رسالة رومية الأصحاح4 – عظة9 ج2 – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب
بقية العظة التاسعة:
5 ـ ولذلك، فلو أردت أن تعرف كيف كُرّم إبراهيم، فاعلم أن هذا قد حدث بسبب إيمانه، لأنه آمن بأنه سيكون أبًا للجميع. وعندما ذكر عبارة: ” أمام الله الذي آمن به ” لم يتوقف عند هذا الحد، بل أضاف: ” الذي يحيى الموتى ويدعو الأشياء غير الموجودة كأنها موجودة“، مُشيرًا إلى القيامة العتيدة أن تحدث. وفي هذه الحالة كان الأمر مفيدًا له. لأنه طالما أن في إمكان الله أن يُعطى حياة للموتى، ويدعو الأشياء غير الموجودة كأنها موجودة، بهذا يصير من الممكن أيضًا أن يجعل لإبراهيم أولادًا لم يولدوا من صلبه. ولهذا لم يقل الذي أحضر للوجود الأشياء غير الموجودة، ولكن ” الذي يدعو ” فيوضح مدى السهولة التي يخلق بها الله الأشياء. فكما أنه من السهل بالنسبة لنا أن نُشكّل الأشياء الموجودة، هكذا فإنه من السهل بالنسبة لله، بل وأكثر سهولة أن يعطى كيانًا للأشياء غير الموجودة. لكن بعدما قال أن عطية الله عظيمة ولا يُعبّر عنها، وبعدما تحدث عن قوة الله، بيّن كيف أن إيمان إبراهيم جعله مستحقًا للعطية، لكى لا تتصور أن إبراهيم قد كُرّم بدون سبب. وبعدما حث المستمع ألا يُثير قلقًا، ولكى لا يشك اليهودى ويقول كيف يكون هذا، أن الذين ليسوا هم أولاده يصيروا أولاده، ينتقل بحديثه مرة أخرى إلى إبراهيم، ويقول:
” فهو على خلاف الرجاء آمن على الرجاء لكى يصير أبًا لأمم كثيرة كما قيل هكذا يكون نسلك ” (رو18:4).
كيف على خلاف الرجاء آمن على الرجاء؟ هذا يعنى: على خلاف الرجاء الإنسانى، إذ أنه وضع رجائه في الله. هنا يُبيّن عظمة هذا الأمر ولا يترك مجالاً للشك في هذا الكلام، فالأمر يحمل تناقضًا (بمعنى أن الذين ليسوا أولادًا قد صاروا أولادًا) إلاّ أنه قد وحّدهم معًا بالإيمان. لكنه لو تكلّم عن نسل إسرائيل، لكان هذا الحديث أمرًا زائدًا. لأن هؤلاء اليهود كانوا أولادًا لا بالإيمان بل بالطبيعة.
ثم يشير إلى اسحق وكيف كان إبراهيم متشككًا في إمكانية إنجابه من امرأة عاقر، وليس من جهة أنه سيصير أبًا لأمم كثيرة. إذًا هى مكافأة أن يصير أبًا لأمم كثيرة، وواضح كيف صار أبًا لأمم كثيرة، إذ آمن لأجلهم، وهذا ما يوضحه الكلام الآتى:
” وإذ لم يكن ضعيفًا في الإيمان لم يعتبر جسده وهو قد صار مماتًا إذ كان ابن نحو مئة سنة ولا مُماتية مستودع سارة ” (رو19:4).
أرأيت كيف يذكر العوائق ورغبة البار (أى إبراهيم) الشديدة في أن يتغلّب على كل شئ؟ فهو قد نال الوعد على خلاف الرجاء، وكان هذا أول عائق. لأن إبراهيم لم يستطع أن يرى مثالاً آخر أى شخص قد أنجب ولدًا بهذه الطريقة. فالذين أتوا بعد إبراهيم قد رأوا تحقيق هذا الأمر في شخص إبراهيم، بينما هو نفسه لم يرى هذا في أى شخص آخر، بيد أنه رأى إمكانية تحقيقه بالثقة في الله فقط، ولذلك قال ” على خلاف الرجاء “. ثم بعد ذلك كان العائق الثانى وهو أن جسده كان مماتًا، وأيضًا مماتية مستودع سارة، وهذا يُمثل عائق ثالث ورابع أيضًا.
