رسالة رومية الأصحاح9 – عظة17 ج1 – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب
رسالة رومية الأصحاح9 – عظة17 ج1 – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب
رسالة رومية الأصحاح9 – عظة17 ج1 – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب
العظة السابعة عشر:
” أقول الصدق في المسيح. لا أكذب وضميري شاهد لي بالروح القدس ” (رو1:9).
1 ـ هل كان كلامي غير واضح، حين كلمتكم في اليوم السابق عن أمور عظيمة ليست أرضية بل سمائية تتعلق بمحبة بولس للمسيح؟ وإن كانت الكلمات بحسب طبيعتها أعظم وأسمى من كل الكلمات المعتادة، إلاّ أن ما قيل اليوم يفوق بكثير ما قيل سابقًا، بقدر ما تتميز به تلك الكلمات على كلماتنا. وإن كنت لم أتصور أن هذه الكلمات التي قُرأت أكثر تميزًا، ولكن عندما سمعناها اليوم، ظهرت أكثر بهاء من كل الكلمات السابقة. وهذا بالضبط ما اعترف به الرسول بولس نفسه، فقد أشار إليه منذ البداية. لأنه كان ينوي الحديث عن الأمور الأعظم، حيث إن ما يريد أن يقوله قد لا يكون موضع تصديق من كثيرين. أولاً فهو يؤكد على ما يريد قوله، الأمر الذي اعتاد أن يصنعه الكثيرون، عندما يقولون شيئًا لا يكون موضع تصديق من كثيرين، لكنه كان مقتنعًا به جدًا، خاصةً وأنه يقول:
” إن لي حزنًا عظيمًا ووجعًا في قلبي لا ينقطع. فإني كنت أود لو أكون انا نفسي محرومًا من المسيح ” (رو2:9ـ3).
ماذا تقول يا بولس؟ هل المسيح الذي لم يفصلك عنه شئ، لا ملكوت السموات، ولا جهنم، ولا الأشياء المرئية، ولا غير المرئية، الآن توَّد أن تكون محرومًا منه؟ ماذا جرى؟ هل تغيّرت وألغيت تلك المحبة؟ يُجيبك بالنفي، ويقول لا تخف، بل محبتي له قد أصبحت أكثر قوة. إذًا كيف تود أن تكون محرومًا، وتطلب التغرب والإنفصال عن ذاك الذي لا يمكننا أن نجد مثله؟
يُجيبنا بقوله، لأنني أحبه كثيرًا جدًا. أخبرني كيف وبأي طريقة؟ بالحقيقة، هنا يوجد لغز. لكن من الأفضل، إن أردت معرفة ذلك، علينا أن نعرف أولاً ماذا تعني كلمة محروم، وحينئذٍ لنسأله عن هذه الرغبة، وسنعرف معنى هذه المحبة غير الموصوفة والعجيبة. ما هو معنى الحرمان؟ اسمع ما يقوله ” إن كان أحد لا يُحب الرب يسوع المسيح فليكن أناثيما (محرومًا) “[1]. أى لينفصل عن الجميع، وليكن غريبًا عن الكل. تمامًا مثلما لا يجرؤ أحد أن يلمس بيديه النذير المخصص لله، ولا أن يقترب منه، هكذا ذاك الذي ينفصل عن الكنيسة، فهو يدعوه بهذا الاسم محرومًا لكي يفصله عن الجميع، ويبعده بعيدًا جدًا، وبالعكس، يحث الجميع بخوف شديد، على الإنفصال والابتعاد عنه. لأن النذير من جهة الإكرام لا يجرؤ أحد أن يلمسه، بينما بالعكس، فإن الجميع ينفصلون عن ذاك الذي قُطع من الكنيسة.
