Site icon فريق اللاهوت الدفاعي

رسالة رومية الأصحاح8 – عظة15 ج2 – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب

رسالة رومية الأصحاح8 – عظة15 ج2 – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب 

رسالة رومية الأصحاح8 – عظة15 ج2 – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب

بقية العظة الخامسة عشر:

         3 ـ إذًا بعدما تكلم عن الفارق من جهة السلوك، ومن جهة النعمة التي أُعطيت، وكذلك من جهة الحرية، أضاف دليلاً آخر للإمتياز الذي يأتى من هذا التبنى. ما هو هذا الإمتياز إذًا؟ هو أن:

 

” الروح نفسه أيضًا يشهد لأرواحنا أننا أولاد الله ” (رو16:8).

          هكذا يوضح الرسول بولس، أننى لا أدّعى بالكلام فقط (أننى ابن الله)، بل إني مولود من المصدر الذي منه يأتي هذا الصراخ. نقول هذا الكلام، لأن الروح يُمليه. ولكى يعلن هذا بأكثر وضوح، قال في موضع آخر:” أرسل الله روح ابنه إلى قلوبكم صارخًا يا أبا الآب[1]. وماذا يعنى “الروح يشهد لأرواحنا”؟ أى المعزى يشهد من خلال الموهبة التي أُعطيت لنا. لأن هذا الصراخ لا ينتمي فقط للموهبة، بل للمعزي الذي أعطانا العطية، لأنه هو نفسه علّمنا أن نتكلم هكذا بالموهبة المعطاة لنا. وحين يشهد الروح، فهل يوجد شك بعد ذلك؟ لأنه إن كان إنسان أو ملاك أو رئيس ملائكة، أو قوة أخرى مشابهة، وعدت بذلك، فمن الطبيعى أن يتشكك البعض، لكن حين يكون الروح، الذي منحنا هذا النداء، يشهد لأرواحنا بتلك الصلاة التي أوصانا أن نصلي بها، فمَنْ يشك بعد ذلك في قيمة هذا الصراخ؟ فلن يتجرأ أحد من الرعية أن يعترض عندما يُعين الملك شخصًا ويعلن هذا الشرف أمام الجميع.

 

” فإن كنا أولادًا فإننا ورثة ” (رو17:8).

          لاحظ أنه رويدًا رويدًا يُزيد العطية. فهل من الممكن أن نكون أبناءً ولا نصير ورثة، إذ أنه على أي حال ليس كل الأبناء ورثة، ولهذا أضاف عبارة: أننا ورثة. لكن اليهود مع كونهم ليس لهم مثل هذا التبنى، فقد حُرموا من الميراث لأن ” أولئك الأردياء يهلكهم هلاكًا رديًا ويُسلّم الكرم إلى كرامين آخرين [2]. وقبل هذا قال إن    ” كثيرين سيأتون من المشارق والمغارب ويتكئون مع إبراهيم واسحق ويعقوب في ملكوت السموات. وأما بنو الملكوت فيُطرحون إلى الظلمة الخارجية[3]. ولا هنا أيضًا يتوقف، لكنه يشير إلى ما هو أعظم من ذلك. وما هو هذا؟ هو أننا ورثة الله. ولهذا أضاف “ورثة الله”. بل والأكثر، هو أننا ورثة مع المسيح. أرأيت كيف يجاهد لكي يقودنا لنكون بالقرب من الرب؟ إذًا فنظرًا لأن ليس كل الأبناء هم ورثة، فإنه يبيّن أننا أبناء وأيضًا ورثة. ولأن ليس كل الورثة هم ورثة أشياء عظيمة، فإنه يبيّن أن هذه الأشياء العظيمة قد صارت لنا، طالما أننا ورثة الله. ولأنه أيضًا يمكن أن أكون وارثًا لله، لكن ليس مع أى أحد، وهذا قد أوضحه إذ قال إننا ورثة مع الابن الوحيد الجنس.

          وانتبه إلى حكمة الرسول بولس، لأنه بعدما حدَّد الأمور المحزنة، عندما تحدث عما سيُعانى منه أولئك الذين يحيون حسب شهوات الجسد، على سبيل المثال أنهم سيموتون، إنشغل بالعطايا العظمى، لذلك إتجه بكلمته إلى إتساع أكبر، ممتدًا بها إلى التأكيد على التعويض بالمكافآت مبينًا العطايا المتنوعة والعظمى. لأنه إن كانت النعمة أمرًا لا يُوصف ، وأن يكون المرء ابنًا، فتأمل كم هو عظيم أن يكون المرء وارثًا. وكم يكون عظيمًا جدًا أن يكون وارثًا مع المسيح.

