Site icon فريق اللاهوت الدفاعي

رسالة رومية الأصحاح5 – عظة11 ج1 – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب

رسالة رومية الأصحاح5 – عظة11 ج1 – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب

رسالة رومية الأصحاح5 – عظة11 ج1 – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب

العظة الحادية عشر

 

” من أجل ذلك كأنما بإنسان واحد دخلت الخطية إلى العالم وبالخطية الموت وهكذا اجتاز الموت إلى جميع الناس إذ أخطأ الجميع ” (رو12:5).

          1 ـ تمامًا كما يصنع الأطباء الأكفاء الذين يفحصون دومًا وبعمق جذور المرض ويَصلون إلى السبب المباشر لظهوره هكذا يصنع الطوباوى بولس. فعندما قال إننا تبررنا، وبعدما أظهر أن هذا البر استعلن في إيمان إبراهيم بالروح القدس وبموت المسيح لأنه مات لكى يبررنا، يبرهن بعد ذلك وبأسلوب آخر على تلك الأمور التي سبق وأظهرها بدلائل كثيرة من خلال الموت والخطية. وقد حاول أن يشرح كيف وبأى طريقة دخل الموت إلى العالم وساد عليه، ويقول إن هذا حدث بخطية الإنسان الواحد (أى آدم). وماذا يعنى وفي شخصه اجتاز الموت إلى جميع الناس؟ لقد اجتاز الموت إلى الجميع لأنه (أى آدم) سقط في الخطية وأولئك الذين لم يأكلوا من الشجرة جميعهم صاروا في شخصه مائتين.

 

” فإنه حتى الناموس كانت الخطية في العالم على أن الخطية لا تحسب إن لم يكن ناموس ” (رو13:5).

          تصوّر البعض أن عبارة ” فإنه حتى الناموس” (أى حتى أُعطى الناموس)، تعني ذلك الزمن الذي يسبق إعطاء الناموس أى زمن هابيل وزمن نوح وزمن إبراهيم والزمن حتى ولادة موسى. غير أنه لابد وأن نسأل ما هى الخطية التي وجدت في ذلك الزمان؟ يقول البعض إن الرسول بولس يُشير إلى الخطية التي حدثت في الفردوس، طالما أنها لم تكن قد بطلت بعد، بل أن ثمرها قد أينع. حيث أن هذه الخطية قد حملت الموت للجميع وقد ساد الموت واستبد. لكن لأى سبب أضاف ” على أن الخطية لا تحسب إن لم يكن ناموس” أضاف ذلك لمواجهة اليهود، ما يقوله يعني أنه إذا لم تكن هناك خطية عندما لم يكن هناك ناموس، فكيف ساد الموت على جميع الذين عاشوا قبل الناموس؟ ويبدو لى أن هذه العبارة لها علاقة بالأكثر بما كان في فكر الرسول بولس وما كان يريد قوله. وما هو هذا الذي كان يريد أن يقوله؟ أراد أن يقول إن الخطية وُجدت في العالم حتى ذلك الحين الذي أُعطى فيه الناموس، من الواضح أن هذا هو ما يقصده، فبعدما أُعطى الناموس، سادت الخطية التي أتت من العصيان. لأنه يقول إن “الخطية لا تُحسب إن لم يكن ناموس”. فلو أن هذه الخطية قد جلبت الموت بسبب مخالفة الناموس فكيف مات كل الذين عاشوا قبل الناموس؟ لأنه إن كان الموت يأتى من الخطية، وإذا كانت الخطية لا تُحسب إن لم يكن ناموس، فكيف ساد الموت قبل إعطاء الناموس؟

          وبناء عليه يكون من الواضح أن الخطية لم تأتى بسبب مخالفة الناموس، لكن بسبب عصيان آدم وهذه الخطية هى التي حطّمت كل شئ. وما هو الدليل على هذا؟ الدليل أن الجميع ماتوا قبل الناموس، لأنه يقول:

 

” قد ملك الموت من آدم إلى موسى وذلك على الذين لم يخطئوا ” (رو14:5).

