رسالة رومية الأصحاح12 ج3 – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب
” فإنه كما في جسد واحد لنا أعضاء كثيرة ولكن ليس جميع الأعضاء لها عمل واحد. هكذا نحن الكثيرين جسد واحد في المسيح وأعضاء بعضًا لبعض كل واحد للآخر ” (رو4:12ـ5).
1 ـ مرة أخرى يستخدم نفس المثال الذي استخدمه لأهل كورنثوس، لكي يُحارب نفس الشهوة تحديدًا. خاصةً وأن قوة الدواء هى كبيرة، كما أن لهذا المثال تأثير قوي في علاج مرض الافتخار. إذًا لأي سبب تفتخر أنت؟ أو لماذا أيضًا آخر نفسه يُهين ؟ أليس نحن جميعًا جسدًا واحدًا، كبار وصغار؟ إذًا طالما أن هناك أهمية في أن نكون أعضاء بعضًا لبعض، فلماذا تعزل نفسك بالافتخار؟ لماذا تحتقر أخاك؟ لأنه تمامًا كما أن ذاك هو عضو لك، هكذا أيضًا أنت عضو له. ومن جهة هذا الأمر فإن مساواتكم في الكرامة هى شئ عظيم. إذًا فقد أشرت إلى أمرين لهما القدرة على تحطيم افتخارهم، إننا أعضاء بعضًا لبعض، ليس الصغير للكبير فقط، بل الكبير للأصغر أيضًا، وأننا جميعًا نُشكل جسدًا واحدًا. لا تتفاخر إذًا، لأن الموهبة قد أُعطيت لك من الله، لم تأخذها انت، ولا وجدتها. ولهذا حين تكلمت عن المواهب، لم أقل أن الواحد أخذ أكثر، والآخر أقل، لكن ماذا قلت؟ ” لنا مواهب ” ليست أكثر وأقل، بل “مختلفة”.
كان من الضروري أن يوصيك الرسول بولس بهذه الأمور إذ أن الجسد يبدأ بالمواهب، وينتهي بالتطبيق العملي. لأنه بعدما أشار إلى البنوة والخدمة وكل الأمور المماثلة، انتهى إلى عمل الرحمة، والنية الصادقة، والمساعدة. إذًا لأنه كان من الطبيعي أن يسلك البعض بالفضيلة، دون أن يكون لديهم موهبة التنبؤ، فإنه يُظهر أن هذا أيضًا موهبة، بل وأكبر بكثير من النبوة، تمامًا كما أظهر في رسالته إلى أهل كورنثوس، حيث أظهر أنها عظيمة بقدر ان الواحدة لها أجر، بينما الأخرى ليست لها كل مكافأة، كذلك فإن كل هذه، هى عطية ونعمة. ولهذا يقول:
” ولكن لنا مواهب مختلفة بحسب النعمة المعطاة لنا. أنبوة فبالنسبة للإيمان ” (رو6:12).
إذًا بعدما عزاهم بالقدر الكافي، أراد أن يضعهم في حيرة، ويجعلهم أكثر استعدادًا، مبرهنًا على أن هؤلاء اليهود المفتخرون أنفسهم هم الذين يحددوا ما إذا كانوا سيحصلوا على موهبة أكبر أو أقل. ولكن الرسول يقول بالطبع إن هذا قد أُعطى من الله: ” كما قسم الله لكل واحد مقدارًا من الإيمان “[1]. وأيضًا ” بحسب النعمة المعطاة لنا “، ذلك لكي يضبط جماح المفتخرين، ولكنه يقول إنه من قِبل هؤلاء اليهود صارت البداية، لكي يحفز الغير المُبالين، الأمر الذي فعله في رسالته إلى أهل كورنثوس متحدثًا عن الاثنين (المفتخرين والغير المبالين).
