رسالة رومية الأصحاح11 – عظة20 ج1 – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب
رسالة رومية الأصحاح11 – عظة20 ج1 – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب
رسالة رومية الأصحاح11 – عظة20 ج1 – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب
العظة العشرون:
1 ـ ” فماذا. ما يطلبه إسرائيل لم ينله؟ ولكن المختارون نالوه. واما الباقون فتقسوا ” (رو7:11).
قال الرسول بولس إن الله لم يُبعد شعبه بعيدًا عنه، ولكي يُظهر كيف أنه لم يرفضه، لجأ مرة أخرى إلى الأنبياء. وبعدما أعلن مع هؤلاء، أن الجزء الأكبر من اليهود قد هلكوا، ولكي لا يظهر أيضًا أنه يعبر عن الإدانة بشكل شخصي، وأنه يتعمد أن يجعل كلامه قاسيًا، ويتوجه نحوهم كعدو، فإنه يلجأ إلى داود وإشعياء، قائلاً:
” كما هو مكتوب وأعطاهم الله روح سبات ” (رو8:11).
لكن من الأفضل أن نبدأ الحديث من الأمور القديمة. لأنه بعدما قال الأمور التي تتعلق بإيليا، وبعدما أظهر ماهية النعمة، أضاف ” فماذا ما يطلبه إسرائيل لم ينله “؟ إلاّ أن هذا لا يقوله إنسان يسأل، بل إنسان يُدين. لأنه يتحدث لنفسه، إن اليهودي يصارع من أجل طلب البر، الذي لا يريد أن يأخذه. ثم بعد ذلك يحرمهم أيضًا من الصفح. مُظهرًا جحودهم بالمقارنة بهؤلاء الذين نالوا البر، قائلاً: “ولكن المختارون نالوه“. وهؤلاء المختارون قد أدانوا أولئك الجاحدين. هذا ما قاله المسيح له المجد بالضبط ” فإن كنت أنا ببعلزبول أخرج الشياطين فأبناءكم بمن يخرجون لذلك هم يكونون قضاتكم “[1].
إذًا لكي لا يتهم أحدًا طبيعة الشئ، بل يُدين رغبتهم، فهو يُشير أيضًا إلى أولئك الذين نالوه (أى البر). ولهذا يستخدم الكلمة بتشديد كبير جدًا، لكي يُظهر نعمة الله، ويُظهر محاولتهم أيضًا. وبالطبع فهو لا يريد أن يُبطل حرية الإرادة، لذلك قال نالوه، بل لكي يُعلن أيضًا عن مقدار الخيرات أو النعم، وأن الجزء الأكبر مرتبط بالنعمة، وليس الكل. خاصةً وأننا اعتدنا أن نقول، إن فلانًا نال، وفلانًا حقق، عندما يكون الأمر متعلقًا بربح كبير جدًا. إن الجزء الأكبر لم يتحقق بجهد إنساني، لكن بالعطية الإلهية. ” أم الباقون فتقسوا “. انتبه متى تجرأ على الحديث عن رفض الباقين. لأنه تكلم عن الرفض من قبل حين عرض للأنبياء كديانيين. بل هو نفسه هنا، يُعبر عن رأيه. ولكنه لا يكتفي هنا أيضًا يعرض وجهة نظره، بل يُقدم إشعياء النبي لأنه بعدما قال “تقسوا” أضاف ” كما هو مكتوب أعطاهم الله روح سبات “.
ومن أين أتت هذه القسوة؟ لقد أورد الأسباب لاحقًا، وحوّل كل شئ ضدهم، مبيّنًا أنهم قبلوا هذا السبات بسبب منازعات باطلة، لكنه يُشير إليها الآن. لأنه عندما يقول: ” وعيونًا حتى لا يبصروا وآذانًا حتى لا يسمعوا “، فإنه لا يدين شيئًا، سوى رغبتهم في النزاع. لأنهم بالرغم من أن لهم عيونًا لكي يروا المعجزات، وآذانًا ليسمعوا كل التعاليم المدهشة، فإنهم لم يستخدموا أيًا من هذه الأمور كما ينبغي. وكلمة “أعطى” هنا لا تعني العمل، بل الرضا أو القبول. وكلمة “سبات” هنا، هى تعني أيضًا أسوأ ما في النفس، والذي هو عدم القابلية للشفاء، والجمود. كذلك فإن داود النبي يقول في موضع آخر ” لكي تترنم لك روحي ولا تسكت “[2]. أى لن أنتقل أو أتحول. لأنه تمامًا كما أن ذاك الذي تعمق في التقوى لا يستطيع ان ينتقل عنها بسهولة، هكذا من تعمق في الشر، لن يتحول عنه بسهولة. إذًا العمق ما هو إلاّ أن يثبت المرء في مكان ما، وأن يبقى راسخًا فيه. ولكي يعلن كيف أن رغبتهم غير قابلة للشفاء، وكم يصعب تغييرها، قال “روح سبات”.