وكيف ملك الموت؟ “على شبه تعدى آدم”. ولهذا فإن آدم هو مثال للمسيح. وكيف يقول إنه مثال المسيح؟ لأنه كما أن أولئك الذين أتوا من آدم على الرغم من أنهم لم يأكلوا من الشجرة، إلاّ أن الموت قد ملك عليهم، وهكذا صار آدم سببًا للموت الذي دخل إلى العالم بسبب الأكل من الشجرة، وهكذا أيضًا فإن أولئك الذين انحدروا من المسيح على الرغم من أنهم لم يعملوا أعمالاً بارة، إلاّ أن المسيح صار سببًا للبر الذي منحه للجميع بواسطة صليبه.

          ولهذا فقد اهتم الرسول بولس بالتركيز على عبارة “بالواحد”، وهذا ما يُشير إليه باستمرار قائلاً: ” كأنما بإنسان واحد دخلت الخطية إلى العالم ” وأيضًالأنه إن كان بخطية واحد مات الكثيرون” و” ليس كما بواحد قد أخطأ هكذا العطية” وأيضًا ” لأن الحكم من واحد للدينونة” و” إن كان بخطية الواحد قد ملك الموت بالواحد“.

 

” فإن كان بخطية واحد… كما بمعصية الإنسان الواحد جعل الكثيرون خطاة ” (رو15:5ـ19).

          وفي كل هذا لم يبتعد القديس بولس عن استخدام عبارة “الواحد”، حتى أنه عندما يسألك يهودى كيف أنه ببر واحد أى بر المسيح، قد خلصت البشرية؟ سيُمكنك أن تُجيب وكيف أُدينت البشرية كلها بينما من خالف الوصية هو واحد؟ مع الوضع في الاعتبار وهذا أمرًا مؤكدًا، أن الخطية ليست مثل الهبة وأن الموت ليس كالحياة وأيضًا من المستحيل أن يوضع الشيطان في مقارنة مع الله، لأن الفروق غير محدودة ولا تُحصى.

          إذًا بالنظر إلى قدرة ذاك الذي فعل كل هذه الأشياء ووفقًا لخطة الله من جهة خلاص البشرية (لأن ما يليق بالله بالأكثر هو أن يُخلّص لا أن يُعاقب)، وهنا مكمن التميّز والانتصار، أخبرنى أى مُبرر يمكن أن تتذرع به لعدم الإيمان؟ لأن المؤكد أن هذا الذي حدث يتفق مع المنطق وقد برهن عليه الرسول بولس بقوله:

 

ولكن ليس كالخطية هكذا أيضًا الهبة. لأنه إن كان بخطية واحد مات الكثيرون فبالأولى كثيرًا نعمة الله والعطية بالنعمة التي بالإنسان الواحد يسوع المسيح قد ازدادت للكثيرين ” (رو15:5).

1 ـ وما يقوله يعنى ما يلي: فلو أن الخطية قد استطاعت أن تصنع كل هذا (أن يجتاز الموت لجميع الناس) وبالطبع من خلال خطية إنسان واحد، فكيف لا تستطيع نعمة الله وليس فقط نعمة الله الآب بل والابن أيضًا أن تحقق الكثير (أى خلاص الجميع)؟ وهذا يُعد أكثر تمشيًا مع المنطق. لأنه أن يُدان احد بسبب خطية آخر، فمن الواضح أن هذا ليس له مبررًا كافيًا (بحسب المنطق الإنساني)، بيد أن يخلص أحد بسبب عطية الآخر، فهذا أكثر قبولاً وأكثر تمشيًا مع المنطق. فلو أن البشرية قد أُضيرت بالخطية، فبالأولى كثيرًا ستنال فيض النعمة وعطية البر.

          2 ـ إذًا فالطبيعى والأكثر تمشيًا مع العقل والمنطق، قد برهن عليه الرسول بولس كما سبق وأشرنا. فطالما أنه قد قبلت فكرة أن بخطية الواحد قد اجتاز الموت إلى الجميع، سيصير من السهل قبول أنه بعطية الواحد سيخلُص الجميع. وكون أن هذا الخلاص هو ضرورة حتمية، فقد دلل عليه في الآيات الآتية. وكيف دلل على ذلك؟ بقوله:

 

وليس كما بواحد قد أخطأ هكذا العطية لأن الحكم من واحد للدينونة وأما الهبة فمن جرى خطايا كثيرة للتبرير ” (رو16:5).