          ولكي يبيّن بعد ذلك أن العطية لا تنتمي فقط للنعمة، وفي نفس الوقت لكي يجعل كل ما قيل جديرًا بالثقة، أضاف: ” إن كنا نتألم معه لكى نتمجد أيضًا معه “. إذًا لو كنا نشترك معه في الآلام، فبالأكثر سنشترك معه في الخيرات. لأن ذاك الذي منح كل هذه الخيرات أو النعم لأولئك الذين لم يُحققوا شيئًا، عندما يرانا نحن قد تعبنا وعانينا الكثير، ألا يكافئنا بالأكثر؟

          4 ـ وبعدما أظهر أن الأمر هو مجازاة وتعويض، ولكى يكون الكلام جديرًا بالتصديق، ولا يتشكك أحد منه، يبيّن أيضًا أنه لا يخلو من قوة عمل النعمة. من جهة لكي يؤمن بهذا الكلام أولئك الذين يتشككون، وأيضًا لكي لا يستحي الذين قبلوه، لأن هناك عطايا محفوظة على الدوام، ومن جهة أخرى، لكي تعلم كيف أن الله يعوض الآلام بالمكافآت. وقد أعلن عن الجانب الأول قائلاً: ” إن كنا نتألم معه لكي نتمجد أيضًا معه “، بينما الآخر يُستدل عليه بقوله:

 

” فإنى أحسب أن آلام الزمان الحاضر لا تقاس بالمجد العتيد أن يُستعلن فينا” (رو18:8).   

          لأنه إن كان في الكلام السابق، يطلب من الإنسان الروحى أن يُصحح السلوك، من خلال الكلام الذي قاله، إنه لا يجب أن يعيش حسب شهوات الجسد (لكي ينتصر الإنسان الروحى على الشهوة، وعلى الغضب، وعلى محبة المال، وعلى الغرور، وعلى الحسد)، فقد ذكّره هنا بالعطية الكاملة، سواء التي أعطيت أو التي سوف تُعطى، وبعدما أنهضه ورفعه عاليًا بالرجاء، وضعه بالقرب من المسيح، وبرهن له على أنه وريث مع الابن الوحيد الجنس، وبجرأة فائقة يقوده إلى المعارك والانتصار على الشهوات التي هى في داخلنا. وهذه تختلف عن المعاناة التي نجوزها بسبب التجارب مثل: الجوع، والسلب، والسجن، والقيود، والنهب. فهذه الأمور تحتاج إلى نفس قوية وشجاعة.

          لاحظ كيف أنه في نفس الوقت يضبط ويسمو بفكر أولئك الذين يجاهدون. لأنه عندما يُظهر عظمة المكافآت، مقارنة بالمتاعب، حينئذٍ يحث بالأكثر، ولا يترك مجالاً للتباهي. فالمكافآت العظيمة تجعلهم ينتصرون. وفي موضع آخر يقول: ” لأن خفة ضيقتنا الوقتية تنشئ لنا أكثر فأكثر ثقل مجد أبديًا[4]. ويصف هنا الضيقة أنها خفيفة، لأن كلمته كانت موجهة بالأكثر إلى مصارعين حُكماء، وهكذا يجعل الضيقة خفيفة بالمكافآت التي ستُعطى في الدهر الآتي، قائلاً: ” فإنى أحسب أن آلام الزمان الحاضر ” ولم يقل، بالمقارنة براحة الدهر الآتى، ولكن قال ما هو أكبر بكثير ” لا تقاس بالمجد العتيد أن يُستعلن فينا “. لأنه حيث توجد راحة، لا يوجد على كل حال مجد، لكن حيث يوجد مجد، يوجد على كل حال راحة. ثم بعد ذلك لأنه تحدث عن المجد العتيد، يُبرهن كيف أن هذا المجد، يوجد من الآن. لأنه لم يقل، مقارنة بما سوف يتحقق، ولكن ” لا تقاس بالمجد العتيد أن يُستعلن“، فهو موجود الآن، لكنه مُستتر، الأمر الذي قاله في موضع آخر بأكثر وضوح أن: ” .. حياتكم مستترة مع المسيح في الله[5]. إذًا ليكن لك ثقة من جهة هذا المجد العتيد، لأنه منذ الآن ينتظرك كمكافأة لأتعابك. لكن لو أن هذا المجد الذي سوف تناله في الدهر الآتى يسبقه ضيق في الحاضر، فليتك تفرح لأجل هذا الأمر، من حيث إن ذلك يعتبر مجدًا عظيمًا ولا يوصف، ويفوق الحالة الحاضرة، وهو محفوظ لنا في السموات.

