رسالة رومية الأصحاح10 – عظة18 ج2 – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب
بقية العظة الثامنة عشر:
4 ـ ولأنه قال شيئًا عظيمًا، فهو يؤكد عليه بعد ذلك أيضًا من الكتب المقدسة، إذ يقول:
” لأن الكتاب يقول كل من يؤمن به لا يُخزى. لأنه لا فرق بين اليهودى واليوناني لأن ربًا واحدًا للجميع غنيًا لجميع الذين يدعون به لأن كل من يدعو باسم الرب يخلص ” (رو11:10ـ13).
أرأيت كيف أنه يقدم شهودًا للإيمان، وللإعتراف أيضًا (باسم الرب)؟ لأنه حين يقول ” كل من يؤمن”، يشير إلى الإيمان، وحين يقول “كل من يدعو”، يُظهر الاعتراف باسم الرب. ثم يكرز أيضًا بعد ذلك بالنعمة التي هى للجميع، ويكبح إفتخار أولئك اليهود بتلك الأمور التي أظهرها سابقًا من خلال أشياء كثيرة، هذه الأشياء ذاتها يذكرها في إيجاز، لكي يُبيّن مرة أخرى، أنه لا يوجد أى فرق بين اليهودي وغير المختتن. ” لأنه لا فرق بين اليهودي واليوناني “.
وما قاله عن الآب بالنسبة لإثبات أن أبوته للجميع، يقوله أيضًا عن الابن. لأن هذا ما حدث سابقًا، إذ بيّن ذلك قائلاً: ” أم الله لليهود فقط. أليس للأمم أيضًا. بلى للأمم أيضًا. لأن الله واحد “[1]. هكذا هنا أيضًا يقول: ” لأن ربًا واحدًا للجميع غنيًا لجميع الذين يدعون باسمه“. أرأيت أنه يظهر أن الابن يرغب بشدة في خلاصنا، طالما أن الرسول بولس يعتبر أن هذا الخلاص هو من فيض غناه؟ وبناءً على ذلك، ينبغي على هؤلاء اليهود الآن، ألا ييأسوا، وألاّ يعتقدوا بالطبع أنهم غير مستحقين للغفران، إن كانوا يرغبون حقًا في التوبة، لأن الابن الذي يعتبر أن غناه يتمثل في كونه يُخلّصنا، لن يتوقف عن أن يكون غنيًا، وهو يظهر غناه أيضًا عندما يُرسل العطية للجميع بوفرة. ولأن ما يغضبه بشكل خاص هو أنه بينما كانت لهم الأولوية في الاختيار وكانوا يتفوقون على كل المسكونة، فقد نزلوا من هذه العروش، لأن الإيمان الآن هو بالمسيح (وليس بالناموس)، ولا يوجد الآن ما يميزهم على غيرهم، لذا فالرسول بولس يقدم لهم دائمًا ما قاله الأنبياء وكرروه عن هذه المساواة ” كل من آمن به لا يخزى “[2]. ” ويكون أن كل من يدعو باسم الرب ينجو “[3]. وفي كل موضع يُشير إلى عبارة “كل من” لكي لا يعترضوا.
5 ـ لا يوجد شيء أكثر سوءًا من الزهو أو الكبرياء، لأن هذا الكبرياء قد حطّمهم أكثر من أى شئ،. ولهذا قال لهم المسيح له المجد ” كيف تقدرون أن تؤمنوا وأنتم تقبلون مجدًا بعضكم من بعض. والمجد الذي من الإله الواحد لستم تطلبونه “[4]. هذا الكبرياء والذي يحمل معه الهلاك، يستحق أيضًا كثيرًا من السخرية، حتى قبل الدينونة الأخيرة، وفي طياته كثير من الشرور في هذه الحياة الحاضرة. وإن أردت، فلابد أن تفهم هذا جيدًا، خاصةً بعدما تركنا أولاً الفردوس الذي طُردنا منه بسبب هذا الكبرياء، وبعد ذلك ألقانا في جهنم، ليتنا نفحص هذا كله. فهل يوجد ما يكبّدنا خسائر أكثر من هذا الكبرياء؟ وماذا يمكن أن يوجد أكثر قبحًا وأكثر صعوبة من هذا التباهي؟ لأنه من المؤكد أن مرض المجد الباطل يكلف الإنسان الكثير، وهذا صار واضحًا من سلوك الذين ينفقون أموالهم في أمور لا فائدة منها وبدون سبب، في المسارح وسباقات الخيل، وفي إسراف غير لائق، وصار واضحًا أيضًا من سلوك الذين يُشيّدون بيوتًا فخمةً باهظة التكاليف، والذين يسعون بكل الوسائل لتكوين ثروة بلا نفع أو فائدة.
