رسالة رومية الأصحاح11 – عظة20 ج3 – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب
رسالة رومية الأصحاح11 – عظة20 ج3 – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب
رسالة رومية الأصحاح11 – عظة20 ج3 – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب
بقية العظة العشرين:
6 ـ ” فستقول قُطعت الأغصان لأُطعم أنا ” (رو19:11).
مرة أخرى يُبيّن عكس ما سبق، في شكل تباين، لكي يُظهر أن كل ما قيل في الجزء السابق مباشرةً، لم يذكره بدون سبب، بل لكي يجذبهم إلى جانبه. إذًا ليس بزلة اليهود، قد أتى الخلاص إلى الأمم، ولا بزلتهم صار الغنى للعالم، ولا لهذا قد خَلُصنا، أى لا لأنهم سقطوا، بل العكس هو ما حدث. ويُبيّن أن عناية الله بالأمم قد استُعلنت من قبل، وإن كان من الواضح أنه يعرض لهذه الأقوال بمعنى مختلف، وكل هذا الجزء يكتبه في شكل مفارقات، محررًا نفسه من شبهة العداء أو البغضة لليهود، ويجعل كلامه سهل القبول. ثم بعد ذلك يُخيف قائلاً:
” حسنًا من أجل عدم الإيمان قطعت وأنت بالإيمان ثَبَت ” (رو20:11).
ها هو مرة أخرى، يقدم مدحًا آخر، وإدانة لآخرين. لكنه أيضًا يضبط افتخارهم، فيُضيف قائلاً: ” لا تستكبر بل خف “. لأن الأمر لا يعتبر نتيجة طبيعية، بل يرتبط بالإيمان او عدم الإيمان. ويتضح بالطبع أنه يُغلق فم القادم من الأمم، بل ويُعلم اليهودي أنه لا ينبغي أن يهتم بالقرابة الطبيعية. ولهذا أضاف ” لا تستكبر ” ولم يقل اظهر تواضعًا، بل قال ” خف “، لأن الاستكبار يُثير احتقارًا ولامبالاة.
بعد ذلك أراد أن يحكي لهم مآساتهم حتى يجعل كلامه أقل إزعاجًا فيتوجه إلى الأممي في شكل تأنيب قائلاً: ” لأنه إن كان الله لم يُشفق على الأغصان الطبيعية “، ولم يقل ولا عليك شيُشفق، لكنه قال:
” فلعله لا يشفق عليك أيضًا ” (رو21:1).
مخففًا هكذا من ثقل الكلام، وواضعًا المؤمن في حيرة، وأيضًا لكي يجذب هؤلاء اليهود ويضبطهم.
” فهوذا لطف الله وصرامته. أما الصرامة فعلى الذين سقطوا. وأما اللطف فلك إن ثبت في اللطف وإلاّ فأنت أيضًا ستُقطع ” (رو22:11).
لم يقل انظر إذًا إلى ما أنجزته، انظر إذًا إلى أتعابك، لكنه قال “لطف الله”، مُظهرًا أن كل شئ مدين لنعمة الله، ويهيئه كي يخيفه. هذا بالضبط هو سبب الافتخار، أن يجعلك تخاف لأن الرب أظهر لطفًا نحوك ولهذا يجب أن تخاف. لأن النعم لا تبقَ ثابتة فيك، إن كنت لا تهتم بها، وبالمثل فإن الشرور لا تظل ثابتة لدى هؤلاء اليهود إذا غيّروا من رغبتهم. وأنت أيضًا إن لم تبقى في الإيمان، فستُقطع.
” وهم إن لم يثبتوا في عدم الإيمان سيُطعمون ” (رو23:11).
