رسالة رومية الأصحاح8 – عظة14 ج3 – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب
رسالة رومية الأصحاح8 – عظة14 ج3 – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب
رسالة رومية الأصحاح8 – عظة14 ج3 – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب
بقية العظة الرابعة عشر:
7 ـ لكن ما هى علاقة هذا بى أنا، إن كانت هذه الأمور قد حدثت في ذلك الجسد (أى جسد المسيح)؟ بالطبع له علاقة خاصة بي وبك، ولهذا أضاف:
” لكى يتم حكم الناموس فينا نحن السالكين ليس حسب الجسد بل حسب الروح ” (رو4:8).
ما معنى “حكم”؟ يعنى النهاية، الهدف، الإنجاز. إذًا ماذا أراد الناموس، وبماذا أمر؟ لقد أراد أن تكون أنت بلا خطية. هذا قد تحقق الآن فينا بالمسيح. والمؤكد أن المقاومة والنصرة ترجع إلى المسيح، بينما التمتع بالنصرة هو لنا نحن. إذًا هل لن نخطئ من الآن فصاعدًا؟ نعم لن نخطئ، إن كنا غير خاملين وإن لم نكن جبناء. ولهذا أضاف: ” السالكين ليس حسب الجسد “. لكى لا تهمل الاستعداد الكامل عندما تسمع أن المسيح خلّصك من الحرب ضد الخطية، وأن حكم الناموس قد اكتمل فيك، مادامت الخطية قد أُدينت في الجسد، ولهذا بعدما قال قبلاً ” لا شئ من الدينونة الآن ” أضاف ” السالكين ليس حسب الجسد “، وهنا يقول ” لكى يتم حكم الناموس فينا ” نفس الشئ أضافه هنا. أو من الأفضل أن نقول، ليس هذا فقط، بل وأكثر بكثير.
لأنه بعدما قال “لكى يتم حكم الناموس فينا نحن السالكين ليس حسب الجسد” أضاف “بل حسب الروح”، لكى يُبيّن أنه ليس فقط ينبغي علينا أن نبتعد عن الشرور، بل وأن نفتخر بأعمالنا الصالحة. لأنه أن يُعطى لك الاكليل، فهذا أمر يعود للمسيح، ولكن أن تحتفظ به، طالما أنه قد أُعطى لك، فهذا أمر يرجع إليك. لأن حكم الناموس، بألاّ تصير غير مسئول عن اللعنة، هذا قد أنجزه المسيح لأجلك. إذًا ينبغي عليك ألا تخون هذه العطية العظيمة، بل أن تحفظ على الدوام هذا الكنز الثمين. لأنه يُبرهن لك هنا أن خلاصنا بالمعمودية يتطلب حرصنا على أن نُظهر أسلوب حياة بعد المعمودية يليق بهذه العطية العظيمة. وبناء عليه فهو يدافع عن الناموس مرة أخرى قائلاً هذه الأمور. لأنه بالحقيقة، طالما أننا قد آمنا بالمسيح، فيجب أن نفعل كل ما في وسعنا وأن نحرص على عمل الصلاح، لكي يبقى فينا ما أتمه المسيح، الذي أكمل مطلب الناموس، ولا يُنقض.
” فإن الذين هم حسب الجسد فبما للجسد يهتمون ” (رو5:8).
وهذا أيضًا لا يُعد تشهيرًا بالجسد أو تشويهًا له. لأنه حتى ذلك الحين الذي يحتفظ الجسد فيه بمكانته، لا يحدث أى شئ يُثير الغرابة، لكن حين نسمح له أن يفعل كل شئ، مُتجاوزًا حدوده، يثور ضد النفس. وحينئذٍ يحطم كل شئ، ليس بسبب طبيعته، لكن بسبب الفسق والخطية التي تأتى منه.
” ولكن الذين حسب الروح فبما للروح. لأن إهتمام الجسد هو موت ” (رو6:8).
لم يقل لأن طبيعة الجسد، أو جوهر الجسد، لكن قال “اهتمام (تدبير) الجسد”، أى الأمر الذي من الممكن أن يُصحّح أو ينهار. والرسول بولس هنا يتعرض للحديث عن شهوة الذهن الأكثر حماقة، داعيًا إياها بالشئ الأكثر سوءًا (يقصد اهتمام الجسد)، كما اعتاد مرات كثيرة أن يدعو كل الإنسان جسدًا، على الرغم من أن فيه نفسًا.
” أيضًا إهتمام الروح ” يقصد بولس الرسول هنا الفكر الروحى، تمامًا كما قال فيما بعد “لكن الذي يفحص القلوب يعلم ما هو اهتمام الروح”[1]. ويوضح أن الخيرات التي تأتى من هذا الفكر الروحى هى كثيرة في الحاضر وفي المستقبل. لأنه مقابل الشرور التي يحملها اهتمام الجسد، فإن اهتمام الروح يمنح خيرات كثيرة. هذا ما أعلنه بالضبط بقوله: ” هو حياة وسلام “. الثاني مضاد للأول ” لأن اهتمام الجسد هو موت ” (رو6:8). بينما الآخر هو مُضاد لما سيأتي بعد ذلك. لأنه بعدما قال “سلام”، أضاف:
” لأن اهتمام الجسد هو عداوة لله ” (رو7:8).
وهذا ما يعد أسوأ من الموت. ويوضح الرسول بولس هنا أن اهتمام الجسد هو موت وعداوة. ” إذ ليس هو خاضعًا لناموس الله لأنه أيضًا لا يستطيع ”.
لكن لا تقلق عندما تسمع “لأنه أيضًا لا يستطيع”. لأنه بالحقيقة من السهل حل هذه الحيرة. فبالنسبة لاهتمام الجسد الذي يقصده هنا، أى الفكر الأرضى الأحمق المتطلع لشهوات الحياة الأرضية والأعمال الشريرة، يقول الرسول بولس إنه من المستحيل “أن يخضع لناموس الله“.
هل هناك رجاء للخلاص بعد ذلك، إن كان من المستحيل أن يصير شخص صالحًا عندما يكون هو ذاته شريرًا؟ إنه لا يقصد هذا. فكيف صار بولس أفضل حالاً؟ كيف تغير للأفضل؟ ومَنَسّى[2] أيضًا؟ وكيف تغير أهل نينوى؟ وهكذا داود بعدما أخطأ، كيف وُلِدَ من جديد؟ وكيف صحح بطرس خطأه بعدما أنكر المسيح؟ وكيف صار ذاك الذي زنى[3]، من ضمن رعية المسيح؟ كيف رجع أهل غلاطية إلى أصلهم الكريم السابق بعد أن سقطوا من النعمة؟
إذًا الرسول بولس لا يقصد أنه من المستحيل أن يصير الشرير صالحًا، ولكن ما يقصده هو أن الإنسان لا يمكنه الخضوع لله، وهو لايزال شريرًا. أما عندما يتغير، فمن السهل أن يصير صالحًا، وأن يخضع لناموس الله. لأنه لم يقل إن الإنسان لا يستطيع أن يخضع لله، لكن العمل الشرير لا يمكن أن يكون صالحًا. كإنما يقول إن الزنا ليس هو العفة، ولا الشر فضيلة. هذا ما يقوله الإنجيل إن ” شجرة رديئة لا تستطيع أن تصنع أثمارًا جيدة “[4]، لا لكى يستبعد عملية التغير من الشر للفضيلة، لكن لكي يوضح أن البقاء في الخطية، لا يمكن أن يُنتج أثمارًا صالحة. لأنه لم يقل إن شجرة رديئة لا يمكن أن تصير جيدة، ولكنه قال لا تستطيع أن تصنع أثمارًا جيدة، إن ظلت رديئة. أى أنه من المؤكد أن هناك إمكانية لكى تتغير. فمن خلال هذا المثل، ومن خلال مثل آخر قد شرح هذا، حين أوضح الرب أنه يمكن للزوان أن يكون كالحنطة. ولهذا منع من أن يُزال أو يُقلع، لأنه ربما ” تقلعوا الحنطة مع الزوان “[5]، أى الحنطة التي ستنمو مع الزوان.
إذًا فاهتمام الجسد هو الخطية، واهتمام الروح هو النعمة التي أُعطيت، والعمل الذي يتميز بالإرادة الصالحة، دون أن يتحدث هنا عن جوهر الجسد، بل عن الفضيلة والخطية. لأن مالم تستطع أن تحققه بالناموس، هذا ستحققه الآن، أى أن تسلك في الطريق الصحيح وبدون أخطاء، وذلك إن قبلت معونة الروح. لأنه لا يكفي أن نحيا بدون مطالب الجسد، لكن يجب أن نسلك وفقًا لرغبات الروح. وبالمثل فإن تجنّب الشر ليس كافيًا لأجل خلاصنا، ولكن ينبغي أن نصنع الصلاح. بيد أن ذلك سيتحقق إذا ما سلمنا أنفسنا للروح وأقنعنا الجسد أن يعرف مكانته. وعندئذٍ سنجعل الجسد أيضًا جسدًا روحيًا. وهكذا أيضًا فإننا لو كنا خاملين سنجعل النفس جسدية. إذًا لأنه لم يربط العطية باحتياج النفس، بل أرجعها إلى حرية الاختيار، فإنه في وسعك أن تحقق هذا أو ذاك، لأن كل الأشياء قد اكتملت بالعطية. ولا تعاكس الخطية ناموس ذهننا، ولا تستطيع أن تأسر كما كان يحدث في الماضى. بل إن كل هذه الأمور قد توقفت وانتهت. فقد إنكمشت الشهوات، لأنها تخاف وترتعب من نعمة الروح القدس. لكن عندما تُطفئ النور، وتطرد المرشد، وتُبعد القائد أى الروح، فإنك لابد أن تنتظر العواصف التي ستجتاح نفسك فيما بعد.
8 ـ المؤكد أن الفضيلة الآن هى أكثر سهولة، والإنضباط أكثر قوة، وأعرف جيدًا كيف كانت أحوال البشر عندما كان الناموس يسود، وكيف هى أحوالهم الآن، حيث أشرقت النعمة. لأن تلك الأمور التي كانت تبدو في السابق مستحيلة على أى شخص، كالعفة واحتقار الموت، واحتقار كل الشهوات الأخرى الكثيرة، هذه كلها قد تحققت الآن في جميع أركان المسكونة. وليس لنا نحن فقط، بل وللسكيثيين وأهل ثراكى، وللهنود وللفرس، وللأكثرية من البربر. وتوجد أماكن للعذارى، وأعداد كبيرة من الشهداء، وجموع من الرهبان، وعدد الرهبان يفوق عدد المتزوجين، وإزداد الصوم والتجرد الكامل. كل هذا لم يستطع أولئك الذين عاشوا تحت الناموس
أن يتخيلوه ولا في أحلامهم ، باستثناء واحد أو اثنين. عندما ترى إذًا حقيقة هذه الأمور التي تصرخ بأكثر قوة كما من صوت بوق، عليك ألاّ تُظهر ضعفًا، ولا تتنكر لنعمة عظيمة بهذا القدر. لأنه ليس ممكنًا حتى بعد الإيمان، أن تخلص إن كنت لا تبالى بعطية النعمة. لأن المنافسات هى سهلة ولكي تنتصر، فإنه يجب عليك أن تجاهد لا أن تنام، ولا أن تستخدم عظمة النعمة كدافع للخمول، وتحيا مرة أخرى في الوحل السابق. ولهذا أضاف قائلاً:
” فالذين هم في الجسد لا يستطيعون أن يرضوا الله ” (رو8:8).
ماذا إذًا؟ هل نُهلك الجسد لكى نصير مرضيين لدى الله، أو نخرج من الجسد؟ وهل تنصحنا أن نكون قتلة، وهل هكذا تقودنا إلى الفضيلة؟ أرأيت كم من الأفكار غير العاقلة تولد، إذا كنا نقبل ما يُقال بدون تفكير؟ لأنه لا يتكلم هنا عن الجسد أنه الجسم ولا جوهر الجسم، ولكنه يتكلم عن الحياة الجسدية العالمية، المملوءة بالمتع والإسراف، والتي تجعل الإنسان كله جسدانيًا. تمامًا مثل أولئك الذين يرتفعون بالروح، فيجعلون الجسد جسدًا روحيًا، هكذا فإن أولئك الذين يهجرون الروح، ويكونون عبيدًا للبطن وللشهوات، يجعلون من نفوسهم نفوسًا جسدانية دون أن يغيروا من جوهر النفس. وهذا المعنى نجده في مواضع كثيرة في العهد القديم أيضًا، حيث يُسجل أن الجسد هو الحياة الأرضية التي بلا معنى، والمنغمسة في شهوات غير مقبولة. لأن الله يقول لنوح: ” لا يدين روحى في هؤلاء البشر إلى الأبد لأن هؤلاء هم جسد “[6]. وإن كان نوح نفسه يحمل جسدًا. إلاّ أن هذا لم يكن إدانة، إذ هو أمر طبيعي، بل لأنهم قبلوا الحياة الجسدية.
ولهذا بعد أن قال الرسول بولس: ” فالذين هم في الجسد لا يستطيعون أن يرضوا الله ” أضاف:
” وأما أنتم فلستم في الجسد بل في الروح ” (رو9:8).
وهو هنا لا يقصد الجسد في حد ذاته، بل يقصد الجسد الذي انجذب وقُهِر بالشهوات. وقد يقول أحد، لأى سبب لم يتكلم هكذا بوضوح، ولم يُشر حتى إلى الاختلاف؟ فعل هذا لكى يسمو بالمستمع، ولكى يُظهر بأن من يريد أن يحيا حياة مستقيمة، لا يسلك بحسب الجسد. لأنه من حيث إن الإنسان الروحى لا يحيا في الخطية، فهذا واضح لكل أحد. لكن الرسول بولس يُشير إلى الأمر الأعظم، أن الإنسان الروحى لا يحيا في الخطية، بل ولا في الجسد أيضًا، طالما أنه هو نفسه قد صار بالأحرى ملاكًا من الآن، وارتفع إلى السماء، والجسد لم يتعدَ كونه شيئًا يلبسه. وإن كنت تتهم الجسد لأن الحياة الجسدية تحمل اسم الجسد، فإنك بذلك ستتهم العالم، لأن الشر في مرات كثيرة، يُسمّى العالم، تمامًا كما قال المسيح لتلاميذه: ” لأنكم لستم من العالم“[7]، وأيضًا قال لإخوته: ” لا يقدر العالم أن يُبغضكم ولكنه يبغضنى“[8]. وأيضًا ستقولون عن النفس أنها غريبة عن الله، لأنه دعا الذين يحيون في الخداع، نفسانيين.
لكن هذه الأمور ليست هكذا، لأنه يجب أن نبحث في كل موضع ليس عن الكلمات، بل في رؤية المتحدث، وأن نعرف المعنى الصحيح لكلامه. لأن الكلام عن الصلاح شئ، والكلام عن الشر شئ آخر، والمنطقة الوسط بينهما شئ ثالث. مثل النفس والجسد، فهما في الوضع المتوسط، ويمكن أن يصير إما هذا أو ذاك (أى صلاح أو شر). بينما الروح تتعلق دائمًا بالصلاح، ولا يمكن أن تصير شيئًا آخر. أيضًا اهتمام الجسد، أى العمل الشرير، يتعلق بالشرور على الدوام، لأنه لا يخضع لناموس الله. إذًا لو سلّمت النفس والجسد إلى الأفضل (أى إلى الصلاح)، فإنك ستنتمى إلى هذا الصلاح، لكن لو سلمتهما إلى الأسوأ (أى إلى الشر)، فستصبح شريكًا في هذا التدمير، ليس بسبب طبيعة النفس والجسد، بل بسبب استعدادك، لأن في مقدورك أن تختار أيًا من الأمرين.
[1] رو27:8.
[2] 2مل1:21ـ18، 2أخ1:33ـ20.
[3] انظر 2كو5:2ـ8.
[4] مت18:7.
[5] مت29:13.
[6] تك3:6 (ترجمة سبعينية).
[7] يو19:15.
[8] يو7:7.