” ولا بعدم إيمان ارتاب في وعد الله بل تقوى بالإيمان معطيًا مجدًا لله ” (رو20:4).
لأن الله لم يعطِ برهانًا ولا صنع معجزة، وما قدمه هو فقط كلامًا بسيطًا، لكنه كان يحمل وعودًا لم تستطع الطبيعة أن تَعِد بها. لأجل هذا يقول الرسول بولس إنه: ” لم يرتاب ” ولم يقل لم يؤمن، لكنه قال ” ولا بعدم إيمان ارتاب ” أى أنه لم يتردد ولا تشكك، على الرغم من أن العوائق كانت كثيرة.
إن ذلك كله يعلّمنا أن الله حتى وإن أعطى وعودًا لا حصر لها وتبدو مستحيلة ولم يقبلها الذي يسمعها، فإن الضعف لا يرتبط بطبيعة الوعود، بل إلى حماقة الذي لم يقبلها. ثم يقول بولس عن إبراهيم:
” بل تقوى بالإيمان“. أرأيت حكمة القديس بولس، فلأن الكلام كان موجهًا إلى أولئك الذين يعملون (بالناموس) والذين يؤمنون، فإنه يُبين أن ذاك الذي يؤمن يجاهد ويحتاج لقدرات أكبر وقوة أكثر من الذي يعمل. لأنهم بالحقيقة قد احتقروا الإيمان وقالوا إن ليس فيه ألم. إذًا لأجل هذا الهدف يوضح أنه ليس فقط ذاك الذي يجاهد من أجل العفة أو أى شئ آخر مشابه يحتاج لقوة، بل ذاك الذي يُظهر إيمانًا أيضًا في حاجة للقوة. لأنه كما أن ذاك الذي يقاوم أفكار الفسق أو الفجور هو في حاجة إلى قوة، هكذا مَن يؤمن يحتاج أيضًا إلى نفس صلبة لكى يستطيع أن يقاوم أفكار هى ضد الإيمان.
إذًا كيف صار إبراهيم قويًا؟ يقول الرسول بولس: بالإيمان، وبدون أن يترك إبراهيم هذا الأمر للأفكار، لئلا يفقد شجاعته. وكيف حقق هذا الإيمان؟ حققه ” معطيًا مجدًا لله “، ويتابع القديس بولس كلامه عنه بقوله:
” وتيقن أن ما وعد به هو قادر أن يفعله أيضًا لذلك أيضًا حُسب له برًا” (رو21:4ـ22).
وبناء عليه ينبغى ألاّ نفحص كثيرًا في (وعد الله)، لأن قبول الوعد هو تمجيد لله، لكن الذي يُعّد بالحقيقة خطية هو الفحص كثيرًا في وعود الله. فإذا كنا لا نُمجَد عندما نفحص كلامه بفضول، وعندما نسعى لطلب الأمور الأرضية، فبالأولى كثيرًا ينبغى ألاّ ننشغل بكيفية ميلاد الرب، لأننا سنُعانى كثيرًا إذا اتبعنا هذا السلوك غير المستقيم. وإن كان لا ينبغى أن نفحص الشكل أو النموذج الذي ستكون عليه القيامة، فبالأولى كثيرًا لا ينبغى أن نفحص تلك الأمور الفائقة التي لا يُعبّر عنها. ولم يقل الرسول بولس إن إبراهيم كان واثقًا، لكنه قال “تيقن” لأن هذا هو الإيمان، فهو أكثر وضوحًا من برهان الأفكار وله قوة إقناع أقوى. فليس هناك فكرًا يستطيع أن يتوغل ويؤثر على هذا اليقين. لأن ذاك الذي يقتنع برأي عند سماعه لكلام مجرد، يمكن أن يغيّر رأيه، بينما ذاك الذي يقتنع بصورة مطلقة من خلال الإيمان، فإنه يقيم سدًا أو سياجًا حول سمعه لصد أى كلام يمكن أن يؤثر في الإيمان. إذًا بعدما قال إن إبراهيم تبرر بالإيمان، أوضح أنه تقوّى بالإيمان معطيًا مجدًا لله، الأمر الذي يُعد ملمحًا خاصًا ومميزًا لطريقة الحياة الصحيحة. ” فليضئ نوركم هكذا قدام الناس لكى يروا أعمالكم الحسنة ويمجدوا أباكم الذي في السموات“[1]. ومن الواضح أن هذا السلوك له علاقة وثيقة بالإيمان. وهكذا فكما أن الأعمال تحتاج إلى قوة، فإن الإيمان أيضًا يحتاج إلى قوة. فبالنسبة للأعمال، نجد أن الجسد كثيرًا ما يشترك في الجهاد، أما فيما يتعلق بالإيمان فالأمر يختص بالنفس فقط. وعليه فإن الألم أو التعب يكون أكبر عندما لا يكون لدى المؤمن ما يُعضد به النفس في جهاداتها.