 ماذا يعنى هذا الكلام؟ يعنى أن الموت والدينونة يمكن أن تسببهما خطية واحدة، بينما نجد أن النعمة قادرة على أن تمحو ليس فقط خطية واحدة بل وتلك الخطايا التي ظهرت بعد الخطية الأولى. ولكى لا تكون عبارات مثل (كما) و(هكذا) توازى بين الخير والشر في المستوى ولكى لا تعتقد عندما تسمع اسم آدم أن ما مُحى هو فقط الخطية الأولى التي اقترفها آدم، فإن الرسول بولس يقول إنه قد مُحيت خطايا كثيرة. وما الذي يوضح ذلك؟ الذي يوضحه هو أنه بعد الخطايا الكثيرة التي اقتُرفت فيما بعد أى بعد الخطية الأولى التي سقط فيها آدم في الفردوس، انتهى الأمر إلى قبول عطية التبرير. وحيث يوجد بر فحتمًا ستتبعه حياة وخيرات لا تُحصى، تمامًا كما يحدث في حالة الخطية فحيثما توجد خطية يتبعها موت. لأن البر هو شئ أكثر من الحياة لأنه هو جذر أو أصل الحياة.

          إذًا من حيث إن هناك هبات كثيرة قد مُنحت بعطية البر وأن الخطية الأولى ليست هى فقط التي مُحيت بل وكل الخطايا الأخرى، فهذا قد برهن عليه الرسول بولس بقوله: ” وأما الهبة من جرى خطايا كثيرة للتبرير“. وبذلك يكون قد برهن بالضرورة على أن الموت قد قُضى عليه نهائيًا. ولأنه قال بعد ذلك إن الثانى (أى آدم الثانى) أعظم من الأول (أى آدم الأول)، فهناك احتياج أن يبرهن على هذا مرة أخرى. فطالما أن بخطية إنسان واحد اُقتيد الجميع إلى الموت، كما سبق وأشار إلى ذلك، فبالأولى كثيرًا ستستطيع نعمة الواحد (أى نعمة المسيح) أن تُخلّص الكثيرين. ثم دلل على أنه ليست الخطية الأولى فقط هى التي مُحيّت بواسطة النعمة بل جميع الخطايا الأخرى. ولم تُمحى الخطايا فقط بل أُعطى البر أيضًا. وعلى قدر ما تسبب آدم في الأضرار على قدر ما كانت عطايا المسيح وفيرة ولا تحصى. ومع أنه أشار إلى كل هذه الأمور، إلاّ أنه يحتاج هنا أيضًا لتقديم برهان أوضح. كيف أوضح هذا البرهان؟ بقوله:

 

إن كان بخطية الواحد قد ملك الموت بالواحد فبالأولى كثيرًا الذين ينالون فيض النعمة وعطية البر سيملكون في الحياة بالواحد يسوع المسيح” (رو17:5).

ما يقوله يعنى الآتى: بماذا تسلّح الموت ضد البشرية؟ تسلّح بأن إنسانًا واحد فقط أكل من الشجرة. فإذا صارت للموت هذه السيادة الكبيرة بسبب خطية واحدة، فكيف يصبح من الممكن أن يكون هناك أناس تحت حكم الموت وقد حصلوا على نعمة وبر أعظم بكثير من الخطية الأولى الأمر الذي جعله لا يقول “نعمة”، بل “فيض النعمة”؟ لأننا لم نحصل على قدر بسيط من النعمة يكفى فقط لمحو الخطية، بل حصلنا على فيض النعمة. لأنه بالحقيقة قد أُنقذنا من الجحيم وابتعدنا عن الشر وولدنا مرة أخرى من الله. وقد قمنا، مادام أن إنساننا القديم قد دُفن، وخُلصنا وتبررنا وصرنا أبناءً وتقدّسنا وصرنا اخوة للابن الوحيد الجنس وورثة معه واتحدنا معه في جسد واحد، وإلى هذا الجسد نحن ننتمى. وكما أن الجسد متحد بالرأس هكذا اتحدنا نحن أيضًا به (أى بالابن).

