رسالة رومية الأصحاح2 – عظة6 ج2 – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب
وبعدما قال هذا، يكرر نفس الكلام أيضًا وبأكثر شدة، ليضيق الخناق عليهم قائلاً:
” لذلك أنت بلا عذر أيها الإنسان كل من يدين. لأنك فيما تدين غيرك تحكم على نفسك ” (1:2).
1ـ وهنا يوجه الرسول بولس كلامه هذا إلى الرؤساء، لأن المدينة (أي روما) كانت قد تولت ـ في ذلك الوقت ـ حكم المسكونة. وبناءً على ذلك، فهو يبدأ الكلام بضرورة أن لا يتحصن أحد بالأعذار، أيًا كانت مكانته، لأنه فيما يدين المرء شخصًا زانيًا، ربما يزنى هو نفسه، حتى ولو لم يحكم عليه أحد من البشر، وعندما يدين غيره عن خطأ، فإنه يصدر حكمًا ضد نفسه.
” ونحن نعلم أن دينونة الله هي حسب الحق على الذين يفعلون مثل هذه ” (2:2).
وهو يقول هذا، لأن ما يحدث هنا على الأرض لا يحدث عند الله، لكى لا يتذرع أحد قائلاً؛ إنني في السابق قد أفلّت من العقاب. ولأن في حياتنا الأرضية يمكن أن يدان الواحد بينما لا يدان الآخر، مع أن الاثنين يكونا قد اقترفا نفس الفعل. لكن هناك في الدهر الآتي لا يحدث هذا. كما أن الديان يعرف البار من الأثيم. لكن كيف يعرف؟ لا يشير أحد إلى ذلك، لأن السؤال عن هذا الأمر يُعد شيئًا فضوليًا ويتخطى حدود القدرات البشرية.
ويُشير الرسول بولس إلى أمرين يعكسان حالة الجحود إذ أن الإنسان برغم معرفته لله، إلاّ أنه سلك بجحود. ومن أين أتت هذه المعرفة؟ أتت من خلال الكون الذي يُعلن عن وجود الله. وإذ لم يكن مُعلن للجميع، أشار إلى السبب في ذلك. ولأن معرفة الله المدركة بالمصنوعات، هى مسألة معروفة، لذا فإنه قد تجاوز الحديث عنها هنا. لكن عندما يقول إنه “ديان الجميع” فإنه لا يتوجه فقط إلى الرؤساء، بل أيضًا إلى العامة والمواطنين البسطاء.
2ـ لأن البشر جميعهم هم في الحقيقة يدينون الذين يخطئون، حتى ولو لم يكن لديهم عروشًا أو سلطانًا، ويحدث هذا سواء في مناقشات أو اجتماعات عامة، أو داخل ضمائرهم. ولن يتجرأ أحد أن يقول إن الزاني غير مستحق للعقاب. هكذا يقول الرسول بولس إن بعض الذين يُدينون غيرهم، لا يدينون أنفسهم. ولهذا السبب تحديدًا فإنه يتوجه إليهم بكل حدَّة قائلاً:
” أفتظن هذا أيها الإنسان الذي تدين الذين يفعلون مثل هذه وأنت تفعلها، أنك تنجو من دينونة الله ” (3:2).