لأن الله لم يقطع هؤلاء اليهود، لكنهم هم قد قطعوا أنفسهم وسقطوا. وبالصواب قال “قُطعوا”، لأنه لم يحدث أبدًا أن قطعهم الله هكذا، وإن كانوا مرات عديدة قد ارتكبوا خطايا كثيرة. أرأيت مقدار قوة الاختيار؟ أرأيت مدى سيادة الرغبة؟ لأنه لا يوجد شئ ثابت من كل هذا، لا صلاحك أنت ولا شروره. أرأيت كيف أقام ذلك البائس، وضبط ذلك الذي يمتلك الجرأة؟ إذًا فأنت أيضًا لا يجب أن تيأس عندما تسمع عن الصرامة، ولا تغتر بشجاعتك حين تسمع عن اللطف. ولهذا قد قطعك فجأة، لكي تتمنى أن تعود مرة أخرى، وكذلك أظهر لطفًا نحوك، لكي تبقى ثابتًا. ولم يقل في الإيمان، لكنه قال “في اللطف” أى إن عملت أعمال تستحق لطف الله، لأن الأمر لا يحتاج إيمانًا فقط.
أرأيت كيف أنه لم يترك هؤلاء اليهود في وضع متأزم، ولا ترك أولئك الأمم أن يفتخروا، بل وبَّخ غيرة اليهود والأمم معًا، مُعطيًا لليهودي إمكانية أن يقف مكان الأممي، تمامًا مثلما يأخذ الأممي وضع اليهودي؟ ويُخيف القادم من الأمم، عن طريق كل ما قد حدث لليهود، لكي لا يفتخر في مواجهتهم، بينما بالنسبة لليهودي، فيُعده لكي يتشجع بكل ما أُعطى للأممي. لأنه بالحقيقة، كما يقول ق. بولس، وأنت أيضًا ستُقطع، إن كنت لا تُبالي، كما قُطع اليهودي، وذاك اليهودي سيُطعم، لو أنه آمن، كما طُعمت أنت. حوّل القديس كلمته بحكمة كبيرة نحو القادم من الأمم، الأمر الذي اعتاد دومًا أن يفعله، مُصلحًا الضعفاء، من خلال تأنيب الأقوياء. هذا يفعله في نهاية الرسالة، متكلمًا عن التمييز بين الأطعمة.
7 ـ ثم يبرهن على ذلك ومن خلال الأمور السابقة ، وليس فقط من خلال الأمور المستقبلية، الأمر الذي أقنع بالأكثر المستمع إليه. وأراد ان يطرح سلسلة أفكار غير متعارضة، فيُشير أولاً إلى الدليل على ما يقوله من خلال قوة الله. ويوصي بعدم اليأس حتى وإن كان اليهود قد قُطعوا ورُفضوا، وآخرون أخذوا ما لهم. ” لأن الله قادر أن يُطعّمهم أيضًا “، ذاك إذًا يصنع ما يعلو على كل رجاء. لكن إن كنت تطلب ترتيب الأمور، وتتابع الأفكار، فلك أن تُحقق ذلك بغنى من خلال طبيعة المثل الذي يذكره.
” لأنه إن كنت أنت قد قُطعت من الزيتونة البرية حسب الطبيعة وطعّمت بخلاف الطبيعة في زيتونة جيدة فكم بالحرى يطعم هؤلاء الذين حسب الطبيعة في زيتونتهم الخاصة ” (رو24:11).
