رسالة رومية الأصحاح6 – عظة12 ج1 – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب
رسالة رومية الأصحاح6 – عظة12 ج1 – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب
رسالة رومية الأصحاح6 – عظة12 ج1 – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب
العظة الثانية عشر
” لأنه إن كنا قد صرنا متحدين معه بشبه موته نصير أيضًا بقيامته” (رو5:6).
1 ـ هذا الذي قلته في العظة السابقة، سأقوله الآن أيضًا. إن الرسول بولس دائمًا ما يلجأ إلى الحديث عن السلوك الأخلاقي بجانب التعليم الإيماني، بينما في أغلب رسائله الأخرى يقسم الرسالة إلى قسمين، الأول: يخصصه للأمور الإيمانية، والثانى: للاهتمام بالأمور الأخلاقية. إنه لا يصنع هنا نفس الشئ، بل يمزج الأمرين معًا في كل الرسالة ، حتى يصير حديثه مقبولاً بسهولة أكثر. إنه يتكلّم هنا عن نوعين من الموت. الأول حدث بالمسيح في المعمودية، بينما الآخر يجب أن يصير من خلالنا، بواسطة جهادنا الذي يأتى بعد المعمودية. فإن دفن خطايانا السالفة، كان عملاً خاصًا بعطية الله، أما من حيث أننا نظل بعد المعمودية أمواتًا عن الخطية، فهو عمل خاص بجهادنا، وإن كنا نرى أن الله هنا أيضًا يُساعدنا بصورة كبيرة جدًا. لأن المعمودية لا تحقق فقط إزالة خطايانا السالفة، بل تؤّمنا أيضًا ضد الخطايا التي يمكن أن تحدث في المستقبل. فكما أنك تعلن الإيمان بفاعلية المعمودية لكى تختفى الخطايا، هكذا بالنسبة للخطايا المستقبلية، يجب عليك أن تُظهر تحولاً في الرغبة حتى لا تلوث نفسك مرة أخرى (بدنس الخطية). إذًا فهو ينصح بهذه الأمور وأمور أخرى مشابهة بقوله: ” إن كنا قد صرنا متحدين معه بشبه موته نصير أيضًا بقيامته“.
أرأيت كيف أنه قد سمى بالمستمع حتى قاده إلى الرب مباشرةً، محاولاً أن يُبيّن عظمة التشبه به؟ ولهذا لم يقل (متحدين معه في موته) لكى لا تعترض على ذلك، لكنه قال “بشبه موته”، لأننا حين نموت معه في المعمودية فإن الذي يموت هو الإنسان الخاطئ، أى الشر. ولم يقل “لأنه وإن كنا قد صرنا مشتركين معه بشبه موته” لكنه قال “متحدين معه بشبه موته” قاصدًا بهذه الكلمة تلك النبتة التي أثمرت والتي أتت من المسيح إلينا. فكما أن جسده بعدما دُفن في الأرض أتى بثمار الخلاص للبشرية، هكذا فإن جسدنا بعدما دُفن في المعمودية، نال ثمر البر والقداسة والتبنى وخيرات أخرى لا تحصى، وسينال العطية الأخيرة وهى القيامة. لأننا نحن دُفنا في الماء، بينما هو قد دُفن في الأرض، ونحن قد مُتنا من جهة الخطية، أما هو فقد مات بالجسد، ولهذا لم يقل: “متحدين معه في موته” لكن “بشبه موته“. لأن هناك موتان، موت المسيح وموتنا ولكنهما موتان مختلفان.