أى عندما يقول ” جدوا للمواهب “[2]، يبيّن كيف أن هؤلاء هم موضع المواهب المختلفة التي أُعطيت، لكن عندما يقول: ” هذه كلها يعملها الروح الواحد بعينه قاسمًا لكل واحد بمفرده كما يشار “[3]، يُبيّن أنه لا ينبغي أن يفتخر أولئك الذين أخذوا الموهبة، مُخففًا آلامهم من كل اتجاه، تمامًا كما فعل هنا. وأيضًا ولكي يُشدد اليائسين يقول: إن كان لدينا نبوة فلنستخدمها بحسب إيماننا. لأنه وإن كانت تعتبر نعمة، إلاّ أنها لا تُعطى جزافًا، بل هناك شروط لابد أن ينفذها من يأخذها. فإن مقدار النعمة التي يُسكب يتوقف على سعة وعاء الإيمان الذي يستقبلها.
” أم خدمة ففي الخدمة ” (رو7:12).
هنا يشير إلى أمر عام. وهو يُسمى العمل الرسولي خدمة. وكل عمل روحي خدمة. إن هذه التسمية تتعلق بالطبع بعمل يتسم بعناية خاصة، لكنه يذكر هنا بصفة عامة ” أم المعلّم ففي التعليم “. لاحظ الطريقة التي يُشير بها إلى هذه الأمور، فهو يُشير أولاً إلى الأبسط، ثم إلى ما هو أعظم، لكي يركز تعليمه على موضوع واحد، ألاّ يتباهوا، أى ألاّ يتفاخروا ” أم الواعظ ففي الوعظ “. وهذا أيضًا نوعًا من التعليم. ” إن كانت عندكم كلمة وعظ للشعب فقولوا “[4].
ثم لكي يُظهر أن ممارسة الفضيلة لا يفيد كثيرًا ما لم يكن مرتبطًا بقانون خاص بذلك ” المعطي فبسخاء “. لأنه لا يكفي أن نُعطي، بل ينبغي أن يكون العطاء بسخاء. لأننا نحن نعرف هذا في كل موضع، لأن العذارى أيضًا كان لديهم زيتًا، ولكن لأنه لم يكن كافيًا، فقدوا كل شئ إذ يجب أن يكون “المدبر فباجتهاد”. لأنه لا يكفي أن يكون مُدبرًا. ” الراحم فبسرور”. لأنه لا يكفي المرء أن يرحم، بل يجب أن يفعل هذا بسخاء وبرغبة وبدون حزن، أو من الأفضل أن نقول، ليس فقط برغبة وبدون حزن، بل وبشكر وبفرح أيضًا. لأن عدم الحزن ليس معناه الفرح. وهذا تحديدًا قد شدّد عليه بدقة، عندما كتب إلى أهل كورنثوس حاثًا إياهم على السخاء، قائلاً: ” إن من يزرع بالشح فبالشح أيضًا يحصد ومن يزرع بالبركات فبالبركات أيضًا يحصد ” ثم يصحح الرغبة، فيضيف ” ليس عن حزن أو اضطرار “[5]. لأن مَن يرحم يجب أن يتحلى بالشكر والسخاء معًا.
