Site icon فريق اللاهوت الدفاعي

رسالة رومية الأصحاح11 – عظة19 ج3 – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب

رسالة رومية الأصحاح11 – عظة19 ج2 – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب

رسالة رومية الأصحاح11 – عظة19 ج2 – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب

 

          6 ـ لنشكر الله إذًا، لأننا نحن ضمن هؤلاء الذين خلصوا، فبرغم أننا لم نستطع أن نخلص بالأعمال، لكننا خلصنا بعطية الله. إلاّ أننا عندما نشكر، فينبغي ألا نشكر بالكلام فقط، بل بالأعمال والأفعال. لأن الشكر يكون صحيحًا، عندما نفعل الأمور التي بها يتمجد الله، وحين نتجنب الأمور العتيقة التي سبق أن تحرَّرنا منها. فرغم أننا كنا قد احتقرنا الملك، إلاّ أنه قد كرّمنا بدلاً من أن يعاقبنا، لكن  لو أننا احتقرناه مرة أخرى ـ عندما يتملّكنا أسوأ أنواع الجحود ـ فإننا سنُعَاقَب عن حق بأسوأ أنواع العقاب، وأكثر بكثير من السابق. لأن إساءتنا السابقة لم تُظهر لنا أننا جاحدين، بقدر الإساءة التي نوجّهها بعد الكرامة التي نلناها، والرعاية الكبيرة التي حصلنا عليها. لنتجنب إذًا تلك الأمور التي تحرَّرنا منها، ولا ينبغي أن نشكر فقط بالفم حتى لا يُقال لنا ” وهذا الشعب قد اقترب إليّ بفمه وأكرمني بشفتيه وأما قلبه فأبعده عني[1]. كيف إذًا لا يكون غريبًا عندما تُسبح السموات بمجد الله، تلك السموات التي خُلقت لأجل هذا الغرض، وأنت تصنع مثل هذه الشرور، حتى أنه يُجدف على الله الذي خلقك، بسببك؟

          ولهذا فإنه ليس فقط من يُجدف هو الذي سيُعَاقَب بل وأنت أيضًا. لأن السموات لا تسبح الله بالصوت، لكنها تُعد الآخرين لهذا التسبيح عندما ينظرون إليها، إلاّ أنه يُقال إن السموات تتحدث بمجد الله. هكذا كل من يحيا حياة الفضيلة بطريقة نقية، حتى وإن صمتوا، فإنهم يُمجدون الله، لأن بسببهم يُمجده آخرون أيضًا. لأنه لا يتمجد الله من السموات بنفس القدر الكبير، الذي يتمجد به عن طريق الحياة النقية. فعندما نتناقش مع اليونانيين، لا نُقدم لهم السماء، بل البشر، الذين سلكوا بصورة أسوأ من الوحوش، إلاّ أنهم تحوّلوا وصاروا في مرتبة متساوية مع الملائكة. وعندما نتكلم عن هذا التحول، فإننا نغلق أفواههم. لأن الإنسان هو أفضل بكثير من السماء، ويمكن أن يصبح أكثر بهاءً من جمال السماء. لأنهم كانوا قد نظروا إلى السماء سنوات عديدة، إلاّ أنها لم تُقنعهم كثيرًا، بينما الرسول بولس برغم أنه كرز لسنوات قليلة إلاّ أنه جذب كل المسكونة.

          بالحقيقة هو يحمل نفسًا ليست أقل من السماء، وقد استطاعت أن تجذب الجميع. أما نفوسنا نحن ليست مساوية في القيمة ولا حتى للأرض، بينما قيمة نفسه فهى مساوية السماء. لأن السماء مازالت تحتفظ بحدودها وقانونها، بينما سمو نفس ق. بولس فاق كل السموات، ودخلت نفسه في عشرة مع المسيح ذاته. وكان جمالها قد بلغ حدًا كبيرًا، حتى أن الله قد اختصه بالاختيار، لأن الملائكة قد اندهشت لجمال النجوم عندما خُلقت بينما الرسول بولس قد سُرّ به الله، قائلاً: ” هذا لي إناء مختار[2]. وهذه السماء تحجبها السحب في مرات عديدة، ولكن نفس الرسول بولس لم تحجبها أى تجربة، بل في الشتاء كانت تبدو أكثر بهاءً من شروق الشمس وهى في متنصف النهار، قبل ظهور السحب. لأن الشمس التي تُنير نفس ق. بولس، لم تترك أشعتها تحتجب نتيجة تراكم التجارب، لكنها أشرقت أكثر. لهذا قال ” تكفيك نعمتي لأن قوتي في الضعف تكمل[3].