2 ـ بعد ذلك، ولكي يُظهر أنهم سيعاقبون بأشد العقاب عن عدم الإيمان هذا، فإنه يعرض مرة أخرى للنبي الذي يُهدد بكل هذه الأمور التي تحققت واكتملت،
” لتصر مائدتهم فخًا وقنصًا وعثرة لتُظلم أعينهم لكي لا يبصروا ولتحن ظهورهم كل حين ” (رو9:11ـ10).
لتتحول وتتحطم كل المتع والخيرات، وليهزموا بسهولة من الجميع. ولكي يُعلن أنهم يدانون من أجل خطاياهم، عندما يعانون من هذه الأمور، أضاف ” ومجازاة لهم”. ” لتظلم أعينهم كي لا يبصروا ولتحن ظهورهم في كل حين “. إذًا هل تحتاج هذه الأمور لتفسير معين، أليست واضحة لدى أكثر الناس غباءًا؟ وقبل كلامنا عن هذا الشأن، فإن عاقبة الأمور تثبت وتؤكد ما قيل. إذًا متى صار من السهل هزيمتهم بهذا القدر؟ متى صاروا خانعين؟ متى انحنت ظهورهم إلى هذا الحد؟ متى عانوا مثل هذه العبودية؟ والأكثر من هذا، أنه لن يوجد خلاص من هذه المآسي، الأمر الذي أشار إليه النبي. لأنه لم يقل فقط ” لتحن ظهورهم ” بل قال أيضًا ” كل حين “.
لكن إن كنت أيها اليهودي تنازع حول النهاية، فلتعرف الأمور الحاضرة، عن طريق الأمور السابقة. لقد نزلت إلى مصر، ومرت مائتي عام، والله خلصك من تلك العبودية سريعًا، وكل هذا حدث، برغم من عدم تقواك، وممارستك لأسوأ أنواع الزنا. تحررت من مصر، وسجدت للعجل الذهبي، وضحيت بأبنائك للبعل (فاغور)، دنست الهيكل، ومارست كل أنواع الشرور، لم تعرف الطبيعة، والحدود، والوديان، والجبال، والمنابع، والأنهار. ملأت الحدائق بذبائح ملوثة، ذبحت أنبياء، هدمت مذابح، وأظهرت كل زنا وكل جحود بشكل مبالغ فيه. وعندما سلّمك إلى البابليين لمدة سبعين سنة، أعادك مرة أخرى إلى الحرية السابقة، اعادك إلى الهيكل والوطن، وإلى الشكل القديم من نظام الحكم، ومرة أخرى يعود الأنبياء وتعود نعمة الروح. وحتى في زمن السبي، لم يُترك، بل هناك كان دانيال، وحزقيال، وفي مصر كان إرميا، وفي البرية كان معك موسى. وبعد هذه الأمور أيضًا رجعت إلى الشرور السابقة، صرت مهووسًا، وانتقلت إلى طريقة الحياة الوثنية في عصر أنطيوخوس الجاحد. لكن بعد ثلاثة سنوات أو أكثر بقليل، من استسلامكم لأنطيوخوس، أقمتم النُصب مع المكابيين مرة أخرى.