          كل هذا دعاه الرسول بولس ” فيض النعمة ” مُظهرًا هكذا أننا لم نحصل فقط على ما يُضمد الجرح، لكن حصلنا على شفاء وجمال وكرامة وعلى رُتب تفوق كثيرًا طبيعتنا الفانية. وكل أمر على حدة من هذه الأمور كان كافيًا أن يُبطل الموت، إلاّ أنه عندما يتضح أن كل هذه الأمور قد ساعدت معًا في إبطاله، فلن يكون له أثر بعد ذلك ولن يكون ممكنًا أن يخيم بظلاله حولنا طالما أنه قد انتهى كلية. تمامًا كما لو أن شخصًا قد وضع آخر في السجن لأنه مديون له بعشرة فلسات وليس هذا فقط بل ووضع في السجن أيضًا زوجته وأولاده وخدامه بسبب هذا الدين، ثم أتى شخص آخر ودفع ليس فقط عشرة فلسات بل ومنح آلاف العملات الذهبية وقاد السجين إلى الحاشية الملكية وإلى عرش السلطة العليا وجعله شريكًا في الكرامة السامية وفي الأمور الأخرى المشرقة، فيصير من غير الممكن أن يتذكر بعد ذلك الفلسات التي اقترضها. هذا ما حدث لنا، لأن المسيح دفع أكثر جدًا من قيمة الدين الذي كان علينا. وما دفعه كان عظيمًا جدًا، بقدر اتساع البحر إذا ما قُورن بنقطة ماء صغيرة. إذًا ينبغى عليك أيها الإنسان ألا تشك في شئ عندما ترى كل هذا الغنى الوفير من الخيرات ولا تفحص كيف انطفأت شرارة الموت والخطية، عندما غمر هذا البحر الكبير من الهبات الوفيرة هذه الشرارة المتقدة. وهذا ما أشار إليه القديس بولس قائلاً: ” الذين ينالون فيض النعمة وعطية البر سيملكون في الحياة“.

          3 ـ ولأنه قد برهن على هذا بكل وضوح (أى أن أولئك الذين ينالون فيض النعمة سيملكون في الحياة)، فإنه يُقدم نفس الرؤية السابقة مرة أخرى مؤكدًا عليها من خلال التكرار بقوله إن كان بخطية واحد قد أُدين الكثيرون، فقد تبرروا للحياة بالواحد. ولهذا يقول:

 

” فإذًا كما بخطية واحد صار الحكم إلى جميع الناس للدينونة هكذا ببر واحد صارت الهبة إلى جميع الناس لتبرير الحياة ” (رو18:5).

          ويستمر في محاولته هذه للتأكيد على هذه الرؤية مرة أخرى، فيقول:

 

” لأنه كما بمعصية الإنسان الواحد جُعل الكثيرون خطاة هكذا أيضًا بإطاعة الواحد سيُجعل الكثيرون أبرارًا ” (رو19:5).

          إن ما يقوله القديس بولس هنا ـ بحسب الظاهر ـ يخلق مشكلة كبيرة، إلاّ أنه إذا انتبه المرء بدقة لما يقوله، فإن هذه المشكلة ستُحل بسهولة. وما هى هذه المشكلة؟ هى أنه قال ” بمعصية الإنسان الواحد جُعل الكثيرون خطاة “. لأنه أن يكون ذاك (أى آدم) قد أخطأ وصار فانيًا وأن كل مَن انحدر منه قد أخطأوا وصاروا فانيين فهذا لا يُعد أمرًا غير طبيعى على الإطلاق ولكن أن يصير آخر (المسيح) خطية بسبب معصية ذاك (آدم)، فأى علاقة طبيعية يمكن أن تقوم هنا؟ لأن هكذا سيُعتبر هذا الإنسان خاطئًا، دون أن يكون مسئولاً عن الحكم، طالما أنه لم يصر من ذاته خاطئًا.