إذًا لماذا تحزن حين تقدم على عمل الرحمة؟ ولماذا تتضايق عندما ترحم، وتخون هكذا ثمر عملك، خاصةً، وأنك إذا تضايقت، لا تكون تفعل عمل الرحمة، بل تصبح قاسيًا ومتوحشًا. لأنه إن تضايقت، كيف تستطيع أن تساند الحزين؟ لأن من الضروري ألاّ يتشكك من هو حزين من وجود مشاعر غير صريحة (أى الحزين)، ولذلك فعليك أن تعطي بفرح. لأنه لا شئ أمام البشر يبدو بهذا القدر من القبح سوى أن يأخذون من الآخرين، قبل أن تُلاشي التشكك بفرح فائق (حين تُعطي) وما لم تُظهر أنك تأخذ أكثر من أن كونك تعطي، إن لم تفعل هذا فإنك تُحقّر من شأن الذي يأخذ، أكثر من أن تجعله يستريح ويهدأ. ولهذا يقول: ” الراحم فبسرور “. لأن هل يمكن أن يأخذ أحد مملكة ويظل عابسًا؟ أو مَن ينال غفران للخطايا، ويبقى مُتجهمًا؟ إذًا لا تدقق في نفقات الأموال، بل في الربح الذي يأتي من وراء النفقات. لأنه إن كان الذي يزرع يشعر بفرح، على الرغم من أنه يزرع دون أن يرى ثمارًا، فبالأولى جدًا ينبغي أن يفرح ذاك الذي يزرع في السماء. فسيكون عطاءك كثيرًا إن أعطيت بسخاء حتى لو كان العطاء قليلاً، هكذا فإنك ستجعل العطاء الكثير قليلاً إن أعطيت بوجه عابس. فإن المرأة صاحبة الفلسين، تجاوزت عطاء الكثيرين، لأنها أعطت بسخاء.
ولكن كيف يمكن للمرء أن يعطي بفرح وسخاء، إذا كان يعيش هو في أسوأ درجات الفقر ويُحرم من كل شئ؟ اسأل الأرملة وستسمع منها الطريقة، وستعرف أن الفقر لا يصنع التعاسة، بل الرغبة هى التي تصنع هذا أو عكسه. لأنه يمكن للمرء وهو في الفقر أن يكون كريم النفس، وفي الغنى يمكن أن يكون تافهًا. ولهذا فإن الرسول بولس يطلب السخاء في عمل الصلاح، وفي عمل الرحمة يطلب الفرح، وفي الدفاع (عن الإيمان) يطلب الغيرة. لأنه لا يريد أن نُساعد من هم في احتياج بالأموال فقط، بل وبالكلام أيضًا (أى بالتبشير)، وبالجسد (أى بالجهد الجسدي)، وبكل الأمور الأخرى. وبعدما تكلّم عن الحماية أو الوقاية الأولى التي تتوفر بالتعليم وبالنصيحة (لأن هذه هى ضرورة مُلّحة، طالما أنها غذاء النفس)، ينتقل إلى الحماية عن طريق المال وغيره. ثم لكي يُظهر بعد ذلك كيف يمكن أن يُحققوا كل ذلك، أخذ يعرض لأم الصالحات، المحبة. ” المحبة فلتكن بلا رياء “، فما يقوله هو أنك لو كنت تمتلك هذه المحبة، فلن تُعطى أهمية لما ينفق من المال، ولا لمتاعب الأجساد، ولا للجهد الذي يبذل في الإقناع، ولا للتعب والخدمة، بل ستتحمل كل هذه الأمور بنبل وشهامة، سواء كان ذلك بالجهد الجسدي، أو بالمال، أو بالكلام، أو بأي شئ آخر، فيكون الشئ الأهم هو مساعدة القريب. إذًا تمامًا كما أنه لم يطلب فقط مجرد نشر الصلاح، بل نشره بسخاء، ولم يطلب فقط الحماية، بل الحماية من خلال الآخر، ولم يطلب فقط عمل الرحمة، بل طلب عمل الرحمة بفرح، هكذا فإنه لا يطلب فقط المحبة، بل يطلب محبة بلا رياء، لأن هذه هى المحبة، وإن وجدت هذا (أى إذا كانت المحبة بلا رياء) فإن كل الأمور الأخرى ستتبعها. كذلك فإن مَن يقدم عمل الرحمة بفرح، هو يُعطي لذاته (فرحًا)، ومن يحمي فإنه يحمي أو يدافع بغيره، لأنه يساعد نفسه، وذاك الذي يُعطي شيئًا، فإنه يصنعه بسخاء، لأنه يُعطي ذاته.
[1] رو3:12.
[2] 1كو31:12.
[3] 1كو11:12.
[4] أع15:13.
[5] 2كو6:9ـ7.