فإذا قال ” قد صرنا متحدين معه بشبه موته“، فإننا في القيامة ” سنصير أيضًا بقيامته“، وهو يقصد هنا القيامة العتيدة. لأنه تحدّث سابقًا عن الموت قائلاً: ” أم تجهلون أيها الاخوة أننا كل مَن اعتمد ليسوع المسيح اعتمدنا لموته“[1]، لم يذكر شيئًا واضحًا عن القيامة، ولكنه أشار إلى طريقة حياتنا بعد المعمودية، حيث يحثنا على أن يتفق سلوكنا مع مقتضيات الحياة الجديدة، ولهذا فإنه هنا يذكر نفس الكلام، ويخبرنا مسبقًا عن تلك القيامة العتيدة. ولكى تعرف أنه لا يتحدث عن القيامة من المعمودية، بل عن القيامة العتيدة، نجده بعدما قال: ” لأنه إن كنا قد صرنا متحدين معه بشبه موته” لم يقل سنصير متحدين بشبه قيامته، لكنه قال:” نصير أيضًا بقيامته“. ولكى لا نقول وكيف يحدث هذا، طالما أننا لم نمت كما مات، فكيف سنقوم كما قام؟ نقول إنه عندما أشار إلى الموت لم يقل متحدين بموته، لكن “بشبه موته”، إلاّ أنه عندما أشار إلى القيامة لم يقل بعد بشبه قيامته، بل قال سنصير متحدين بقيامته ذاتها. ولم يقل قد صِرنا، لكن “سنصير” مُشيرًا بهذه الكلمة أيضًا إلى القيامة التي لم تحدث بعد، إنما التي ستحدث فيما بعد.
2 ـ ثم أراد بعد ذلك أن يجعل حديثه موضع ثقة، فأظهر كيف أنه قد حدثت بالفعل قيامة هنا في هذه الحياة، قبل أن تأتى تلك القيامة العتيدة، وذلك حتى تؤمن من خلال هذه القيامة التي حدثت في الحياة الحاضرة بالقيامة الأخرى. لأنه بعدما قال سنصير متحدين أيضًا بقيامته، أضاف:
”عالمين هذا أن إنساننا العتيق قد صُلب معه ليبطل جسد الخطية” (رو6:6).
يُشير هنا إلى السبب وكذلك الدليل على القيامة العتيدة. وهو لم يقل إن إنساننا العتيق قد صلب، بل قال ” قد صُلب معه“، فيُحضر المعمودية بجانب الصليب. ولهذا قال من قبل: ” صرنا متحدين معه بشبه موته“. ” ليُبطل جسد الخطية” وهو لا يدعو هذا الجسد البشرى، بجسد الخطية، لكن جسد الخطية هو كل أمر خبيث وشرير، لأنه تمامًا كما يدعو كافة الرذائل بالإنسان العتيق، هكذا فإنه يدعو الخبث أيضًا جسد الخطية الذي يتشكل من أنواع مختلفة من الشرور.
وهذا الحديث ليس مجرد فكر بسيط، وأرجو أن تلاحظ بولس نفسه وهو يشرح ذات الأمر بالضبط في الآيات القادمة. لأنه بعدما قال ” ليبطل جسد الخطية ” أضاف ” كى لا نعود نُستعبد أيضًا للخطية ” إذًا فهو يريد للجسد أن يصير ميتًا من جهة الخطية. إنه لا يريد أن يموت الجسد ويفنى بل يريد ألاّ يُخطئ. ثم يتقدم بعد ذلك شارحًا هذا الأمر بأكثر وضوح قائلاً:
” لأن الذي مات قد تبرأ من الخطية ” (رو7:6).
هذا ما يقوله لكل إنسان، لأنه كما أن المائت قد تحرر تمامًا من إمكانية أن يُخطئ طالما أنه مائت، هكذا أيضًا الذي تعمّد، فلأنه مات مرة واحدة في المعمودية، ينبغى أن يبقى على الدوام مائتًا بالنسبة للخطية. إذًا فإن كنت قد مت في المعمودية، فلتبقى مائتًا على الدوام، لأن هذه هى الحقيقة، أن كل مائت لا يستطيع بعد أن يُخطئ. بيد أنك لو أخطأت فستكون بذلك قد احتقرت عطية الله. وبعدما طلب منا أن نسلك بهذا القدر الكبير من الحكمة، أوضح على الفور قيمة المكافأة قائلاً:
” إن كنا قد متنا مع المسيح ” (رو8:6).
