رسالة رومية الأصحاح11 – عظة20 ج2 – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب
بقية العظة العشرين:
4 ـ ” فإن كانت زلتهم غنى للعالم ونقصانهم غنى للأمم فكم بالحرى ملؤهم” (رو12:11).
إنه يتكلّم هنا برفق عن هؤلاء. لأنهم وإن أخطأوا آلاف المرات، فلن يخلّص الأمم إن لم يظهروا إيمانًا، كما أنه من المؤكد أيضًا أن اليهود ما كانوا قد ضلوا لو لم يرفضوا الإيمان، ولو لم يتنازعوا فيما بينهم. لكن كما سبق وأشرت، أنه يُعزيهم، بينما هم محبطين، ويُعدّهم لمستوى أسمى، بألا يخافوا على خلاصهم، إن غيّروا رؤيتهم وآمنوا بالمسيح. إذًا إن كانوا عندما رفضوا، قد دُعوا إلى هذا المستوى، فكّر ما الذي سوف سيحدث حين يعودون. لكنه لم يقل هذا، أى أنه لم يقل عندما يعودوا. لأنه لم يقل كم بالحرى عودتهم، ولا تحوّلهم، ولا تمكّنهم من تحقيق شئ، لكنه قال ” كم بالحرى ملؤهم “، أى عندما سيحدث أن يأتوا جميعًا. هذا قاله، لكي يُظهر أن الأكثرية سترتبط عندئذٍ بنعمة الله، وعطية الله، بل بالحري كأنه يقول إنهم سيرتبطون بهذه النعمة.
” فإني أقول لكم أيها الأمم بما إني رسول للأمم أمجد خدمتى لعلي أغير أنسبائي وأُخلص أناسًا منهم ” (رو13:11ـ14).
مرة أخرى يحاول أن ينفي عن نفسه أى شبهة سيئة. ومن الواضح أنه يوبَّخ المسيحيين الذين أتوا من الأمم، معلّمًا إياهم أن يتضعوا في تصرفهم، بينما يثير اليهود رويدًا رويدًا، ويحاول أن يُحد وأن يُقلل من هلاكهم بهذا القدر الكبير، إلاّ أنه لم يجدهم جديرين بشئ بسبب طبيعة أوضاعهم. إذ كانوا يستحقون إدانة أكبر من التي ذكرها، لأن الأمور التي كانت مُعدة لهم، قد أخذها آخرون وإن كانوا في مرتبة أدنى منهم. ولهذا انتقل من الحديث عن اليهود، وذهب إلى المسيحيين الذين أتوا من الأمم، وبدأ يحصر حديثه فيهم، لأنه أراد أن يبرهن لهم، أنه يقول كل هذه الأمور، لكي يُعلّمهم أن يكونوا مُتضعين. لأنه يقول، إني أمتدحكم لأمرين، الأول لأنني تعهدت بخدمتكم، والثاني، لكي أُخلص آخرين بواسطتكم. ولم يقل اخوتي وأقاربي، لكن ” أنسبائي (حسب الجسد) “.
ثم بعد ذلك، لكي يُظهر نزاعهم، لم يقل ربما أُقنع، لكنه قال ” لعلي أُغير .. وأخلّص ” ولم يتكلم هنا عن الجميع، بل عن “أناسًا منهم”. كم كانوا قساة. لكنه بهذا التوبيخ يُظهر أيضًا الأمور المشرقة المختصة بالأمم، الذين قد صاروا سببًا لخلاص هؤلاء (اليهود). أى بينما صار اليهود دافعًا لخيرات كثيرة للأمم بسبب عدم إيمانهم، إلاّ أن أولئك الأمم صاروا سببًا لخلاص اليهود بسبب إيمانهم. وبناء على ذلك فمن الواضح أن الأمم لهم نفس الاستحقاق، بل وأسمى. إذًا ماذا يمكن أن تقول أيها اليهودي، حسنًا ما الذي سوف تقوله، لو أننا نحن اليهود لم نرفض، لما دعيتم أيها الأمم؟ نفس الأمر يقوله المسيحي القادم من الأمم، لو لم أخلص أنا لما كانت لك غيرة نحو الخلاص؟ لكن إن كنت تريد أن تعرف الأمر الذي لأجله نحن أسمى، أقول لك لأنني آمنت، منحتك فرصة للخلاص في حين أنك حاربت الإيمان، فتنازلت لنا عن العبور إلى الإيمان قبلك.
