رسالة رومية الأصحاح9 – عظة17 ج4 – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب
رسالة رومية الأصحاح9 – عظة17 ج4 – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب
بقية العظة السابعة عشر:
6 ـ ” فماذا نقول؟ ألعل عند الله ظلمًا حاشا ” (رو14:9).
أى أنه لم يحدث لنا ظلم، ولا لليهود أيضًا. ثم يُضيف أمرًا آخرًا أكثر وضوحًا قائلاً؟
” لأنه يقول لموسى إني أرحم من أرحم وأتراءف على من أتراءف ” (رو15:9).
ومرة أخرى يُزيد الرسول بولس من حجم التعارض أو التناقض، وفي المنتصف يُزيل هذا التعارض، ويجد له حلاً، ثم يخلق مرة أخرى، صعوبة أخرى. ولابد لنا أن نفسر ما قيل حتى يصبح أكثر وضوحُا. فالرسول بولس يقول إن الله قال، الكبير يُستعبد للصغير، قبل ولادتهما. ماذا إذًا؟ هل الله ظالم؟ حاشا. إذًا فلنستمع للكلام اللاحق. هناك على الأقل في حالة يعقوب وعيسو، إنفصال بين الفضيلة والشر، بينما الخطية كانت واحدة ومشتركة بين جميع اليهود، خطية صناعة العجل الذهبي، إلاّ أن البعض أُدين والبعض لم يدن. ولهذا قال: ” أرحم من أرحم وأتراءف على من أتراءف “. لأن الله يقول لموسى، لست أنت المسئول عن معرفة المستحقين للرأفة، فاترك هذا لي. فإن لم يكن هذا هو عمل موسى، أن يعرف، فبالأولى كثيرًا، لا يكون عملنا. ولهذا لم يُشر فقط إلى ما قيل، بل ذكر لمن قاله. لأنه يقول هذا الكلام لموسى، لكي ينتقد بذلك، أى من خلال مكانته عند اليهود، أى شخص يُعارض أحكام الله.
إذًا بعدما قدم الحل للتساؤل الذي نشأ من الكلام السابق، لم يطرح مرة أخرى، تناقضًا أو تعارضًا آخرًا، إذ قال:
” فإذًا ليس لمن يشاء أو لمن يسعى بل الله الذي يرحم لأنه يقول الكتاب لفرعون إني لهذا بعينه أقمتك لكي أُظهر فيك قوتي ولكي يُنادى باسمي في كل الأرض ” (رو16:9ـ17).
لأنه تمامًا كما قال هناك، إن البعض قد خلص والبعض قد أُدين، هكذا هنا أيضًا قد حفظ لنا الكتاب قصة فرعون، لهذا السبب عينه. ثم يأتي مرة أخرى ويقول كلامًا قاطعًا ومُثيرًا.
” فإذًا هو يرحم من يشاء ويُقسّى من يشاء. فستقول لي لماذا يلوم بعد؟ لأن من يقاوم مشيئته ” (رو18:9ـ19).
أرأيت كيف حرص على أن يجعل الكلام كله مُثيرًا للحيرة؟ ولم يقدم حلاً مباشرًا، وذلك لأجل منفعتهم، فقد لجّم ذاك الذي يعترض على هذه الأمور، قائلاً الآتي:
” بل من أنت أيها الإنسان الذي تجاوب الله ” (رو20:9).
إن الرسول بولس يقول هذا، لكي يوقف الفضول الذي يأتي في غير أوانه من جانب مثل هذا الإنسان، وتعليقاته الكثيرة، ويضع له لجامًا، ولكي يُعلّمنا من هو الله، ومن هو الإنسان، وكيف أن عنايته غير مُدركة، ويوضح كيف أنها أسمى من تفكيرنا، وكيف أن كل شئ ينبغي أن يخضع له، حتى أن الرسول بولس، حين يُبرهن على ذلك للمستمع، ويجعل إرادته مرنة، عندئذٍ يُضيف الحل بطريقة غاية في السهولة، فهو يجعل الكلام مقبولاً بالنسبة له.