وكون أن المُصاب بهذا المرض هو كثير الاسراف، ومضطر أن يصير خاطفًا وطمّاعًا، فهذا بالطبع أمر واضح لكل أحد. لأنه لكي يستطيع أن يقدم طعامًا لهذا الوحش (شهوة المجد الباطل)، فهو يمد يده إلى ثروات الآخرين. وماذا أقول عن الثروات؟ فليس الأموال فقط، بل أيضًا نفوسًا كثيرة تلتهمها هذه النار هنا، وهو يؤدي إلى الموت ليس فقط في الحاضر، بل وفي المستقبل أيضًا. لأن المجد الباطل يقود إلى جهنم، وهو الذي يُشعل نار جهنم بقوة، وبسببه أيضًا ستصير هذه النفوس غذاءً للحشرات السامة. وبالطبع يمكن للمرء أن يرى أن هذا المجد الباطل يسود بين الأموات، وماذا يمكن أن يوجد أسوأ من هذا؟ لأن كل الشهوات تبطل بعد الموت، ولكن شهوة المجد الباطل فإنها تصارع بعد الموت أيضًا، وتحاول أن تُظهر طبيعتها في الجسد الميت. لأنهم حين يتركون وصية أن تُشيد لهم قبورًا فخمة عند موتهم، وينفقون كل ثروتهم، بل ويحرصون على جمع أموال كثيرة قبل أن يموتوا، وذلك من أجل نفقات الدفن. بينما وهم بعد أحياء، تجدهم يحتقرون الفقراء الذين يقتربون منهم من أجل فلس واحد، وقطعة خبز، إلاّ أنهم بمجرد أن يموتوا، يصيرون مائدة غنية للديدان. ماذا يمكن أن تقول عن هذا الطغيان المستبد، وعن هذا المرض (المجد الباطل). ومن هذا الشر يولد ولع فاسد وغير مقبول، إذ أن شهوة المجد الباطل ألقت بالكثيرين في الزنا، لا من حيث جمال الوجه، ولا الشهوة الجسدية، بل لأنهم يريدون أن يفتخروا بأن فلانة قد أوقعوا بها، وزنوا معها.
ولماذا ينبغي أن أتكلم عن الأمور الأخرى، فقدر كبير من الشرور نبتت من هذه الشهوة؟ لأنني أُفضل أن أصير عبدًا لعدد كبير من البربر، على أن أُستعبد مرة واحدة، للمجد الباطل. خاصةً وأن هؤلاء البربر لا يأمرون الأسرى بالخضوع لهذه الشهوة، بينما هذه الشهوة تأمر رعاياها بالخضوع لها. إذًا بحسب ما تأمر به هذه الشهوة: أنت مضطر أن تكون عبدًا للجميع، سواء كانوا أعلى منك أو أقل.
إنها تقول لك: احتقر النفس، لا تعتني بالفضيلة، اسخر من الحرية، ضحي بخلاصك بالتمام. وإن صنعت صلاحًا ما، لا تصنعه لكي تكون مرضيًا أمام الله، بل لكي تظهر أمام الجميع أنك صالح، حتى تفقد المكافأة لأجل هذا كله. وعندما تمارس أعمال رحمة أو تصوم، فلتعاني من المتاعب، بل واحرص على أن تخسر الربح.
