رسالة رومية الأصحاح11 – عظة20 ج4 – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب
رسالة رومية الأصحاح11 – عظة20 ج4 – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب
رسالة رومية الأصحاح11 – عظة20 ج4 – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب
بقية العظة العشرين:
9 ـ ” يا لعمق غنى الله وحكمته وعلمه. ما أبعد أحكامه عن الفحص وطرقه عن الاستقصاء ” (رو33:11).
هنا وبعدما فكّر في الأزمنة السابقة، وأدرك خطة التدبير الإلهي منذ البدء، منذ خلق العالم حتى اليوم، وبعدما تأمل كيف أنه بطرق متنوعة دبر كل شئ، تملكته الدهشة، وصرخ بقوة، مؤكدًا لسامعيه، أن ما قاله سوف يحدث على كل الأحوال. لأنه ما كان له أن يصرخ، أو يشعر بالدهشة، ما لم يكن كل هذا سوف يحدث. ومن حيث إنه يوجد عمق لغنى الله، فهو يعرف ذلك، ولكن ما مقدار هذا العمق، فهذا لم يكن يعرفه. لأن هذا التعبير، هو تعبير إنسان مندهش، برغم أنه لا يعرف كل شئ. وبعدما اندهش وتعجب لأجل صلاح الله، على قدر ما استطاع، نادى بكلمتين مملؤتين بالتركيز، وهما الغنى، والعمق. وتملّكته الدهشة، لأن الله أراد، واستطاع تحقيق كل هذا، وحقق المفارقات بالمفارقات. “ما أبعد أحكامه عن الفحص“. لأنه ليس فقط أن هذه الأحكام يستحيل إدراكها ، بل ولا يمكن فحصها. ” وطرقه عن الاستقصاء ” أى تدابيره، كما وأن هذه الطرق ليست فقط لا يمكن أن تصير معروفة، بل ولا أن تُستقصى. لأنه هكذا يقول (ق. بولس) ولا أنا أعرفها كلها، بل أعرف جزءًا صغيرًا، وليس كل شئ. لأن الله وحده، هو الذي يعرف ما له بوضوح. ولهذا أضاف:
” لأن من عرف فكر الرب أو صار له مشيرًا أو من سبق فأعطاه فيُكافأ” (رو34:11ـ35).
ما يقوله يعني الآتي: أن الله يتسم بالحكمة الفائقة، وهو ليس حكيم من قِبَل آخر، بل هو نبع الصالحات، وأنه برغم أنه صنع الكثير ومنحه لنا، فهو لم يُعطه مستدينًا من آخر، بل أن كل شئ تدفق أو نبع من ذاته، دون أن يكون مديون بإعطاء مكافأة لشخص، نظير إحسان قدمه له هذا الشخص، فالله هو دومًا منبع كل الخيرات. لأن هذا هو على كل حال، ملمح الغنى، أن ينثر أو يوزع غناه بوفرة، وأن لا يكون هناك احتياج أن يأخذ من آخر. ولهذا أضاف:
” لأن منه وبه كل شئ ” (رو36:11).
إن الله يملك كل الأشياء، هو خالق كل الأشياء، وهو الذي يضبطها. كما أنه غنى، وليس لديه احتياج أن يأخذ من آخر، وهو حكيم وليس بحاجة لمشير.
ولماذا أتكلم عن مشير؟ ولا يستطيع أحد أن يعرف ما لديه، إلاّ سواه، فهو الغني والحكيم. كما أنه برهان كبير على الغنى، ان يجعل القادمين من الأمم أغنياء، ودلالة على حكمة فائقة، أن يجعل الأدنياء من اليهود مُعلّمين لليهود. ثم بعد ذلك، يقدم الرسول الشكر لأنه اندهش وتعجب كثيرًا جدًا لغنى الله وحكمته قائلاً: ” له المجد إلى الأبد آمين “. لأنه حين يقول شيئًا عظيمًا مثل هذا ولا يمكن شرحه، فإنه ينتهي إلى الشكر بدهشة كبيرة. نفس الأمر يفعله في حالة الابن. كما حدث في الاصحاح التاسع، فبعدما تملكته الدهشة، أضاف ما قاله هنا بالتحديد ” ومنهم المسيح حسب الجسد الكائن على الكل إلهًا مباركًا إلى الأبد آمين “[1].
