رسالة رومية الأصحاح9 – عظة17 ج2 – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب
بقية العظة السابعة عشر:
3 ـ إذًا لنتقدم، ونأتي إلى كلامه مرة أخرى، هذا الكلام: ” فإني كنت أود لو أكون أنا نفسي محرومًا “. ماذا تعني عبارة “أنا نفسي”؟ تعني الذي صار معلّمًا للجميع، وحقق إنجازات لا حصر لها، وينتظر أكاليلاً لا تُعد، ومن أحب المسيح، حتى أنه فضّل محبته عن كل شئ، ومَن كان يحترق كل يوم من أجله، والذي كان يعتبر أن كل شئ يأتي في المرتبة الثانية بعد محبته للمسيح. لأنه لم ينعم بمحبة المسيح له فقط، ولكن أراد هو نفسه أن يحب المسيح جدًا، وخاصةً أن هذه المحبة كانت هدفه. ولهذا تحديدًا كان يتطلع نحو ذاك فقط، وقَبِل أن يعاني كل الآلام، بكل رضا وسهولة، لأنه كان يهدف لشئ واحد فقط، أن يُسّر بهذا الحب الممتع. وبالتأكيد هو يتمنى هذا. لكن لأنه لا يريد أن يحدث هذا الأمر، أى أنه لا يريد أن يكون محرومًا، يحاول فيما بعد أن يصّد الإتهامات، ويُشير في حديثه إلى كلمات الهذيان التي يقولها الجميع لكي ينقضها. وقبل أن يعرض دفاعه الواضح ضد هؤلاء، كان قد وضع أساس هذا الدفاع. لأنه حين يقول: ” الذين .. لهم التبني والمجد والعهود والاشتراع والعبادة والمواعيد ” فهو لا يقول شيئًا آخرًا، سوى أن الله أراد الخلاص لهؤلاء. وأوضح هذا من خلال كل ما صنعه قبلاً، وبأن المسيح قد جاء منهم، وبكل ما وعد به آباءهم. إلاّ أنهم ردّوا الإحسان، بالجحود.
ولهذا فإنه يذكر ما يعتبر دليلاً على عطية الله فقط، وليس مدحًا لهؤلاء. لأن التبني هو نتيجة لنعمته، وهكذا المجد والعهود والاشتراع. وبعدما أدرك كل هذا تمامًا، وبعدما فكّر كيف أن الآب والابن قد اهتما بخلاص هؤلاء، صرخ بقوة قائلاً: ” إلهًا مباركًا إلى الأبد أمين “، رافعًا هو نفسه الشكر من أجل كل شئ، إلى ابن الله الوحيد الجنس. وكأن الرسول بولس يقول، حتى لو أن الآخرين كانوا يُجدفون، لكن نحن الذين نعرف أسراره، والحكمة التي لا يُعبر عنها، والعناية الوفيرة، ندرك جيدًا، أنه لا يليق به التجديف، بل يستحق كل المجد. ويحاول الرسول بولس بعد ذلك بدون أن يكتفي بما في ضميره، أن يُشير إلى أفكار هؤلاء، ويستخدم كلمات شديدة القسوة ضدهم. لكي يبطل وجهة نظرهم. وحتى لا يظهر إذًا وكأنه يتكلم معهم، كما لو كانوا أعداء، يقول فيما بعد ” أيها الاخوة إن مسرة قلبي وطلبتي إلى الله لأجل إسرائيل هى للخلاص “[1]. ولكنه هنا بالإضافة إلى الأمور الأخرى التي قالها، لا يظهر كأنه يتكلم عن تلك الأمور التي يتحدث عنها ضدهم إنطلاقًا من عداوة. ولهذا تحديدًا لم يتوقف عن أن يدعوهم أقارب واخوة.
لأنه على الرغم من أنه استعرض كل ما قاله عن المسيح، إلاّ أنه جذب تفكيرهم، وبعدما أعدَّ الطريق من خلال كلامه، وحرّر نفسه من كل شك، من جهة تلك الأمور التي كان ينوي أن يواجههم بها، عندئذٍ بدأ الكلام الذي طلبه الكثيرون. تمامًا كما أشرت سابقًا، إن أولئك الذين أعطى لهم الوعد قد فقدوا الحرية، بينما أولئك الذين لم يسمعوا عن الوعد مطلقًا، نالوا الخلاص قبل هؤلاء اليهود. ولكي يُزيل هذا الشك أو هذه الحيرة، أوجد حلاً قبل أن يذكر التناقض. لكي لا يقول أحد: ماذا إذًا، هل أنت تهتم بالأكثر بمجد الله، أم أن الله يهتم بمجده؟ وهل الله يحتاج لمساعدتك، حتى لا تسقط كلمة الله؟ وهو يَصُد هذا الكلام فيقول، إنني قلت هذه: ” ليس هكذا حتى أن كلمة الله سقطت “، لكي أُبيّن محبتي للمسيح. لأنه بالتأكيد لو أن الأمور حدثت هكذا، كما يؤكد الرسول بولس، ما وُجدنا في حالة ضعف، بحيث نضطر أن نُدافع عن الله، ولكي نُثبت أن الوعد ظل ثابتًا. لقد قال الله لابرام ” لك ولنسلك أُعطي هذه الأرض” و ” تتبارك فيك (في نسلك) جميع قبائل الأرض“[2]. لنرَ إذًا، كما يقول الرسول بولس، من هم نسله، لأن ليس كل الذين ينحدرون منه، هم نسله. ولهذا قال:
” لأن ليس جميع الذين من إسرائيل هم إسرائيليون. ولا لأنهم من نسل إبراهيم هم جميعًا أولاد ” (رو7:9).
