رسالة رومية الأصحاح6 – عظة12 ج2 – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب
رسالة رومية الأصحاح6 – عظة12 ج2 – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب
رسالة رومية الأصحاح6 – عظة12 ج2 – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب
بقية العظة الثانية عشر:
6 ـ بعد هذا الحديث الذي يجعل المستمع إليه يشعر بالارتياح وبالأمان يضيف إلى ذلك نصائح بقوله:
” فماذا إذًا أنخطئ لأننا لسنا تحت الناموس بل تحت النعمة؟ حاشا” (رو15:6).
إذًا فهو أولاً يستخدم أسلوب المنع، لأن الكلام المشار إليه يُعد مبالغ فيه وغير معقول على الاطلاق. لكن بعد ذلك يوجه الحديث نحو النصح، ويُظهر أن اجتياز المصاعب برضى يعد أمرًا عظيمًا، قائلاً:
” ألستم تعلمون أن الذي تقدمون ذواتكم له عبيدًا للطاعة أنتم عبيد للذي تُطيعونه إما للخطية للموت أو للطاعة للبر ” (رو16:6).
لم يُشر بعد إلى جهنم ولا إلى ذلك الجحيم الكبير بل إلى العار الذي يظهر في هذه الحياة، عندما تصيرون عبيدًا، وعبيدًا بكامل إرادتكم، وعبيدًا للخطية، وعندما يكون أجركم هو الموت مرة أخرى. فإن كانت الخطية قد سبَّبت موت الجسد قبل نوال المعمودية واحتاج الجرح لهذا القدر الكبير من العلاج حتى أن سيد الكل ينزل من السماء ويموت، فينتهى الشر، فإنك تُلقي بنفسك في الدناءة إذا استسلمت للخطية بكامل إرادتك بعد نوال الحرية وهذه العطية العظيمة. وأتساءل مندهشًا: ما الذي لم يفعله الله لك؟
إذًا لا تركض نحو هذا الهلاك الكبير، ولا تُسلّم نفسك للخطية بإرادتك. لأنه مرات كثيرة قد يحدث في الحروب أن يستسلم الجنود، ولكن دون إرادتهم، ولكنك هنا إذ لم تتقدم بنفسك نحو معسكر العدو (أى معسكر الشيطان) فلن ينتصر عليك أحد. وبعدما قال لهم ما ينبغى عليهم فعله، يخيفهم من المجازاة ويذكر الأمرين، البر والموت. ليس الموت الجسدى، ولكنه موت أكثر رعبًا من هذا الموت. لأنه إن كان المسيح لم يمت بعد، فمَن كان يستطيع أن يقضى على ذلك الموت؟ لا يوجد أحد. وبناء على ذلك كان من المحتم علينا أن نتعذب وأن نُعاقَب على الدوام. لأن الموت المادى بالنسبة لنا لم يكن قد حدث بعد، حيث يستريح الجسد وينفصل عن النفس ” فآخر عدو يُبطل هو الموت “[1]. وبناء عليه فإن الجحيم سيظل قائمًا، لكن ليس للمؤمنين بل للأشرار، لأن المؤمنين تنتظرهم المكافآت والخيرات التي تنبع من البر.
7 ـ ” فشكرًا لله إنكم كنتم عبيدًا للخطية ولكنكم أطعتم من القلب صورة التعليم التي تسلمتموها ” (رو17:6).