أما الآن فلا يوجد شيئًا مثل هذا، لكن على العكس تمامًا فقد حدث ما يُدهش له المرء للغاية، إذ الشر قد انقضى، بينما العقوبة تزايدت، ولا يوجد رجاء للتغيير. لأنه قد انقضى سبعون عامًا، أو مائة، أو مائتان فقط، بل ثلثمائة عام وأكثر بكثير، وليس في مقدور أحد أن يجد ظلال مثل هذا الرجاء. وقد حدث كل هذا دون أن تكونوا وثنيين، ولا فعلتم الأمور الأخرى التي تجرأتم على فعلها من قبل. إذًا ما هو السبب في ذلك؟ السبب هو أن الحقيقة حلت محل الرمز، والنعمة أبعدت الناموس بعيدًا. هذه ما سبق وتنبأ به النبي منذ البداية، قائلاً: ” لتحن ظهورهم كل حين “. أرأيت مدى دقة النبوءة، كيف سبق وأنبأ بعدم الإيمان، وكشف عن النزاع وعن العقاب الذي سيتبع هذا، وأوضح الجحيم الأبدي؟ لأن كثيرين من الحمقى يتشككون فيما يختص بالدهر الآتي، ويريدون أن يروا هنا في هذه الحياة الحاضرة الأمور المستقبلية، والله قد أعطى من جهة الحاضر والمستقبل، الدليل على قدرته. فقد سما بأولئك الذين آمنوا من الأمم، أعلى من السماء، وهبط بأولئك الذين لم يؤمنوا من اليهود إلى عمق الهاوية، وسلّمهم إلى قيود الشر.
3 ـ بعدما بكّتهم بشدة، لعدم إيمانهم بتلك الأمور، وأيضًا بعدما تحدث عن تلك التي عانوها، والتي سوف يعانونها، فإنه يعزّيهم مرة أخرى بشان الأمور السابقة، قائلاً:
” ألعلهم عثروا لكي يسقطوا. حاشا ” (رو11:11).
عندما أظهر كيف أنهم مسئولون عن شرور كثيرة، فإنه قدّم التعزية. ولاحظ حكمة الرسول بولس. فهو يُشير للإدانة من قِبل الأنبياء، بينما التعزية يقدمها هو نفسه. لا يوجد من يعترض على أنهم ارتكبوا خطايا كبيرة، لكن لنرَ إن كان سقوطهم هو هكذا، حتى وإن كان سقوطًا فظيعًا وغير قابل للإصلاح، إلاّ إنه ليس كذلك. أرأيت كيف أنه يؤنّبهم مرة أخرى، وكيف أنه برجاء التعزية، يجعلهم مسئولين عن خطاياهم التي أقروا بإرتكابها؟ لكن لنرَ أية تعزية يقدّم لهم. فما هى هذه التعزية؟ هى أنه ” عندما يدخل ملؤ الأمم. هكذا سيخلص جميع إسرائيل ” أى زمن المجيء الثاني ونهاية العالم.
وهو لم يقل هذا مباشرة، إذ أنه إتهمهم بشدة، وأضاف إتهامات إلى الإتهامات، ويقدم أنبياء بعد أنبياء يصرخون ضدهم، إشعياء وإيليا وداود، وموسى وهوشع، يصرخون مرة ومرتين ومرات عديدة، ولكي لا يسحقهم هكذا، ويقودهم إلى اليأس، فهو يحضهم على الرجوع إلى الإيمان. وأيضًا لكي لا يقود أولئك الذين آمنوا من الأمم إلى الافتخار، إذ أنهم يؤذون أنفسهم عندما يفتخرون في موضوع الإيمان. لذلك يُعزيهم مرة أخرى، قائلاً: ” بل بزلتهم صار الخلاص للأمم “. لكن ينبغي علينا ألا نسمع هذا الكلام بغير اكتراث، بل يجب أن نعرف رغبة وهدف قائله، وماذا أراد أن يُحقق؟ إنه الأمر الذي أترجى محبتكم أن تعرفوه. لأنه لو قبلنا الأمور السابقة بهذا الفكر، فلن نجد أية صعوبة في أي منها. إن محاولته آنذاك، كانت تهدف إلى أن يبعد الزهو أو الافتخار الذي كان من الممكن أن ينشأ لدى المؤمنين القادمين من الأمم. لأن هؤلاء كان ينبغي أن يبقوا في إيمان راسخ بأكثر ثبات، بعدما تعلموا أن يكونوا متواضعين. أما أولئك القادمين من اليهود، فبعدما يتخلصون من اليأس، يأتون برغبة أكثر إلى النعمة.
فلننتبه إذًا إلى هذا الهدف، ولنستمع إلى كل ما يُقال في هذا الجزء. حسنًا ماذا يقول؟ ومن أين يتضح أنهم لم يسقطوا بصورة لا تقبل الاصلاح، وأنهم لم يُرفَضوا في النهاية؟ يتضح هذا، مما حدث للأمم، لأنه يقول ” بل بزلتهم صار الخلاص للأمم لإغارتهم “. وهذا الكلام لم ينادِ به الرسول بولس فقط، بل إن الأمثال التي ذُكرت في الأناجيل تقول نفس الشئ. لأن ذاك الذي صنع عرسًا لابنه، وحدث أن رفض المدعوون الدعوة، دعا الذين هم في مُفترق الطرق[3]. وذاك الذي غرس كرمًا، وحدث أن ذبح الكرامون الوارث، سلَّم الكرم لآخرين[4]. وبدون مثل قال عن الأمم “ لم أرسل إلاّ لخراف بيت إسرائيل الضالة “، ولإمرأة صرفة صيدا قال شيئًا أكثر من ذلك، قال: ” ليس حسنًا أن يؤخذ خبز البنين ويطرح للكلاب “[5].