لأنه إن كان الإيمان قد انتصر على ما هو بخلاف الطبيعة، فبالأكثر سينتصر على ما هو موافق للطبيعة. إذًا لو أن ذاك الأممي، بعدما قُطع من آبائه بحسب الجسد، وأتى بخلاف طبيعته إلى الإيمان الذي كان لإبراهيم، فبالأكثر جدًا ستستطيع أنت أن تأخذ مرة أخرى ما هو لك. لأن شر الأممي كان طبيعيًا، لأنه بطبيعته كان زيتونة برية، بينما الصلاح كان بخلاف طبيعته، إذ على خلاف طبيعته طُعم في إبراهيم، أما صلاحك فهو على العكس من ذلك فهو بحسب طبيعتك، لأنك لن تُطعم في أصل غريب، مثل الأممي، بل في أصلك أنت (أى إبراهيم)، إن كنت تريد أن ترجع مرة أخرى. إذًا لماذا تكون مستحقًا أن تطعم، في حين أن الأممي يستطيع أن يحقق ما هو على خلاف طبيعته، بينما أنت لا تستطيع أن تُحقق ما هو وفقًا لطبيعتك، بل تخونه؟
ولكي لا تعتقد أن اليهودي يمتلك شيئًا أكثر نظرًا لأنه قال “بخلاف الطبيعة” و “طُعّمت”، فهو يصحح هذا الأمر مرة أخرى، ويقول إنه يطعم اليهودي أيضًا: ” فكم بالحرى يطعم هؤلاء الذين هم حسب الطبيعة في زيتونتهم الخاصة “. وأيضًا ” الله قادر أن يطعمهم “. إلاّ أنه قال قبل ذلك، إن لم يبقوا في عدم إيمان، فإنهم سيطعمون. وعندما تسمع ق. بولس يتحدث دائمًا عن تعبير “بخلاف الطبيعة”، و”بحسب الطبيعة”، لا تتصور أنه يقصد تلك الطبيعة الثابتة، لكنه من خلال أفعال وأوصاف، يعلن عن الطبيعي، كما يُعلن عن غير الطبيعي أيضًا ” لأن الأمور الصالحة، والأمور الشريرة، ليس شيئًا طبيعيًا، بل هى تعتمد على الإرادة والاختيار فقط “. لكن انتبه إلى ق. بولس هذا الإنسان الرقيق، لأنه بعدما قال وأنت أيضًا ستُقطع، إن لم تبقَ في الإيمان، وأولئك اليهود سيُطعمون، إن لم يبقوا في عدم الإيمان، فهو يتجاوز الأمر الأكثر حزنًا، ويقدم الأمر الأكثر صلاحًا أو نفعًا، ويُنهي به حديثه، معطيًا رجاء كبيرًا لليهود، إن أرادوا ذلك.
ولهذا يُضيف ويقول:
” فإني لست أريد أيها الاخوة أن تجهلوا هذا السر لئلا تكونوا عند أنفسكم حكماء ” (رو25:11).
يقصد بالسر هنا السر غير المعروف والمكتوم الذي يثير الدهشة والتعجب تمامًا مثلما يقول في موضع آخر: ” هوذا سر أقوله لكم. لا نرقد كلنا ولكننا كلنا نتغير “[1]. إذًا ما هو هذا السر؟ ” أن القساوة قد حصلت جزئيًا لإسرائيل “. هنا أيضًا يوجه ضربة لليهودي، معطيًا إنطباع أنه يضبط القادم من الأمم. إن ما يقوله يعني تحديدًا ما سبق وقاله، أن عدم الإيمان لم يسرِ على الجميع، بل على جزء واحد فقط، كما قال: ” ولكن إن أحد قد أحزن فإنه لم يحزّني بل أحزن جميعكم بعض الحزن “[2]. هكذا هنا أيضًا، يقول نفس الشئ، الذي قاله في الجزء السابق ” لم يرفض الله شعبه الذي سبق فعرفه “، وأيضًا: ” ألعلهم عثروا لكي يسقطوا ” ويكون سقوطهم تام؟ حاشا. هذا ما يقوله هنا، أى أنه لم يرفض كل الأمة، بل وكثيرون قد آمنوا بالفعل، وأن كثيرين سيؤمنوا.
8 ـ ولأنه وعد بشئ عظيم، فهو يستشهد بعد ذلك بالنبي الذي يقول الآتي: فمن حيث إن القساوة قد حصلت جزئيًا، فهو لا يقدم شهادة على ذلك، لأن هذا الأمر كان واضحًا للجميع، أما من جهة أنهم سيؤمنون، وسيخلصون، يستشهد مرة أخرى بإشعياء الذي يصرخ ويقول:
” سيخرج من صهيون المنقذ ويرد الفجور عن يعقوب ” (رو26:11).
وبعدما أشار إلى الرمز المميز للخلاص، ولكي لا يذكره أحد ويربطه بالأزمنة السابقة، يقول:
” وهذا هو العهد من قبلي لهم متى نزعت خطاياهم ” (رو27:11).
