رسالة رومية الأصحاح5 – عظة10 ج3 – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب
بقية العظة العاشرة:
4 ـ إذًا فلنتبع نحن أيضًا القوات السمائية ولنهتم ليس فقط بأن نقف بالقرب من العرش، بل لأن نحمل داخلنا ذاك الذي يجلس فوق العرش، لأنه أحب حتى الذين أبغضوه ومازال يُحبهم إذ أنه: ” يشرق شمسه على الأشرار والصالحين ويُمطر على الأبرار الظالمين“[1]. إلاّ أنه ينبغى عليك أنت أن تحبه، على الأقل طالما أنه أحبك. لكن كيف يستطيع ذاك الذي يحب أن يُهدد بجهنم والجحيم والعقاب؟ يهدد بهذا من أجل المحبة ذاتها. لأنه يريد أن يجتث خطيتك بالترهيب الذي يستخدمه كلجام يضبط به اندفاعك نحو الأمور الأكثر سوءًا، وهو يصنع كل شئ لكى يضبط سلوكك ويوجهك نحو الطريق المستقيم، سواء عن طريق الوعد بالخيرات أو بالتحذير من الانحدار إلى الأمور المحزنة، فيعود بك إلى الطريق المؤدى إليه مُبعدًا إياك عن كل الشرور التي هى أكثر فزعًا من الجحيم ذاته.
لكن لو أنك تسخر مما أقوله وتريد أن تحيا في الخطية على الدوام اعتمادًا على مجرد إدانتك لنفسك يومًا واحدًا، فهذا لا يُعد أمرًا غريبًا على الإطلاق. هذا هو بالحقيقة دليل على إرادة تفتقر للكمال وعلى غياب الوعى وعلى مرض غير قابل للشفاء. لأن الأطفال الصغار عندما يرون الطبيب وهو يكوى جرحًا[2]، أو يقوم بإجراء عملية، فإنهم يهربون مبتعدين عن المكان وهم يصرخون صرخات قوية مُفضلين بالأكثر أن يعانوا باستمرار من تلك الآلام التي ألمت بجسدهم على تدخل الطبيب حتى وإن أدى تدخله إلى الشفاء والتمتع بصحة جيدة، طالما أنهم قادرون على احتمال الألم مؤقتًا. لكن أولئك الذين لديهم إدراك يعرفون جيدًا أن المرض هو أكثر رعبًا من الجراحة، تمامًا كما أن الخطية هى أكثر سوءًا من العقوبة. إذًا فأحد الأمرين يعنى الشفاء والصحة، بينما الآخر يعنى البلية والمرض المستمر.
أما من حيث إن الصحة هى أفضل من المرض، فهذا أمر واضح للجميع. كما أنه يحق لنا أن نُرثي اللصوص، لا عندما يمزقون جيوبهم، بل عندما ينقبون الحوائط ويقتلون. فإن كانت النفس هى أفضل من الجسد وهى هكذا بالفعل، فإذا ما فسدت يكون أمرًا مبررًا أن نتنهد ونحزن عليها، لكن لو أنها لم تشعر بأنها فسدت، فإنه لهذا السبب بالتحديد يجب أن نحزن عليها بالأكثر. لأنه ينبغى حقًا أن نحزن بالأكثر على أولئك الذين يرغبون في ممارسة الفجور والفسق وأولئك الذين يسكرون. وقد يتساءل المرء لماذا نفضل هذه الأمور (الفسق والفجور)، إذا كانت هى الأكثر فزعًا؟ لأنه وفقًا للنموذج الشائع فإن بعض الناس يُعجبون بالأمور المشينة ويفضلونها ويحتقرون الأمور الصالحة ويُرذلونها. هذا الأمر من الممكن أن نراه في كل شئ، في المأكولات وفي المدن وفي محاكاة أساليب حياة معينة وفي الاستمتاع بالشهوة وعند النساء وفي البيوت وعند المقيدين وفي الحقول وفي كل الأمور الأخرى.