وبعدما أخجلهم من جهة عبودية الخطية، وبعد أن أخافهم بالعقاب وحثهم على فعل الخير، يُصحح مسيرتهم مرة أخرى بواسطة تذكيرهم بعمل الخير. إذ أنه بواسطة هذه الأعمال يبرهنون على أنهم تخلّصوا من شرور كثيرة، لكن يذكّرهم أيضًا بأنه ليس بجهادهم قد تم هذا، وأن أمور الدهر الآتى هى أكثر راحة. تمامًا مثلما يحدث لو أن شخصًا ما، أنقذ أسيرًا من يد طاغية مُستبد، ونصحه بعدم العودة لهذا الطاغية، وذلك بأن ذكّره بالآلام المخيفة التي جازها، هكذا صنع الرسول بولس فهو يُذكّرهم بالخطايا السالفة التي ارتكبوها قبلاً ويشكر الله لأجل الغفران. لأنه لم يكن في استطاعة أى قوة إنسانية أن تُخلّصنا من كل هذه الخطايا، لذلك يجب أن نشكر الله الذي أراد خلاصنا وحقق لنا أمورًا كثيرة. وحسنًا قال: ” أطعتم من القلب ” لأنه لم يجبركم ولا أكرهكم، لكنكم بإرادتكم وبرغبتكم ابتعدتم عن الخطايا. إلاّ أن هذا الكلام يُمثل مدحًا لهؤلاء، وفي نفس الوقت إدانة لهم. وكأنه يقول لهم: يا مَن ابتعدتم عن الخطايا بإرادتكم ودون أى إجبار أى عذر يكون لكم وأى تبرير إذا عُدتم للخطايا السالفة؟
ثم بعد ذلك لكى تعلم أنه لا يُعرب عن امتنانه بهم فقط بل يُرجع الفضل إلى نعمة الله التي تشمل الكون كله، فبعدما قال: ” أطعتم من القلب ” قال ” صورة التعليم التي تسلمتموها ” لأن الطاعة من القلب تظهر بالتأكيد حرية قبولهم. وكون أنهم تسلّموا التعليم، فهذا يعنى أن الله قدّم لهم هذه المعونة (النعمة). وما هى صورة التعليم؟ هى أن يحيوا بطريقة صحيحة، وبسلوك مُرضى.
” وإذ أُعتقتم من الخطية صرتم عبيدًا للبر ” (رو18:6).
هنا يُظهر عطيتين لله، التحرر من الخطية، والعبودية للبر، الأمر الذي هو أفضل من كل حرية (عالمية زائفة) لأن ما صنعه الله يشبه شخصًا تعهد طفلاً يتيمًا قد انتقل من بلاد البربر إلى بلده، فهو لم يحرّره من الأسر فقط، بل صار له أبًا معتنيًا به، ورفعه إلى أعظم كرامة. هذا بالضبط ما حدث معنا. لأنه لم يحرّرنا فقط من الخطايا السالفة، بل قادنا إلى الحياة الملائكية، وفتح أمامنا طريق السلوك الحسن، وبعد أن سلّمنا إلى البر الآمن أزال الخطايا السالفة، وأمات إنساننا العتيق، وقادنا إلى الحياة الأبدية.
8 ـ إذًا فلنتمسك بأن نحيا هذه الحياة، لأن كثيرين من أولئك الذين يعتقدون أنهم يحيون هذه الحياة ويسيرون فيها يسلكون بصورة أكثر تعاسة من الأموات. لأنه بالحقيقة توجد أنواع مختلفة من الميتات. يوجد موت الجسد والذي بحسبه، لم يكن إبراهيم مائتًا على الرغم من أنه كان قد مات، لأن الله ” ليس إله أموات بل إله أحياء“[2]. هناك موت آخر هو موت النفس والذي قصده المسيح بقوله: ” دع الموتى يدفنون موتاهم“[3]. ويوجد موت آخر والذي ينبغى أن يُمتدح وهو الذي يصير من خلال ضبط النفس، والذي قال عنه بولس: ” فأميتوا أعضاءكم التي على الأرض“[4]. ويوجد موت آخر والذي صار بسبب الخطية، وهذا هو الذي صار في المعمودية لأن: ” إنساننا العتيق صلب“[5] أى مات. وإذ نعرف كل هذا لنتجنب ذلك الموت، والذي بحسبه وإن كنا أحياء إلا أننا نجوز الموت، بينما يجب ألا نخشى ذلك الموت الجسدي الذي يشمل الجميع. فليكن لدينا تفضيل للموتين الآخرين، والذي يُعد الواحد منهما مُطوبًا، ذلك الذي أُعطى من الله، بينما الآخر مُمتدحًا، وهو الذي يتحقق من خلالنا ومن خلال معونة الله، وليكن سعينا نحوهما. لأن الواحد منهما يطوبه داود قائلاً: ” طوبى للذي غُفر اثمه وسترت خطيته“[6]. بينما الآخر يمدحه القديس بولس حيث كتب إلى أهل غلاطية قائلاً:” الذين هم للمسيح قد صلبوا الجسد مع الأهواء والشهوات“[7].