وبناءً عليه، فالإنفصال هو واحد، ومتشابه، وهذا وذاك قد إنفصل عن الكثيرين، لكن طريقة الإنفصال ليست واحدة، بل هما مختلفان. فهو قد ابتعد عن واحد، لأنه مُخصص لله، وإنفصل عن الآخر لأنه تغرّب عن الله وقُطع من الكنيسة. إذًا، ولكي يعلن بولس هذا، قال: ” كنت أود لو أكون أنا نفسي محرومًا من المسيح “. ولم يقل كنت أريد، بل مشددًا على هذه الرغبة، يقول “كنت أود”. لكن إن كان ما قيل يُسبب لك إزعاجًا، إذ ربما تكون ضعيفًا، فيجب ألا تفكر في هذا الأمر فقط، أى أنه أراد أن ينفصل عن المسيح، بل فكَّر في السبب الذي من أجله أراد أن ينفصل، عندئذٍ ستفهم محبته الفائقة. فهو قد مارس الختان، وكان علينا أن ننتبه إلى الرغبة والسبب في هذه الممارسة، حينئذٍ سنعجب به أكثر. أيضًا لم يمارس الختان فقط، بل حلق رأسه، وقدم ذبيحة. ومع هذا لم نقل أنه يهودي، بل من أجل هذا تحديدًا وعلى وجه الخصوص نقول إنه تحرَّر من اليهودية، وأنه خادم نقي وحقيقي للمسيح.
هكذا مثلما تراه وهو يُختتن ويذبح، فلا تحكم عليه لهذا السبب أنه متهود، بل لأجل هذا السبب على وجه الخصوص تكرمه وتكلله، كما لو كان غريبًا عن التهود. هكذا عندما تراه وهو يود أن يكون محرومًا، لا تنزعج من أجل هذا، بل من أجل هذا تحديدًا وبصفة خاصة، يجب أن تعترف به منتصرًا، طالما أنك عرفت السبب، الذي من أجله أراد هذا الأمر. لأنه إن لم نفحص الأسباب، ستقول عن إيليا أنه كان قاتلاً للناس، وعن ابرآم أنه ليس فقط قاتلاً للناس، بل قاتلاً لابنه، بل وفينحاس وبطرس، سنتهمهما بالقتل أيضًا. وليس فقط من جهة القديسين، بل من جهة إله الكل، فإن الذي لا يحفظ هذا المنهج[2]، سيتشكك فيه، بسبب أمور كثيرة هى ليست موضع حديثنا الآن. إذًا لكي لا يحدث هذا في كل الأمور المشابهة انظر إلى السبب، والرغبة، والزمن، وكل ما يُبرر الأمور التي تحدث لنفحص الأمور على هذا النحو. هذا ما ينبغي أن نصنعه نحن الآن تجاه هذه النفس الطوباوية.
2 ـ إذًا ما هو السبب؟ لنرجع إلى يسوع، موضع حب الرسول بولس. “كنت أود”، يقول: ” لو أكون أنا نفسي محرومًا من المسيح لأجل اخوتي أنسبائي حسب الجسد “. وهذا دليل على تواضعه، لأنه لا يريد أن يبدو، وكأنه قادر على التحدث عن عظائم، بل هو يعترف بهذه القدرة للمسيح. ولهذا قال “اخوتي أنسبائي”، لكي لا يظهر تميّزه. بل من أجل محبته للمسيح لم يُرِد أى شئ، اسمع، فإنه بعدما قال “اخوتي أنسبائي” أضاف:
” الذين لهم التبني والمجد والعهود والاشتراع والعبادة والمواعيد. ولهم الآباء ومنهم المسيح حسب الجسد الكائن على الكل إلهًا مباركًا إلى الأبد آمين ” (رو4:9ـ5).
وما معنى هذا؟ لأنه لو أراد أن يصير محرومًا، لكي يؤمن آخرون، كان يجب أن يطلب هذا الإيمان للأمم أيضًا، ولكن إن كان يريد ذلك لليهود فقط، فهو بهذا يُظهر أنه ليس المسيح هو السبب في ذلك، بل إن السبب يعود في المقام الأول لقرابته لليهود. أما إذا كان يود أن يكون محرومًا من المسيح من أجل الأمم، ما كان ليُظهر هذا الأمر نفسه[3]. ولكن نظرًا لأنه تمنى ذلك لليهود فقط، فهو يُبرهن بوضوح كيف أنه يهتم بإظهار مجد المسيح.
وأنا أعرف أن هذا الكلام يبدو لكم غريبًا، لكن لكي لا تنزعجوا سأحاول سريعًا أن أجعله أكثر وضوحًا. لأنه لم يقل ما قاله، هكذا مصادفة، لكن لأن الجميع تكلموا واشتكوا على الله، أنه على الرغم من أنهم كُرّموا بأن دُعوا أبناء الله، وأخذوا الناموس، وعرفوا الله قبل جميع البشر، وقبلوا المواعيد، وكانوا آباء لأسباطهم والأهم من كل هذا، على الرغم من أنهم كانوا أسلافًا للمسيح، لأن هذا هو معنى “ومنهم المسيح حسب الجسد”، إلاّ أنهم اضطهدوا المؤمنين وأهانوهم، وحل محلهم أُناس لم يعرفوا الله أبدًا، أى أولئك الذين أتوا من الأمم. لقد جدّفوا على الله وعندما سمع بولس هذا حَزِن وتألم من أجل مجد الله، لذلك تمنى أن يكون محرومًا، وإن كان ممكنًا، أن يُخلّص هؤلاء المقاومين، بأن يوقف تجديفهم لكي لا يظهر أن الله خدع أجيالاً كثيرة، قد وعدها بالهبات أو العطايا.