6 ـ أرأيت كيف أظهر الرسول بولس أن كل تلك الأمور، التي هى نتائج للأعمال، قد أُضيفت ببركة وفيرة للإيمان، وأن الشخص يمكنه أن يبتهج بهذا أمام الله، عندما يكون محتاجًا إلى قوة ومثابرة، وأنه يُمجد الله أيضًا؟ وهذا واضح مما قاله: ” إن ما وعد به هو قادر أن يفعله أيضًا” يبدو لى أنه يُنبئ بالأمور المستقبلية. لأن الله لم يَعد فقط بالأمور الحاضرة بل بالأمور المستقبلية، إذ أن الأمور الحاضرة هى مثال لأمور الدهر الآتى. وبناء على ذلك فإن عدم الإيمان هو ملمح للنفس المريضة والضئيلة والبائسة. حتى عندما يُديننا البعض بسبب الإيمان، يحق لنا أن ندينهم لعدم إيمانهم، كأناس بائسين، وأغبياء، ومرضى، وصغار النفوس، ولا يسلكون بطريقة أفضل من البهائم غير العاقلة. لأنه بالضبط كما أن الإيمان هو سمة النفس التقية والعظيمة، هكذا فإن عدم الإيمان هو ملمح للنفس التي تتسم بالغباء الشديد، النفس التافهة التي انحدرت إلى مستوى الحيوانات غير العاقلة.
لهذا عندما نهجر هؤلاء (أى عديمى الإيمان)، يجب أن نسلك في خطى إبراهيم، ولنمجد الله تمامًا كما مجدّه هو. لكن ما معنى مجّد الله؟ معناه أنه أدرك بره وقوته غير المحدودة. وطالما أنه أدرك ذلك كما ينبغى، عندئذٍ نال الوعود. إذًا فلنُمجد نحن أيضًا الله بالإيمان وبالأعمال، لكى نأخذ المكافأة، بأن نُكرم من الله، لأنه يقول ” فإنى أُكرم الذين يكرموننى“[2]. وحتى لو لم يكن هناك أى مكافأة، فمجرد أن نكون مستحقين لأن نُمجد الله، فهذا تحديدًا هو الإكرام. لأن الناس عندما يمدحون الملوك فإنهم يفتخرون بهذا فقط، حتى لو لم يوجد أى شئ آخر يربحونه، تأمل في مقدار المجد الذي يكون عندما يُمجّد الله بواسطتنا. أنه بكل تأكيد، يريد هذا المجد لنا، لأن الله ليس في احتياج لهذا المجد.
إذًا كيف تتصور حجم الفروق بين الله وبين البشر؟ هل هى بمقدار الفروق بين البشر والحشرات الدقيقة؟ إننى لم أقل شئ إلى الآن لأوضح هذه الفروق، ولو أننى مُدرك مقدارها الضخم، لأنه من المستحيل أن يُحدد المرء مقدار هذه الفروق. فهل يا تُرى سترغب في أن تقتنى لك مجدًا مشرقًا وعظيمًا من خلال الحشرات الدقيقة؟ لا على الإطلاق. إذًا فلو أنك، يا مَن تشتهى المجد بكل هذا الاشتياق، لن ترغب في أن تطلب مجدًا من الحشرات، فكيف يكون ذاك الذي هو متحرر من هذه الشهوة (شهوة المجد) والذي هو أعلى وأسمى من كل شئ، في إحتياج لأن يُمجد منك؟ لكنه وإن لم يكن في حاجة للمجد، إلاّ أنه يريده لك. فلو أنه قَبِلَ أن يصير عبدًا من أجلك، فلماذا تندهش لو أنه احتمل الأمور الأخرى لنفس السبب ؟ لأنه لا يستطيع مَن هو غير مستحق في ذاته، أن يقود إلى خلاصنا. وإذ نعرف كل هذا، فلنتجنب كل خطية تؤدى إلى إهانة الله. ” اهرب من الخطية هربك من الحية فإنها إن دَنوت منها لدغتك“[3]. فإن الخطية لا تأتى إلينا، بل نحن نسعى إليها.