وبالنسبة للموتين الآخرين، قال المسيح عن الواحد أن ليس له أهمية “ لا تخافوا من الذين يقتلون الجسد ولكن النفس لا يقدرون أن يقتلوها“، بينما الموت الآخر مُخيف ” بل خافوا.. من الذي يقدر أن يهلك النفس والجسد كليهما في جهنم“[8]. ولهذا طالما أننا نتجنب ذلك الموت (أى موت النفس) فعلينا أن نجوز ذلك الموت الذي يُطوّب والذي هو محط للإعجاب، حتى نأتى إلى الموتين الآخرين، فنتجنب الواحد منهما (أى موت النفس)، والآخر لا نخشى منه (أى موت الجسد). لأنه لا توجد أى منفعة لنا، نحن الذين نعيش ونرى الشمس ونأكل ونشرب، إن لم تكن هناك أعمالاً صالحة ترافق الحياة. أخبرنى ما هى المنفعة عندما يرتدى الملك الأرجوان، ويمتلك الأسلحة، دون أن يكون له فرق حماية تابعة له ولا يكون في مأمن من أولئك الذين يرغبون في مهاجمته وإهانته؟ هكذا يكون المسيحى فهو لن ينتفع بشئ لو كان لديه إيمانًا ولديه العطية التي من المعمودية، دون أن يكون محميًا في مواجهة الشهوات، لأن الإهانة ستكون أعظم والخزى أكثر. لأنه كما أن الملك الذي يرتدى التاج والأرجوان ليس فقط لن يربح أى شئ من وراء هذا الملبس فيما يختص بالكرامة التي ينالها، لكنه يُسئ لهذا الملبس إذا كان سلوكه مخزيًا، هكذا فإن المؤمن الذي يحيا حياة فاسدة، ليس فقط لن يكون موضع احترام، بسبب هذه الحياة الفاسدة، بل سيصير محطًا للسخرية بدرجة كبيرة. ” لأن كل مَن أخطأ بدون الناموس فبدون الناموس يهلك. وكل مَن أخطأ في الناموس فبالناموس يُدان“[9]. وعندما كتب إلى العبرانيين قال: ” مَن خالف ناموس موسى فعلى شاهدين أو ثلاثة شهود يموت بدون رأفة. فكم عقابًا أشر تظنون أنه يُحسب مستحقًا مَن داس ابن الله “[10]. وهذا أمرًا طبيعيًا جدًا لأن كل الشهوات قد أُخضِعت لك بالمعمودية. إذًا ماذا حدث حتى تُهين هذه العطية العظيمة، وتصير إنسانًا آخر بدلاً من أن تكون مختلفًا (عما كنت عليه سابقًا)؟ لأن الله قد أمات ودفن خطاياك السابقة كما تُدفن الحشرات. إذًا لماذا تلد خطايا أخرى؟ علمًا بأن الخطايا هى أسوأ من الحشرات، إذ أن الحشرات تُدمر الجسد بينما الخطايا تُدمر النفس، وتُثير عفونة أكثر. لكن نحن لا نشعر بهذه العفونة، لهذا فإننا لا نحرص على تنقية نفوسنا. لأن المخمور لا يعرف كيف يكون النبيذ الفاسد أو رائحته الكريهة، لكن الإنسان الواعى يعرف هذه الأشياء بالتدقيق. هذا ما يحدث مع الخطية. فذاك الذي يحيا بالعفة، يعرف بدقة مدى عفونة الخطية ووصمتها، بينما ذاك الذي أسلم نفسه للشر، كالمخمور، فهو لا يعرف أنه مريض.
وهذا على أية حال هو الشئ المخيف في ارتكاب الخطية، إنها لا تترك مجالاً لأولئك الذين يسقطون فيها لكى يُدركوا حجم التدمير الذي أصابهم. فبينما هم موجودون داخل العفونة، يعتقدون أنهم يتمتعون برائحة طيبة. ولهذا تحديدًا لا يستطيعون أن يتخلّصوا منها، وبينما هم مملئون بالحشرات، يفتخرون كما لو كانوا مُزينين بأحجار كريمة. ومن أجل هذا فهم لا يريدون أن يُميتوها، لكنهم يُغذونها ويجعلونها تتكاثر داخلهم، حتى ذلك الحين الذي ستكون معهم في الجحيم، لأن هذه الحشرات هى سبب وجود الحشرات التي لا تموت في الجحيم ” حيث دودهم لا يموت“[11]. هذه الحشرات تُشعل جهنم التي لا تُطفأ أبدًا. ولكى لا يحدث هذا إذًا، فلنحرص على أن نُدمر مصدر الشرور، ولنطفئ كمين النار، ولنقتلع الخطية من جذرها. لأنه لو قطعت شجرة الشر من أعلى، فإنك لم تفعل شيئًا، طالما أن الجذر باقٍ من أسفل وسيُنبت نفس الأشياء مرة أخرى.