هو لم يقل، إنه أمر مستحيل أن نُقدم حلاً لهذه الأمور، بل لا يصح أن نفحص الأمور المشابهة أو المماثلة. لأنه يجب أن نؤمن بما يصنعه الله ولا نتفحصه، وحتى لو كنا نجهل أسبابه. ولهذا يقول: ” من أنت أيها الإنسان الذي تجاوب الله “. أرأيت كيف أنه احتقر التباهي والتفاخر ورفضه؟ “من أنت أيها الإنسان “؟ هل تُشارك السلطة الإلهية؟ هل عُيّنت مُستشارًا لله؟ لأنه لا يُمكنك أن تكون شيئًا، بل ولا تُمثل شيئًا مقارنةً بالله. لأنه من حيث إنه يقول من أنت، فهو يركز هنا على عدم قيمة الإنسان الذي يجاوب الله، أكثر من تركيزه على فكرة أنك لا شئ. من جهة أخرى فهو يُعلن من خلال سؤاله عن نوع من الغضب. ولم يقل من أنت أيها الإنسان الذي تجاوب الله؟ بل “من تجادل”[1]، بمعنى من أنت يا مَن تعارض، أو يا مَن تقاوم. لأنه عندما يحكم أحد على أعمال الله، ويقول: هكذا كان ينبغي أن يكون، أو ليس هكذا، فهذا ما يوصف بأنه اعتراض. أرأيت كيف أنه أخافهم وأفزعهم، وجعلهم يرتجفون بالأكثر فلا يجرؤون على البحث والفحص؟ هذه هى صفة مميزة للمعلم المتميز، ألاّ يتبع رغبات التلاميذ المتنوعة في كل الإتجاهات، بل أن يقودهم إلى إرادته، وبعدما ينزع الأشواك من طريقهم. حينئذٍ يُلقي البذار، وألاّ يُجيب مباشرةً على التساؤلات التي تطرح من كل نوع.
7 ـ ” ألعل الجبلة تقول لجابلها لماذا صنعتني هكذا أم ليس للخزاف سلطان على الطين أن يصنع من كتلة واحدة إناء للكرامة وآخر للهوان ” (رو21:9).
إنه لم يقل هذا لكي يلغي حريتنا، بل لكي يُظهر إلى أى مدى يجب أن نطيع أو نخضع لله. إذًا عندما نحاول أن نناقش الله في قراراته، فلن يكون سلوكنا بصورة أفضل من الطين. لأنه ليس فقط لا ينبغي أن نُعارض، بل ولا أن نطلب من الله أن يقدم لنا تقريرًا عن أعماله، ولا حتى أن نتكلم، ولا أن نُفكر، بل علينا أن نُشبه الطين الطيّع في أيدي الخزّاف، والذي يتحول إلى الشكل الذي يريده ذلك الخزّاف. إن الرسول بولس أورد المثل، ليس لمجرد إظهار التصرف الذي يجب أن يكون عليه المرء، بل لكي يُشير إلى الطاعة غير المحدودة وإلى السلوك الكامل. ويجب أن ننتبه في كل موضع، إلى أنه لا ينبغي علينا أن نأخذ الأمثال بكل عناصرها، بل نختار العنصر أو الجزء المفيد منها، والذي لأجله استخدم الأمثال، ونترك البقية. تمامًا مثلما يقول: ” جثم كأسد “[2]، يُقصد به ذاك الذي لا يُقَاوَم، والمُرعب، ونستبعد عنصر الوحشية أو الشراسة، وأية خاصية أخرى من خصائص الأسد. وأيضًا عندما يقول: ” أصدمهم كدُبة مُثكل “[3]، يُقصد رغبة الإنتقام. وعندما يقول: ” لأن الرب إلهك هو نار آكلة“[4]، يُقصد الهلاك في الجحيم. هكذا هنا أيضًا يجب أن نفهم المعنى المقصود من الطين، ومن الخزاف، والآنية.