          إذًا فلنتشبه بالقديس بولس، لأنه ليس هناك شئ يساوي قيمة النفس، لا هذه السماء ولا الشمس، ولا العالم كله، لأن هذه الأشياء صارت من أجلنا، وليس نحن الذين صرنا من أجلها، لو أردنا أن تصير نفوسنا مثل نفس القديس بولس. فلنبرهن على أننا مستحقون، لأن هذه الأشياء قد صارت من أجلنا. لأننا لو ظهرنا غير مستحقين لهذه الأمور، فكيف نصير مستحقين للملكوت؟ كذلك فإن أولئك الذين يعيشون للتجديف على الله هم غير مستحقين أن يروا الشمس، ولا أن يتمتعوا بالمخلوقات التي تمجد الله. لأن الابن أيضًا الذي يحتقر والده، يكون غير مستحق أن يتمتع بخدمة الخدام الذين يكرمونه. ولهذا فإن هؤلاء سيتمتعون بمجد كبير، أما نحن فسنُعاني عذاب الجحيم وسنكون مستحقين للعقاب. فيا لها من تعاسة، أن الكون الذي خُلق لأجل حرية مجد أولاد الله، يتغير شكله، بينما نحن الذين خلقنا أولادًا لله، ننقاد إلى الهلاك بسبب لامبالاتنا الكبيرة، نحن الذين بسببنا، سيتمتع الكون بهذا المجد الكبير؟

          ولكي لا يحدث هذا، فبقدر ما لنا من نفس نقية فلنحفظها هكذا، أو من الأفضل أن نزيدها بهاءً، بينما لا يجب أن يصيبنا اليأس بسبب نفوسنا غير النقية. “ هلم نتحاجج يقول الرب إن كانت خطاياكم كالقرمز تبيض كالثلج. إن كانت حمراء كالدودي تصير كالصوف[4]. لكن الله عندما يَعِد، فيجب ألاّ تتشكك بل أن تفعل تلك الأمور التي تستطيع بها أن تحصل على هذه الوعود. هل فعلت شرورًا لا تُحصى وهل أخطأت؟ وما أهمية هذا؟ لماذا لم تذهب بعد إلى الجحيم، الموضع الذي فيه لا يستطيع أحد أن يُقر أو يعترف بخطاياه، لم ينتهِ جهادك بعد، بل انهض بعزيمة داخل الحلبة، ويمكنك أن تنتصر على كل الهزائم في الجولة الأخيرة. أنت لم توجد بعد في مكان الرجل الغنى، لكي تسمع ” بيننا وبينكم هوة عظيمة[5]. لم يأت العريس بعد، ولن يخف أحد ويمنع عنك الزيت، مازال في إمكانك أن تشتريه وتدّخره، ولن يوجد مَن يقول ” لا يكفي لنا ولكن[6]، فأولئك الذين يبيعونه هم كثيرون: العراة، والجوعى، والمرضى، والمسجونين. أعطى طعامًا للجوعى، وأكسى العراة، وداوم على زيارة المرضى، وسيأتي الزيت بوفرة من منابعه.

          لم يأت بعد يوم الدينونة. استفد من الوقت كما ينبغي، وسدد الديون، قل لمن هو مدين بمئة بث زيت، قل له ” خذ صكًا .. واكتب خمسين[7]. افعل نفس الشئ بالنسبة للمال، والكلام، وفي كل شئ،  متبعًا مثال ذلك الوكيل. وهذه الأمور إنصح بها نفسك، وأقرباءك. لأنك لاتزال سيد الموقف ويمكنك أن تقول ذلك، فأنت لست في احتياج أن تترجى آخرًا لأجل هذه الأمور، بل يمكنك أن تنصح بها نفسك وآخرين أيضًا. أما عندما تنتقل إلى الحياة الأخرى، فلن تستطيع أن تفعل كما ينبغي أيًا من هذه الأمور. لأنك أنت يا من أخذت كل هذه المهلة الكبيرة، ولم تكن مفيدًا، لا لنفسك ولا للآخرين، فكيف سيمكنك أن تنال هذه النعمة حين تقف بين يدي الديان العادل؟

