Site icon فريق اللاهوت الدفاعي

رسالة رومية الأصحاح10 – عظة18 ج1 – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب

رسالة رومية الأصحاح10 – عظة18 ج1 – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب

رسالة رومية الأصحاح10 – عظة18 ج1 – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب

 

العظة الثامنة عشر:

”أيها الإخوة إن مسرة قلبي وطلبتي إلى الله لأجل إسرائيل هى للخلاص” (رو1:10).

          1 ـ مرة أخرى نجد الرسول بولس ينشغل بهؤلاء اليهود بشكل أقوى من ذي قبل. ولهذا نجده يُزيل الشكوك التي توحي بوجود بغضة أو نفور، ويُمهد كثيرًا لما يريد قوله لكي يتفادى سوء ظن المتلقي لرسالته. هكذا يقول لهم، ينبغي ألاّ تتخوفوا من كلامي ولا من شكواي، بل إن ما أقوله ليس نابعًا من شعور عدائي. لأنه لا يمكن لشخص واحد، أن تكون لديه رغبة في خلاص هؤلاء اليهود، بل ويُصلي من أجل هذا الخلاص، ثم في نفس الوقت يُبغضهم وينفر منهم. بالإضافة إلى أن مسرته هنا كما يقول، هى رغبته الشديدة، والطلبة التي يرفعها إلى الله من أجل خلاص إسرائيل. ليس فقط من أجل أن ينجوا من الجحيم، بل لأجل خلاص هؤلاء، وهو مهتم بذلك ويُصلي كثيرًا لأجله. وهو يُظهر محبة تجاه هؤلاء اليهود، ليس فقط في هذا الجزء، بل وفي الآيات التي تلي ذلك أيضًا. لأنه من خلال الأمور ذاتها، قد جاهد وناضل على قدر ما يستطيع، أن يجد لهم منفذًا ولو بقدر بسيط ليدافع عنهم. لكنه لم يستطع، لأن طبيعة الأمور قد أعجزته عن فعل هذا.

 

” لأني أشهد لهم أن لهم غيرة لله ولكن ليس حسب المعرفة ” (رو2:10).

بالطبع هذه الأمور تستحق المغفرة، وليس الإدانة. إذًا فإن كانوا مُتميزين، لا من جهة الإنسانية، بل من جهة الغيرة لله، فمن العدل أن يُرحموا، بدلاً من أن يُدانوا.

لكن لاحظ كيف أنه بحكمة قد صنع لهم خدمة بكلمته، وأظهر شجارهم غير الملائم. لأنه يقول:

 

” لأنهم إذ كانوا يجهلون بر الله ” (رو3:10).

          أيضًا هذا الكلام يظهر غفرانًا، لكن الكلام اللاحق يُظهر إدانة شديدة جدًا، وينقض أى مُبرر من الممكن أن يُقال. ” ويطلبون أن يثبتوا بر أنفسهم، (لذلك) لم يخضعوا لبر الله “. وقد قال هذا الكلام لكي يُبيّن أنهم إنخدعوا بالأكثر بتأثير الرغبة في النزاع، وفي السلطة، وكذلك الجهل الشديد، إذ أنهم لم يثبتوا ولا حتى في هذا البر، الذي يأتى من تنفيذ وصايا الناموس. لأنه بقوله: “ويطلبون أن يثبتوا” يُظهر ذلك بالتحديد. وهذا ما لم يُشر إليه بوضوح، لأنه لم يقل إنهم فقدوا كل بر، لكنه ألمح إلى هذا برؤية كاشفة أو بنظرة ثاقبة، وبحكمة لائقة به. لأنهم إن كانوا يطلبون أن يثبتوا بر أنفسهم، فمن الواضح جدًا أنهم لن ينجحوا في ذلك، إن لم يخضعوا لبر الله، الذي فقدوه. وقد أطلق الرسول بولس على هذا البر الذي يُريدون تثبيته، بر أنفسهم، إما لأن الناموس لم يعد صالحًا، أو لأنهم اعتمدوا على جهدهم وأتعابهم، بينما دُعَى البر الذي يأتي بالإيمان، بر الله، لأنه يعتمد على نعمة الله بالكامل، ولا يمكن نواله بالجهد، بل بعطية الله. أما أولئك الذين يُقاومون الروح القدس بصفة دائمة، ويجاهدون لأجل التبرير بالناموس، فلن ينالوا الإيمان. ولأنهم لم يقبلوا الإيمان، فإنهم لم يحصلوا على البر الذي بالإيمان، ولأنهم أيضًا لم يستطيعوا أن يتبرروا بالناموس، فإنهم يكونون قد فقدوا البر من كل جهة.

