رسالة رومية الأصحاح3 – عظة8 ج1 – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب
العظة الثامنة
” فماذا إذًا أنحن أفضل (كيهود)؟ كلاّ البتة. لأننا قد شكونا أن اليهود واليونانيين أجمعين تحت الخطية. كما هو مكتوب أنه ليس بار ولا واحد. ليس مَن يفهم. ليس مَن يطلب الله. الجميع زاغوا وفسدوا معًا. ليس مَن يعمل صلاحًا ليس ولا واحد. حنجرتهم قبر مفتوح بألسنتهم قد مكروا. سم الأصلال تحت شفاهم. وفمهم مملوء لعنة ومرارة. أرجلهم سريعة إلى سفك الدم. في طرقهم اغتصاب وسحق وطريق السلام لم يعرفوه. ليس خوف الله أمام عيونهم ”[1] (رو9:3ـ18).
1 ـ لقد اشتكى بولس على كل من اليونانيين، واليهود، فكان متوقعًا أن يتكلّم فيما بعد عن البر الذي يأتى من الإيمان. مادام الناموس الطبيعى لم ينفع، ولا الناموس المكتوب صنع شيئًا أكثر، لكن كلاهما أضرّا بأولئك الذين لم يستخدمونهما كما ينبغى، وأظهرا أنهم مستحقين لدينونة أكبر، إذًا كان هناك احتياجًا للخلاص الذي نناله نتيجة النعمة. ولكنه لا يخاطر بالحديث عن النعمة، لأنه ارتاب في شجاعة اليهود ووجّه كلمته مرة أخرى إليهم ليُدينهم. فاستشهد أولاً بداود الذي قال هذا الكلام بإسهاب وأفاض فيه الأمر الذي صنعه إشعياء أيضًا ولكن في إيجاز. وهو بهذا قد وضع لجامًا على أفواه هؤلاء اليهود، وذلك حتى لا يضل أحد من المستمعين ولا يهجر الفضيلة أو يتشدق بالحديث عنها، مع أنه لا يمارسها، لأنه سيكون قد أهين بالقدر الكافى من خلال الإدانات التي وجهها الأنبياء. لأن هناك ثلاث إدانات قد أوردها النبى في الحقيقة وهى أن الجميع قد فعلوا الشر، ولم يمزجوا الصلاح بالشرور، لكنهم انشغلوا فقط بالشرور، وقد صنعوا هذا بكل مغالاة. ثم بعد ذلك، ولكى لا يقولوا إن هذه الأمور لا تُقال لآخرين غير اليهود، أضاف بولس الرسول:
” ونحن نعلم أن كل ما يقوله الناموس فهو يُكلم به الذين في الناموس” (رو19:3).
ولهذا فبعد إشعياء تحديدًا ـ والذي بشهادة الجميع كان يتوجه (بكلامه) لهؤلاء اليهود ـ أضاف كلام داود النبى لكى يُدلّل على أنهما متفقان في ذات الأمر. لأنه يقول ما هى الحاجة لأن يدين النبى آخرين وقد أُرسل من أجل إصلاحنا وتقويمنا؟ لأن الناموس لم يُعط لآخرين ولكن أُعطى لكم. ولكن لماذا لم يقل بولس “ونحن نعلم” أن كل ما يقوله النبى، بل قال ” كل ما يقوله الناموس “؟ ذلك لأنه قد اعتاد أن يطلق كلمة الناموس على العهد القديم كله. فهو في موضع آخر يقول: ” ألستم تسمعون الناموس فإنه مكتوب أنه كان لإبراهيم ابنان “[2]. وهنا يُسمى المزامير ناموسًا، قائلاً: ” ونحن نعلم أن كل ما يقوله الناموس فهو يُكلم به الذين في الناموس “.
وفيما بعد يُبين كيف أن هذه الأمور لم تقال من أجل الإدانة فقط بل قيلت لكي يُمهد الناموس الطريق إلى الإيمان أيضًا. إن توافق العهد القديم مع العهد الجديد هو أمر مهم، إذ أن الإدانات والإنتقادات، قد وُجّهت، لكى يُفتح باب الإيمان ببهاء أمام أولئك الذين يسمعون. أما اليهود فبسبب إفتخارهم فقد ضلّوا وفسدوا، الأمر الذي أوضحه فيما بعد قائلاً: ” لأنهم إذ كانوا يجهلون بر الله ويطلبون أن يثبتوا بر أنفسهم لم يخضعوا لبر الله“[3].