أخبرنى، أيهما أكثر سعادة، هل هى العلاقة الجنسية مع نساء أم مع رجال؟ وأيهما أفضل أن تكون العلاقة مع نساء أم مع حيوانات؟ لكننا نجد أن الكثيرين يحتقرون النساء ويأتون في علاقات جسدية مع حيوانات ومع رجال مثلهم، مع أنه من المؤكد أن العلاقات الطبيعية هى أكثر سعادة من العلاقات الشاذة. لكن يوجد كثيرون يسعون نحو هذه الأمور المدانة والمنفّرة والمثيرة للسخرية كما لو كانت تجلب سعادة أكثر وهم بذلك يجلبون على أنفسهم العقاب. فهذه الأمور الفاضحة تبدو لهؤلاء على أنها مُفرحة، من أجل هذا تحديدًا هم تعساء، لأنهم يعتقدون أن الأمور التي ليست بالمفرحة، هى مُفرحة. هكذا يعتبرون أن الدينونة هى أشر من الخطية. والأمر ليس كذلك بل هو على العكس تمامًا، إذ أن الخطية هى أكثر فزعًا من أى عقوبة. لأنه إن كان العقاب شرًا لأولئك الذين يخطئون، فلن يضيف الله شرًا على شرورهم (بواسطة عقابه) ولن يجعلهم أكثر شرًا. لأن ذاك الذي فعل كل شئ لكى يمحو الشر، لا يمكن أن يكون سببًا في زيادته. وبناء عليه فإن العقوبة ليست شرًا لذاك الذي يخطئ، بيد أن الشر هو ألاّ يُعاقب الخاطئ في الحالة التي يوجد فيها، لأن هذا يشبه تلك الحالة التي فيها نوصى بألاّ يُشفى المريض من مرضه.
إذًا لا يوجد أشر من الشهوة الفاسدة. وعندما أقول الفاسدة أقصد شهوة اللذة وشهوة المجد الباطل وشهوة السلطة وبشكل عام شهوة كل الأمور غير الهامة وغير الضرورية. لأن مثل هذا الإنسان الذي يحيا في اللذة أو حب الشهوة وفي حياة الرخاوة يعتقد أنه أكثر سعادة من الجميع، إلاّ أنه في الحقيقة هو أكثر تعاسة من الجميع وقد جعل نفسه مُثقّلة بآلام مخيفة. ولهذا فإن الله جعل هذه الحياة الحاضرة صعبة لكى يُخلّصنا من تلك العبودية (عبودية الشهوة) ويقودنا إلى الحرية الكاملة. ولذلك فقد هدّد بالعقاب وربط حياتنا بالأتعاب لكى يقضى على خمولنا وتوانينا. هكذا فإن اليهود عندما كانوا مُخصصين لصناعة الأوانى الفخارية والأرميد وقد كانوا أبرارًا كانوا يُصلّون إلى الله بشكل مستمر، ولكن عندما نالوا الحرية تذمروا وأغضبوا الله وأصابوا أنفسهم بشرور كثيرة.
إذًا بماذا تصف هؤلاء الذين يُغيرون آرائهم مرات كثيرة بسبب الضيقات؟ نقول إن التغيير ليس بسبب الآلام، لكن بسبب ضعف أو مرض فيهم. لأنه إن كان هناك مرضًا ما أصاب معدة شخص ورفض أن يتناول دواءًا مر المذاق كان من الممكن أن يشفيه، فتدهورت حالته، فإننا لن نتهم الدواء بل المرض الذي أصاب العضو المريض، وهذا ينطبق أيضًا على إلقاء اللوم على سذاجة الفكر. فإن مَن يغيّر رأيه بسهولة بسبب الضيقات، سيعانى الضيقات بصورة أكثر سهولة حتى في حالة الراحة والرخاء، إذ أنه يسقط مُقيدًا أى بالخطية (هذا هو الضيق)، وبالأكثر جدًا سيسقط صريعًا لو أنه وهو في حالة الضيق قد غير رأيه، لأنه سيُغير رؤيته بالأكثر عندما يكون في حالة رخاوة وكسل. وقد يقول المرء كيف يمكننى أن أثبت على رأيي عندما أكون في حالة ضيق؟ يمكنك أن تكون ثابت الرأى لو أدركت أنك ستعانى الضيق أو الآلام سواء أردت أم لم تُرد، فلو أنك تجوز الآلام بشكر ستربح الكثير، ولكن لو كنت تعانى هذه الآلام بيأس وانزعاج وتجديف، فلن تجعل الضيقة أو النكبة أقل، بل ستغرق أكثر في الضيقات والمتاعب.