هذا هو العهد الذي صار لهم، لا عندما اختتنوا، ولا عندما قدموا ذبائحهم، ولا عندما تمموا وصايا الناموس الأخرى، بل عندما نالوا غفرانًا لخطاياهم. إذًا إن كان قد وعد بذلك، ولم يتحقق فيهم الوعد حتى الآن، ولم يتمتعوا بالغفران الذي أُعطى بالمعمودية، إلاّ أنه سيتحقق على أية حال. ولهذا فقد أضاف:
” لأن هبات الله ودعوته هى بلا ندامة ” (رو29:11).
ولم يعزيهم فقط بهذا، لكن بذلك الذي حدث بالفعل، وهذا الذي حدث كشئ لاحق، يذكره كأمر أوّلي، قائلاً:
” من جهة الإنجيل هم أعداء من أجلكم. وأما من جهة الاختيار فهم أحباء من أجل الآباء ” (رو28:11).
إذًا لكي لا يفتخر القادم من الأمم، قائلاً، إنني مُدعَّم ومسنود، لا تقل لي ما الذي سوف يصير، لكن ماذا صار. ومن هنا يضبط ذاك الأممي بقوله: ” من جهة الإنجيل هم أعداء من أجلكم “. إذًا لأنكم دُعيتم أنتم، فقد صار هؤلاء اليهود بالأكثر أعداء. لكن ولا هكذا توقفت دعوة الله لكم، لكنه ينتظر أن يأتي كل أولئك الذين سيؤمنون من الأمم، وحينئذٍ سيأتي أيضًا هؤلاء اليهود. ثم بعد ذلك يقدم لهم خدمة أخرى قائلاً: “ وأما من جهة الاختيار فهم أحباء من أجل الآباء“. وما معنى هذا؟ أى أنه من حيث إنهم أعداء، توجد عقوبة لهم، لكن من حيث إنهم أحباء، فإن فضيلة آبائهم ليست لها أى علاقة بهم، إن لم يؤمنوا. لكن وكما سبق وأن أشرت، لم يتوقف ق. بولس عن أن يُعزيهم بالكلام، لكي يجذبهم إلى الإيمان. ولهذا يبرهن على ما سبق من موضع آخر بقوله:
” فإنه كما كنتم أنتم مرة لا تطيعون الله ولكن الآن رحمتم بعصيان هؤلاء. هكذا هؤلاء أيضًا الآن لم يطيعوا لكي يُرحموا هم أيضًا برحمتكم ” (رو30:11ـ31).
هنا يُبيّن أن الأمم دُعوا أولاً، ثم بعد ذلك بسبب عدم قبولهم الدعوة، فقد اختار الله اليهود، ونفس الأمر حدث بعد ذلك. أى نظرًا لأن اليهود لم يريدوا أن يؤمنوا، قاد الله الأمم أيضًا للإيمان. لكنه لم يتوقف عند هذا الحد، ولا برفضهم ينتهي كل شئ، بل إن هؤلاء أيضًا سيُرحمون. لاحظ مقدار ما يقدمه للأمم، كما قدم في السابق لليهود. لأنه يقول، أنتم أيها الأمم لم تطيعوا مرة، فأتى اليهود للإيمان، ولأن اليهود أيضًا لم يطيعوا، أتيتم أنتم للإيمان. لكن من المؤكد أنهم لن يهلكوا في النهاية. ” لأن الله أغلق على الجميع معًا في العصيان لكي يرحم الجميع “. أى أنه بكّتهم، وأظهر أنهم قد عصوا، لا لكي يبقوا في العصيان، بل لكي يُخلّص الآخرين بعصيانهم، يُخلّص هؤلاء بأولئك، وأولئك بهؤلاء. ولاحظ قوله، عصيتم أنتم الأمم وخلص هؤلاء، وأيضًا هؤلاء اليهود عصوا، وأنتم الأمم خلصتم. لكن لم تخلصوا هكذا، حتى تبتعدوا مرة أخرى، تمامًا مثل اليهود، لكن لكي تجذبوا هؤلاء اليهود، وأنتم ثابتين في غيرتكم الإيمانية.
[1] 1كو51:15.
[2] 2كو5:2.