ماذا يمكن أن يوجد أقسى من هذه الأوامر؟ من هذه الشهوة (أى المجد الباطل) يأتي الحسد، ويأتي اليأس، ومنها تبدأ الشرور والبخل. لأن جموع الخدم والبربر المزينين بالذهب، والطفيليين والمنافقين، والعربات المطلية بالفضة، والأمور الأخرى والتي هى مثيرة بالأكثر للسخرية، لا تحدث بسبب اللذة، ولا بسبب إحتياج ما، بل فقط بسبب المجد الباطل.
6 ـ بيد أنه من حيث إن هذه الشهوة تعتبر شهوة رديئة، فهذا واضح لكل أحد. لكن كيف يمكننا أن نتجنبها، هذا ما يجب أن يقوله لنا القديس بولس. سنبدأ بداية رائعة من أجل التغيير أو التصحيح، لو أنك أقنعت نفسك جيدًا، أن هذا الداء أى شهوة المجد الباطل، هو داء مُفزع. لأن المريض أيضًا سيطلب الطبيب على وجه السرعة، إن علم أنه مريض. أما إن كنت تطلب أو تبحث عن طريقة أخرى لتجنب هذه الشهوة، فيجب عليك أن تتطلع دومًا نحو الله، وأن تكتفي بالمجد الإلهي. وحتى وإن كنت ترى بعد أن الشهوة تُداعبك أو تدغدغ إرادتك، وتُحركك للتحدث بفخر بإنجازاتك لمن هم شركائك في الإنسانية، وطالما أنك تفكر مرة أخرى، في كيف يمكن أن تستعرض ذلك، وأنه لا ينتج من ورائها أى ربح، فعليك أن تمحو هذه الرغبة الفاسدة، وقل لنفسك ها إنك تعبت كل هذا الزمان حتى لا تبوح بإنجازاتك وأنت لم تحتمل أن تحتفظ بها سرًا، بل أعلنتها للجميع، فماذا تحقق لك، أكثر مما أنت عليه هنا؟ بالطبع لا شئ، بل خسارة وأكثر من خسارة، إذ أنك تُفرِغ كل ما جُمع بجهد وتعب كثير.
لكن مع كل هذا، فكّر في أن قرار الكثيرين وحكمهم هو قرار وحكم خاطئ، وليس فقط خاطئًا، بل إنه سريعًا ما يزول. لأنه وإن كانوا قد أُعجبوا بك للحظة، فعندما يعبر الوقت، فإنهم ينسون كل شئ، وهكذا يكونون قد خطفوا الإكليل الذي أعطاه الله لك، ولم يستطيعوا أن يحتفظوا لك بالإكليل الخاص بهم. وإن افترضنا أن هذا الإكليل باق، فسيكون من يُبدل إكليله بإكليلهم تعس جدًا، أما عندما يتحطم هذا الإكليل، فأى مُبرر سنُعطى، طالما إننا نُسلم الذي يبقى من أجل الزائل، ومن أجل أن ننال مديح القليلين نفقد كل هذه الخيرات الكثيرة؟ وحتى وإن كان الذين يمتدحوننا هم كثيرون، فإننا هكذا سنكون مستحقين للعذاب، وبالأكثر في الوقت الذي يمدحوننا فيه. ولكن إن كنت تشك فيما قيل، فاسمع المسيح له المجد حين يُدين هذا. ” ويل لكم إذا قال فيكم جميع الناس حسنًا “[5]، وهذا كلام له ما يبرره. لأنه لو كان يجب على الصنّاع أن يطلبوا مُقيّمين أو قضاة لكل عمل، فكيف تسمح للناس أن يراقبوا الفضيلة، ولا تسمح لله الذي يعرف قبل الجميع وأكثر من الجميع، والذي يمكنه أن يُدين، وأن يُكلل؟ لنكتب هذه العبارة إذًا على الجدران، وعلى الأبواب، وفي آذاننا، ونكررها في أنفسنا دائمًا: ويل لنا إذا قال فينا جميع الناس حسنًا.