9 ـ وأتساءل: ما هى جذور الخطايا؟ أجيب: تعلّم من البستانى الصالح، الذي يعرف هذه الأمور جيدًا، الذي يعتنى بالكرم الروحى ويرعى كل المسكونة.
أيضًا ما هو أصل كل الشرور؟ أقول: هو محبة المال، لأن الرسول بولس يقول: “محبة المال أصل لكل الشرور“[12]. من هنا تأتى المشاجرات والعداوات والحروب، من هنا تأتى المشاحنات والكلام البذيء والشكوك والإهانات، من هنا يأتى القتل والسرقات ونبش القبور. بسبب محبة المال فإنه ليس فقط المدن والقرى تكون مملوءة بالدماء والقتل، بل أيضًا الشوارع والأرض الآهلة بالسكان والمهجورة والجبال والوديان والتلال كلها بشكل عام. ولا البحر أيضًا قد نجا من هذا الشر، بل إن القتل قد طاله بهوّس شديد، إذ أن القراصنة يحيطون به من كل ناحية، ويخترعون طرقًا جديدة للسطو والسرقة. لقد انقلبت كل أواصر القرابة بسبب محبة المال، بل وديست بالأقدام كل الوصايا الإلهية الخاصة بقانون المحبة.
لأن سلطة المال الطاغية، لم تُسلح تلك الأيدى ضد الأحياء فقط، بل وضد الأموات أيضًا. حتى الموت لا يجعل هؤلاء يتوقفون عن ممارسة شرورهم، لكنهم يفتحون القبور، ويمدون الأيدى الملوثة إلى أجساد الموتى، دون أن يتركوا حتى ذلك الذي فارق الحياة بعيدًا عن عبثهم. وإذا صادفت رؤية مرتكبي الخطايا مهما كان مقدارها، سواء في البيت أو في السوق أو في المحاكم أو في البرلمانات أو في القصور أو في أى مكان آخر، سترى أن كل هذه الخطايا تأتى نتيجة محبة المال. لأن هذه الخطية هى التي غمرت الجميع بالدماء والقتل، هذه الخطية هى التي أشعلت لهيب جهنم، وهى التي لم تجعل المدن أفضل من الصحراء (من حيث الأمان)، بل أسوأ. لأنه من السهل أن نتحصن من أولئك الذين يتربصون بنا في الصحراء، لأنهم لا يهاجمون بصفة دائمة، بل إن الذين يقلدونهم داخل المدن، هم أشر منهم، ومن الصعب أن نتحصن ضدهم، إنهم يشرعون في ارتكاب تلك الأمور علنًا بينما أولئك يصنعونها سرًا. لأن القوانين التي من المفروض أنها موجودة تُحجّم خطيتهم، هؤلاء جعلوها حليفة لهم، فملأوا المدن بالقتل وبكل ما يُثير التلوث.