وإن كان هذا في حد ذاته يُمثل كرامة كبيرة قبل نوال المكافأة، بمعنى أنك قد صرت شريكًا مع الرب، لكنه يعطيك مكافأة أخرى. وما هى هذه المكافأة؟ هى الحياة الأبدية. لأنه يقول ” نؤمن أننا سنحيا أيضًا معه“.
ومن أين يتضح هذا؟ يتضح من قوله:
” عالمين أن المسيح بعدما أُقيم من الأموات لا يموت أيضًا ” (رو9:6).
ولاحظ محاولة الرسول بولس لإثبات هذا أيضًا من خلال هذه المفارقة. لأنه كان طبيعيًا أن يُثير البعض لغطًا حول الصليب والموت، فبيّن كيف أن لهذا السبب بالتحديد، ينبغى بالأحرى أن تكون لدينا الشجاعة حتى لا تعتقد أن المسيح فانٍ. بل أنه يبقى بالحقيقة حيًا إلى الأبد. لأن موته قد صار موتًا للموت. ولأنه مات، فلهذا لن يموت (مرة ثانية).
” لأن الموت الذي ماته قد ماته للخطية ” (رو10:6).
ماذا يعنى ” قد ماته للخطية؟” يعنى أنه لم يكن مستحقًا الموت، لكنه مات لأجل خطايانا، لكى يمحي الخطية ويقطع عصبها وكل قوتها، لهذا مات. أرأيت كيف أنه أرهب الموت حيث إنه لن يموت مرة ثانية، وحيث إنه لا توجد معمودية ثانية، فينبغى عليك أن تموت من جهة الخطية. إذًا فهو يقول كل هذا بهدف أن يقاوم مَن يقول ” لنفعل السيئات لكى تأتى الخيرات ” وأيضًا مَن يقول ” أنبقى في الخطية لكى تكثر النعمة “. إذًا هو يذكر كل هذا لكى يجتث مثل هذا الفكر من جذوره.
” والحياة التي يحياها فيحياها لله ” أى أنه يتحدث عن عدم الفناء، وأن الموت لن يسود بعد. لأنه إن كان الموت الأول قد جازه دون أن يكون مُستحقًا له إذ أنه جازه لأجل خطايا الآخرين، فبالأحرى كثيرًا أنه لن يموت الآن مادام أنه قد أبطل الموت. هذا ما قاله في الرسالة إلى العبرانيين: ” فإذ ذاك كان يجب أن يتألم مرارًا كثيرة منذ تأسيس العالم ولكنه الآن قد أُظهر مرةً عند انقضاء الدهور ليبطل الخطية بذبيحة نفسه وكما وضع للناس أن يموتوا مرة ثم بعد ذلك الدينونة هكذا المسيح أيضًا بعدما قُدم مرةً لكى يحمل خطايا كثيرين سيظهر ثانية بلا خطية للخلاص للذين ينتظرونه“[2]. لقد أوضح قوة الحياة التي هى بحسب مشيئة الله، وفي نفس الوقت أظهر قوة الخطية. وقوة الحياة تُستعلن فينا بحسب مشيئة الله لأنه لن يسود عليه الموت بعد، بينما ندرك مدى قوة الخطية من أنها قد جعلت الذي هو بلا خطية يموت (من أجل خطايا البشر)، فكيف لا تُحطم أولئك الذين هم مسئولون عن الخطايا؟
3 ـ ثم بعد ذلك ـ ولأنه تكلم عن الحياة في المسيح ـ وحتى لا يقول أحد وما علاقة هذا الكلام بنا نحن، فقد أضاف:
” كذلك أنتم أيضًا احسبوا أنفسكم أمواتًا عن الخطية ولكن أحياء لله بالمسيح يسوع ربنا ” (رو11:6).