          7 ـ إذًا لنستجمع كل هذه الأمور، ولنسعَ نحو خلاصنا بشدة، ولا نترك فرصة الحياة الحاضرة. لأنه من الممكن أن نصير مقبولين أمام الله في اللحظات الأخيرة من حياتنا. من الممكن أن نُكرّم أو نُسّر من خلال تعهدنا أمام الله. لكن كيف وبأية طريقة؟ يحدث هذا إن تركت وصية لذاك المحتاج مع ورثتك، وتركت له نصيبًا من كل ثروتك. هل قدمت له طعامًا عندما كنت في هذه الحياة؟ فعلى الأقل طالما أنك ستموت ولن تكون بعد سيدًا، فعليك أن تعطى للمحتاج مما لك. الرب هو محب البشر، ولا يطلب منك أن تتوخى الدقة في كل شئ. أن تُغذي المحتاج، وتجزل له العطاء وأنت لازلت في هذه الحياة الحاضرة، فهذا يعد نموذجًا للرغبة القوية في المكافأة العظيمة، فإن كنت لم تفعل هذا، فعلى الأقل تقدم نحو الأمر الثاني، أى أترك له نصيبًا في ثروتك، اجعله شريكًا لورثتك، مع أولادك. ولكن إن ترددت في فعل هذا، فكّر في أن أباه السمائي قد جعلك وارثًا له (أى للآب)، وضَّع حدًا لجشعك. أى دفاع ستُقدم، عندما لا تجعل ذلك المحتاج[8] شريكًا لأولادك، إنه ذاك الذي جعلك شريكًا في ملكوت السموات، وذُبح لأجلك؟ وإن كان من المؤكد أن كل ما فعله، لم يكن بهدف أن ترد له الدين، بل كل ما فعله هو على سبيل النعمة، إلاّ أنك بعد كل هذه الإحسانات، صرت مديونًا.

          لكن بالرغم من أن هذه الأمور هى هكذا، وحيث إنك تأخذ النعمة، لا أن ترد له الدين، إلاّ أنه يتوّجك، بينما هو يأخذ مما له. إذًا فلتعطِ لذاك المحتاج (المسيح) مالاً لم يعد له نفع لك بعد، خاصةً وأنك لست بعد سيدًا (على هذا المال)، وسيعطيك الملكوت الذي سيكون مفيدًا ونافعًا على الدوام، وبالإضافة للملكوت، سيهبك أمور العالم الحاضر. لأنه إن صار شريكًا في ميراث أبنائك، فإنه سيُخفف عنهم اليُتم، وسيُبطل الدسائس، ويصَّد عنهم السهام ويغلق أفواه الواشين. وإن كان هؤلاء لن يستطيعوا الحفاظ على العهود بعد، فإن المسيح سيحفظها، ولن يتركها تُنقض. لكن إن سمح أن يحدث هذا، فإنه سيدفع أو يُسدد المكتوب في العهود أو المواثيق كلها بسخاء عظيم، وذلك مما له، لأن كرامة العهد هى في عدم العدول عنه. إذًا اترك ذاك (المحتاج) أن يصير وريثًا لك، والمسيح، سيعوضك بالعدل عن كل ما فعلته هنا.

          بيد أن بعض من البائسين التعساء، الذين وإن كانوا لم ينجبوا أبناء، إلاّ أنهم لا يحتملون أن يصنعوا هذا (أى أن يجعلوا المسيح وريثًا لهم)، بل يفضلون أن يوزعوا ما يمتلكون على المتطفلين، والمنافقين، وعلى فلان وفلان، بدلاً من أن يُعطوا للمسيح الذي أسعدهم بهذه السعادة الكبيرة. فهل هناك ما هو أكثر غرابة مما يفعله هؤلاء؟ لأن مثل هؤلاء الناس لا يقارنهم أحد بأي من مخلوقات الله، إذ لا يستطيع أن يقول شيئًا ذي قيمة عن غبائهم وعدم إحساسهم، ولا يمكن أن يجد أى صورة تُعبّر عن جنونهم وإنحلالهم. إذًا أى غفران سيناله هؤلاء، إذ أنهم لم يطعموا المسيح عندما كانوا على قيد الحياة، وحين كانوا مهيئين أن ينتقلوا إليه، لم يقدموا من أموالهم، ولو جزءً يسيرًا والتي ليس لهم بعد سلطان عليها، لكنهم سلكوا ببغضة وعداوة، بل أنهم لم يُعطوا الفقراء حتى من تلك الأشياء التي صارت بلا نفع بالنسبة لهم؟ ألم ترَ كم من هؤلاء الناس لم يكونوا مستحقين لهذه النهاية[9]، بل ماتوا فجأة؟ بينما أنت فقد أعطاك الله الإمكانية أن تتحدث عن ثروتك وعن كل ما هو موجود في بيتك.