ولكن عندما يُضيف قائلاً: ” أم ليس للخزاف سلطان على الطين أن يصنع من كتلة واحدة إناء للكرامة وآخر للهوان “، لا يجب أن تعتقد أن الرسول بولس قال هذا عن عملية الخلق، ولا للأسس التي يتطلبها تحديد نظام المخلوقات، بل يعني بذلك سلطان الله من ناحية، والتنوع الذي يوضحه عندما يدبر أعماله من جهة أخرى. لأنه إن لم نفهمها هكذا، فلابد أن ينتج عن ذلك أمور كثيرة لا تليق بالله. إذًا بالحقيقة لو أن الكلام هنا عن الترتيب أو النظام، وعن الصلاح، والشرور، فسيكون الله هو الخالق ولن يكون الإنسان متسببًا في أي شئ. وأيضًا سيُظهر القديس بولس ذاته، وهو الذي يمتدح دائمًا حرية الاختيار، كأنه يتناقض مع نفسه. إذًا فهو هنا لا يُريد شيئًا آخرًا، سوى أن يقنع السامع تمامًا، بأن يتراجع أمام الله، وألا يضعه موضع المساءلة البتة عن أى شئ. لأنه كما أن الخزاف يصنع من كتلة واحدة الأواني التي يريدها، ولا يعترض احد على ذلك. هكذا الله أيضًا، الذي يُدين البعض ويُكرم البعض من نفس جنس البشر، ولا ينبغي أن تفحص عمله هذا، بل تخضع له فقط، وأن تتمثل بالطين، فكما أن الطين يصبح طيعًا في أيدي الخزاف، هكذا أنت أيضًا يجب أن تُطيع رأي ذاك الذي يدبر كل الأشياء. لأنه لا يصنع شيئًا بدون سبب، ولا مصادفة، حتى وإن كنت لا تعلم أسرار حكمته.
ومن المؤكد أنك تترك الخزاف يصنع من كتلة واحدة أواني مختلفة، ولا تدينه، بينما تطلب من الله أسبابًا عن إدانة البعض وتكريم البعض الآخر، ولا تسمح له بمعرفة من هو المستحق ومن هو غير المستحق، خاصة وأنه عندما تكون نفس الكتلة هى من نفس الجوهر، فإنك تطلب وترغب أن تنتج عنها أشكال متشابهة. ألا يعتبر هذا التفكير علامة على درجة خطيرة من الجنون؟ على الرغم من أن وجود التافه والمهم لا يرجع إلى كتلة الطين ـ حتى في حالة الخزاف ـ بل يعتمد على حرية الاختيار (في استخدام الإناء). إلاّ أنه، وكما سبق وأشرت يجب أن نأخذ هذا المثال، بهذا المعنى فقط، أى أنه لا يجب أن نُعارض الله، بل أن نتراجع أمام عنايته غير المُدركة. بالإضافة إلى أنه يجب أن تكون الأمثلة التي تخص أولئك المشار إليهم (أى الذين يعترضون على تدبير الله) أكبر من هذه المطالب، حتى تصير هذه الأمثلة، حافزًا للمستمع، لأن يخضع لإرادة الله بالأكثر. لأن الأمثلة إن لم تكن واضحة، فلن يكن ممكنًا أن تكون لها فاعلية كما ينبغي، في تبكيت ذاك الذي يُعارض.
[1] هنا يشرح القديس ذهبي الفم الفرق بين كلمتي (apokrinÒmenoj) و(antapokrinÒmenoj) الأولى تعني تجاوب، والثانية تعني تجادل، ويقول إن الرسول بولس استخدم الكلمة الثانية، أى (antapokrinÒmenoj).
[2] عد9:24.
[3] هو8:13.
[4] تث24:4.