5 ـ ثم بعد ذلك أيضًا، لأنه (أى ق. بولس) أدرك أنه أهانهم، كرر ما سبق قوله:
” لأنه إن كان رفضهم هو مصالحة العالم فماذا يكون اقتبالهم إلاّ حياة من الأموات ” (رو15:11).
لكن هذا أيضًا قد أدان اليهود، طالما أن آخرين ربحوا بسبب خطاياهم بينما هم لم يستفيدوا مما حققه غيرهم. يصيغ الرسول كلامه بهذه الطريقة، وهو الأمر الذي قلته مرات عديدة حتى يحفظ هؤلاء الأمم في الإيمان، ويحث أولئك اليهود على قبول الإيمان. لأنه كما سبق وأشرت، لو أن اليهود كانوا قد رُفضوا مرات عديدة، ولو أن الأمم لم يقبلوا الإيمان، ما كان لليهود أن يخلصوا أبدًا. لكن الرسول، يظهر عون ومساعدة للجزء الضعيف، ويساعد ذاك الذي يتألم. لكن لاحظ كيف أنه يمنحهم عونًا، معزيًا هؤلاء بالكلام فقط: ” إن كان رفضهم هو مصالحة للعالم “. وأى علاقة لهذا باليهود؟ ” فماذا يكون اقتبالهم إلاّ حياة من الأموات؟ ” لكن هذا أيضًا لم ينفعهم في شئ، إن لم يصيروا مقبولين لدى الله بالإيمان.
ما يقوله يعني الآتي: إن كان الله عندما غضب على هؤلاء اليهود، منح آخرين عطايا كثيرة جدًا، حين تصالح معهم، فهل هناك شئ لم يقدمه؟ لكن كما أن قيامة الأموات لن تحدث بسبب انضمام هؤلاء اليهود، هكذا فإنه حتى خلاصنا الآن لن يتم بسببهم. هؤلاء اليهود رُفضوا بسبب حماقتهم، بينما نحن خَلُصنا بسبب إيماننا، وبسبب نعمة الله. لكن لا شئ من كل هذا، يمكن أن يُفيد هؤلاء اليهود، إن لم يُظهروا الإيمان اللائق. لكن بالإضافة إلى هذا الأسلوب الخاص به، فهو يوجَّه كلمته لمديح آخر، والذي ليس هو بالمديح، لكنه يبدو كذلك، ويحاكي الأطباء المتميزين، الذين يطمئنون المرضى كثيرًا، بقدر ما تسمح به طبيعة المرض. إذًا ماذا يقول؟:
” وإن كانت الباكورة مقدسة فكذلك العجين. وإن كان الأصل مقدسًا فكذلك الأغصان ” (رو16:11).
هو هنا يقول إن إبراهيم، واسحق ويعقوب والأنبياء، والبطاركة، وكل هؤلاء الذين ابتهجوا في العهد القديم، هم الباكورة والأصل، بينما الأغصان هم أحفادهم الذين آمنوا.
ولأنه كان ضد فكرة أن كثيرين لم يؤمنوا، لاحظ كيف أنه يُحدد أو يحصر هذا الأمر أيضًا بقوله:
” فإن كان قد قُطع بعض الأغصان ” (رو17:11).
قد قال قبلاً إن كثيرين هلكوا، وقليلين خلصوا، إذًا كيف تُشير هنا لهؤلاء الذين هلكوا بأنهم “بعض”، الأمر الذي يُشير إلى عدد قليل؟ الرسول هنا لا يناقض نفسه بنفسه، لكن ما يفعله هو أنه يحاول أن يُعالج وأن يُقوي الضعفاء. أرأيت كيف أنه في كل هذا الجزء، كما هو واضح يسعى نحو تحقيق هذا الهدف، أى أنه يُريد أن يُعزي هؤلاء اليهود؟ وإن رفضت هذا المنطق، فسيتبع هذا تناقضات كثيرة. لكن أرجو أن تنتبه إلى حكمته، كيف يبدو أنه يمتدحهم ويقصد تعزيتهم، إلاّ أنه يؤنبهم بطريقة غير مدركة، ويُبيّن أنه ليس لديهم ما يدافعوا به عن أنفسهم، من الأصل ومن الباكورة. أى فكّر أو تأمل في خبث الأغصان، حين تحاول أن تتخذ شكل الأصل المقدس، وكذلك العجين الشرير حين لا يتغير، رغم كون الباكورة مقدسة.