إذًا فقد صنع الله هذا وأتى إلينا، حتى لا ينتصر الشيطان ويسود، لأن بدون معونة الله لا يستطيع أحد أن يُقاوم قوته. لهذا فقد أبعده الله كلص وكمستبد. فهو بخداعه واحتياله لن يتجرأ على مهاجمة أحد، إلاّ إذا كان وحيدًا. وإذ يرانا ونحن نسير في الجدب، فهو يتشجع على الاقتراب منا. لأن الجدب أو القفر هو أيضًا مكان الشيطان، وهذا الجدب ليس هو إلاّ الخطية. نحن إذًا في احتياج لدرع الخلاص، وسيف الروح، ليس فقط لكى لا نُصاب بأذى، لكن أيضًا لكى نقطع رأس الشيطان، وإذا ما أراد أن يهاجمنا ينبغى أن نُصلى دومًا لكى يُسحق تحت أقدامنا. لأنه يتصف بعدم الحياء والخسة فهو يهاجم من أسفل، وهكذا ينتصر. والسبب في هذا النصر هو أننا لا نُحاول أن نكون في وضع أعلى من أن تطولنا ضرباته، لأنه ليس في وضع يسمح له بالوقوف كثيرًا، لكنه يُسحب إلى أسفل. فهو لا يملك أرجل يقف عليها لأنه مثل الحية إذ أنها هى المثال الذي يرمز للشيطان. فلو أن الله ـ منذ البداية ـ قد حدّد له هذا الوضع، فبالأولى الآن. فإذا كنت لا تعرف ماذا يعنى أن يحارب الشيطان من أسفل فسأحاول أن أشرح لك أسلوب أو طريقة حربه. إنه يوجه الضربات منطلقًا من الأمور الأرضية، أى من اللذة أو من الغنى ومن كل الأمور الحياتية الأخرى. ولهذا لو أنه رأى شخصًا ينطلق نحو السماء (أى يسمو على الأمور الأرضية)، فهو لن يستطيع أن يقفز نحوه، هذا أولاً. ثانيًا وحتى لو حاول ونجح فإنه سيسقط سريعًا، لأنه لا يملك أرجل، لذلك لا تخاف منه إذ لا أجنحة له، ولا ترتعب أمامه لأنه يزحف فوق الأرض ومرتبط بالأمور الأرضية. إذًا ينبغى أن تسمو فوق كل الأمور الأرضية المادية وإذا حدث ذلك فلن تتعرض لأى ألم. لأنه لا يعرف أن يحارب مواجهة، لكنه مثل الحية يختفى بين الأشواك ويتربص باستمرار مختفيًا في خداع الغنى أو الثروة. ولو أنك أزلت الأشواك سيرحل سريعًا، لأنه جبان، ولو أنك تعرف أن تستخدم القوة الإلهية، فسيخرج على الفور لأنه يوجد لدينا قوة روحية، وهى اسم ربنا يسوع المسيح وقوة الصليب. هذه القوة، ليست فقط قادرة على أن تُخرج الحيّة من وكرها، وتلقيها في النار، بل وتشفى الجروح الناتجة عن لدغها أيضًا.