إذن، فهو يشير إلى أن خطية البشر هي خطية ثقيلة، ليس فقط من جهة الأمور المختصة بالإيمان، بل من جهة سلوكهم الأخلاقى المشين. وعلى الرغم من أنهم كانوا محبين للحكمة، وأن الخليقة التي أمامهم كان يمكن أن تقودهم إلى معرفة الحق، إلاّ أنهم هجروا معرفة الله. ليس هذا فقط، بل أنهم فضّلوا صورًا وتماثيلاً للزواحف واحتقروا الفضيلة وانحرفوا نحو الشرور، حيث إن ميولهم قادتهم إلى ما هو شاذ فسلكوا بخلاف الطبيعة. ثم بعد ذلك يدلّل لهم على أن أولئك الذين يفعلون مثل هذه الأعمال الشريرة، يُعاقبون ولن ينجوا من دينونة الله العادلة. وقد أشار إلى العقاب الذي يستحقونه عندما تكلم عن هذا الفعل الشائن، إذ قال: ” نائلين في أنفسهم جزاء ضلالهم المحق“[1]. ولكن لأنهم لم يشعروا بهذا الجزاء، أشار إلى عقاب آخر يخافونه جدًا. هذا العقاب قد أشار إليه سابقًا عندما قال: ” إن دينونة الله هي حسب الحق “[2]. وحيال أفعال أخرى مشابهة يشير إلى نفس المصير أيضًا، قائلاً: ” أفتظن هذا أيها الإنسان الذي تدين الذين يفعلون مثل هذه وأنت تفعلها أنك تنجو من دينونة الله“. فإن لم تتجنب إدانة نفسك، فهل تعتقد أنك تنجو من دينونة الله؟ ومَن يستطيع أن يقول هذا؟ وإن كنت لم تشفق حتى على نفسك (إذ قد أُدينت)، فكيف يكون الحال بالنسبة لله، وهو الذي بلا خطية، البار بما لا يُقاس، ألا يدينك بالحرى؟ وإذ كنت قد أدنت نفسك (بسبب دينونتك لغيرك)، فهل تظن أن الله سيقبلك وسيمتدحك؟ وكيف يمكن أن يكون لهذا تبرير؟
من أجل هذا، فإنك مستحق لعقاب أكثر من ذاك الذي تدينه. لأنه لا يمكن مقارنة مَن يخطئ خطًأ بسيطًا بذلك الذي بعدما يدين غيره عن خطية ما، يرتكب نفس هذه الخطية التي أدانها من قبل. فلو أنك تدين من يخطئ خطية بسيطة، ألاّ يدينك الله بالأولى، أنت يا من أخطأت بالأكثر؟ ألاّ يدينك بصورة أشد، لأنك بالفعل قد أدنت نفسك بأفكارك هذه!. ومع أنك تقول إنني أعرف بالتأكيد إني مستحق للعقاب، إلاّ أنك تتهاون بسبب طول أناة الله. ولأنك لم تُعاقَب على الفور، فإنك تتجرأ وتتمادى في فعل الخطية، بينما كان ينبغي عليك أن تخاف وترتعب، فالله لا يؤجل العقاب، لكنه يوقع عقابًا أشد لو أنك ظللت في خطاياك. ولهذا يضيف الرسول قائلاً:
” أم تستهين بغنى لطفه وإمهاله وطول أناته غير عالم أن لطف الله إنما يقتادك إلى التوبة ” (4:2).
وبعدما مجّد الله لطول أناته، مظهرًا أن الاستفادة من لطف الله وامهاله هو أمر عظيم جدًا لأولئك الذين يهتمون بخلاص أنفسهم، وأن أناة الله كانت هى الدافع في قيادة خطاة كثيرين إلى التوبة، نجده يحذر بالأكثر الذين يتهاونون بمراحم الله. لأنه كما أن أولئك الذين استفادوا من طول أناة الله، وكان ذلك سببًا لخلاصهم، هكذا فإن أولئك الذين ازدروا بها، هم معرضين لعقاب أشد. لأن كل هذا يرجع إلى الاعتقاد الخاطئ الذي يقول إن الله لا يُعاقب، لأنه صالح وطويل الأناة. لكن عندما تقول هذا، فإن ذلك يعنى أنك تزيد من شدة العقاب. لأن الله يُظهر صلاحه، لكي تتخلص من خطاياك، لا كى تتمادى في الخطية وتضيف لحسابك المزيد من الخطايا. فإن لم تفعل هذا وتتخلص من خطاياك، فإن العقاب سيكون مخيفًا. ومن أجل هذا لا يجب أن نخطئ، مستغلين طول أناة الله، ولا أن نجعل الإحسان سببًا للجحود. لأنه وإن كان الله طويل الأناة، إلاّ أنه في الوقت نفسه ديان وعادل. وكيف يُستدل على هذا؟ يُستدل عليه من الكلام اللاحق. فلو أن الشر كثير، والأشرار لم يعاقبوا في هذه الحياة، إلاّ أنهم بكل تأكيد سيُدانون في يوم الدينونة العتيدة. ومادام البشر لا يتغاضون عن أخطاء غيرهم فكيف يتغاضى الله عنها؟ وبناءً على ذلك تحدث الرسول بولس عن الدينونة. لأنه وضّح أولاً كيف أن الكثيرين هم مسئولون عن خطاياهم إن لم يتوبوا. وحتى وإن لم يُعاقبوا هنا في هذه الحياة، إلاّ أنهم سيتعرضون للدينونة العتيدة على أية حال وذلك بقوله:
” لكنك من أجل قساوتك وقلبك غير التائب تذخر لنفسك غضبًا في يوم الغضب واستعلان دينونة الله العادلة ” (5:2).
