أبحاث

رسالة رومية الأصحاح11 – عظة19 ج2 – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب

رسالة رومية الأصحاح11 – عظة19 ج2 – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب

رسالة رومية الأصحاح11 – عظة19 ج2 – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب

رسالة رومية الأصحاح11 – عظة19 ج2 – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب
رسالة رومية الأصحاح11 – عظة19 ج2 – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب

بقية العظة التاسعة عشر:

          وكما فعل القديس بولس في المسائل السابقة، وهو يشير إلى مفارقات بالنسبة للناموس وبالنسبة للشعب الذي كان يواجه إدانة أكبر من الإدانة الطبيعية، متجاوزًا إلى أقصى الحدود العهد الذي نقضه، إذ تنازل عن أمور كثيرة، حتى لا يجعل كلمته قاسية، وهذا أيضًا ما فعله في هذا الجزء قائلاً:

 

” فأقول ألعل الله رفض شعبه؟ حاشا ” (رو1:11).

          يتحدث كإنسان لديه شك أو حيرة، جاعلاً الكلام الذي قاله من قبل حافزًا له، وبعدما أشار إلى هذا الأمر المخيف متسائلاً “ألعل الله رفض شعبه”، إستطاع أن يجعله مقبولاً بعد أن نقض العهد، وهذا ما حاول أن يظهره من خلال كل الكلام السابق، والذي يظهره هنا أيضًا. وما هو الأمر الذي أظهره؟ إنه يتعلق بالذين خلصوا. فبرغم أنهم قليلون إلاّ أن الوعد قد تحقق. ولهذا لم يقل فقط ” الشعب” ولكنه أضاف ” الذي سبق فعرفه “.

          ثم بعد ذلك أضاف الدليل من حيث إن الله لم يرفض شعبه ولم يُبعدهم بعيدًا عنه، إذ يقول: ” لأني أنا أيضًا إسرائيلي من نسل إبراهيم من سبط بنيامين “. أنا المعلّم والكارز. لأنه قد وضح أن هذا مُناقض لما قيل من قبل، بالنسبة للذين قالوا ” من صدق خبرنا “؟   و” طول النهار بسطت يديَّ إلى شعب معاند ومقاوم ” و” أنا أغيركم بما ليس أمة “، ولم يكتفِ بنفي ذلك، ولا بقوله “حاشا”، ولكنه يُدلل عليه مُكررًا هذا أيضًا، بقوله:

 

” لم يرفض الله شعبه ” (رو2:11).

          هكذا يوضح الرسول إن هذا ليس برهانًا، بل إجابة. لاحظ إذًا الدليل السابق والدليل الذي أتى بعد ذلك، وبهذين الدليلين أثبت أنه ينحدر من أصل يهودي. ولكن هذا لم يكن ليحدث، لو أن الله كان قد رفضهم بعيدًا عنه، ولما كان الله قد اختاره من هذا النسل وهذا السبط. لقد استأمنه على البشارة وعلى أمور المسكونة، وأيضًا على كل الأسرار، وكل التدبير. هذا إذًا هو الدليل الأول، بينما الدليل الثاني هو قوله ” شعبه الذي سبق فعرفه “، أى شعبه الذي عرفه جيدًا أنه كُفؤ، وأنه سيقبل الإيمان. لأن من هذا الشعب آمن ثلاثة آلاف، وخمسة آلاف، وآلاف لا تُحصى.