          إذًا أى مبررًا ستُقدم، حين تكون قد أخذت هذه النعمة من المسيح، ثم تخون هذا الاحسان، وتقف خارج الدائرة، ضد إيمان آبائك؟ لأن أولئك عندما كانوا على قيد الحياة، باعوا كل شئ ووضعوه عند أقدام الرسل[10]، أما أنت ولا حتى عندما تقترب من الموت، تعطى أيضًا حصة معينة من ثروتك لأولئك الذين هم في احتياج. والأفضل بالطبع، وهو الأمر الذي يمثل سخاء كبيرًا أن تُخفف من حالات الفقر، وأنت في هذه الحياة الحاضرة. وإن لم تُرد فعل هذا، فعلى الأقل عند موتك اصنع شيئًا نبيلاً. هذا لا يُعد نموذجًا لمحبة قوية للمسيح، إلاّ أنه يُعد نموذجًا لمحبة قليلة. لأنه وإن كنت بعد لم تكتسب المكانة الأولى بين الخراف، إلاّ أنه ليس بالأمر الزهيد أن توجد على الأقل وسط الخراف، وليس بين الجداء، ولا على اليسار. لكن إن لم تفعل ولا حتى هذا الأمر، فأي مبررًا سيُخلّصك، حين لا يجعلك ولا حتى الخوف من الموت، محبًا للناس، ولا الأموال أيضًا ستُفيدك لأنها ستصير بلا نفع فيما بعد، ولا يعد مبررًا لذلك أنك تريد أن تترك تأمينًا لأبناءك؟

          ولهذا فإني أرجوكم أن تتركوا الجزء الأكبر من ثروتكم لمن هم في احتياج وأنتم لاتزالون في هذه الحياة. لكن إن كان البعض مُصابًا بصغر النفس إلى هذا الحد، حتى أنهم لا يحتملون أن يفعلوا هذا، فعلى الأقل فليكونوا مُحبين للناس المحتاجين. لأنه عندما كنت في هذه الحياة، كنت تتعامل مع الأشياء، كانك غير مائت، أما الآن فنظرًا لأنك علمت أنك فانٍ، فعلى الأقل الآن تخلى عن إيمانك بأنك خالد، وكإنسان فانٍ فكّر فيما يخصك، أو من الأفضل القول فكّر كشخص سيتمتع على الدوام بالحياة الأبدية. لأنه وإن كان ما سيُقال يعتبر أمرًا يبعث على الضيق ومملوءًا فزعًا، إلاّ أنه ينبغي أن يُقال، لقد أُحصى السيد الرب مع عبيدك. فهل تُحرر العبيد؟ حرَّر المسيح إذًا من الجوع، من الاحتياج، من السجن، ومن العري. أترتعب عند سماع هذه الأمور؟ إذًا سيكون الأمر أكثر فزعًا عندما لا تصنعها وأنت في هذه الحياة، وبالطبع الكلام هذا يجعلك تقشعر. لكن عندما تنتقل إلى هناك (أى للحياة الأبدية)، ستسمع أمورًا أكثر رعبًا من هذه، وسترى العذابات التي لا تُحتمل، فماذا ستقول؟ إلى من ستلجأ؟ ومَن ستدعو ليكون ناصرًا ومُعينًا؟ هل ابراهيم؟ لكنه لن يسمع. هل أولئك العذارى الحكيمات؟ ولا هؤلاء سيعطونك زيتًا. هل الأب؟ هل جدك؟ ولا واحد من هؤلاء لديه القوة أن ينقض ذلك الحكم، حتى لو كان قديس عظيم.

          إذًا فلتفكر في كل هذه الأمور، في ذاك الذي له وحده القدرة على أن يمزق الصك الذي عليك، وأن يُطفئ ذلك اللهيب. ليتك تترجاه وتتضرع إليه، واجعله من الآن مترفقًا بك ومعينًا لك، قَدِم له المأكل والملبس على الدوام، لكي ترحل من هنا، برجاء صالح، وعندما تصل إلى هناك إلى الحياة الأبدية، تتمتع بالخيرات الأبدية. وليتنا جميعًا ننالها بالنعمة ومحبة البشر اللواتي لربنا يسوع المسيح، الذي يليق به مع الآب والروح القدس المجد إلى أبد الآبدين آمين.

[1]  إش13:29.

[2]  أع15:9.

[3]  2كو9:12.

[4]  إش18:1.

[5]  لو26:16.

[6]  مت9:25.

[7]  لو6:16.

[8]  يقصد المسيح له المجد حين قال: ” بما أنكم فعلتم بهؤلاء الأصاغر فبي قد فعلتم “

[9]  أى فرصة الاستعداد قبل أن يموتوا.

[10]  انظر أع34:4.

رسالة رومية الأصحاح11 – عظة19 ج2 – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب

Exit mobile version