          ومن المؤكد أنه لم يُشِر إلى عبارة “آلام الزمان الحاضر” مصادفةً، بل لكي يُظهر كيف أن المجد العتيد هو أسمى من المجد الحاضر، لا من حيث النوعية فقط، ولكن من حيث المقدار أيضًا. لأن هذه الآلام أيًا كانت ترتبط بالحياة الحاضرة، بينما خيرات الدهر الآتي تمتد إلى الدهور الأبدية. هذه الخيرات، لم يستطع أن يتحدث عنها بشكل مُنفصل، ولا أن يعرض لها بالكلام، بل وصفها بتلك العبارة التي من الواضح أنها محببة لنا بشكل خاصن فقد دعاها بالمجد. لأن المجد يُعد قمة وقاعدة هذه الخيرات. لكنه قد ارتفع بالمستمع بشكل مختلف وتحدث عن الخليقة بشكل عظيم، بهدف أن يوضح، بتلك الأمور التي ستُقال، أمرين: إحتقار الأمور الحاضرة، واشتهاء أمور الدهر الآتي. وكذلك الأمر الثالث، أو من الأفضل أن نعتبره الأول، إنه يظهر كيف أن الجنس البشرى محبوب جدًا لدى الله، ويُظهر أيضًا مقدار الكرامة التي يقود الطبيعة الإنسانية إليها. لكن بالإضافة إلى كل هذا، فكل تعاليم الفلاسفة التي صاغوها عن هذا العالم، قد أسقطها مثل العنكبوت وألعاب الأطفال الهشة، بواسطة هذا التعليم المحدد. لكن لكي تصير هذه الأمور أكثر تحديدًا، لنستمع بالتدقيق للكلمة الرسولية ذاتها.

5 ـ ” لأن انتظار الخليقة يتوقع استعلان أبناء الله. إذ أُخضعت الخليقة للبطل. ليس طوعًا بل من أجل الذي أخضعها على الرجاء ” (رو19:8ـ20).

          إن معنى ما يقوله هو: أن هذه الخليقة تتألم جدًا، لأنها تنتظر وتترجى خيرات الدهر الآتي، التي تكلّمنا عنها الآن. لأن الانتظار يعني الرجاء الكبير. لكن لكي يصير الكلام أكثر قوة، فإنه يُشخّصن العالم كله، الأمر الذي صنعه الأنبياء، فيعرضون للأنهار وهى تصفق، والجبال وهى تتحرك وتبتهج، وهذا لا يعني أن هذه الأنهار والجبال لها نفس، أو يمكن أن يُنسب لها فكر معين، بل لكى تعرف مقدار الخيرات الوفيرة جدًا، إذ هى تصل حتى إلى هذه الأشياء التي لا تحّس. إنهم يفعلون ذلك أيضًا حين يتعرضون للأمور المحزنة، فيقدمون الكرمة تنوح، والجبال، وأحجبة الهياكل وهى تصرخ، لكي نستطيع أن نفهم أيضًا مقدار الشرور الكبيرة. إذًا هذا ما يوضحه الرسول بولس هنا، فيُشخصن الخليقة، ويقول كيف أنها تئن وتتمخض، لا لأنه سمع أنينًا يخرج من الأرض ومن السماء، لكن لكى يشير إلى خيرات الدهر الآتي الوافرة جدًا، ويُعلن الرغبة في التخلص من الشرور التي كانت سائدة.

          ” إذ أُخضعت الخليقة للبطل. ليس طوعًا بل من أجل الذي أخضعها على الرجاء “. ماذا يعنى ” أن الخليقة أُخضعت للبطل “؟ يعني أنها صارت فاسدة. لأى سبب ولماذا صارت فاسدة؟ حدث هذا من أجلك أنت أيها الإنسان. لأنك أخذت جسدًا فانيًا وضعيفًا، ولأن الأرض قبلت اللعنة وأنبتت شوكًا وحسكًا. لكن السماء والأرض عندما تشيخ ستتحول في النهاية إلى مصير أفضل، اسمع النبي الذي يقول: ” من قِدَم أسست الأرض والسموات هى عمل يديك. هى تبيد وأنت تبقى وكلها كثوب تبلى كرداء تُغيرهن فتتغير[6]. وإشعياء أيضًا يُعلن عن نفس الأمر قائلاً: ” ارفعوا إلى السموات عيونكم وانظروا إلى الأرض من تحت فإن السموات كالدخان تضمحل والأرض كالثوب تبلى وسكانها كالبعوض يموتون [7].