          إذًا ماذا تعنى هنا كلمة “خطاة”؟ من ناحيتى يبدو لى أنهم تحت حكم الدينونة ومحكوم عليهم بالموت. ومن حيث أن بموت آدم قد صرنا جميعًا فانيين فهذا قد بيّنه الرسول بولس بوضوح وبطرق كثيرة، لكن السؤال المطروح: هو لأى سبب صار هذا (أى أن الموت صار إلى جميع الناس)؟ وهنا نجد أن القديس بولس لم يشر إليه بعد، لأن هذا لم يكن ليعينه في مسعاه، لأن المعركة كانت ضد اليهودى الذي كان تنتابه الشكوك وكان يسخر من موضوع البر بالواحد. ولهذا بعدما أظهر كيف أن بخطية الواحد قد صار الحكم إلى جميع الناس للدينونة، لم يقل لأى سبب صار هذا، لم يتكلم عنه بعد، لأنه كان يتجنب الأمور غير الجوهرية ويهتم فقط بالأمور الضرورية. لأن ناموس الأعمال كان يُلزم اليهودى بالأكثر أن يتكلم عن (البر بالأعمال)، على أن يتكلم عن بر المسيح. ولهذا تحديدًا فقد ترك المشكلة بلا حل. لكن لو أن أحدكم طلب أن يعرف السبب فسنتكلم عن هذا. بمعنى أننا لم نُضار مطلقًا من أن الموت قد ملك على الجميع، بل إننا قد ربحنا بكوننا قد صرنا فانيين، أولاً لأنه لو كان لنا جسدًا غير قابل للموت فإن هذا سيكون دافع للاستمرار في ارتكاب الخطية، ثانيًا لكى تكون لدينا دوافع غير محدودة في جهادنا لتحقيق التقوى.

          لأنه بالحقيقة عندما يكون الموت حاضرًا وعندما ننتظره فإنه يُقنعنا أن نكون متواضعين ومُتعقلين وبسطاء وأن نتخلص من كل شر. ومع هذا فمن الأفضل أن نقول أولاً أننا ربحنا بالموت خيرات أخرى وفيرة. لأنه من هنا أُستعلنت أكاليل الشهداء ومكافآت الرسل. هكذا تبرر هابيل وهكذا تبرّر إبراهيم الذي قدّم ابنه ذبيحة وهكذا أيضًا تبرّر يوحنا الذي مات لأجل المسيح وأيضًا الثلاثة فتية، كما تبرّر دانيال. لأنه لو أردنا (البر) فلن يستطيع الموت ولا الشيطان نفسه أن يُسبب لنا ضررًا أو أذى. وفوق كل هذا فإننا نستطيع القول بأن الأبدية تنتظرنا، وطالما أننا قد نلنا تعليمًا أو إرشادًا لزمن قصير، سنتمتع بخيرات الدهر الآتى بدون خوف كما لو أنه قد تم إعدادنا في مدرسة الحياة الحاضرة، من خلال المرض والضيقات والتجارب والآلام ومن خلال الأمور الأخرى التي تُعد مُحزنة ومؤسفة، لكى نكون مستعدين ولائقين لاستقبال خيرات الدهر الآتى.

 

4 ـ ” وأما الناموس فدخل لكى تكثر الخطية ” (رو20:5).

          بعدما بيّن كيف أنه بخطية آدم صار الحكم إلى جميع الناس للدينونة، بينما بعطية المسيح صارت الهبة لجميع الناس لتبرير الحياة وأن جميع الناس قد خلصوا وأُنقذوا من الدينونة، نجده ينشغل فيما بعد بموضوع الناموس مُقللاً مرة أخرى من وقع تأثيره. إذ أن الناموس لم ينفع ولم يعين الإنسان في خلاصه، بل وجدنا أنه عندما أُعطى الناموس ازداد الضعف. وهنا فإن تعبير “لكى” (gia na)، لا يعنى السبب، لكن يعنى النتيجة. بمعنى أن الناموس لم يُعط لكى تزداد الخطية لكن لكى تقل وتُمحى، لكن العكس قد حدث، لا بسبب طبيعة الناموس بل بسبب لا مبالاة أولئك الذين أخذوا الناموس. ولكن لماذا لم يقل في الآية أن الناموس أُعطى لكنه قال   ” أما الناموس فدخل“؟ ذلك لكى يظهر أن الاحتياج له هو أمر مؤقت وليس أمرًا أساسى أو هام، وهذا ما نجده في رسالته إلى أهل غلاطية عندما أعلن عن نفس الشئ ولكن بأسلوب آخر بقوله: ” لكن قبلما جاء الإيمان كنا محروسين تحت الناموس مُغلقًا علينا إلى الإيمان العتيد أن يُعلن[1].