وحسنًا قال “احسبوا” لأنه بواسطة اللغة الوصفية لا يمكننا عرض حقيقة أننا متنا، لذلك استخدم هذه الكلمة “احسبوا”، للتأكيد على حقيقة هامة وهى (أننا بالفعل قد متنا عن الخطية). وماذا يعنى بعبارة نحسب؟ يعنى أننا ” أمواتًا عن الخطية لكن أحياء لله بالمسيح يسوع ربنا “. ومَن يحيا هكذا سيتمكن من الانتصار على الخطايا، لأن يسوع ذاته هو المعين له. وهذا معنى عبارة ” في المسيح “.
فإن كان قد أقامهم عندما كانوا أمواتًا، فبالأكثر جدًا سيستطيع أن يحفظهم أحياءًا.
” إذًا لا تملكن الخطية في جسدكم المائت لكى تطيعوها في شهواته ” (رو12:6).
لم يقل إذًا ينبغى ألا يحيا الجسد وألاّ يعمل، لكنه قال ” لا تملكن الخطية في جسدكم “، لأنه لم يأتِ لكى يهلك طبيعة الجسد، بل ليُصلح الإرادة. بعد ذلك أظهر أن الخطية لا تملك علينا بالعنف والإجبار، بل بملء إرادتنا، ولم يقل ينبغى ألا تستبد بكم الخطية، الأمر الذي يُدلل على أنها بمثابة قوة متجبرة، لكنه قال: ” لا تملكن الخطية“. لأنه بالحقيقة سيكون أمرًا غير معقول أن تسود الخطية عليهم كأنها ملكة بينما هم ينقادون نحو ملكوت السموات، وبينما هم مدعون أن يملكوا مع المسيح، يُفضلون أن يصيروا أسرى للخطية. مثلما يعتبر أنه من غير المعقول أيضًا لو أن شخصًا ألقى تاج الملك من على رأسه، ويريد أن يصير عبدًا لامرأة بها شيطان، تتجول متسولة وترتدى ملابس مُمزقة.
ولأن الانتصار على الخطية يبدو لنا أمرًا صعبًا، فقد أظهره على أنه أمرًا سهلاً، وأثنى على الجهاد الذي يُبذل، قائلاً: ” في جسدكم المائت“. ولهذا أوضح أن المتاعب ستكون وقتية وتنتهى سريعًا. لكنه يذكّرنا بالشرور السابقة وبالجذور التي أنبتت موتًا تلك التي إذا انقاد الجسد إليها لصار جسدًا مائتًا، لأنه لم يكن مائتًا منذ بدء خلقته. بيد أنك من الممكن أيضًا ألاّ تخطئ مع أنك تحمل جسدًا قابلاً للموت. أرأيت فيض نعمة المسيح؟ يا لها من مفارقة عجيبة لأن آدم على الرغم من أنه لم يكن بعد حاملاً لجسد مائت إلاّ أنه سقط، بينما أنت على الرغم من أنك قد أخذت جسدًا قابلاً للموت، إلاّ أنه بإمكانك أن تُتوج. وكيف تملك الخطية؟ لا تملك من خلال قوتها، بل من خلال لامبالاتك أنت. ولهذا بعدما قال: “لا تملكن”، يوضح طريقة هذا التملك، بقوله: ” لكى تطيعوها في شهواته (أى شهوات الجسد)“. لأنه ليس هو شيئًا يدعو للكرامة أن ننهزم باختيارنا أمام شهواته (أى شهوات الجسد)، بل يُعَّد عبودية أسوأ واحتقار أكبر، لأن الجسد عندما يفعل كل ما يريده يكون قد فقد الحرية، بيد أنه عندما يقدر أن يتحكم في رغباته، عندئذٍ يصون قيمته وكرامته بشكل جوهرى.
4 ـ ” ولا تقدموا أعضاءكم آلات اثم للخطية .. بل آلات بر لله ” (رو13:6).