7 ـ لكن لو قال كثيرون إنهم لم يُشفون، فهذا يرجع إلى ضعف إيمانهم. لأن كثيرين دفعوا المسيح بقوة (بسبب تزاحمهم عليه) ولمسوه من كل جانب، ولم يربحوا شيئًا، لكن المرأة نازفة الدم، قد شُفيت بعد طوال مرضها رغم أنها لم تلمس جسده بل لمست فقط هدب ثوبه[4]. إن اسم ربنا يسوع المسيح هو مُخيف للشياطين ويُحرر من الشهوات ويبرئ من الأمراض. فلنفتخر بهذا الاسم إذًا ونحصن أنفسنا به[5]. وهكذا صار بولس عظيمًا على الرغم من أنه يحمل نفس طبيعتنا، إلاّ أن إيمانه جعله متميزًا عنا تمامًا، وكم كانت عظيمة تلك القوة التي كان يتصف بها[6]. إذًا كيف يكون لدينا القدرة لندافع عن أنفسنا، عندما لا تقدر صلواتنا أن توقف ولا حتى الشهوات، بينما كانت ظلال وملابس هؤلاء (بطرس وبولس) تقيم الموتى؟ إذًا ما هو السبب؟ السبب يرجع إلى تلك الفروق الكبيرة جدًا في الرغبة الداخلية، فالعطايا الطبيعية الخاصة بالإنسان هى واحدة ومشتركة بين الجميع، طالما أنه (أى بولس) ولد مثلنا ونمى وعاش على نفس الأرض وتنفس من نفس الهواء ولكنه كان أعظم وأفضل منا في الأمور الأخرى، أى في النية الحسنة وفي الإيمان والمحبة. فلنسلك إذًا كما سلك بولس ولنسمح للمسيح أن يتكلم معنا. إن المسيح يشتهى أن نسلك بالروح بل وأكثر جدًا مما نشتهيه نحن لأنفسنا، ولهذا خلق لنا هذه الأداة (أى العقل)، فهو لا يريد له أن يبقى بلا فائدة أو في تواني، إنما يريدنا أن نستخدمه على الدوام. فكما أن الآلة الموسيقية عندما تكون أوتارها غير مُعدة أو مرتخية، تصير بلا نفع ولا يستطيع العازف أن يستخدمها، هكذا أيضًا ينبغى علينا أن نُشدّد أعضاء النفس ونحفظها بالملح الروحى. لأنه لو رآها الله منسجمة هكذا فيما بينها، فلابد أن يُسمع صوت المسيح من داخل نفوسنا. وعندما يحدث هذا، سترى الملائكة ورؤساء الملائكة والشاروبيم وهى تطير فرحًا. إذًا لنصير مستحقين لرفع أيادى بلا عيب، ولنترجاه أن ينبض بقوته داخل قلوبنا، ومن الأفضل القول بأنه لا يحتاج إلى أن نترجاه لكي يفعل هذا لأنه يحتاج فقط أن تُهيئ له القلب كما ينبغى وحينئذٍ سيركض نحوك ويلمس قلبك.
إذًا لو أنه يركض من أجل ضمان الأمور المستقبلية (لأنه كان قد أعد لبولس المديح اللائق به، قبل أن يصير رسولاً للأمم)، فإنه يبذل كل شئ عندما يرى شخصًا كاملاً، أما عندما نسمع لصوت المسيح، فإن الروح القدس سيُحلّق حولنا حتمًا، وسنصير أفضل من السمائيين ولن يُرى النور فقط داخلنا، بل أن خالق النور والملائكة هو الذي يسكن ويتجول في داخلنا. أقول هذا، لا لكى نُقيم أمواتًا ولا لكى نُطهر برصًا، ولكن لكى نُظهر المعجزة الأعظم من كل هذه الأمور وهى المحبة. لأنه حيث توجد المحبة، سيوجد على الفور الابن مع الآب وستحل نعمة الروح القدس من السماء. لأنه يقول: ” حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمى فهناك أكون في وسطهم“[7]. هذا دليل رغبة مؤكدة، وسمة يتميّز بها أولئك الذين يُحبون بكل قدراتهم، بمعنى أنهم سيلتقون بكل مَن يُحبون سيلتقون بالله الذي يحبونه ويلتقون أيضًا بآخرين يكنون لهم كل محبة.