أخبرنى أليس هو قتلاً وأشر من القتل حين نُسلم الفقير إلى الجوع، ونضعه في السجن، وبالإضافة إلى معاناة الجوع نسلمه إلى عذابات وإلى مساوئ غير محدودة؟ وحتى لو لم تصنع أنت هذه الأمور، لكنك تدفع آخر لكى يُنفذها، إنك تمارس هذه الأمور بالأكثر عن طريق خدامك. لأن القاتل يستخدم سيفه في نفس وقت ارتكاب جريمته، والعذاب الناتج عن القتل لا يستمر إلاّ لوقت قصير. أما أنت فبوشاياتك، وإهاناتك، وهجماتك، تجعل النور بالنسبة له ظلامًا، وتجعله يشتهى الموت آلاف المرات، فكر في كم تكون عدد الميتات التي ترتكبها مقابل الموت الواحد. والأكثر فزعًا من كل شئ أنك تسلب وتخطف، وأنك طماع وشره، لا لأن الفقر يضغط عليك ولا لأن الجوع يجبرك على هذا، بل لكى تُغطى سرج الجواد بذهب كثير، وأيضًا سقف البيت ورؤوس الأعمدة. كم تستحق شيئًا أكثر من جهنم، عندما تُلقى بالأخ الذي صار شريكًا لك في الخيرات السمائية والذي كُرّم بهذا القدر الكبير من سيدك، إلى هذه النكبات غير المحدودة، لكى تُزين أرضيات وحوائط مسكنك وأيضًا أجساد الجياد التي في غنى عن هذه الزينة لأنها لا تشعر بها؟
يا للعجب فقد صار الكلب موضع اهتمام بالغ من الأغنياء، أما الإنسان أو من الأفضل أن نقول إن كل مَن دُعى باسم المسيح، يواجه حالة أسوأ من الجوع بسبب اهتمام الأغنياء بالكلب. وهل يوجد ما هو أسوأ من هذا الخلط وهذا الالتباس؟ وهل هناك أمرًا أكثر فزعًا من هذه المخالفة؟ وكم يكون عدد أنهار النار التي ستكفى لمثل هذه النفس؟ عجبًا فالإنسان الذي خُلق على صورة الله، يُترك هكذا في حالة بائسة، بسبب وحشيتك أيها الغني، بينما مناظر البغال التي تجر مركبة زوجتك، تلمع من كثرة الذهب وأيضًا من كثرة الأموال التي تُنفق على تزيين العربة بالمعادن الثمينة والأخشاب والجلود. وإذا احتاج الأمر أن تصنع عرشًا أو مسندًا لراحة القدمين، فإنك تصنعها كلها من الذهب والفضة، بينما يوجد عضو من أعضاء المسيح، ذاك الذي من أجله أتى من السماء وسفك دمه الكريم، لا يتمتع حتى بالقوت الضرورى لإعاشته، وذلك بسبب طمعك وشراهتك. وبالطبع فإن فراش النوم في قصرك أيضًا يكون مُغشى بالفضة من كل ناحية، بينما أجساد القديسين تحرم من الغطاء الضرورى، وصار المسيح (الفقير) بالنسبة لك يستحق أقل مما يقدم للخدم وللبغال وللفراش ولكرسى العرش، ولمسند القدمين. أما الأوانى التي هى أكثر ثمنًا من هذه الأشياء، فإنى أتجاوزها تاركًا لكم أن تقدروها.
فإذا كنت تشعر بالفزع عندما تسمع هذه الأمور، امتنع عن ممارستها، ولن يصيبك شيئًا مما قيل. ابقى بعيدًا عن هذا الهوس، لأن الاهتمام بهذه الأمور التي أشرنا إليها هو بالحقيقة جنون مطبق. ولهذا فبعدما نترك هذه الأمور، ليتنا نتطلع نحو السماء، حتى ولو جاء هذا متأخرًا، لنتذكر يوم الدينونة، لنفكر في القضاء المخوف والمسئوليات المؤكدة (التي نتحملها نتيجة أفعالنا) وأحكام الله العادلة. وعلى الرغم من أن الله يرى هذه الأمور، إلاّ أنه لم يُرسل علينا صاعقة من السماء، برغم أن ما يحدث لا يستحق صواعق فقط بل نكبات أخرى أكثر هولاً، فلنفكر في كل هذه الأمور. ومع هذا لم يفعل ذلك، ولا جعل فيضان البحر يتجه نحونا، ولا الأرض انفتحت من المنتصف، ولا الشمس انطفأت، ولم يلقِ ما في السماء من كواكب ونجوم، ولم يدمر كل شئ، لكنه مازال يترك كل شئ يسير في نظام، ومازال الكون كله في خدمتنا.