 

2 ـ ” لأنه غاية الناموس هى المسيح للبر لكل مَن يؤمن ” (رو4:10).

          رأيت رؤية الرسول بولس، ليتك تلحظ ما فعل، فإنه تكلم عن البر الذي بالناموس، والبر الذي بالإيمان، حتى لا يعتقد أولئك الذين آمنوا من اليهود، أنهم امتلكوا برًا وفقدوا الآخر، وأنهم أُدينوا بالمخالفة (إذ أنه ما كان ينبغي لهم أن يتهاونوا، طالما أنهم كانوا مُعمدين حديثًا) ولا أيضًا اليهود الذين لم يؤمنوا لهم رجاء في تحقيق هذا البر، ولا أن يقولوا أننا سنحققه، فيما بعد، حتى إن كنا لم نحققه الآن، لاحظ ماذا يفعل. يُوضح أن البر واحد (وليس اثنين)، وأن بر الناموس، قد إنضم للبر الذي بالإيمان، ومن أعطى الأولوية لبر الإيمان يكون قد تمم البر الذي بالناموس أيضًا، أما الذي احتقر بر الإيمان فقد صار فاقدًا لبر الناموس مع فقدانه لبر الإيمان. لأنه إن كان المسيح هو كمال الناموس، فمن لا يقبل المسيح لن يكون له في الواقع بر الناموس، حتى وإن كان يعتقد أنه يتمتع به، بينما من له المسيح يكون قد حصل على كل شئ، حتى وإن كان لم يُحقق بر الناموس.

          هكذا أيضًا فإن هدف العلاج هو استعادة الصحة الجيدة. تمامًا مثل ذاك الذي يستطيع أن يعالج آخر ويجعله في صحة جيدة، وإن كان ليس لديه بعد ترخيص لممارسة الطب، فإنه يملك كل شئ يقود للعلاج، بينما مَنْ لا يعرف أن يُعالج، حتى إن كان يمارس العمل الطبي، يكون قد فقد كل شئ يقود للعلاج. هكذا فيما يتعلق بالناموس والإيمان، فإن من يوجد خارج حظيرة الإيمان، يعتبر غريبًا عن الناموس وعن الإيمان. إذًا ما هو الأمر الذي كان يُريده الناموس؟ لقد كان يريد أن يُبرر الإنسان. لكنه لم ينجح، لأنه لا يوجد أحد قد تمم الناموس. لأن تبرير الإنسان كان هو ما يصبو إليه الناموس، وكانت جميع الممارسات تدور حول تحقيق ذلك الهدف أى تبرير الإنسان، مثل الاحتفالات، والوصايا، والذبائح، وكل الأمور الباقية. لكن هذا التبرير قد حققه المسيح بأعلى درجاته بالإيمان. إذًا لا تخاف من الناموس، لأنك أتيت إلى الإيمان. لأنك كنت تخاف الناموس أنذاك، حين كنت بسبب هذا الناموس، لا تؤمن بالمسيح. فإن كنت قد آمنت بالمسيح، وتممت الناموس، وأكثر جدًا مما يأمر به، فهذا لأنك أخذت برًا أكبر بكثير من بر الناموس.

          3 ـ ولأن هذا كله كان أمرًا محسومًا، فإنه يؤكد عليه بعد ذلك من خلال الكتب. إذ يقول:

 

” لأن موسى يكتب في البر الذي بالناموس ” (رو5:10).

