شر بشر ” (رو17:12).
لأنك إذا أدنت شخصًا آخرًا يتآمر عليك، فمن الذي جعلك مسئولاً عن الإدانة؟ إن كان ذاك قد فعل الشر، فلماذا لا تتجنب التشبه به؟ ولاحظ كيف أنه هنا لا يصنع تمييزًا، بل حدد قانونًا مشتركًا أو عامًا. لأنه لم يقل لا تُجازوا المؤمن بشر، بل قال: ” لا تُجازوا أحدًا “، سواء كان أمميًا، أو نجسًا، أو أي شئ آخر.
” معتنين بأمور حسنة قدام جميع الناس. إن كان ممكنًا فحسب طاقتكم سالموا جميع الناس ” (رو18:12).
هذا يعني ” فليضيء نوركم هكذا قدام الناس “[4]، لكي لا نحيا للمجد الباطل، بل لكي لا نعطي فرصة لأولئك الذين يشتهون أن يجدوا سببًا يهاجموننا به. لهذا قال في موضع آخر: ” كونوا بلا عثرة لليهود ولليونانيين ولكنيسة الله “[5]. وبالصواب قال: ” إن كان ممكنًا “. لأنه توجد حالات ليست ممكنة، عندما تكون الكلمة عن التقوى، عندما يكون الجهاد من أجل هؤلاء الذين يُظلمون أو يتعرضون للظلم. وفيما تشك، إن كان هذا غير ممكن بالنسبة للبشر الآخرين، بينما استطاع أن يجد حلاً حتى للأحتياج بين الرجل والمرأة، قائلاً: ” ولكن إن فارق غير المؤمن فليُفارق “[6]. ما يقوله يعني الآتي: أن تعطي كل قدراتك، ولكن لا تعطى للأممي أو اليهودي مبررًا للمخاصمات والمشاحنات ، ولكن إن رأيت مرة أن التقوى تُضار، فلا تُفضل المودة على الحقيقة، بل عليك أن تثبت بنبل حتى الموت، وعليك حتى في هذه الحالة ألا تُحارب بالنفس، ولا أن تغير الرأى، بل أن تحارب بالأعمال فقط. لأن هذا هو معنى ” فحسب طاقتكم سالموا جميع الناس “. وإن كان الآخر لا يدعو للسلام، فلا يجب عليك أن تملأ نفسك بالألم، بل كُن محبًا من جهة الفكر، الأمر الذي سبق وأشرت إليه، دون أن تنكث عهدك أبدًا من جهة الحقيقة.
[1] مت11:5.
[2] عب3:13.
[3] إش21:5.
[4] مت16:5.
[5] 1كو32:10.
[6] 1كو15:7.