وبناءً على ذلك فإن الجسد يوجد بين حالة الاثم والبر، مثلما يحدث بالنسبة للآلات (هناك آلات إثم وآلات بر)، وممارسة أى من الاثم أو البر يتوقف على من يستخدم الآلات. كما يحدث مع الجندى الذي يحارب من أجل وطنه، والسارق الذي يتسلح ليهاجم المواطنين، فالاثنان يتحصنان بنفس الأسلحة. فالجريمة إذًا ليست عملاً يتعلق بنوع السلاح المستخدم بل هى مسئولية أولئك الذين يستخدمون هذه الأسلحة لكى يفعلوا الشر. وهذا يمكن أن نقوله بالطبع في حالة الجسد، حيث يصير فعل الاثم أو فعل البر رهنًا بموقف النفس، وهذا ليس له علاقة بطبيعتها. لأن العين إذا نظرت نظرة غير بريئة للجمال، صارت آلة للاثم، لا بحسب طبيعتها أو عملها، لأن عمل العين هو أن تنظر، لكن هذا النظر لا يكون للشر، ولكن إذا نظرت العين نظرة غير نقية فسيكون ذلك راجعًا للفكر الخبيث الذي أمر بهذا. بيد أنك لو استطعت أن تضبط العين، فسيصير الجسد آلة للبر. وهذا ينطبق على اللسان وعلى الأيدى، وعلى جميع الأعضاء الأخرى. وحسنًا يدعو الرسول بولس الخطية اثمًا. لأن المرء عندما يخطئ إما أن يؤثم نفسه أو يؤثم قريبه، ومن الأفضل أن نقول إنه يؤثم نفسه قبل قريبه.
إذًا بعدما نصحهم بعدم ممارسة الشر، بدأ يقودهم نحو ممارسة الفضيلة قائلاً: ” بل قدموا ذواتكم لله كأحياء من الأموات”. لاحظ كيف أنه يحثهم على حياة البّر بمسميات بسيطة، فهو يشير في الفقرة السابقة إلى الخطية، بينما يُشير هنا إلى الله. لأنه بعدما أوضح الفرق الضخم بين أولئك الذين يملكون (في ملكوت الله) وبين مَن هم عبيدًا للخطية، نجده لا يتسامح مع المؤمن الذي ترك الله وأراد أن يخضع لسلطان الخطية. وليس هذا فقط، لكنه يوضح هذا الأمر بما سيحدث في المستقبل قائلاً: ” كأحياء من الأموات“. لأنه بهذا الكلام يُبيّن مدى بشاعة الخطية وكم هى عظيمة عطية الله. إذًا فلتفكروا في مَن أنتم وماذا صرتم. مَن أنتم؟ أنتم أموات، وهذا المصير المفقود لا يمكن لشئ أن يصلحه، لأنه لا يوجد أحد مهما كانت مقدرته يستطيع أن يُعينكم. وأتساءل ماذا صرتم بين أولئك الأموات الذين أنتم منهم؟ صرتم أُناسًا ترغبون في الحياة الأبدية. وأيضًا بمعونة مَن صرتم (أحياءًا من الأموات)؟ بمعونة الله القادر على كل شئ. وبناء على ذلك فمن العدل أن تخضعوا لأوامره برغبتكم الكاملة، وهذا بالطبع يليق بأناس صاروا أحياء بعد أن كانوا أمواتًا.
” أعضاءكم آلات بر” ولذلك فإن الجسد ليس شرًا، طالما أنه من الممكن أن يصير آلة بر. لكن قوله بأنه آلة، فهذا يُبيّن أن هناك حربًا مخيفة تواجهنا. ولهذا فإن الأمر ـ بالإضافة لضرورة تسلحنا القوى ـ يحتاج إلى إرادة شجاعة وأن نعرف جيدًا كل ما يتعلق بهذه الحروب، وبالطبع وقبل كل شئ يجب أن نعرف القائد. بالنسبة لهذا القائد هو حاضر ومستعد على الدوام للمساعدة، ولا يستطيع أحد أن يسود عليه، ويُعد لنا دومًا أسلحة قوية. بيد أن الأمر يحتاج فيما بعد إلى إرادة تستخدم هذه الأسلحة كما ينبغى، وأن تطيع أوامر القائد، وأن تحمل السلاح من أجل خلاص أو حماية الوطن (أى النفس).