لقد حجّم الناموس والنبى منذ البداية أفكار اليهود ووضعا ضوابط لتعاليمهم حتى أنهم عندما يفهمون خطاياهم ويهجروا حماقاتهم ويدركون بأنهم مُعرّضين للخطر عندئذٍ سيركضون بشوق جارف نحو ذاك الذي يهبهم غفران الخطايا ويقبلون النعمة من خلال إيمانهم. هذا ما يقصده هنا بولس بقوله: ” ونحن نعلم أن كل ما يقوله الناموس فهو يكلم به الذين في الناموس لكى يستد كل فم ويصير كل العالم تحت قصاص الله “. هنا يُظهر كيف أنهم مجردين من الأعمال الصالحة الظاهرة، وأنهم يفتخرون بالكلام فقط، وبأسلوب عديم الحياء. ولهذا فقد استخدم الكلمة على سبيل الحصر قائلاً: ” لكى يستد كل فم ” مُظهرًا عدم حياء، الذي يظهرونه بطريقة التباهى وأحاديث الإفتخار، وبذلك يستد كل فم بالحقيقة. لقد انطلق لسانهم، تمامًا مثل نهر جارف، ولكن النبى قد سده. إلاّ أنه عندما يقول الرسول بولس ” لكى يستد كل فم ” فهو لا يعنى أنهم أخطأوا لكي يستد فمهم، ولكنهم من أجل هذا قد بُكّتوا (لأنهم أرادوا أن يثبتوا بر أنفسهم)، لكى لا يتجاهلوا هذا الأمر عندما يصنعون هذه الخطية تحديدًا.
” يصير كل العالم تحت قصاص الله ” وهو هنا لم يشر إلى اليهودى فقط، بل إلى كل العالم. لكنه عندما يقول ” لكى يستد كل فم ” فهو يقصد هؤلاء (اليهود)، وإن لم يقل هذا بوضوح، حتى لا يكون قاسيًا في كلامه، بينما ” أن يصير كل العالم تحت قصاص الله” فهذا يشمل اليهود واليونانيين معًا.
وهذا ليس أمرًا هينًا لكبح افتخارهم، وذلك عندما لا يكون لديهم أى شئ أكثر من اليونانيين في هذه الحالة، أما في موضوع الخلاص فليس لأحد فضل، إذ أنه قُدم مجانًا. والذي يُدافع عن نفسه، هو بصفة خاصة الذي لا يستطيع أن يستند على قدراته من أجل الدفاع (عن نفسه) لكنه يحتاج لمساعدة آخر، مثلما يحدث في كل ما يخصنا، طالما أننا فاقدين لتلك الأمور التي تساهم في خلاصنا.
” لأن بالناموس معرفة الخطية ” (رو20:3).
ومرة أخرى يحذر من الناموس، لكن في حدود. لأن الكلام الذي سبق الإشارة إليه لم يكن لإدانة الناموس، بل كان يتعلق بلامبالاة اليهود. لأنه حاول هنا أن يُظهر كيف أنه (أى الناموس) ضعيفًا جدًا، لأن حديثه سيتجه إلى الكلام عن الإيمان. إذًا لو أنك تفتخر بالناموس فإن هذا يخجلك بالأكثر. فهذا (الناموس) يكشف خطاياك الدنيئة ” .. لم أعرف الخطية إلاّ بالناموس… لأن بدون الناموس الخطية ميتة“[4]. لم يتكلم هنا بقسوة شديدة، لكنه مرة أخرى تكلم بنغمة هادئة ” لأن بالناموس معرفة الخطية“، وعليه فإن العقاب سيكون أكبر ولكن لليهود. لأن الناموس قد عرّفك بالخطية، بيد أنه يمكنك بعد ذلك أن تتجنبها. وطالما أنك لا تتجنبها، فإنك تجلب على نفسك الدينونة. فالناموس أصبح بالنسبة لك سببًا لدينونة أكبر.
2 ـ وعندما زاد من الترهيب والتخويف أضاف تلك الأمور المتعلقة بالنعمة بعد أن جعل غفران الخطايا أمرًا مرغوبًا فيه جدًا، بقوله:
” وأما الآن فقد ظهر بر الله بدون الناموس ” (رو20:3).
ما يقوله هنا يعتبر كلامًا عظيمًا، ولكنه يحتاج لدليل قوى. لو أن أولئك الذين عاشوا تحت وصايا الناموس، ليس فقط لم يتجنبوا الدينونة، بل بالأكثر قد عاشوا في معاناه، فكيف يكون ممكنًا، بدون الناموس، ليس فقط أن يتجنب المرء الدينونة بل أن يتبرر أيضًا؟ إن الرسول يتحدث عن كل من التبرير، وتحقيق الخيرات بدون ناموس. ولهذا لم يقل البر فقط، لكنه قال “بر الله” مظهرًا، من حيث إستحقاق الشخص، أن العطية أكبر والوعد أقوى لأن كل شئ هو ممكن لدى الله. ولم يقل أُعطى بل “ظهر” لكى ينزع عن هذا “البر” وصفه بأنه جديد، لأن هذا الذي ظهر أخذ يظهر باعتبار أن له وجود من قبل ولكنه لم يكن مُعلنًا.
ليس هذا فقط، بل أن الكلام اللاحق يُظهر أن هذا ليس جديدًا. لأنه، بعدما قال: ” ظهر” أضاف ” مشهودًا له من الناموس والأنبياء” إذًا لا تضطرب، لأنه أُعطى الآن، ولا تقلق، كما لو كان هذا البر جديدًا أو غريبًا، لأن الناموس والأنبياء تنبأوا عن أنه يأتى من الله. وقد أوضح كل شئ من خلال هذا الدليل، فعندما تحدث الرسول بولس سابقًا عن إنجيل المسيح، باعتبار أن فيه ” مُعلن بر الله ” فقد أشار إلى إبراهيم بقوله: ” البار بالإيمان يحيا“[5]. أما عن الأمور اللاحقة فإن إبراهيم، وداود قد سبقا وتكلما عنها. لأنه بالحقيقة كان كلامهما تجاه اليهود بإسهاب، الأول كان بطريركًا ونبيًا، بينما الآخر كان ملكًا ونبيًا، وقد أُعطيت الوعود لهذين الشخصين.
ولهذا فإن متى يبدأ إنجيله بهذين الشخصين أولاً، ثم بعد ذلك يذكر الأجداد. لأنه عندما قال: ” كتاب ميلاد يسوع المسيح “[6]، لم يذكر بعد ذلك مباشرةً إبراهيم واسحق ويعقوب معًا، ولكنه ذكر داود مع إبراهيم. والأهم أنه وضع داود قبل إبراهيم، قائلاً: ” أين داود ابن إبراهيم ” ثم بعد ذلك بدأ يذكر اسحق ويعقوب ومن جاءوا بعدهما. ولهذا فإن الرسول هنا يذكر هؤلاء ويقول إن: ” بر الله .. مشهودًا له من الناموس والأنبياء ” لكى لا يقول أحد، وكيف نخلص بدون (الناموس والأنبياء) باعتبار أنهما يُساعدان على نوال الخلاص؟ بيد أنه نحن الذين نساهم كثيرًا في هذا، ولكن بالإيمان. وبعدما قال: ” برّ الله ” أضاف:
” بالإيمان .. إلى كل وعلى كل الذين يؤمنون ” (رو22:3).
وهنا أيضًا ينزعج اليهودي، برغم أنه لا يتميّز بشئ عن الآخرين، إذ أنه يُحسب مثل سائر البشر الذين في العالم. ولأن الرسول لا يشعر بهذا التميّز فهو يحاصره بالتخويف مرة أخرى، مُضيفًا:
” لأنه لا فرق إذ الجميع أخطأوا ” (رو23:3).
لا تقل لى إذًا، إن فلانًا يونانى، وآخر سكيثى، وغيره من أهل ثراكى، لأن الجميع يرتكبون نفس الخطايا. أما أنت فعلى الرغم من أنك قد أخذت الناموس فإن شيئًا واحدًا تعلّمته من الناموس، هو معرفة الخطية وليس تجنبها. ولكى لا يقولوا بعد ذلك إنه على الرغم من أننا أخطأنا، فلسنا مثل هؤلاء (الأمم)، فقد أضاف ” وأعوزهم مجد الله”. وعليه فلو أنك لم تُخطئ مثل الآخرين، فإنه يعوزك “مجد الله” بنفس القدر لأنك واحد من هؤلاء الذين عاندوا الله. إلاّ أن ذاك الذي عاند، ليس هو بين أولئك الذين نالوا “المجد” بل ينتمى لأولئك الجاحدين. وكأن بولس يقول إنى قد قلت لكم هذه الأمور لا لكى أقودكم لليأس ولكن لكى أُظهر محبة الرب للبشر. ولهذا أضاف:
” متبررين مجانًا بنعمته بالفداء الذي بيسوع المسيح الذي قدمه الله كفارة بالإيمان بدمه لإظهار بره ” (رو24:3ـ25).
لاحظ كيف أنه يُدلّل على ما سبق وأشار إليه. أولاً: من خلال استحقاق الشخص. لأن الذي يهب البرّ ليس إنسانًا لكنه الله الذي يستطيع كل شئ، فالرسول بولس يصف هذا البر بأنه ” برّ الله “، ثانيًا: من خلال شهادة الناموس والأنبياء. إذًا لا تخاف عندما تسمع قوله “بدون الناموس“، لأن هذا ما يُعلنه الناموس نفسه. ثالثًا: من خلال الذبائح التي صارت في العهد القديم. ولهذا قال: “بدمه“، مُذكّرًا هؤلاء بالخراف والأبقار (الذبائح). إذًا فلو أن الذبائح الحيوانية تمنح غفرانًا للخطايا كما يقول الرسول بولس، فبالأولى كثيرًا جدًا فإن دم المسيح يهب هذا الغفران. وهو لم يقل بالعتق لكن “بالفداء”، كما لو كان الأمر يتعلق بعدم العودة مرة أخرى لذات العبودية. ولذلك فقد دُعىّ المسيح “كفارة” لكى يُبيّن أنه إذا كان المثال يحمل هذا القدر من القوة، فبالأولى كثيرًا ستُظهر الحقيقة نفس الشئ وأكثر. موضحًا مرة أخرى أن هذا ليس بالأمر الجديد، ولا أنه يُسمع لأول مرة، وهذا يتضّح من قوله: ” قدمه الله ” مظهرًا أن هذا الإنجاز يتعلق “بالآب”، ونفس الأمر يذكره على أنه يتعلّق “بالابن”. بالتأكيد الآب قدمه (أى قدّم الابن)، لكن المسيح تمّم كل شئ بدمه.
” لإظهار برّه” ماذا يعنى ” إظهار البر”؟ إظهار البر مثل إظهار الغنى، وهذا يعنى ألاّ يكون الله فقط هو الغنى بل أن هذا الغنى هو لآخرين أيضًا لكى يجعلهم أغنياءً، ومثل إظهار الحياة والذي يعنى أنه ليس فقط هو الحياة لكنه أيضًا يُقيم الأموات، ومثل إظهار القوة في ألاّ يكون ذاك هو القوى فقط، لكنه يجعل الضعفاء أقوياءًا. هكذا فإن إظهار البرّ هو، ألاّ يكون ذاك هو البار فقط، لكنه يجعل أولئك الذين فسدوا بالخطية أبرارًا على الفور. ولتفسير ذلك أضاف شارحًا معنى الإظهار:
” ليكون بار ويبرّر مَن هو من الإيمان بيسوع ” (رو26:3).
3 ـ لا تشك إذًا في أن البر يأتى من الإيمان وليس من الأعمال (أى أعمال الناموس)، ولا تخشى الإقتراب من “بر الله”، فإن صلاحه مضاعف، ولأنه ميسورًا فإن الجميع يستطيعوا الوصول إليه. ولا تشعر بالعار ولا تخجل. فإذا كان المسيح قد ظهر ليهبك بره، فيمكنك أن تعلن هذا وأن تفتخر وتتباهى، فكيف تتوارى وتخفى وجهك من هذا الذي به تمجّد سيدك؟ وإذا كان قد سَمَا بالمستمع، بقوله إن هذه الأمور التي حدثت هى لإظهار بر الله، فإنه يحث ـ مرة أخرى وعن طريق التخويف ـ ذاك الذي يتردّد ويتجنّب الاقتراب، قائلاً:
“من أجل الصفح عن الخطايا السالفة” أرأيت كيف أنه يذكّرهم دائمًا بالخطايا؟ لأنه قال سابقًا ” لأن بالناموس معرفة الخطية ” ثم بعد هذا يقول ” الجميع أخطأوا“، بينما هنا يوضّح الأمر أكثر، لكنه لم يقل من أجل الخطايا، لكن ” من أجل الصفح ” بمعنى “الصفح” عن الموت. لأن رجاء شفاء النفس هو في الله، تمامًا مثل الجسد المقعد الذي احتاج إلى عون من الله، هكذا أيضًا النفس التي ماتت. والسبب الذي يذكره دائمًا يثير شعورًا بالخوف هو أن الإدانة ستكون أعظم. وما هى هذه الإدانة؟ هى تلك المرتبطة بالصفح الذي صار بإمهال الله. لأنه يقول لا يمكنكم أن تزعموا أنكم لم تتمتعوا بإمهال الله وصلاحه ” في الزمان الحاضر “، ومرة أخرى يُظهر الإمهال الكثير ومحبه الله للبشر. لأنه يقول عندما يئسنا، وكان زمن الدينونة، وازدادت الشرور وتفاقمت، تجلّت قدرة الله عندئذ، لكى تعلم مقدار فيض البرّ الإلهى. وهذا الأمر لم يكن له أن يُثير الدهشة والإعجاب، إن كان قد حدث من البداية، مقارنة بظهوره الآن حيث تأكد الشفاء الكامل (بالنعمة).
” أين الافتخار. قد انتفى. بأى ناموس. أبناموس الأعمال كلا بل بناموس الإيمان ” (رو27:3).
عظيم هو جهاد الرسول بولس، فقد أراد أن يبرهن على أن الإيمان قد حقق الكثير، ما لم يستطيع الناموس أن يتخيّله أبدًا. إذًا بعدما قال إن الله يُبرّر الإنسان من جهة إيمانه ينشغل مرة أخرى بالناموس ولم يقل أين هى إنجازات اليهود أين هى أعمالهم البارة ولكنه قال “أين الافتخار” مبينًا في كل موضع أنهم يفتخرون بالكلام فقط، كما لو كانوا يمتلكون شيئًا أكثر من الآخرين، على الرغم من أنهم لم يقدموا أى عمل. وبعدما قال ” أين الافتخار”؟ لم يقل اختفى وانتهى بل “انتفى”، الأمر الذي يُبيّن عدم موافقة أو ملائمة الوقت، لأنه لا يوجد زمن بعد. تمامًا مثلما يأتى وقت الدينونة، فإن أولئك الذين يرغبون في التوبة لن يكون لديهم وقتًا. هكذا أيضًا عندما يصدر الحكم فيما بعد وعندما يتعلّق الأمر بفنائهم جميعًا، ثم يأتى ذاك الذي يُزيل كل هذه الأمور المخيفة بنعمته، فإن أولئك لن يكون لديهم وقتًا للتوبة أو تقديم مبررات وأعذار.
إذًا لو كان يحق لهم أن يدّعوا هذا، لكان ينبغى عليهم أن يفعلوا ذلك قبل مجىء المسيح. لكن عندما أتى ذاك الذي يُخلّص بالإيمان اختفى فيما بعد زمن الإفتخار بالأعمال (أى أعمال الناموس). ولأن الجميع مُدانون (لأنهم زاغوا وفسدوا)، لهذا فقد خلّصهم بالنعمة. ومن أجل ذلك فقد أتى الآن حتى لا يقولوا إنه كان ممكنًا أن يخلصوا بالناموس وبأتعابهم وإمكانياتهم لو أنه أتى من البداية. ملجمًا سفاهاتهم أو عدم حيائهم هذا. وقد انتظر زمنًا طويلاً، حتى بعدما اتضح جليًا من خلال كل الأشياء أنهم لا يستطيعون أن يساعدوا أنفسهم، أتى في هذا الزمان لكى يخلّصهم بنعمته. ولهذا بعدما قال سابقًا “لإظهار بره” أضاف ” في الزمان الحاضر“. لكن لو أن البعض يجادلون، فإنهم يشبهون تمامًا شخصًا سقط في زلاّت كثيرة ولم يستطع أن يقدم تبرير عما فعل أمام المحكمة، ثم بعدما أُدين وكان ينتظر تنفيذ العقوبة تُرك حرًا بواسطة عفو ملكى. فإذا تفاخر بعد هذا العفو وقال إنه لم يصنع أى خطأ أو زلة، فسيكون عديم الحياء.
إذًا كان من الممكن أن يُستعلن الله الكلمة قبل زمن النعمة، ولكن بعدما أتى، فلا يحق لأحد أن يفتخر. هذا بالضبط ما حدث بالنسبة لليهود. لأن إعتمادهم كان على أنفسهم ولذلك كانوا مُدانين، وقد أتى كلمة الله لكى يقضى بحضوره على افتخارهم. لأن ذلك الذي يقول إنه معلّم الأطفال ويفتخر بالناموس، ويدعو نفسه مهذب الأغبياء، مثل هذا يكون في احتياج لمعلّم ومُخلّص، وبذلك لا يكون لديه مبرر للافتخار. ومادام الرسول بولس قد بيّن أن الختان قد صار غرلة قبل مجئ المسيح، فبالأولى كثيرًا الآن لأنه قد أُستبعد من العهدين. وبعدما قال “انتفى” أوضح الوسيلة ” إنتفى الإفتخار”. كيف انتفى، يقول ” بأى ناموس. أبناموس الأعمال، كلاّ بل بناموس الإيمان“.
4 ـ وها هو يدعو الإيمان ناموسًا، حرصًا منه على إختيار الكلمات المعبّرة حتى يفرحهم بهذا التجديد الواضح. ولكن ما هو ناموس الإيمان؟ هو أن يخلص الإنسان بالنعمة. لاحظ أن القديس بولس يُظهر هنا قوة الله، لأنه ليس فقط قد خلّص لكنه قد برّر، وقاد إلى الإفتخار الحقيقي دون الحاجة إلى أعمال الناموس، بل إلى الإيمان فقط. وهو يقول هذه الأمور، لكى يُعّد اليهودى الذي آمن ليكون متواضعًا، ولكى يُقَوِّمْ ذاك الذي لم يؤمن بهدف أن يدعوه (للإيمان). وسيكتشف ذاك الذي خَلُص ـ إذا كان يفتخر بالناموس ـ أن الناموس قد أغلق فمه، أدانه وحرمه من الخلاص، ومنع افتخاره. أما الذي لم يؤمن، فطالما أنه اتضّع عن طريق تلك الأمور، فيمكن أن يُقاد إلى الإيمان. أرأيت مقدار الغنى الذي للإيمان وكيف أن القديس بولس إجتاز بهم الأمور السابقة (الخاصة بالناموس)، ولم يسمح لهم أن يفتخروا بها.
” إذًا نحسب أن الإنسان يتبرّر بالإيمان بدون أعمال الناموس ” (رو28:3).
وعندما أوضح أن الذين هم من الإيمان هم أسمى من اليهود، تكلّم عن الإيمان بعد ذلك بكل جرأة، مقدمًا الشفاء مرة أخرى لذاك الذي يُثير صخبًا، لأن اليهود كانوا قد انزعجوا من أمرين: الأول، أنه كان ممكنًا أن يخلص البعض بدون أعمال الناموس، لأن الذين تمموا أعمال الناموس لم يخلصوا، والثانى، أنه ليس من العدل أن يتمتع غير المختتنين بنفس المزايا مع أولئك الذين عاشوا كل هذا الزمان تحت الناموس، وهذا قد أزعجهم أكثر من الأمر الأول. وبعدما أوضح هذا، تحدّث بعد ذلك عن ما أثار حنق اليهود، لدرجة أنهم أدانوا القديس بطرس، بسبب كرنيليوس وما حدث معه[1]. فماذا يقول؟ ” إذًا نحسب أن الإنسان يتبرر بالإيمان بدون أعمال الناموس ” لم يقل اليهودى أو ذاك الذي يحيا بوصايا الناموس، لكنه جعل كلمته أكثر اتساعًا وفتح أمام العالم كله أبواب الخلاص، عندما استخدم تعبير ” الإنسان” أى ما يخص الطبيعة الإنسانية كلها. ثم إتخذ من ذلك دافعًا ليقضى على الاعتراض الذي لم يُذكر. بمعنى أنه كان طبيعيًا لليهود الذين سمعوا أن الإيمان يُبرر كل إنسان أن يحزنوا ويتعثروا، ولذلك أضاف ” أم الله لليهود فقط” (رو9:3) كما لو كان يقول، لماذا يبدو لك أن خلاص كل إنسان يعد أمرًا غير معقول أو غير ملائم؟ هل الله لبعض الناس دون البعض الآخر؟ مبينًا بهذا أنهم يريدون الإساءة إلى الأمم ويدمرون بالأكثر مجد الله عندما لا يقبلون أن يكون إلهًا للجميع. وإذ أن الله هو إله الجميع فهو يعتنى بالجميع. وعندما يهتم بالجميع بطريقة واحدة فإنه يخلّصهم من قِبل إيمانهم. ولهذا قال:
” أم الله لليهود فقط أليس للأمم أيضًا بلا للأمم أيضًا ” (رو29:3).