هكذا تكلم ق. بولس أيضًا قائلاً لليهود الذين قاوموه: ” كان يجب أن تُكلّموا أنتم أولاً بكلمة الله ولكن إذ دفعتموها عنكم وحكمتم أنكم غير مستحقين للحياة الأبدية هوذا نتوجه إلى الأمم “[6]. ويتضح من كل هذا أن ترتيب كل هذه الأمور كان أن يأتي هؤلاء اليهود إلى الإيمان أولاً، ثم بعد ذلك يأتي الذين من الأمم. ولكن لأن اليهود لم يؤمنوا، فقد تغير هذا الترتيب، وتسبب عدم إيمانهم وخطيتهم في مجيء الأمم أولاً للخلاص. ولهذا يقول: ” بزلتهم صار الخلاص للأمم لإغارتهم “. لكن إن كان يُشير إلى الحدث الذي سيحدث، كما لو كان قد حدث بالفعل، فلا تشك، لأنه يُريد أن يُعزي نفوسهم المجروحة. وما يقوله يعني الآتي: إن يسوع أتى لليهود، ولم يقبلوه على الرغم من أنه صنع معجزات لا حصر لها، بل وصلبوه. بعد ذلك جذب الأمم حتى تسبب الكرامة التي أعطيت للأمم، في تحريك مشاعرهم المتجمدة وتقنعهم بأن يأتوا إلى الإيمان، على الأقل بتأثير الغيرة من الآخرين. لأنه كان ينبغي على اليهود أن يقبلوا المسيح أولاً، ثم نأتي نحن الأمم بعدهم، ولهذا قال ق. بولس ” لست أستحي بإنجيل المسيح لأنه قوة الله للخلاص لكل من يؤمن لليهودي أولاً ثم لليوناني“[7]، لكن لأن هؤلاء اليهود ابتعدوا، دخل الأمم إلى الإيمان أولاً. أرأيت مقدار الكرامة التي ينسبها لهؤلاء (أى للأمم) في هذه الحياة الحاضرة أيضًا؟ أولاً أننا دُعينا، عندما رفض هؤلاء اليهود الدعوة. ثانيًا من أجل هذا (أى من أجل أنهم رفضوا) دُعينا نحن، لا لكي نخلص نحن فقط، بل لكي يصير هؤلاء أفضل، عندما يغارون من خلاصنا. إذًا ماذا يقول؟ لو لم يكن اليهود هم السبب، هل ما كنا قد دعينا، وما كان لنا خلاص؟ ما كان سيدعونا قبل هؤلاء، لكن (كان سيدعونا) بحسب الترتيب الذي يجب أن يكون. لذلك عندما تكلم المسيح مع تلاميذه، لم يقل فقط، اذهبوا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة، بل قال ” اذهبوا بالحري إلى خراف بيت إسرائيل الضالة”[8]، أى يجب أن يذهبوا إلى خراف بني إسرائيل أولاً ثم بعد ذلك إلى خراف الأمم. والقديس بولس أيضًا لم يقل إنه كان يجب أن تُكلّموا بكلمة الله، بل قال ” كان يجب أن تُكلّموا أولاً بكلمة الله ” لكي يُبيّن أنه بعد الكلام بكلمة الله لليهود أولاً، بعد ذلك يجب أن يُكرز بالكلمة لنا نحن الأمم. وهذه الأمور قد حدثت وقيلت، لكي لا يكون لديهم حجة سمجة أو تافهة بأنه قد تجاهلهم لعدم إيمانهم. إذًا فلأجل ذلك، وبرغم أن المسيح كان يعرف كل هذا مسبقًا، إلاّ أنه جاء أولاً لليهود.
[1] لو19:11.
[2] مز12:30.
[3] مت1:22ـ14.
[4] مت33:21ـ36.
[5] مت24:15ـ26.
[6] أع46:13.
[7] رو16:1.
[8] مت6:10.