ما يقوله يعني الآتي: إن موسى يُبيّن لنا ما هو البر الذي بالناموس، وما منطقه، ومما يتكون أو يتشكل؟ إنه يقوم على أساس تتميم الوصايا. يقول ” إن الإنسان الذي يفعلها سيحيا بها “. إذ أنه من غير الممكن أن يصير المرء بارًا بالناموس، إلاّ فقط من خلال تتميم كل الوصايا. بيد أن هذا لم يكن ممكنًا لأي أحد. وبناءً على ذلك، فقد فشل هذا البر. ولكن أخبرني يا بولس عن البر الذي يأتي من النعمة، ما هو وما الأساس الذي يقوم عليه؟ اسمع الرسول بولس الذي يصف هذا البر بوضوح. إذًا لأنه أدان البر الذي يأتي بالناموس، نجده يذهب فيما بعد إلى بر الإيمان، قائلاً:

 

” وأما البر الذي بالإيمان فيقول هكذا لا تقل في قلبك من يصعد إلى السماء أى ليحدر المسيح. أو من يهبط إلى الهاوية أى ليصعد المسيح من الأموات. لكن ماذا يقول. الكلمة قريبة منك في فمك وفي قلبك أى كلمة الإيمان التي نكرز بها لأنك هكذا إن اعترفت بفمك بالرب يسوع وآمنت بقلبك أن الله أقامه من الأموات خلصت لأن القلب يؤمن به للبرر والفم يعترف به للخلاص” (رو6:10ـ10).

          إذًا لكي لا يقول اليهود، كيف لهؤلاء الذين لم يجدوا البر الأصغر أن يحصلوا على البر الأكبر، فإنه يذكر الرؤية العكسية، إن طريق البر بالإيمان يعتبر أسهل من الطريق الآخر (أى طريق البر بالناموس). لأن طريق البر بالناموس يتطلب تتميم كل الوصايا، وحين تتممها كلها، ستحيا. لكن البر الذي بالإيمان لا يتطلب هذا، فماذا يطلب؟ ” إن اعترفت بفمك بالرب يسوع وآمنت بقلبك أن الله أقامه من الأموات خلصت “. عليك أن تنتبه كيف يكثر الرسول بولس من الحديث عن بر الإيمان بعد ذلك، لكي لا يظهر أيضًا أنه يجعله بلا قيمة، من حيث إنه يُظهره سهلاً وبسيطًا، لأنه لم يأت مباشرةً إلى ما قلناه، فماذا قال؟ ” وأما البر الذي بالإيمان فيقول هكذا. لا تقل في قلبك من يصعد إلى السماء أى ليحدر المسيح.أو من يهبط إلى الهاوية أى ليصعد المسيح من الأموات “. لأنه كما في حالة الفضيلة التي تُستعلن بالأعمال، يُقاوم الإيمان الخمول، وتراخي القدرات، ويحث النفس على أن تكون مُتيقظة جدًا، حتى لا تتقهقر، هكذا أيضًا عندما نؤمن كما ينبغي، نجد أن هناك أفكارًا تُثير حالة من الخلط والشكوك، وتؤذي أذهان الكثيرين، وتحتاج إلى نفس قوية، تتصدى لها.

          ولهذا تحديدًا يذكر هذه الأفكار، وما سبق أن ذكره في حالة إبراهيم، هذا يذكره هنا أيضًا. فهو يسمو بحقيقة الإيمان، بعدما أظهر كيف أن إبراهيم تبرَّر بالإيمان حتى لا يظهر أنه قد أخذ إكليلاً عظيمًا بهذا القدر باطلاً، كما لو كان هذا الأمر لا قيمة له، فيقول: ” فهو على خلاف الرجاء آمن على الرجاء لكي يصير أبًا لأمم كثيرة كما قيل هكذا يكون نسلك. وإذ لم يكن ضعيفًا في الإيمان لم يعتبر جسده وهو قد صار مماتًا إذ كان ابن نحو مائة سنة ولا مُماتية مستودع سارة. ولا بعدم إيمان إرتاب في وعد الله. بل تقوى بالإيمان معطيًا مجدًا لله وتيقن أن ما وعد به هو قادر أن يفعله أيضًا [1]. وأظهر أن الأمر يحتاج إلى قوة وإلى نفس سامية حتى تستقبل تلك العطايا التي تتجاوز مجرد الرجاء، وألا تتعثر بسبب ما تراه. وهذا هو ما يفعله هنا أيضًا، حيث يُظهر أن الأمر يحتاج إلى فكر حكيم، وإرادة عظيمة تسمو حتى إلى السماء، وهو لم يقل فقط، لا تقل، بل ” لا تقل في قلبك ” أى ولا حتى أن تفكر بالشك وتقول في نفسك، كيف يكون هذا ممكنًا؟