إذًا لو أنك عرفت من هم نسل إبراهيم، سترى أن الوعد أعطى لأحفاده، وستعلم أن الكلام لم يكن كذبًا. أخبرني إذًا، من هم نسله؟ لا أتكلم أنا، هكذا يقول الرسول بولس، بل أن العهد القديم نفسه يُفسر نفسه، قائلاً الآتي: ” لأنه باسحق يُدعى لك نسل “[3]. وشرح ما معنى “باسحق”.
” أى ليس أولاد الجسد هم أولاد الله بل أولاد الموعد يُحسبون نسلاً ” (رو8:9).
لاحظ حكمة الرسول بولس وافتخاره. لأنه لم يقل، وهو يفسر هذا الجزء، أن أولاد الجسد ليسوا أولاد إبراهيم، لكن ليس هم “أولاد الله”، وهكذا يربط أمور الماضي بالحاضر، ويُظهر أنه ولا حتى اسحق فقط، كان ابنًا لإبراهيم. أى أن ما يقوله يعني الآتي: إن كل من وُلدوا على مثال اسحق، هؤلاء هم أولاد الله، ونسل إبراهيم. ولهذا قال ” باسحق يُدعى لك نسل “، لكي تعرف، أن كل مَن يُولد بالطريقة التي وُلد بها اسحق، يكون على أية حال نسل ابراهيم.
إذًا كيف وُلد اسحق؟ ليس وفقًا لناموس الطبيعة، ولا بحسب قوة الجسد، ولكن بحسب قوة الوعد. ما معنى “بحسب قوة الوعد”؟
” أنا آتي نحو هذا الوقت ويكون لسارة ابن ” (رو9:9).
هذا هو الوعد، وكلمة الله قد تحققت ووُلد اسحق. ماذا يعني هذا، إن كان هناك رحم وبطن للأم؟ يعني أنه ليس بقوة البطن، لكن بقوة الوعد قد وُلِد اسحق. هكذا نحن أيضًا نُولد بكلام الله، لأن كلام الله هو الذي يُنجبنا ويلدنا في جرن المعمودية بالماء، عندما نُعمَّد باسم الآب والابن والروح القدس. لكن هذا الميلاد لا ينتمي للطبيعة الجسدية، بل لوعد الله. تمامًا كما سبق وأخبر بميلاد اسحق، فقد تمّمه في وقته، هكذا فإن ميلادنا سبق وأعلنه منذ عهود قديمة بواسطة كل الأنبياء، ثم بعد ذلك حققه الله. أرأيت مدى عظمة العمل الذي أظهره، وكيف أنه بعدما وعد بهذا الأمر العظيم، حققه بكل سهولة؟ أما عندما قال اليهود إن ” باسحق يُحسبون نسلك ” فهذا يعني أن كل من يولد من اسحق هو من نسله، وكان ينبغي أن يُدعى كل اليهود أولاده، لأن جدهم آساف كان ابنًا لاسحق. أما الآن، ليس فقط لم يدعوا أولادًا، بل وتغربوا جدًا عن ذاك (أى عن إبراهيم). أرأيت كيف إن أولاد الجسد، ليسوا أولاد الله، بل إن الميلاد الثاني بالمعمودية يُستعلن بقوة الله في هذه الطبيعة الجسدية؟ وإن كنت قد حدثتني عن الرحم، فأنا أستطيع أيضًا أن أتحدث عن ماء المعمودية. لكن كما أن كل شئ هنا يتعلق بالروح القدس، هكذا هناك أيضًا كل شئ يتعلق بالوعد، لأن الرحم (أى رحم سارة) من حيث العقم والشيخوخة، كان أكثر برودة من الماء[4]. إذًا لنعرف بكل تدقيق أصلنا النبيل، ولنظهر سلوكًا يليق بهذا الأصل. لأن هذا الأصل ليس فيه أى شئ جسدي ولا أرضي. ودعونا إذًا نحن أيضًا ألا نتعلق بأى شئ جسدي أو أرضي. لأنه لا النوم، ولا رغبة الجسد، ولا الأحضان، ولا رغبة الشهوة، يمكن أن تصنع شيئًا، بل محبة الله للبشر هى التي تصنع كل شئ. وتمامًا كما حدث في السابق وتقدم العمر جدًا، هكذا الآن بعدما أتت شيخوخة الخطايا، فجأة ظهر اسحق الجديد، وجميعنا صِرنا أولاد الله، ومن نسل إبراهيم.
[1] رو1:10.
[2] تك3:12.
[3] تك12:21.
[4] أى ليست له قدرة على الانجاب.