ومَن هو ذلك البائس الذي لا يريد حلول المسيح في الوسط؟ لأنه إن لم يحل المسيح في الوسط، ستحل المشاكل بيننا. وحينئذٍ من سيكون السبب في هذا؟ ربما سيتهكم علىّ أحد قائلاً: ماذا تقول؟ هل نحن الذين نجتمع تحت سقف كنيسة واحدة ونتمتع بوفاق وسلام لا توجد حروبًا بيننا، رغم أننا نتحدث ونتفاهم معًا ونحن تحت رعاية راعى واحد، ونسمع التعليم معًا، ونرفع الصلوات معًا إلى فوق، هل نسيت ما حدث من مشاحنات وثورات؟ لم أنسى، ولست مخبولاً ولا فقدت عقلى. لأننى من المؤكد أرى تلك الأمور وأعرف كيف أننا نوجد تحت سقف نفس الكنيسة وتحت رعاية نفس الراعى، ولهذا السبب تحديدًا أشعر بالحزن لأننا نتشاجر على الرغم من أن هناك أمورًا كثيرة يمكن أن توحّدنا. وقد يسألنى البعض وأى نزاعًا ترى هنا؟ أقول، هنا لا يوجد نزاعًا، ولكن عندما نتفكك، وعندما يدين أحد غيره، وفلان يُدين فلان ويسب آخر علنًا وعندما يصير آخر حسودًا وطماعًا وخطّاف، وآخر يستخدم العنف منهجًا له وآخر يُعلن عن عطفه بطريقة سيئة وآخر يحيك مكائد ودسائس لا حصر لها. هنا يُستعلن النزاع والشجار والمشاحنة، فإذا تمكنتم من اكتشاف حقيقة أنفسكم، عندئذٍ ستستطيعون أن ترون كل هذا بدقة وستدركون أننى لست مخبولاً.
8 ـ ألا ترون كيف أن الجنود في حالة السلم يتركون الأسلحة ويعبرون إلى المعسكرات مُجردين من الأسلحة، بينما يختلف المشهد في حالة الحرب عندما يكونوا مُسلحين وحراسًا، فتكون هناك مقدمة الجيش وتبدأ الخدمات الليلية وتوقد النار بصفة دائمة، الأمر الذي لا يُعلن عن حالة سلام، بل عن حالة حرب. ومن الممكن أن يرى المرء نفس هذا النهج حين يحدث بيننا. حيث يحترس الواحد من الآخر ويسود الخوف، ويتكلم كل واحد مع قريبه بالهمس وعندما نرى أحدًا يقترب نصمت ونوقف الكلام دون أن يكتمل، الأمر الذي لا يعتبر سمة لأُناس شجعان، بل أناس يتوجسون من الآخر. ولهذا أحزن، لأننا بينما نحيا بين اخوة، فإننا نلجأ إلى الحرص الزائد مُشعلين نارًا كثيرة واضعين حراسًا وكأننا في معسكر حرب مع أعداء، والسبب في ذلك هو الكذب الكثير والخداع الكثير وغياب المحبة الواضح والحرب العدوانية. ولهذا تحديدًا فمن الممكن أن يجد المرء كثيرًا من عبدة الأوثان لديهم شجاعة أكثر من المسيحيين. كم من المهانة تستحق مثل هذه الأمور؟ وكم تستحق الكثير من البكاء عليها والرثاء لها؟ وقد يقول أحدكم وماذا أفعل ألا تنظر فلانًا إذ هو سئ السلوك وخبيث؟ أقول له: وأين هو احتمالك؟ ألا تقض القوانين الرسولية بأن يحتمل الواحد أثقال الآخر؟ لأنه إن لم تعرف كيف تسلك بصورة صحيحة تجاه أخيك، فمتى سيمكنك أن تسلك بمحبة تجاه الغريب؟ وإذا كنت لا تعرف أن تتعامل مع العضو الذي يُسبب لك متاعب، فمتى ستتمكن أن تجذب ذاك الذي هو خارج الكنيسة وأن تجعله واحدًا مع نفسك؟ وأمام كل ما يحدث فإني أتساءل عما يمكنني فعله؟ وأجد صعوبة كبيرة جدًا في أن أسكب الدموع، لأننى سأسكب ينابيع دموع غزيرة من عينيّ. إن النبى إرميا عندما رأى الأعداء وهم يبدأون هجومًا، قال: ” أحشائى توجعنى“[8] وأنا أرى في تلك الساحة (التي تجمع المؤمنين معًا أى الكنيسة) حروبًا لا تُحصى، وهى أكثر رعبًا من هذه الحروب التي أشار إليها إرميا. وبينما أنتم تحت قيادة قائد جيش واحد (أى المسيح)، إلاّ أنكم تثورون الواحد ضد الآخر ويأكل ويفترس الواحد أعضاء الآخر، البعض من أجل المال والبعض من أجل المجد كما يسخر آخرون منكم بدون سبب ويهزءون وتُحدثون إصابات كثيرة فيما بينكم، وينتج عن ذلك أن يسقط قتلى نتيجة إصابات مفزعة، بل أن عدد القتلى يفوق ما يسقط في الحروب، وكلمة “أخوة” تصير مجرد كلمة عادية، لذلك لا أستطيع أن أفكر في عمق الأنين الذي يُعبّر عن هذه المأساة.