          ولكي لا يقول أحد إذًا هل أنت شعبه؟ وهل لأنك أنت دعيت، دُعيَ الأمم؟ أضاف: ” لم يرفض الله شعبه الذي سبق فعرفه “. كما لو أنه قال، يوجد معي ثلاثة آلاف، معي خمسة آلاف، معي عشرة آلاف. ماذا إذًا؟ هل هذا هو الشعب؟ وهل انحصر نسل هؤلاء اليهود في ثلاثة آلاف، وخمسة آلاف، وعشرة آلاف، وهم مثل نجوم السماء ومثل رمل البحر في العدد؟ هل إلى هذا الحد تُضلّلنا وتخدعنا، جاعلاً من نفسك ومن القليلين الذين معك شعبًا كاملاً؟ لقد ملأتنا برجاء فارغ، قائلاً إن الوعد قد إكتمل، بينما الجميع هلكوا، والخلاص انحصر في قليلين؟ إن هذه الأمور هى محل افتخار وتباهي كبيرين، ولا يمكننا أن نحتمل مثل هذه السفسطات. إذًا لكي لا يقولوا هذه الأشياء، انتبه كيف أنه يقدم الحل بالكلام اللاحق، دون أن يُشير إلى التباين، بل يدلل على حلّها قبل التباين، من خلال قصة قديمة.

          5 ـ إذًا ما هو الحل؟ ” ألا تعرفون ” إنه يقول أيضًا ” ماذا يقول الكتاب عن إيليا “؟ كيف صلى إلى الله في مواجهة الشعب الإسرائيلي؟ وقال ” أيها الرب إله الجنود، لقد قتلوا أنبياءك ونقضوا مذابحك فبقيت أنا وحدى وهم يطلبون نفسي ليأخذوها[1]. لكن ماذا كانت إجابة الرب له؟

 

” قد أبقيت لنفسي سبعة آلاف رجل لم يحنوا ركبة لبعل ”[2] (رو3:11ـ4).

          فكذلك:

” في الزمان الحاضر أيضًا قد حصلت بقيه حسب اختيار النعمة ” (رو5:11).

          ما يقوله يعني الآتي: إن الله لم يرفض شعبه. فلو كان قد رفضه، لما كان قد قَبِل أحدًا، وطالما أنه قد قَبِل البعض، فهذا معناه أنه لم يرفض شعبه. وإن كان لم يرفض شعبه، فهل يعني هذا أنه سيقبلهم جميعًا؟ طبعًا لا، لأن الخلاص في عصر إيليا إنحصر في سبعة آلاف رجل، أما اليوم فيعد أمرًا طبيعيًا أن يكون الذين آمنوا كثيرين. أما إن كنتم تجهلون هذا الأمر، فهذا لا يُعد غريبًا، فإيليا النبي، ذلك الرجل العظيم والبارز، لم يكن يعرف هذا الأمر. بل إن الله دبَّر هذا الأمر، على الرغم من أن النبي كان يجهله.

          ولكن لاحظ حكمة الرسول بولس، في محاولته أن يثبت ما يقول. إنه يُزيد بشكل غير مُعلن من إدانتهم. ولهذا فقد أورد شهادة إيليا كاملة، لكي يسخر من جحودهم، ويبرهن على أنهم كانوا منذ القديم جاحدين. لأنه لو كان يريد أن يُبرهن على شئ واحد فقط، وهو أن عدد الشعب كان قليلاً، لكان قد قال إنه في عصر إيليا بقى سبعة آلاف، بينما الآن يقرأ كل الشهادة النبوية التي هى منذ القديم. لأنه في كل موضع قد حاول أن يُظهر أنه لم يُقدم عن المسيح والرسل أى شئ يُسمع لأول مرة، بل قدم الأمور المعتادة والمعروفة. ولكي لا يقول اليهود إننا قتلنا المسيح لأنه كان رجلاً مُضِّلاً وإضطهدنا الرسل لأنهم كانوا خائنين، قدم الشهادة التي تقول ” قتلوا أنبياءك ونقضوا مذابحك “. وبعد ذلك، وحتى لا يجعل كلامه ثقيلاً، يُشير، بالإضافة للشهادة، إلى سبب آخر. فهو لم يذكر هذه الشهادة، بقصد أن يتهمهم مسبقًا، بل لأنه يريد أن يبرهن على أمور أخرى. وبهذا يكونون قد حرّموا أنفسهم من كل مصالحة عن كل ما صدر منهم من قبل.