وهؤلاء الذين يمتدحونك، هم بالحقيقة الذين يذمونك فيما بعد ويقولون عنك إنك محب للمجد الباطل والعظمة، وإنك تشتهي مديحهم بشكل مُبالغ فيه. أما الله فلا يفعل هذا، بل عندما يراك تشتهي مجده، فهو يمتدحك في ذلك الوقت ويصنع معك معجزات، ويُكللك. وعلى العكس من ذلك فإن الإنسان لا يفعل هكذا، بل يعتبرك عبدًا بدلاً من حرًا، وكثيرًا ما يمنحك مدحًا كاذبًا فقط وبكلام ساذج، ويكون قد إختطف منك الأجر الحقيقي واشتراك، بل وبالأكثر جعلك عبدًا. لأن العبيد يخضعون لسادتهم بعد أن يصدروا لهم أوامرهم، أما أنت فتصبح عبدًا بدون أوامر. لأنك لا تنتظر أن تسمع شيئًا من الذين يمدحونك، بل بدون أن يصدروا لك أوامرهم، فأنت تفعل كل شئ يُسعدهم. إذًا ألا نكون مستحقين لهذا القدر من الجحيم، حين نُفرِح الأشرار، ونخضع لهم حتى قبل أن يأمروننا، بينما الله الذي يحثنا وينصحنا كل يوم، لا نسمع له؟
ولكن إذا كنت تشتهى المجد والمديح إشتهاءً شديدًا، فعليك أن تتجنب مديح الناس، وعندئذٍ ستنال المجد. احتقر الكلام المنمق، حينئذٍ ستتمتع بمديح كثير من الله ومن الناس أيضًا. لأن مَن يحتقر ويزدري المجد الباطل هو عادةً الذي نمجده ونمتدحه ونُعجب به. فإذا نحن احتقرنا المجد الباطل، فبالحرى جدًا سيُمجدنا إله الكل. وعندما يُمجدك الله ويمتدحك، فمن ذاك الذي يمكن أن يكون أكثر سعادة منك؟ وبالحقيقة فإنه بقدر إتساع المسافة بين المجد والإزدراء، هكذا يكون الفرق بين المجد الإلهي والمجد الإنساني الباطل شاسعًا جدًا ولا نهاية له. فإذا كان المجد الإنساني الباطل سيئًا ورديئًا حتى عندما لا يُقارن بشئ، أو عندما نفحصه بالمقارنة مع شئ آخر، ففكّر إذًا في مدى القبح الذي سيظهر منه. فهو تمامًا مثل المرأة الزانية، حتى ولو كانت تُقيم في منزل، إلاّ أنها تعرض نفسها للآخرين، هكذا أيضًا عبيد المجد الباطل. وربما هم أسوأ من هذه المرأة الزانية، لأن مثل هؤلاء النساء كثيرًا ما يحتقرن شخصًا يكون قد اشتهاهم، بينما أنت قد عرضت نفسك للجميع، لمجرمين ولصوص، ولسارقي الأموال. لأن هؤلاء وأشباههم يمثلون المتفرجين الذين يمتدحونك. وهؤلاء الذين عندما يكونون متفرقين بعيدًا لا تعتبرهم مستحقين شيئًا على الاطلاق، لكنهم عندما يجتمعون معًا، تُفضّلهم على خلاصك، وتقدم نفسك مُجردًا من المجد أكثر من كل هؤلاء.
بالحقيقة كيف لا تكون مُجردًا من المجد، أنت يا من تحتاج للمديح من الآخرين، وهل تعتقد إنك لو أخذت المجد من آخرين سيكون هذا مفيدًا لك؟ أخبرني، ألم تفكر، بالإضافة إلى كل ما قيل، كيف أنهم عندما ينظروا إليك من كل جانب، حين تصبح معروفًا للجميع، أنه سيكون أمامك عددًا لا يُحصى ممن يدينونك إذا ما أخطأت، بينما حين تكون غير معروف، ستبقى في أمان؟ نعم هكذا يقول، وحين أُحقق إنجازات، سيكون لديّ مُعجبين لا حصر لهم. إنه لأمر مخيف حقًا، ليس فقط حين تُخطئ، لكن أيضًا حين تُحقق إنجازات، فإن مرض المجد الباطل سيؤذيك. لقد طرح الكثيرين إلى أسفل من قبل، والآن ينزع عنك كل أجرك.
[1] رو29:3ـ30.
[2] إش16:28.
[3] يوئيل32:2.
[4] يو44:5.
[5] لو26:6.