فلنفكر إذًا في كل هذه الأمور ونجعل الذي يأتى نتيجة اضطرار يأتى نتيجة إختيار. وما أقصده هو الآتي: قد يفقد شخص ما ابنه وآخر يخسر كل ثروته فنقول لمثل هؤلاء: إن كنت تدرك استحالة تصحيح ما حدث إلاّ أنك من الممكن أن تربح شيئًا من وراء هذه النكبة التي لا شفاء منها، بأن تحتمل هذه الكارثة بشجاعة وبدلاً من كلام التجديف، تُعطى المجد لله عندئذٍ فإن الضيقات التي ألمت بك ستصير سبب عزاء عندما تقبلها بالشكر. أرأيت أن ابنك مات وهو صغير السن؟ لتقل: ” الرب أعطى الرب أخذ“[3]. ورأيت كيف فُقدت ثروتك؟ لتقل ” عريانًا خرجت من بطن أمى وعريانًا أعود إلى هناك“[4]. إن رأيت كيف أن الأشرار ينعمون بينما الأبرار يتألمون ويعانون ضيقات لا حصر لها ولا تعرف كيف تجد سببًا لكل ما يحدث؟ لتقل ” صرت كبهيم عندك ولكن دائمًا معك“[5].
ولكن إذا كنت تبحث عن السبب، فكّر في أن الله قد عيّن يومًا فيه يدين كل المسكونة وسينزع كل شك، لأنه في ذلك الوقت سينال كل أحد ما يستحقه (عن أعماله التي عملها) تمامًا مثل لعازر والغنى. تذكّر الرسل لأنهم بينما جُلدوا وطُردوا وجازوا ضيقات وآلام لا حصر لها، إلاّ أنهم كانوا فرحين لأنهم حُسبوا مستحقين أن يهانوا من أجل اسم المسيح. وأنت أيضًا لو أنك مرضت فليكن قبولك للألم برضى وشجاعة، ولتشكر الله على كل حال وهكذا ستأخذ نفس المكافأة مع أولئك الذين تألموا من أجل اسمه. لكن كيف يحدث بينما أنت مريض وتعانى، يمكنك أن تشكر الله؟ يمكنك أن تفعل ذلك لو أنك تحبه بالحقيقة. إن الثلاثة فتية أُلقوا في أتون النار وآخرون عانوا آلامًا كثيرة داخل السجون ومع هذا لم يتوقفوا عن شكرهم لله، فبالأولى كثيرًا أولئك الذين يعانون من أمراض شديدة ينبغى أن يشكروا الله.
لأن رغبة الإنسان القوية تستطيع أن تنتصر على كل شئ. فالشوق الإلهى عندما يلتهب فى داخلنا فإنه يتفوق على كل شئ، ولن يعوق هذه الرغبة أى شئ، لا نار ولا قيود ولا فقر ولا مرض ولا موت. وطالما أن الإنسان يحتقر كل شئ فسيرتفع إلى السماء ولن يكون أقل من الساكنين هناك ولن ينظر لأى شئ آخر، لا سماء ولا أرض ولا بحر لأن نظره يكون معُلّقًا بأمر واحد فقط الذي هو جمال المجد السمائى. إن الأمور المحزنة أيضًا لا يمكنها أن تُثبّط من عزيمة الإنسان وهو يسلك في هذه الحياة الحاضرة، ولا الأمور المادية ستجعله يتباهى ويفتخر. إذًا فليكن لدينا شوق لهذا العشق الإلهى (لأن لا شئ يساويه) من خيرات هذه الحياة أو الخيرات المستقبلية، من الأفضل أن نقول قبل كل هذا إنه لا يوجد شئ يعادل طبيعة هذا العشق الإلهى. لأننا (بهذا العشق الإلهي) سننجو من عقوبات الحياة الحاضرة وعقوبات الدهر الآتى وسنتمتع بملكوت الله. وقبل ذلك نقول إن لا الخلاص من جهنم ولا التمتع بالملكوت يعتبر أمرًا ذى قيمة كبيرة إذا ما قورن بذاك الذي سنراه في الدهر الآتى. لأن الأعظم من كل هذا هو محبة المرء للمسيح وتمتعه بمحبة المسيح. لو ساد هذا على حياة البشر فهو أسمى من كل اعتبار. وعندما يتحقق هذا فأى حديث وأى فكر يمكن أن يُعبّر عن طوباوية هذه النفس؟ لا يوجد شئ آخر، سوى اختبار تذوق هذه السعادة.
ومادمنا قد هجرنا كل شئ لا يُرضى صلاح الله سنصل إلى إدراك مذاقه هذا الفرح الروحى والحياة الطوباوية وكنز الخيرات التي لا تُحصى، إذًا فلنكرس أنفسنا للسلوك بمحبة من أجل سعادتنا وإعلان مجد الله الذي نشتهيه، لأنه يليق به المجد والقوة مع ابنه وحيد الجنس والروح القدس الآن وكل أوان وإلى دهر الدهور آمين.
[1] مت45:5.
[2] كان هذا من الإجراءات الطبية المألوفة في ذلك الوقت (القرن الرابع).
[3] أي21:1.
[4] أي21:1.
[5] مز22:73.