10 ـ إذًا طالما أننا نفكر في هذه الأمور، لنرتعد أمام عظمة محبته للبشر ولنعد إلى أصلنا النبيل. لأننا بالتأكيد لا نسلك الآن بطريقة أفضل من الحيوانات غير العاقلة، لكن بطريقة أسوأ منها بكثير. لأن هذه الحيوانات تحب الحيوانات الأخرى التي من جنسها، وهى سعيدة بشركتها في هذه الطبيعة الحيوانية وما يجمع بينها هو الحنو، بينما أنت على الرغم من أن لك دوافع غير محدودة تقودك وتدفعك باتجاه آخرين هم أعضاء في جسد واحد بسبب الشركة في نفس الطبيعة، والتي منها أنك كُرمت بالعقل، وأنك تشترك معه في ممارسة التقوى، وأنك شريك معه في خيرات لا تحصى، ومع هذا صرت أكثر وحشية من تلك الحيوانات، مادمت تُظهر اهتمامًا كبيرًا بأشياء لا قيمة لها، وتتجرأ على هدم هياكل الله[13] بأن تتركها فريسة للجوع والعرى، ومرات كثيرة تسبب لها شرور عديدة. وأقول لك إذا كنت تصنع كل هذا بسبب حبك الكبير للمجد، إلاّ أنه كان ينبغى عليك أن تهتم بأخيك أكثر من اهتمامك بالجواد. لأنه على قدر اهتمامك بالإنسان الذي هو أولى بالإهتمام من الحيوان، على قدر ما يُنسج لك إكليل مُشرق من أجل رعايتك له واهتمامك به. لكن للأسف أنت الآن تسقط في هوة التناقضات وتجلب على نفسك اتهامات كثيرة لا تشعر بها.
لأنه مَن ذا الذي يرى أفعالك ولا يدينك؟ ومَن من البشر سوف لا يتهمك بهذه القسوة الشديدة وكراهية الناس، عندما يرى أنك تُهين جنس البشر، وتهتم بالحيوانات وبأثاث البيت على حساب البشر؟ ألم تسمع الرسل الذين قالوا إن أولئك الذين قبلوا الكلمة أولاً، قد باعوا البيوت والحقول لكى يُطعموا الاخوة؟ إلاّ أنك للأسف تسلب بيوتًا وحقولاً، لكى تُزين جواد وأخشاب وجلود وحوائط وأرضيات. والمؤكد أنه ليس فقط رجال بل ونساء أيضًا يُعانون من هذا الهوس، للأسف يخصصون رجالاً لمثل هذا العمل المتعب والباطل ويجبرهن على الإنفاق على أمور نافلة، بدلاً من الاعتناء بالأمور الضرورية. وإن قام أحد باتهامهن لأجل اعتناءهن بهذه الأمور الباطلة فيكون دفاعهن حاضرًا ومملوءًا بالإدانة القاسية، ونستشف من دفاعهن أنهن أُصبن بنفس الهوس، وأنهن يدفعَّن رجالهَّن نحو هذا الطريق.
وأتساءل ماذا تقول؟ ألا تخشى وتُحصى المسيح الذي يتضور جوعًا، ضمن الجياد والبغال والفراش ومساند الأرجل؟ أو من الأفضل أن نقول إنك لا تُحصه مع هذه الأشياء الباطلة بل وتخصص الجزء الأكبر من أموالك لها، بينما تعطى للمسيح أقل جزء. ألا تعرف أنك مدان له بسبب أن كل الأشياء التي تمتلكها هى مِلك له؟ إلاّ أنك لا ترد الجميل ولا تريد أن تعطى له مكافأة صغيرة. إليك هذا المثال الذي سوف يوضح لك هذا الأمر، فلو أنك قد أجّرت منزلاً صغيرًا، فإنك تُدقق في طلب الإيجار، ولكنك الآن وأنت تتمتع بكل ما في الكون الذي هو ملك له، وبهذا العالم الكبير كمسكن لك، ألا تتحمل مسئولية دفع إيجار قليل، إنك تسلم نفسك وكل أموالك للمجد الباطل. لأنه بالحقيقة كل هذه الأمور تعتمد على ما نحن فيه الآن. لأنه ليس من الممكن أن يصير الجواد أفضل من حيث القيمة أو الإمكانية، عندما توضع عليه هذه الزينة، ولا أيضًا الإنسان الذي يجلس فوقه، بل في بعض الأحيان يصير بالأكثر غير مستحق للكرامة. لأن كثيرين يتركون الفارس، ويوجهون أنظارهم إلى زينة الجواد، وإلى الخدم المحيطين به، والذين يسيرون بطريقة رسمية، بينما ذاك المحاط من كل هؤلاء، يبغضونه وينصرفوا عنه كعدو لهم. بيد أن هذا لا يحدث لك عندما تُزين نفسك بالفضيلة، بل إن الناس والملائكة ورب الملائكة، الجميع ينسجون لك الإكليل.