          وبناء على ذلك فإن إهتمامه بحفظ الرعية لم يكن لأجل ذاته بل لأجل الآخرين. لأن بعض اليهود كانوا بلا حس، صغار النفوس وبلا رجاء من جهة نفس العطايا، ولهذا السبب أُعطى الناموس لكى يشهد على هؤلاء بالأكثر، ولكى يُعلّمهم بكل وضوح في أى حالة هم يحيون ويوسع من مساحة الإدانة (أى أن الخطية ازدادت بسبب لا مبالاة اليهود)، حتى يجعلهم أكثر إدراكًا. ولكن لا تخف، لأن هذا لم يحدث بهدف أن تصير العقوبة أكبر، بل لكى تظهر النعمة أكثر. ولهذا أضاف: ” ولكن حيث كثرت الخطية ازدادت النعمة جدًا “. ولم يقل ازدادت النعمة فقط، لكن     ” ازدادت النعمة جدًا “. لأنه لم يخلّصنا من الجحيم فقط، لكن ومن الخطايا أيضًا ووهبنا الحياة وتلك الأمور الأخرى التي تكلمنا عنها مرات عديدة. تمامًا كما لو أن شخصًا كان مريضًا بارتفاع في درجة الحرارة وأتى آخر ولم يخلصه فقط من المرض لكن جعله في وضع بهى وقوى ومُمجد، وأيضًا لو كان شخص جائعًا ثم أشبعه آخر وليس هذا فقط بل جعله مالكًا لأموال كثيرة ثم قاده إلى سلطة كبيرة.

          وكيف يقول كثرت الخطية؟ قال هذا لأن الناموس أعطى وصايا غير محدودة ولأنهم خالفوها كلها، فقد كثرت الخطية. أرأيت مدى التباعد بين النعمة والناموس؟ لأن الناموس صار سببًا للوم والإدانة، بينما النعمة صارت سببًا لهبات وفيرة جدًا.

          وبعدما تكلم عن السخاء في العطايا التي لا يُعبّر عنها، تكلّم مرة أخرى عن النعمة، عن سبب الموت وعن الحياة. إذًا ما هو سبب الموت؟ سبب الموت هو الخطية. ولهذا قال:

 

” حتى كما ملكت الخطية في الموت هكذا تملك النعمة بالبر للحياة الأبدية بيسوع المسيح ربنا ” (رو21:5).

          قال هذا لكى يقدّم الخطية كما لو كانت ملكًا والموت مثل جندى يخضع لأوامره ويأخذ مؤونته منه. وبناء على ذلك فلو أن الخطية قدمت مؤونة للموت فمن الواضح جدًا أن البر الذي لاشى الخطية والذي أتى بالنعمة لم يجرد الموت فقط من أسلحته بل وقضى عليه أيضًا وأنهى على كل مملكة الخطية تمامًا، وذلك على قدر عظمة البر مقارنة بالخطية وهذا البر قد أتى لا بمساعدة إنسان أو شيطان، لكنه أتى من خلال معونة الله ونعمته حتى يقود حياتنا إلى الوضع الأسمى وإلى خيرات لا تُحصى، خاصةً وأن حياة الدهر الآتى هى بلا نهاية، لكى تعرف من الآن امتياز هذه الحياة. لأن الخطية انتزعتنا خارج الحياة الحاضرة، لكن عندما أتت النعمة لم تهبنا فقط الحياة الحاضرة، لكنها قد وهبتنا أيضًا الحياة الأبدية. كل هذا قد منحنا إياه المسيح. إذًا لا تشك في الحياة الأبدية، طالما أنك تبررت، لأن البر هو أسمى من الحياة، طالما أنه هو الذي يلد الحياة الحقيقية.

[1] غل23:3.

رسالة رومية الأصحاح5 – عظة11 ج1 – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب

Exit mobile version