إذًا ينبغى عليكم أن تحترموا هذه المائدة (أى مائدة الافخارستيا) التي تشتركون فيها جميعًا وأن تُقدّروا عمل المسيح الذي ذُبح لأجلنا، ولتحترموا هذه الذبيحة التي توجد فوق هذه المائدة. إن اللصوص الذين يأكلون خبزًا وملحًا مع آخرين، ليسوا بعد لصوصًا بالنسبة لأولئك الذين يأكلون معهم، فإن المائدة تُغيّر من صفاتهم، وكذلك أيضًا الذين كانوا أكثر وحشية من الوحوش أنفسهم تجعلهم المائدة (مائدة الافخارستيا) أكثر وداعة من الحملان، بينما نحن ـ على الرغم من أننا نشارك في مثل هذه المائدة ونأكل نفس الطعام ـ نتسلح الواحد ضد الآخر، بينما كان ينبغى علينا أن نتسلح ضد الشيطان الذي يحاربنا جميعًا. ولهذا السبب عينه فنحن يومًا فيوم نصير أكثر ضعفًا، بينما هذا (الشيطان)، يصير قويًا. لأننا لا نساند بعضنا البعض في مواجهته، لكننا نقف صفًا واحدًا معه، الواحد ضد الآخر ويصير هو قائدنا في مثل هذه الأحداث في الوقت الذي كان يجب علينا أن نحاربه. إلاّ أننا نترك مقاومته ونوجه سهامنا الآن ضد اخوتنا. وأى سهامًا نطلقها؟ إنها السهام التي تنطلق من اللسان والفم. لأنه ليس الرماح والسهام الحقيقية هى فقط التي تُسبب إصابات، لكن الكلام الردئ أيضًا يترك جراحات أكثر مرارة من السهام.
وكيف سنتمكن من إنهاء هذه الحرب؟ يحدث هذا عندما تُدرك أنك تتكلم بالسوء على أخيك وعندما تلقى الكلام البذيء من فمك خارجًا، وأيضًا لو أدركت أنك تشي بعضو من أعضاء جسد المسيح، وأنك تنهش أيضًا في جسدك، ولتعلم أن السهم لا يقتل ذاك الذي يُصاب به، بل يقتلك أنت الذي تُطلقه. ولكن هل ظلمك أحد وصنع بك شرًا؟ إذا حدث ذلك لا تتكلّم بالسوء، بل ابكى لا من أجل أنك ظُلمت، لكن لأجل هلاكه، كما صنع سيدك وبكى على يهوذا، لا لأنه سلّمه للصلب، لكن لأن ذاك قد خانه. هل أهانك أحد وسخر منك؟ فلتترجى الله سريعًا أن يُغدق على هذا الإنسان من رحمته. إنه أخوك وولد معك من نفس الرحم (أى المعمودية). إنه عضو من أعضائك ومدعو لنفس المائدة. لكنك تقول إنه يُهيننى كثيرًا. فإن احتملته سيكون أجرك أكبر وأكثر، ولهذا فإنه من العدل أن تترك عنك الغضب، وتدرك أن الشيطان قد أصابه بضربة مميتة (لأنه نجح أن يدفعه لإهانتك).
[1] مت16:5.
[2] 1صم30:2.
[3] حكمة يشوع بن سيراخ 2:21.
[4] مت20:9ـ22، لو43:8ـ48.
[5] كما يقول الكتاب ” اسم الرب برج حصين يركض إليه الصديق ويتمنع ” (أم0:18). هذا ما توضحه وتؤكد عليه كنيستنا القبطية في إبصالية السبت: ” أعطى فرحًا لنفوسنا تذكار اسمك القدوس يا ربي يسوع المسيح مخلصي الصالح .. أنت وحدك مستحق أن نباركك .. أنت مستحق المجد والكرامة.. تسبح اسمك القدوس كل قبائل الأرض .. الخ. الابصلمودية السنوية حسب ترتيب آباء الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، مطرانية بني سويف، سنة 1991، ص251ـ256.
[6] أع12:19.
[7] مت20:18.
[8] إر19:4.
[9] تك10:4.