          أرأيت كيف أن ملمح الإيمان يتضح في أن نطلب الحياة الأبدية، بعدما نترك كل تطور طبيعي للأمور، وبعدما نرفض الأفكار المريضة، وأن نؤمن أن كل الأشياء تأتي بقوة الله؟ وإن كان من المؤكد أن اليهود لم يقولوا هذا فقط، بل أضافوا إنه من غير الممكن أن يتبرَّروا بالإيمان. أما الرسول بولس فيقود من اتخذ اتجاهًا آخر، إلى الطريق الصحيح حتى يبرهن على أن البر هو عظيم بهذا القدر، وحين يتحقق فإنه يحتاج إلى الإيمان، وحينئذٍ يتضح كيف أنه أمر عادل وحق أن يُنسج إكليلاً لهؤلاء الذين يتبرَّرون بالإيمان. ويستشهد بما جاء في العهد القديم، مع توخي الحذر دائمًا في توجيه الإتهامات أو الإدانات، والصدام مع البر الذي بالناموس. ولهذا فإن ما يقوله هنا عن الإيمان، يقوله لهؤلاء من حيث وصية موسى، لكي يُظهر أنهم تمتعوا بإحسانات كثيرة من الله. لأنه من غير الممكن أن يقول إنه يجب أن يصعد إلى السماء وأن يعبر بحرًا كبيرًا، حتى يأخذ الوصايا، بل إن الأشياء العظيمة والهائلة قد جعلها الله لنا سهلة.

          لكن ما معنى “الكلمة قريبة منك”؟ تعني أنها سهلة، لأن الخلاص يوجد في فكرك، وفي فمك، دون أن نسافر مسافة طويلة، ولا أن نبحر كثيرًا، ولا أن نتسلق جبالاً، هكذا يجب أن نخلص. لكن إن كنت لا تريد أن تسير حتى في هذا الطريق، فمن الممكن أن تخلص وأنت ماكث في بيتك، لأن بداية خلاصك هى في فمك وفي قلبك. ثم جعل الرسول كلامه عن الإيمان سهلاً، بقوله إن ” الله أقامه من الأموات “. فكّر إذًا في مكانة وقيمة ذاك الذي أقامه، ولن نرَ أى صعوبة في ذلك. وبناء عليه، حيث إنه هو الرب، فمكانته تتضح من القيامة، الأمر الذي ذكره في بداية الرسالة: ” وتعين ابن الله .. بالقيامة من الأموات[2]، وبالنسبة لاعتبار القيامة سهلة التحقيق فهذا ما تبرهن من خلال قوة ذاك الذي جعلها أيضًا تتحقق مع الذين من الصعب جدًا أن يؤمنوا. إذًا عندما يكون البر عظيمًا ويسيرًا، وسهل القبول، وعندما يكون من غير الممكن أن نتبرر إلاّ بهذه الطريقة، ألا يعتبر سعيهم لتحقيق المستحيلات نموذجًا لأسوأ أنواع الجهاد، فهم قد تركوا الأمور السهلة والهيّنة؟ ولذلك لن يستطيعوا أن يقولوا إنهم قد تركوا التفكير في بر الإيمان بسبب أنه كان ثقيلاً.

          أرأيت كيف أنه ينزع عنهم كل صفح أو مسامحة؟ فأي دفاع يمكن أن يقدموه، بعدما فضّلوا ما هو ثقيل وصعب التحقيق واستهانوا بما هو سهل، كما احتقروا أيضًا من استطاع أن يصنع لهم الخلاص ويعطيهم ما لم يستطع الناموس أن يُعطيه؟ إن هذا كله لا يتعدى كونه دليلاً على رغبة في النزاع أو الجدال ومقاومة الله. خاصة وأن الناموس ثقيل ومُرهِق، بينما النعمة سهلة. ولا يقدر الناموس أن يخلّص حتى وإن حاولوا  تنفيذ وصاياه بإجتهاد كبير. بينما النعمة تمنح البر الذي يخصها، وبر الناموس أيضًا. أى كلام إذًا يمكن أن يُخلّصهم، حين يتصرفون برغبة عدائية تجاه النعمة، بينما هم ينظرون إلى الناموس بدون هدف، ويتجهون نحو الأمور التي لا فائدة من ورائها؟

[1]  رو18:4ـ21

[2]  رو4:1.

رسالة رومية الأصحاح10 – عظة18 ج1 – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب

Exit mobile version