5 ـ إذًا بعدما أخبرنا بالأمور العظيمة، وذكّرنا بالأسلحة والمعركة والحروب لاحظ كيف أنه أيضًا يُعطى شجاعة للجندى ويُهيئ إرادته قائلاً:
” فإن الخطية لن تسودكم لأنكم لستم تحت الناموس بل تحت النعمة ” (رو14:6).
فإن كانت الخطية لن تسودنا بعد، فلماذا يأمرنا أو يوصينا بهذه الأمور الكثيرة قائلاً: ” لا تملكن الخطية في جسدكم المائت” و” لا تقدموا أعضاءكم آلات اثم للخطية ” ماذا يعنى هذا الكلام؟ إنه يُلقى هنا حديثًا كمَن يلقى بذرة، كمقدمة لما سيقوله فيما بعد، ويُمهد لذلك كثيرًا. وما هو هذا الحديث؟ كان من السهل قبل مجيء المسيح أن تسود الخطية على جسدنا. بل وبعد الموت أُضيفت علينا آلام كثيرة. ولهذا السبب تحديدًا لم يكن الطريق إلى البر سهلاً أو مريحًا. لأن الروح القدس لم يكن قد أُعطى لكى يساعدنا، ولا المعمودية التي كان من الممكن أن تُميت الجسد مع شهواته. فقد كان (الجسد) يركض مثل جواد غير مُروض، وكثيرًا ما كان يرتكب الزلات في الوقت الذي كان فيه الناموس يوصي بتلك الأمور التي ينبغى فعلها، وتلك التي لا ينبغى فعلها، لكنه لم يُقدم لأولئك الذين يجاهدون أكثر من مجرد نصيحة بالكلام فقط.
ولكن عندما أتى المسيح صار الجهاد فيما بعد أكثر سهولة. ولهذا فإن تجارب أكبر تواجهنا، ذلك لأننا أخذنا معونة أكبر. ومن أجل هذا قال المسيح له المجد: ” إن لم يزد بركم على الكتبة والفريسيين لن تدخلوا ملكوت السموات “[3]. وهذا ما يقوله بكل وضوح في الآيات اللاحقة، بينما هنا هو يُشير إليه بكلام مختصر، مظهرًا كيف أنه إن لم نتضع جدًا، فإن الخطية ستنتصر علينا. لأنه لا يوجد الآن الناموس الذي يحث فقط على ممارسة الفضيلة، لكن النعمة التي تصفح عن الأمور السالفة، والتي تؤّمن الأمور المستقبلية. لأن الناموس كان يَعد بالتيجان بعد اجتياز الأتعاب، بينما النعمة توّجت أولاً، ثم بعد ذلك دعت إلى الجهاد الروحي. ولكن يبدو لى أنه لا يُشير إلى كل ما يتعلق بحياة المؤمن، لكنه يعقد مقارنة بين المعمودية والناموس، الأمر الذي يقوله في موضع آخر إن ” الحرف يقتل ولكن الروح يُحيي“[4]. لأن الناموس يُدين التعدى، بينما النعمة تُزيل التعدى، تمامًا كما أن الناموس يُدين الخطية، فإن النعمة تصفح وتخلّصك من سلطان الخطية. وبناء على ذلك فأنت مُتحرر من طغيان الخطية بشكل مضاعف من حيث أنك تحررت من الخضوع للناموس، وأنك تمتعت بالنعمة.
[1] رو6:3.
[2] عب26:9ـ28.
[3] مت20:5.
[4] 2كو6:3.