يقول ” فإن كان قد قُطع بعض الأغصان ” ولكن الجزء الأكبر قد قُطع، هو هنا أراد أن يُعزيهم، وهو ما سبق وأشار إليه. ولهذا لم يُقدم الكلام باعتبار أنه صادر منه، بل من هؤلاء (أى من الأنبياء)، حتى يتمكن بذلك أن يقترب من اليهود بطريقة خفية، ولكي يُظهر أنهم قد فقدوا قرابتهم لإبراهيم لأن هذا هو ما أراد أن يقوله، إنه ليس لهم أى شئ مشترك مع هؤلاء الأنبياء. لأنه إن كان الأصل مقدس، إلاّ أن هؤلاء اليهود ليسوا قديسين، إذًا فهم بعيدون عن الأصل. وبعد ذلك، وبينما يبدو أنه يُعزى اليهودي، إلاّ أنه يوجَّه مرة أخرى نقدًا للقادمين من الأمم. لأنه بعدما قال: “ فإن كان قد قطع بعض الأغصان” أضاف “وأنت زيتونة برية طُعمت فيها” لأنه بقدر ما يكون ذاك الذي يأتي من الأمم هو صغير القيمة، بقدر ما يحزن اليهودي بالأكثر، إذ ينظر أن الأممى يتمتع بكل ما كان لليهودي. أما بالنسبة للأممي فهو لا يخجل من تفاهته بهذا القدر الكبير، إذا ما قورن بالكرامة التي نالها بتحوّله عن طريق الإيمان. ولاحظ حكمة ق. بولس، لم يقل زُرعت أو غُرست لكنه قال “طُعمت”. فيجرح اليهودي مرة أخرى بهذا الأمر، ويُظهر أن القادم من الأمم هو فوق شجرة اليهودي، بينما ذلك اليهودي هو على الأرض. لهذا تحديدًا لم يتوقف عند هذا الحد، ولا بعدما قال “طُعمت” توقف، برغم من أنه قد عبّر عن كل شئ بهذا التعبير، لكنه يُصّر على هذه الغبطة التي نالها الأممي، ويُزيد من ارتقائه قائلاً: ” فصرت شريكًا في أصل الزيتونة ودسمها “. ومن الواضح أنه وضعه، كإضافة، لكنه يُظهر أن الأممي لم يُصبه ضرر على الإطلاق، بل قد نال كل شئ، بنفس القدر الذي يناله الغصن الذي نبت من الأصل.
ولكي لا تعتقد، وأنت تستمع إلى عبارة “وأنت .. طُعمت”، أن ذلك إقلال من قدر الأممي، مُقارنًا إياه بالغصن المزروع، لاحظ كيف يُساويه بالأصل، قائلاً: ” فصرت شريكًا في أصل الزيتونة ودسمها ” أى أنه وصل إلى نفس الأصل النبيل، ونفس الطبيعة. ثم يُبكّته فيما بعد قائلاً:
” فلا تفتخر على الأغصان ” (رو18:11).
الواضح أنه يُعزي اليهودي، لكنه في نفس الوقت يُظهر قيمة الأممي التافهة، وخزيه الكبير. ولهذا لم يقل “لا تتباهى”، بل قال “لا تفتخر”، لا تفتخر في مواجهة اليهود، لكي لا يرفضوك، خاصةً وأنت موجود فوق شجرتهم، وتتمتع بما لديهم. أرأيت كيف يبدو أنه يُبكّت اليهود، لكنه يوبّخ هؤلاء الأمم؟ ” إن افتخرت فأنت لست تحمل الأصل بل الأصل إياك يحمل “. إذًا ما هى العلاقة بين هذا، وبين الأغصان التي قُطعت؟ لا توجد أى علاقة. لأنه كما سبق وأشرت، من الواضح أنه يُشير إلى شجرة تين ضعيفة وذلك لأجل التعزية، ويتوجّه إلى ذاك القادم من الأمم، ويوجه له لطمة شديدة. لأنه بعدما قال “فلا تفتخر” وأنه “إن افتخرت فأنت لست تحمل الأصل”، فقد أظهر لليهودي أن كل ما حدث (أى إيمان الأمم) يدعو إلى الافتخار، وإن كان لا يجب أن يفتخروا (أى الأمم)، وفي نفس الوقت يدفعه (أى اليهودي) ويحثه على الإيمان، واضعًا إياه في وضع المدافع، ويبيّن له الضرر الذي أصابه، وأن ما لديه يمتلكه آخرون.