10 ـ فلنتمثل نحن أيضًا بالقديس بولس، ولنقدم الشكر لله في كل مكان مهتمين بالطريقة التي نحيا بها، وألاّ نعتمد على فضائل آبائنا، واضعين نصب أعيننا المثال الخاص باليهود. لأن هذه القرابة البشرية لا تسري على المسيحيين، لكن ما يسري عليهم هو فقط القرابة الروحية. هكذا فإن السكيثي، صار ابنًا لإبراهيم، كما أن ابن إبراهيم أيضًا صار غريبًا أكثر من السكيثي. إذًا ينبغي ألا نعتمد على إنجازات آبائنا، بل حتى وإن كان لك بعد أبًا يستحق الإعجاب، لا يجب أن تتصور أن هذا كاف لخلاصك أو لكرامتك ولمجدك، إن لم تصر قريبًا له من جهة سلوكك في الحياة. وبالتالي أيضًا لو أن لك أبًا شريرًا، لا تتصور أن يكون هذا سبب إدانة وخجل، طالما أنك تسلك بطريقة صحيحة. لأنه هل هناك من هم أكثر خزيًا من الوثنيين؟ لكنهم بالإيمان، صاروا سريعًا أقرباء للقديسين. أيضًا هل وُجِد من هم أكثر عِشرة ومودة من اليهود؟ لكنهم بسبب عدم إيمانهم صاروا غرباء. لأن تلك القرابة هى طبيعية وإلزامية، والتي بحسبها نحن جميعًا أقرباء، طالما أننا جميعًا ولدنا أو ننحدر من آدم، ولا يمكن للواحد أن يكون أكثر قرابة من الآخر، ويرجع السبب في ذلك إلى آدم، ونوح، والأرض التي تعد أُمًا لجميعنا. بينما القرابة التي تستحق المكافأة هى تلك التي تميّزنا عن الأشرار (أى القرابة الروحية).
لأنه من غير الممكن أن يكون الجميع هنا أقرباء، بل الأقرباء هم فقط أولئك الذين لهم طريقة الحياة ذاتها. ولا الذين يولدون معنا من نفس الرَحِم ندعوهم إخوة، بل الإخوة هم أولئك الذين يُظهرون نفس الغيرة في الإيمان. بهذا المعنى يتحدث المسيح عن أولاد الله. أيضًا يكون الحديث عن أولاد إبليس من وجهة نظر عكسية، وبهذا المعنى يكون الحديث عن أبناء الطاعة، وأبناء الجحيم، وأبناء الهلاك. هكذا فإن تيموثاوس بسبب فضيلته، دُعي ابنًا لبولس[2]، بينما نحن لا نعرف اسم ابن اخته، وإن كان من المؤكد أن أحدهما هو قريبه بالطبيعة، لكن هذا لا يفيد بشئ، بينما الآخر، هو بعيد عنه بحسب الطبيعة وبحسب المكان خاصةً وأنه كان يقيم في لسترا، لكنه كان قريبًا له أكثر من الجميع. إذًا فلنصِر نحن أيضًا أبناء للقديسين، أو من الأفضل أن نقول لنصِر أبناء لله. ومن حيث إنه من الممكن أن نصير أبناء لله، اسمع ماذا يقول: ” فكونوا أنتم كاملين كما أن أباكم الذي في السموات هو كامل “[3]. ولهذا فإننا ندعو الله في صلواتنا أبًا لنا، مُذكرين أنفسنا ليس فقط بالنعمة، بل أيضًا بالفضيلة، لكي لا نفعل شيئًا غير لائق بمثل هذه القرابة.
وكيف يكون ممكنًا أن أصير ابنًا لله؟ هذا ممكن لو تحررت من كل الشهوات، لو تصرفت برأفة تجاه أولئك الذين يشتمونك ويظلمونك، لأن أباك هكذا سلك تجاه أولئك الذين يجدفون. ولهذا، برغم أنه قال الكثير مرات عديدة، لم يقل في أى موضع ” لكي تصيروا مثل أبيكم “، بل عندما قال: ” صلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم “[4]، أضاف عندئذٍ هذه المكافأة لأنه لا يوجد شيئًا يقودنا إلى الله بهذا االقدر الكبير، ويجعلنا مثل الآب، إلاّ تحقيق هذا الأمر (أى الصلاة من أجل الذين يسيئون إلينا). ولهذا فإن بولس عندما قال: ” فكونوا متمثلين بالله “[5]. هكذا يقول أن تصيروا متمثلين به (في هذا الأمر). من المؤكد أننا في احتياج لكل الإمكانات، خاصةً من حيث المحبة للبشر والوداعة، لأننا نحن أنفسنا نحتاج لمراحم كثيرة. خاصةً لأننا نرتكب خطايا عديدة كل يوم، ولهذا نحتاج لرأفة كبيرة. لكن الكثير، والقليل لا يُحكم عليه بمعيار أولئك الذين يأخذون، بل بمقدار ثروة الذين يعطون. إذًا فلا الغني يفتخر، ولا الفقير يشعر بنقص، عندما يعطي قليلاً، لأنه في مرات كثيرة، يكون قد أعطى أكثر من الغني.