ولكي تعرف أنه كان يود أن يكون محرومًا من المسيح لأجل إخوته، لأنه عانى من أجل أن يبرهن أن وعد الله الذي أُعطى لابرام: ” لك ولنسلك أعطي هذه الأرض “[4]، لم يكن وعدًا كاذبًا، أضاف:
” ولكن ليس هكذا حتى إن كلمة الله قد سقطت ” (رو6:9).
يُبيّن هنا أنه ظل صابرًا على كل هذا، من أجل كلمة الله، أى من أجل الوعد الذي أُعطى لابرام من أجل اعلان مجد الله. تمامًا كما أن موسى قد ظهر أنه تشفع لأجل اليهود، ولكنه كان قد فعل كل شئ لأجل مجد الله. كما يقول الكتاب: ” لئلا تقول الأرض التي أخرجتنا منها لأجل أن الرب لم يقدر أن يدخلهم الأرض التي كلمهم عنها .. أخرجهم لكي يُميتهم في البرية “[5]. هكذا بولس أيضًا، لكي لا يقولوا: لقد ثبت أن وعد الله كاذب، وأنه تكلم بالكذب عن تلك الأمور التي وعد بها، وأن كلام الله لم يتحقق، لذلك أراد أن يكون محرومًا. ولهذا تحديدًا، لم يقل من أجل الأمم، طالما أن الله لم يعد الأمم بأى شئ، ولا قدموا له الخدمة، ولهذا لم يجدفوا عليه، ومن أجل هذا هو تمنى أن يكون محرومًا من أجل اليهود الذين أخذوا الوعد، وأيضًا الذين كان لهم علاقة معه قبل الآخرين.
إذًا لو أنه تمنى هذا لأجل الأمم، ما كان ليظهر بهذا الوضوح، أنه صنع هذا لأجل مجد المسيح. لكن لأنه أراد أن يكون محرومًا لأجل اليهود، يتضح عندئذٍ بصفة خاصة أنه فقط لأجل المسيح تمنَّى هذا. ولهذا قال: “ولهم التبني والمجد والعهود والاشتراع والعبادة والمواعيد“. لأن الناموس الذي تحدث عن المسيح قد أُعلن بواسطة اليهود، كما أن كل العهود تمت مع هذا الشعب، والمسيح نفسه أتى منهم، إضافة إلى أن جميع الآباء الذين نالوا المواعيد هم من اليهود. ولكن حدث العكس وفقدوا كل النعم. وهكذا فإني أود أن أُقطع، وإن كان ممكنًا أن أنفصل عن جماعة المسيح وأتغرب. لكن دون أن أتغرب عن محبة المسيح، فحاشا لي أن أفعل هذا طالما أن ما أفعله، هو بسبب المحبة، بل أنني سأقبل أن أتغرب عن هذا التمتع، وهذا المجد، حتى لا يُجدف على إلهي، وحتى لا يُسمع البعض وهم يقولون إن الأمور انتهت كما تنتهي مشاهد مسرحية عادية. لقد وعد الجميع وأعطى الجميع. آتي من آخرين، وأعطى لآخرين. وعد أجيال اليهود، وهجر أحفادهم، وقاد أولئك الذين لم يعرفوه قط إلى الصلاح والنعم.
هؤلاء اليهود، تعبوا في دراسة الناموس وقرأوا النبوات، بينما الأمم، الذين عادوا بالأمس من عبادة الأوثان، صاروا أفضل منهم.