          لاحظ إذًا كيف أن الإدانة تتجاوز الشخص الذي يدين. لأن ممثل الإتهام ليس هو بولس، ولا بطرس، ولا يعقوب، ولا يوحنا، بل هو ذاك الذي هو موضع إعجاب أكثر من الجميع، قمة الأنبياء[3]، ذاك الذي جاهد هكذا لأجل خلاصهم، حتى أنه أسلم ذاته للجوع، ذاك الذي لم يمت بعد حتى اليوم[4]. إذًا ماذا قال ذاك ” قتلوا أنبياءك ونقضوا مذابحك فبقيت أنا وحدي وهم يطلبون نفسي ليأخذوها “. ماذا يمكن أن يوجد أكثر سوءًا من هذه الوحشية؟ لأنه بينما كان يجب أن يتوسلوا إلى الله من أجل خطاياهم التي ارتكبوها بالفعل، أرادوا أن يقتلوا هذا النبي أيضًا. كل هذا قد حرمهم من كل مصالحة. لأن هؤلاء تجرأوا على فعل هذه الأمور ليس عندما سادت المجاعة، بل عندما حل الرخاء، وانتفى الخجل، واستحت الشياطين، واستعلنت قوة الله، وخضع الملك، وهكذا تقدموا من قتل إلى قتل، فقتلوا مُعلّميهم، والذين كانوا يُصححون لهم رؤيتهم. إذًا ماذا يمكن أن يقولوا؟ هل هؤلاء أيضًا كانوا خائنين؟ ربما لم يعرفوا من أين انحدر أولئك أيضًا؟ هل سبّبوا لكم ضيقًا؟ والمذابح، لماذا تنقضوها؟ هل هذه أيضًا سبّبت لكم ضيقًا؟

          أرأيت كثرة المشاجرات الفظيعة، ومقدار الإهانات الكبيرة التي يُظهرونها بصفة دائمة؟ ولهذا يقول ق. بولس في موضع آخر عندما كتب إلى أهل تسالونيكي: ” لأنكم تألمتم أنتم أيضًا من أهل عشيرتكم تلك الآلام عينها كما هم أيضًا من اليهود. الذين قتلوا الرب يسوع وأنبياءهم واضطهدونا نحن. وهم غير مُرضين لله وأضداد لجميع الناس[5]. وهذا ما يقوله هنا بالتحديد، إنهم نقضوا المذابح وقتلوا الأنبياء. لكن ماذا كان رد الله عليهم؟ ” قد أبقيت في إسرائيل سبعة آلاف كل الركب التي لم تجثُ للبعل “. أى علاقة لهذه الأمور بالأمور الحادثة الآن؟ بالطبع لها علاقة بالأمور الحادثة الآن، بل وبشكل كبير جدًا. لأنه من هنا يتبرهن على أن الله قد أظهر هذا الأمر منذ القديم من خلال كل ما قاله ” إن كان عدد بني إسرائيل كرمل البحر فالبقية ستخلص لأنه مُتمم أمر وقاض بالبر. لأن الرب يصنع أمرًا مقضيًا به على الأرض .. ولولا أن رب الجنود أبقى لنا نسلاً لصرنا مثل سدوم[6]. ويؤكد أيضًا على إظهار هذا الأمر، ولهذا أضاف قائلاً ” فكذلك في الزمان الحاضر أيضًا قد حصلت بقيه حسب اختيار النعمة “.

          انتبه لكل كلمة كما هى برونقها، إذ أن الكلمات تُظهر نعمة الله، وتُظهر كذلك امتنان الذين خلصوا. لأنه حين يقول فقط “اختيار” فهو يعني اختيارهم، لكن حين يضيف كلمة “النعمة” فإنه يُظهر بذلك عطية الله.