فلو أنك تشتهى المجد، اهرب بعيدًا عن تلك الأمور التي تمارسها الآن، ولا تهتم بتزيين البيت، وزيّن النفس بالفضيلة لكى تصير مُشرقًا ومعروفًا. أما ما يحدث الآن فمن المؤكد أنه يجعلك أكثر تفاهة من أى شئ، طالما أنك تحمل نفسًا مُقفرة بلا ثمر، وتهتم بجمال البيت أولاً أكثر من اهتمامك بالبشر.
إن لم تكن تعانى من هذا الذي أقوله، اسمع ماذا فعل أحد الوثنيين، وسوف تشعر بخزى على الأقل من أجل فلسفتهم، قيل أن شخصًا من هؤلاء، عندما دخل إلى بيت يلمع من كثرة ما به من نقوش ذهبية، ومُضئ من شدة جمال المرمر والأعمدة والأرضيات المفروشة بالسجاد، بصق في وجه صاحب البيت. وعندما أدانوه لأجل هذا الفعل، قال بأنه لم يكن مسموحًا له أن يبصق في أى موضع من مواضع البيت الأخرى، ولهذا اضطررت لإهانة وجهه[14]. أرأيت أن ذاك الذي يهتم بالزينة الخارجية هو مثار للسخرية، ويُحتقر من أولئك الذين لهم رؤية ثاقبة؟ وهذا أمر طبيعي جدًا. لأنه لو أن أحدًا ترك زوجته ترتدى ملابس مُمزقة، ولم تهتم بمظهرها الخارجى، ثم اعتنى بالخادمات فألبسهن حللاً براقة، فإنك لن تقبل هذا الأمر، بل ستغضب وستقول إن هذا يُعد عمل غير لائق بالمرة.
إذًا فهذا ما ينبغى أن تفكر فيه بالنسبة للنفس. لأنه عندما تُزين الحوائط والأرضيات، والأثاث، وكل الأشياء الأخرى، ولا تقدم أعمال الرحمة بسخاء، ولا أيضًا تعيش حياة العفة فيكون كل ما تفعله مجرد تكرار لشئ واحد، أو من الأفضل أن نقول إنك ترتكب شرورًا مُرعبة. لأنه لا يوجد أى فرق بين الخادمة وربة البيت (من جهة الجسد)، لكن يوجد فرقًا كبيرًا بين النفس والجسد. وطالما أن هناك فرقًا كبيرًا بين النفس والجسد، فبالأكثر جدًا سيكون هناك فرقًا كبير بينها وبين البيت، والفراش، ومساند الأرجل. إذًا أى تبرير لديك يمكن أن تقوله، عندما تُغطى كل هذه الأشياء بالفضة، بينما تترك النفس رثه، مهملة، وجائعة ومليئة بالجروح وتنهشها كلاب كثيرة (أى شرور كثيرة)، ثم بعد ذلك تعتقد أنك تنال مجدًا حين تزين كل الأشياء التي تُحيط بك من الخارج؟ هذا على أية حال دليل على أسوأ حالة من فقدان العقل فبينما تكون مثارًا للسخرية والتهكم، وتسلك بسفه وتُحتقر، وتسقط في أشر عقوبة، فإنك لا تزال تفتخر بكل هذه الأمور. ولهذا أرجو، بعدما نفكر جيدًا في كل هذا، أن نستفيق ولو مرة واحدة على الأقل وحتى ولو جاء هذا متأخرًا، ولنرجع إلى عقولنا، مُحولين الزينة من زينة خارجية إلى زينة النفس. لأنه بذلك تبقى زينة ثابتة، وستجعلنا مساويين للملائكة، وسنصير سببًا لخيرات أكيدة. وليتنا جميعًا ننال كل هذه الأمور الحسنة بالنعمة ومحبة البشر اللواتى لربنا يسوع المسيح الذي يليق به مع الآب والروح القدس المجد إلى دهر الدهور آمين.
[1] 1كو26:15.
[2] مت32:22.
[3] مت22:8.
[4] كو5:3.
[5] رو6:6.
[6] مز1:32.
[7] غل24:5.
[8] مت28:10.
[9] رو12:2.
[10] عب28:10ـ29.
[11] مر44:9.
[12] 1تيمو10:6.
[13] ويعنى بها أجساد البشر التي صارت مسكنًا لله ” أنتم هيكل الله وروح الله يسكن فيكم” (1كو16:3).
[14]هذه القصة الهزلية وردت عند أريستيبو (Ar…stippo)، كما يخبرنا ديوجينيس (Diogšnhj) عندما يكتب عن سيرة الفيلسوف.