          أرأيت كيف أُخضعت الخليقة للبطل، وكيف ستتحرر أيضًا من الفساد؟ لأن داود يقول ” كلها كثوب تبلى كرداء تغيرهن فتتغير “، بينما يقول إشعياء ” وسكانها كالبعوض سيموتون “. دون أن يتحدث عن الدمار الكلي أو الكامل، لأنه لن يصاب سكان الأرض، أى البشر بمثل هذا الدمار، لكنه يقصد الدمار الوقتي، ومع هذه الأرض سينتقلون إلى عدم الفساد، تمامًا مثل الخليقة. كل هذا أشار إليه، بأن قال “كالبعوض”.

          هذا بالضبط ما يعلنه الرسول بولس هنا. لكنه أولاً يتحدث عن خضوع الخليقة، ثم يوضح لأى سبب حدث هذا، فيقول: هل الخليقة أُحتقرت وعانت البطلان، لأجل آخر؟ لا على الاطلاق، لأن ما حدث هو بالحقيقة من أجلي أنا. هى التي عانت أو جازت البطلان من أجلي، كيف ستُظلم، إن كانت تلك الأمور التي عانتها، هى من أجل إصلاحي؟ فضلاً عن ذلك فإن الحديث عن الظلم والعدل، لا يجب أن نمتد به إلى الأشياء الجامدة وغير الحسيّة. لكن لأن بولس شخّصن الخليقة، لم يقل أى شئ مما ذكرته، لكنه تحول إلى الحديث عن أشياء أخرى، فقد بادر إلى تقديم تعزية كبيرة جدًا للمستمع، فماذا يقول؟ هل يقول إن الخليقة نالها الشر لأجلك، وصارت فاسدة؟ لكن الظلم لم ينلها مطلقًا، لأنها ستصير فاسدة أيضًا، لأجلك. لأن هذا هو معنى” .. على الرجاء “. لكن عندما يقول ” إذ أُخضعت .. ليس طوعًا “، لم يقل هذا لكي يُظهر، كيف أن لها فكر، بل لكي تعرف أن كل الأشياء مرتبطة برعاية المسيح، وأن هذا الإنجاز (العتق من الفساد)، غير مرتبط بالخليقة. حسنًا أخبرني إذًا، على أى رجاء أُخضعت الخليقة؟

 

” لأن الخليقة نفسها أيضًا ستعتق من عبودية الفساد” (رو21:8).

          ماذا يعني “الخليقة نفسها”؟ يعني أنها لن تكون بعد فاسدة، بل ستتبع جمال الخلود الذي سيناله جسدك. لأنه تمامًا مثلما حدث، عندما صار جسدك فاسدًا، صارت الخليقة أيضًا فاسدة، فطالما أنه صار غير فاسد، سيلحق عدم الفساد بالخليقة أيضًا. هذا بالضبط، ما أراد أن يوضحه، لذلك أضاف ” إلى حرية مجد أولاد الله ” بمعنى أنها ستُعتق إلى الحرية. لأنه مثلما يحدث مع المرضعة التي تُغذي ابن الملك، عندما يتولى زمام السلطة مكان والده، فإنها ستتمتع هى أيضًا بكل الخيرات معه، هكذا سيحدث مع الخليقة. أرأيت أنه في كل موضع يحتل الإنسان المكانة الأولى، وأن كل شئ يصير من أجله؟ أرأيت كيف أنه يعزى أيضًا ذاك الذي يجاهد، ويُظهر محبة الله التي لا يُعبّر عنها للبشر؟ إذًا لماذا تحزن من أجل التجارب. أنت تئن لأجل نفسك، والخليقة أيضًا تئن لأجلك. وبهذا الحديث لا يُعزى فقط، بل ويبرهن على أن ما قاله هو جديرًا بالثقة والتصديق. لأنه إن كانت الخليقة تترجى، والتي كل شئ فيها يصير من أجلك، فبالأولى كثيرًا يجب أن تترجى أنت، تلك الأمور التي لأجلها ستتمتع الخليقة بخيرات الدهر الآتي. هذا ما يحدث عند البشر، حين ينال الابن مقامًا أو رتبة معينة، فإن العبيد يلبسون الزي المشرق، الذي يتناسب مع مجد الابن. إذًا بنفس الطريقة، فإن الله سيُلبس الخليقة رداء الخلود بما يتناسب مع حرية مجد أولاد الله.

[1]  غل6:4.

[2]  مت41:21.

[3]  مت11:8ـ12.

[4]  2كو16:4.

[5]  كو3:3.

[6]  مز25:102ـ26.

[7]  إش6:51.

رسالة رومية الأصحاح8 – عظة15 ج2 – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب 

Exit mobile version