ولا ينبغي أن نتضايق بسبب الفقر، لأنه يجعل عمل الرحمة بالنسبة لنا أكثر سهولة. لأن ذاك الذي يمتلك الكثير يسود عليه الزهو، وتتمكن منه رغبة الحصول على المزيد، بينما مَن يملك القليل فهو متحرر من هاتين الصفتين المذلتين، ولهذا يجد دوافع أكثر لكي يُقدم إحسانًا. لأن هذا الفقير سيذهب إلى السجن بسهولة ليفتقد المساجين، وسيزور المرضى، وسيُقدم ماء باردًا، أما الغني فلن يقبل أن يفعل أى شئ من كل هذا، لأنه منشغل بالغنى. إذًا ينبغي ألا تتضايق بسبب الفقر، وأن التجارة في الأمور السمائية، ستجعل عمل الرحمة بالنسبة لك أكثر سهولة. وإن كنت لا تملك أى شئ، لكن تملك نفسًا تشارك في أحزان الآخرين، فسيهبك الله مكافاة لهذا. ولذلك فإن ق. بولس أوصانا أن نبكي مع الباكين، ومع المحبوسين، كأننا محبوسين معهم. لأنه يجب على الإنسان ليس فقط أن يحمل تعزية لكل من يبكي، إذ يوجد كثيرون ممن يشاركون في الأحزان، بل عليه أيضًا أن يقدم تعزية لكل من يوجد في حالات أخرى صعبة. لأنه في بعض الحالات، يمكن للكلمة أن تُشدد الحزين، بصورة ليست أقل من تأثير المال.
ولهذا فقد أوصانا الله أن نُُعطى أموالاً لأولئك الذين هم في احتياج، لا لكي نصحح فقط من أوضاعهم الفقيرة، بل ولكي يُعلّمنا أن نشارك القريب أحزانه. ولهذا فإن البخيل مكروه، لا لأنه يبغض الفقراء فقط، بل لأنه يُحرّض على القسوة والوحشية بشدة. أما الذي يحتقر المال ويوزعه على الفقراء، فهذا يصبح محبوبًا، لأنه يصير رحيمًا، ومحبًا للناس. بل والمسيح حين يُطوّب الرحماء، يُطوّب ويمتدح ليس فقط كل من يرحم بالمال، بل وكل الذين يفعلون هذا برغبتهم أو اختيارهم. ليتنا نقدم هذه الرغبة إذًا بشكل لائق لعمل الرحمة، وعندئذٍ ستتبع ذلك كل الخيرات. لأن مَن له رغبة حب الناس ومشاركتهم أحزانهم، إن كان يمتلك أموالاً، سيُعطي بوفرة، وإن رأى أحدًا في كارثة، سيبكي ويحزن، وإن تقابل مع شخص مظلوم سيحميه أو سيدافع عنه، وإن رأى شخصًا يُساء إليه بقسوة سيمد له يد العون. لأنه يملك كنز الصالحات، أى نفس مُحبة للبشر ومشاركة في أحزانهم، وسيتدفق من هذه النفس، أى من هذا النبع، كل ما هو لخدمة اخوته، وسيتمتع بكل المكافأت التي هى عند الله.
لكي نحقق نحن أيضًا هذا، لنجعل أنفسنا قبل كل شئ مشاركة في الأحزان. لأنه هنا في هذه الحياة الحاضرة سننال خيرات لا تُحصى، وسنحصل على مجازاة الدهر الآتي، فليتنا ننالها جميعًا بالنعمة ومحبة البشر اللواتي لربنا يسوع المسيح الذي يليق به مع الآب والروح القدس المجد إلى دهر الدهور آمين.
[1] رو5:9.
[2] انظر 1تيمو2:1.
[3] مت48:5.
[4] مت44:5.
[5] أف1:5.