إن الله ليس لبعض الناس فقط، مثل الذي تُصوّره أساطير اليونانيين، بل أنه واحد للجميع. ولهذا أضاف: ” لأن الله واحد” أى أن الله بذاته هو لهؤلاء ولأولئك. لكن إن كنت تحدثني عما حدث في الماضى، فإن عناية الله كانت واحدة (تجاه الجميع)، على الرغم من أنها إتخذت أسلوبًا متنوعًا. لأنه قد أُعطى لك الناموس المكتوب، وأُعطى أولئك الناموس الطبيعى، ولم يكن هؤلاء في وضع أقل (من اليهود) ولو أنهم أرادوا لاستطاعوا أن يصبحوا في وضع أسمى. ولهذا فقد أضاف قاصدًا هذا المعنى بالضبط قائلاً.
” الذي سيُبرر الختان بالإيمان والغرلة بالإيمان” (رو30:3).
مُذكرًا هؤلاء بالأمور التي قالها سابقًا عن الغرلة والختان، كيف أنه لا يوجد أى اختلاف بينهما فإذا لم يكن هناك إختلاف آنذاك، فبالأولى كثيرًا الآن، الأمر الذي أظهره بكل وضوح، مبينًا أن كل واحد لديه نفس الاحتياج للإيمان قائلاً:
” أفنبطل الناموس بالإيمان. حاشا بل نُثبّت الناموس ” (رو31:3).
أرأيت مثل هذه الرؤية في تعدّد جوانبها وصعوبة وضعها؟ لأن بقوله “نُثبّت”، يوضّح كيف أن الناموس لم يعد ساريًا الآن بل أُلغى. ولاحظ مقدار القوة التي للرسول بولس، وكيف أنه يُبرهن على ما يريد بهذا القدر من السهولة. لأنه يُظهر هنا أن الإيمان ليس فقط لا يُبطل الناموس، بل يساعده بنفس الطريقة التي يمهد الناموس بها الطريق للإيمان. لأنه كما قال سابقًا أن الناموس يشهد للإيمان، فهو يقول: “مشهودًا له من الناموس والأنبياء” هكذا فإن الإيمان يُثبّت الناموس. وكيف يثبّته؟ وما هو عمل الناموس؟ ولأى سبب سعى الناموس ليتمم كل شئ؟ كانت غاية الناموس تبرير الإنسان ولكنه لم يستطع أن يحقق هذا. لأنه يقول “الجميع أخطأوا” لكن عندما أتى الإيمان، حقق (البر). لأن الإنسان آمن وتبرر في آن واحد وثبّت فيه روح الناموس، وحقق الإيمان كل ما كان يسعى إليه الناموس بكافة الطرق. وعليه، فهو لم يبطله لكن كمّله. لقد أظهر هنا ثلاثة أمور:
+ من الممكن أن يتبرّر المرء بدون الناموس.
+ لم يستطع الناموس أن يحقق ذلك البر.
+ الإيمان لا يحارب الناموس. ونظرًا لأن اليهود قد أثاروا ذلك بصفة خاصة، أى أن الإيمان هو ضد الناموس، فقد أظهر أكثر مما أراد اليهود أن يسمعوه، بقوله إن الإيمان ليس ضد الناموس بل أنه مساعد ومعين له، الأمر الذي اشتهوا أن يسمعوه بشكل خاص.
[1] حينما دخل كرنيليوس إلى الإيمان، واستدعى القديس بطرس ليشرح له الرؤيا التي رآها، وكلام القديس بطرس معه، انظر أع1:10ـ11، 18.
[1] انظر مز3:14، 3:53، 9:5، 3:140، 27:10، أم16:1، إش7:59، مز1:35.
[2] غل21:4ـ22.
[3] رو3:10.
[4] رو7:7ـ8.
[5] رو17:1.
[6] مت1:1.