 

” فإن كان بالنعمة فليس بعد بالأعمال. وإلاّ فليست النعمة بعد نعمة. وإن كان بالأعمال فليس بعد نعمة وإلاّ فالعمل لا يكون بعد عملاً ” (رو6:11).

          مرة أخرى يعود إلى منازعات اليهود، موضحًا أيضًا حرمان هؤلاء من المسامحة أو العفو (فيقول لهم): لأنكم لم تستطيعوا أن تقولوا إن الأنبياء قد قاموا بدعوتنا، وإن الله توسل إلينا، أو كأنكم  أردتم أن تقولوا: كان كافيًا لكي يجذبنا، فقط أن يحثنا على الغيرة، بينما إضافة الوصايا كانت ثقيلة، ولهذا لم نستطع أن نأتي إلى الله، فالأنبياء طلبوا منا عملاً، وإنجازات مُجهدة. ولا هذا أيضًا استطعتم أن تقولوه. لأنه كيف يطلب الرب منكم هذه الأمور، في اللحظة التي فيها سيُغطي هذا الأمر على نعمته؟ لكنه قال هذه الأمور، لأنه أراد أن يُظهر أنه أراد لهؤلاء من كل قلبه، أن يخلصوا. لأن الخلاص المقدم لهم لم يكن سهلاً، بل إن مجد الله العظيم قد أُستعلن في محبته للبشر. إذًا لماذا خشيت أن تأتي، طالما أنه لم يطلب منك أعمالاً؟ ولماذا تثور وتجادل، بينما النعمة موجودة، وتفضل الناموس عبثًا وبدون سبب؟ لأنك لن تخلص بالناموس، بل وستُسيء إلى هذه النعمة. إذًا إن كنت تُصّر على أن خلاصك يتحقق بالناموس، فإنك تمنع عنك نعمة الله. وفيما بعد لكي لا يعتقدوا أن هذا أمرٌ غريب، قال مُقدَمًا، إن هناك سبعة آلاف قد خلصوا بالنعمة. وعندما يقول    ” فكذلك في الزمان الحاضر أيضًا قد خلصت بقية حسب اختيار النعمة “، يُظهر أن أولئك قد خلصوا بحسب النعمة. وليس هذا القول فقط، بل قال أيضًا “أبقيت لنفسي”. لأن هذا هو ما يُظهره، أى أن الله قد قدم الكثير.

          وإن كان هذا الخلاص قد تحقق بالنعمة، فلماذا لم نخلص جميعًا؟ الجواب: لأنكم لا تريدون. لأن النعمة برغم كونها نعمة، إلاّ أنها تُخلّص الذين يقبلونها، وهى لا تخلص الذين لا يريدون أن يخلصوا بل ويتحولون عنها ويحاربونها دومًا ويقاومونها. أرأيت كيف أنه بكل هذا يُدلل على ما يقوله، ” لكن ألا يعني هذا إثبات عدم صدق كلمة الله “؟!  بالطبع لا بل أنه أراد أن يُبيّن أن وعد الله هو للمستحقين، وأن هؤلاء وإن كانوا قليلين، إلاّ أنهم يمكن أن يكونوا شعب الله. وقد أشار في بداية الرسالة إلى ذلك بتشديد أكثر، قائلاً ” فماذا إن كان قوم لا يكونوا أمناء. أفلعل عدم أمانتهم يُبطل أمانة الله. حاشا. بل ليكن الله صادقًا وكل إنسان كاذبًا [7]. والآن أيضًا هو يُدلل على ذلك بشكل آخر، مُبيّنًا قوة النعمة، وأنه دائمًا يوجد من يخلصون، ومن يهلكون.

[1]  1مل10:19.

[2]  1مل18:19.

[3]  يقصد إيليا النبي.

[4]  هنا يشير إلى صعود إيليا إلى السماء بمركبة نارية.

[5]  1تس14:2ـ15.

[6]  رو27:9ـ29.

[7]  رو3:3ـ4.

 

رسالة رومية الأصحاح11 – عظة19 ج2 – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب