رسالة رومية الأصحاح8 – عظة14 ج2 – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب
رسالة رومية الأصحاح8 – عظة14 ج2 – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب
رسالة رومية الأصحاح8 – عظة14 ج2 – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب
لقد مضى الرسول في موضوع آخر، بينما ترك موضوع الخلاص كأمر مُسلّم به مكتفيًا بما أظهره لنا. هذا الموضوع هو أننا لم نتحرر فقط من الأشياء السابقة (العتيقة)، بل أيضًا سنفوز من الآن فصاعدًا. لأنه:
بقية العظة الرابعة عشر:
” .. لا شئ من الدينونة الآن على الذين هم في المسيح يسوع السالكين ليس حسب الجسد بل حسب الروح ” (رو1:8).
لم يُشر إلى هذا من قبل، إلى أن تذكّر الحالة السابقة مرة أخرى. لأنه بعدما قال: ” إذًا أنا نفسى بذهنى أخدم ناموس الله ولكن بالجسد ناموس الخطية ” أضاف ” لا شئ من الدينونة الآن على الذين هم في المسيح يسوع “. ولأنه كان ضد الكثيرين الذين يخطئون بعدما نالوا المعمودية، لذا نجده يتناول هذا الأمر، فلم يقل فقط ” الذين هم في المسيح يسوع “، بل ” السالكين ليس حسب الجسد “، لكى يُبرهن على أن كل شئ يسبينا إلى ناموس الخطية بعد ذلك، هو نتيجة خمولنا. إذ علينا الآن أن نسلك ليس حسب الجسد، وهذا ما كان يصعب تحقيقه قبل ذلك.
6 ـ ثم يُثبت ذلك بطريقة مختلفة قائلاً:
” لأن ناموس روح الحياة في المسيح يسوع قد أعتقنى من ناموس الخطية والموت ” (رو2:8).
وهو هنا يدعو الروح القدس، بلقب الروح. لأنه كما قال عن الخطية “ناموس الخطية”، هكذا يقول عن الروح القدس “ناموس الروح”. ومن المؤكد أنه تحدث عن الناموس الموسوى، ووصفه أيضًا قائلاً: ” فإننا نعلم أن الناموس روحى“. إذًا ما هو الفرق؟ يوجد فرق كبير وغير محدود. لأن الناموس الموسوى يُعتبر روحى، ولكن الآخر هو “ناموس الروح”. فما هى أوجه الاختلاف بينهما؟ أن أحدهما (الناموس الموسوى) أُعطِىَ فقط بواسطة الروح القدس، بينما الآخر (ناموس الروح) منح روح الحياة، وبوفرة لكل مَن قَبِله. ولهذا دعاه “ناموس الحياة” من حيث تمييزه عن “ناموس الخطية”، وليس عن الناموس الموسوى. لأنه عندما يقول ” أعتقنى من ناموس الخطية والموت “، لا يقصد هنا الناموس الموسوى، لأنه لم يصفه في أى موضع بناموس الخطية. لأنه كيف يدعو ناموس موسى هكذا، وهو الذي وصفه في مرات كثيرة بأنه عادل ومقدس، وقادر على إبادة الخطية؟ لكنه يقصد ذلك الناموس الذي يُحارب ناموس الذهن. هذه الحرب المخيفة إذًا قد أوقفتها نعمة الروح القدس، بعدما أماتت الخطية، وجعلت جهادنا أسهل بعدما توّجتنا أولاً وقادتنا بعد ذلك بمعونة كبيرة إلى حلبة المصارعات.
وكما هو معتاد لدى الرسول بولس، فقد انتقل بعد ذلك من الحديث عن الابن ليتحدث عن الروح القدس، ثم من الروح القدس إلى الابن، ثم إلى الآب، مقدمًا بثقة كل شئ يخصنا أمام الثالوث، وهذا ما يفعله هنا أيضًا. لأنه بالحق حين يقول ” مَن ينقذنى من جسد هذا الموت “؟ فهو يُشير إلى الآب مع الابن في تتميم هذا الأمر. ثم بعد ذلك يُشير إلى الروح القدس مع الابن لأنه يقول ناموس روح الحياة في المسيح يسوع قد أعتقنى “. وبعد ذلك يذكر الآب مع الابن، لأنه يقول:
” لأنه ما كان الناموس عاجزًا عنه في ما كان ضعيفًا بالجسد فالله إذ أرسل ابنه في شبه جسد الخطية ولأجل الخطية دان الخطية في الجسد” (رو3:8).
مرة أخرى يبدو أنه يُدين الناموس، ولكن بشئ من التدقيق يتضح أنه يمتدح الناموس جدًا، مُظهرًا أنه يتفق مع المسيح، وأنه يشتهى نفس الأمور. لأنه لم يقل ” شر الناموس” بل “ضعف الناموس”، وأيضًا ” فيما كان ضعيفًا” ليس بسبب أنه هو ضار أو أنه يدبر مكائد. وأيضًا لا ينسب له الضعف في حد ذاته بل للجسد قائلاً: ” فيما كان ضعيفًا بالجسد ” قاصدًا بكلمة “جسد” التدبير الجسدي، وليس طبيعة وجوهر الجسد نفسه. وهو بكل هذا قد برأ الجسد والناموس من أى إدانة.
وهو لم يبرأ الناموس بهذه الأقوال فقط، بل وبالأقوال التي تأتي بعد ذلك. لأنه لو كان الناموس مخالفًا، فكيف أتى المسيح ليعين ضعفه ويكملّه، إذ مدّ له يد العون، مدينًا الخطية في جسده؟! لأن هذا كان مُنتظر أن يحدث، لأن الناموس دان الخطية في النفس قديمًا. ماذا إذًا؟ هل أتم الناموس العمل الأكبر، ولم يقم ابن الله وحيد الجنس إلاّ بالجانب الأقل؟ إطلاقًا هذا العمل الأكبر أيضًا قد فعله الله، الذي أعطى الناموس الطبيعى وأضاف الناموس المكتوب. إلاّ أنه ليس هناك أية فائدة من العمل الأكبر، إن لم يوجد العمل الأقل. فما الفائدة وراء معرفة ما يجب أن نفعله دون أن نُنفّذه؟ لا يوجد أى نفع، بل أن الإدانة تكون أكبر. فالذي خلق النفس، هو نفسه الذي جعل الجسد خاضعًا. لأنه أن يُعلّم المرء، فهذا أمر سهل[1]، لكن أن يظهر طريقة معينة، بها تُصبح هذه الأمور سهلة، فإن هذا هو الذي يستحق المدح[2]. ولهذا تحديدًا أتى وحيد الجنس، ولم يصعد إلى السماء إلا بعد أن خلّصنا من هذه المعضلة. والأكثر عظمة هو طريقة النصرة. لأنه لم يأخذ جسدًا مغايرًا، بل نفس الجسد الذي سقط. تمامًا مثل شخص رأى في السوق إمرأة من عامة الشعب وهى تُضرب، ولكي ينقذها قال للجمع إنه ابنها، بينما هو في الحقيقة ابن ملك، وبهذه الطريقة خلّصها من أيدي الذين كانوا يضربونها. هذا ما صنعه المسيح، معترفًا بأنه ابن الإنسان، فأعان الجسد ودان الخطية.
لم تعد الخطية فيما بعد تجرؤ على ضرب الجسد. أو من الأفضل أن نقول إنها ضربته ضربة الموت، ولكن الخطية قد أُدينت وانتهت بنفس الضربة التي ضربت بها وليس الجسد، الأمر الذي يستحق الإعجاب أكثر من كل شئ. لأنه بالحقيقة، لو أن النصرة لم تظهر في الجسد، لكان هذا أمر عادي، طالما أن الناموس قد فعل هذا. لكن المدهش هو أن نُصب النصر أُقيم مع الجسد، وأن ذلك الجسد الذي هُزم من الخطية مرات عديدة، قد ربح نصرة مبهرة ضد الخطية. ها أنت ترى إذًا كم من الأمور العجيبة قد حدثت. أولاً إن الخطية لم تنتصر على الجسد، ثانيًا هُزمت، وهُزمت من الجسد، لأنه ليس هو نفس الأمر أن لا يُهزم الجسد بل أن ينتصر على تلك التي كانت دائمًا تنتصر عليه. ثالثًا إن الجسد لم ينتصر فحسب، بل وأدان الخطية أيضًا. وكونه لا يُخطئ، فهذا معناه أنه لم يُهزم، ولكن كونه أدان الخطية، فهذا معناه أنه انتصر عليها مُظهرًا المهابة التي في هذا الجسد، الجسد الذي كان مُهانًا من قبل. هكذا أبطل المسيح قوة الخطية، وأباد الموت الذي أوجدته هذه الخطية. لأنه حتى ذلك الحين الذي فيه كانت تنقّض على الخطاة، كان الموت جزاءً لهم عن حق، لكن عندما وُجِدَ جسد بلا خطية، وسُلِِّم للموت، أُدينت لأنها مارست عملاً لكنه ليس عن حق.
أرأيت كم تكون مكافآت النصرة؟ إنها تُستعلن في ألا يُهزم الجسد من الخطية، بل ويهزمها ويدينها، ولا يدينها فقط، بل ويدينها كما لو كانت قد فعلت أمرًا خاطئًا مخالفًا. لأنه بعدما هاجمها أولاً، كفاعلة للجُرم، هكذا أدانها، ليس بقوته وسلطانه، بل أدانها بالعدل لأن هذا هو ما أعلنه بقوله: ” ولأجل الخطية دان الخطية في الجسد “. كما لو أنه قال، بكّتها لأنها أخطأت كثيرًا، وبعد ذلك أدانها. أرأيت كيف أنه في كل موضع يدين الخطية وليس الجسد، بل أن هذا الجسد يُتوج، وقرار الإدانة ضد الخطية يُعلن؟ ولكن عندما يقول إنه أرسل ابنه في شبه جسد الخطية، فلا تعتقد أنه يحمل جسدًا آخر. ذلك لأنه قال جسد الخطية، لهذا ذكر كلمة “شبه”. لأن المسيح لم يكن يحمل جسدًا خاطئًا، لكن شبه جسد الخطية، شبيه بجسدنا، ولكن بلا خطية، وله نفس طبيعة جسدنا. ومن هنا يبدو واضحًا أن طبيعة الجسد ليست شريرة. لأن المسيح لم يأخذ جسدًا آخرًا بلا خطية، ولا غيّر جوهر الجسد، وذلك لكي يهيئه للحرب ضد الخطية. بل على النقيض أبقاه في طبيعته وجعله يربح إكليل النصرة ضد الخطية، وبعد ذلك أقامه منتصرًا وجعله خالدًا.
[1] يشير هنا إلى مهمة الناموس التي هى التعليم.
[2] لكن هنا يشير إلى التجسد ونزول ابن الله ليحيا بين البشر.