وحتى لا يقولوا إذًا هذه الأمور عن إلهي ـ هكذا يقول الرسول بولس ـ على الرغم من أنهم يتكلمون بالظلم، فإنني مستعد بكل ارتياح أن أفقد الملكوت، بالإضافة إلى هذا المجد الذي لا يُعبر عنه، وأن أتحمل كل الأمور المؤلمة، لأنني أعتبر أن التعزية التي هى أعظم من كل شئ، تكمن في ألا أسمع بعد أى كلام تجديف على ذاك الذي أحبه جدًا. ولكن إذا كنت لم تقتنع بكلامي، فكّر في أن كثيرين من الآباء، قبلوا هذا (أى هذا النوع من المحبة)، مرات كثيرة، من أجل أبنائهم، وفضَّلوا أن ينفصلوا عن هذه الأمور، وبالأكثر أن يرونهم يتقدمون، لأنهم اعتقدوا أن تقدمهم يسبب سعادة أكثر، من مرافقتهم. لكن نظرًا لأننا بعيدين جدًا عن هذه المحبة، فإننا لا نستطيع أن نفهم ولا حتى هذا الذي قيل. فإن البعض لا يستحقون أن يسمعوا ولا حتى اسم بولس، وهم بعيدون جدًا عن غيرته الشديدة، حتى أنهم يعتقدون أنه يقصد بكلامه، الموت الزمني. فهؤلاء أستطيع أن أقول إنهم يجهلون رسالة بولس بشدة، تمامًا بقدر ما يجهل العميان أشعة الشمس، أو من الأفضل أن نقول، بل وأكثر من هذا.
لأن الرسول بولس، الذي كان يُمات كل النهار، والذي تعرض لأخطار كثيرة، وقال: ” من سيفصلنا عن محبة المسيح. أشدة أم ضيق أم اضطهاد أم جوع “[6]، ولم يكتفِ بهذا، لكنه عبر فوق السماء، وسماء السموات، وفاق ملائكة، ورؤساء ملائكة، وكل السموات، وأدرك وفهم الأمور المستقبلية والأمور الحاضرة، الأمور المنظورة وغير المنظورة، المحزنة والمفرحة، وكل الأمور التي تنتمي إلى الاثنين، الأرضي والسمائي، ولم يترك أى شئ، وعلى الرغم من كل هذا لم يشعر بالشبع، حتى أنه افترض وجود كون آخر كبير. كيف يمكن بعد كل هذا أن يُشير إلى الموت الزمني، كأنه تحدث عن شئ خطير؟ إن الأمر ليس هكذا في الحقيقة، بل أن هذا الموت يحدث حتى للحشرات التي تعيش في الطين. إذًا لو أنه كان يقصد هذا، كيف تمنى أن يكون هو نفسه محرومًا من المسيح؟ فإن مثل هذا الموت (الجسدي) هو الذي سوف يضمه بالحري إلى من يحيون في المسيح، ويجعله يتمتع بهذا المجد.
لكن بالتأكيد هناك بعض ممن يتجرأوا على الحديث عن أمور أخرى أكثر سخرية من هذه. فيقولون إنه لا يقصد بحرمانه من المسيح، أن يموت، بل هل يشتاق أن يعيش حياة عظيمة وتكون مكرّسة للمسيح. أما الذين يتمنون الموت الجسدي فهم الذين لا قيمة لهم بالمرة والبائسين. لكن كيف يرغب في أن يكون محرومًا من أجل اخوته وأنسبائه؟ إذًا بعدما نترك كلام الخرافات، والهذيان، لأنه لا يستحق أن نفند هذا الكلام ونواجهه، تمامًا كما أنه لا يستحق أن نواجه حديث الأطفال الذين يتلعثمون، لنعد مرة أخرى إلى هذه العبارة (أى أن يكون محرومًا)، مُتمتعين ببحر محبته، وفي كل مكان نسبحه من أجل محبته، وندرك لهيب المحبة الذي لا يُعبر عنه. أو من الأفضل أن نقول إنه مهما قال المرء عن هذه المحبة، فإنه لا يقول شيئًا ذا قيمة. لأن هذه المحبة هى أكثر إتساعًا من كل بحر، وأكثر توهجًا من كل لهب، ولا يوجد كلام يمكن أن يوفها حقها كما ينبغي، أما هو نفسه وحده، الذي اكتسبها تمامًا، فهو وحده الذي يعرفها.
[1] 1كو22:16.
[2] يقصد بكلمة المنهج: المبدأ الذي تكلم عنه في ضرورة البحث عن السبب قبل الحكم على الأمور.
[3] أى بقوله: ” الذين لهم التبني والمجد والعهود .. “.
[4] تك7:12.
[5] تث28:9.
[6] رو35:8.