عندما لا يتجاوب المرء مع صلاح الله، ولا يرجع حتى بالترهيب عن سلوكه المنحرف. فهل توجد قسوة قلب أكثر من هذا؟ وبعدما أوضح الرسول بولس محبة الله للبشر، فإنه يتحدث عن العقاب أيضًا، وكيف أنه لا مفر من العقاب لمَن لا يقدم توبة. لاحظ كيف يستخدم الكلمات بكل دقة، لأنه يقول: ” تذخر لنفسك غضبًا في يوم الغضب “، مبينًا أن الدينونة ستحدث على أية حال، وأن السبب فيها، ليس هو الذي يدين ـ أى الله ـ بل الذي يُدان ـ أى الإنسان الخاطئ ـ إذ يقول: ” تذخر لنفسك“، أي أنت الذي تذخر لنفسك الغضب، وليس الله هو الذي يذخره لك. لأن الله فعل ما ينبغي فعله، وخلقك قادرًا أن تميز بين الأمور الحسنة والأمور السيئة، وأظهر لك طول أناه، وأنذرك باليوم المخيف، وكل هذا لكي يقودك إلى التوبة. فلو أنك تماديت في عنادك فإنك ” تذخر لنفسك غضبًا في يوم الغضب واستعلان دينونة الله العادلة “. ولكي لا تعتقد عند سماعك لكلمة “غضب” إنه يوجد لدى الله بُغضة، فإنه يضيف عبارة “دينونة الله العادلة“. وحسنًا قال ” استعلان“، لأن وقتها يُستعلن هذا ” الغضب “، عندما سينال كل واحد ما يستحقه. فإن كان في هذا الدهر يوجد أناس يتوّعدون غيرهم، ويتآمرون عليهم وهم في ذلك يخالفون القوانين، إلاّ أنه في الدهر الآتي لا تحدث مثل هذه الأمور. لأن الله:
” سيجازي كل واحد حسب أعماله.. ” (6:2).
3ـ ولأن كلام الرسول بولس صار قاسيًا عليهم، إذ كان يتكلم عن الدينونة وعن الجحيم الآتي، نجده بعد ذلك مباشرة لا يذكر العقاب عندما يتكلم عن الرجاء المبارك، فيحوّل كلمته نحو الأمور المُفرحة، أي نحو المجازاة بالخيرات، قائلاً هكذا:
” أما الذين بصبر في العمل الصالح يطلبون المجد والكرامة والبقاء[3] فبالحياة الأبدية ” (7:2).
هنا هو يرفع من شأن أولئك الذين سقطوا في التجارب، ويوضح أنه لا يجب أن نقتني شجاعة في الإيمان فقط، بل وفي الأعمال أيضًا، لأن الديان يفحص الأعمال أيضًا. لكن لاحظ كيف يتكلم الرسول بولس عن أمور الدهر الآتي، فهو لا يتكلم مباشرة عن خيرات الدهر الآتى، لكن ما يقوله هو “مجد وكرامة“، لأن هذه الخيرات تفوق الأمور المرئية، وليس لديه هنا في هذه الحياة صورة مماثلة لخيرات الدهر الآتي، لكي يُبيّنها. لكنه يقدم لنا أمور الدهر الآتى كما ينبغي من خلال الأشياء التي نعتبرها أمورًا مشرقة بالنسبة لنا، أي المجد والكرامة في هذه الحياة الحاضرة. لكن خيرات الدهر الآتي، ليست فقط مجد وكرامة، بل أفضل بكثير من هذه الأمور التي نراها، فهي خالدة ولا يعتريها فساد. أرأيت كيف أنه يفتح أمامنا أبواب قيامة الأجساد، قائلاً “البقاء” (أى عدم الفناء)، لأن مصطلح “عدم الفناء” يرتبط بالجسد، لأن الجسد هو الذي يفنى وليست النفس. ثم بعد ذلك، ولأن هذا لم يكن كافيًا، أضاف “المجد والكرامة“. لأننا جميعنا سنقوم بلا فساد، لكن ليس الجميع في مجد، فالبعض في الجحيم والبعض في مجد.
” وأما الذين هم من أهل التحزب ”،
فهم هؤلاء الذين يعيشون في الإثم، والذين يُحرمون من الصفح. ويوضح هنا أنهم يسقطون في الإثم بسبب الرغبة في المشاحنة، وأيضًا بسبب عدم الاهتمام بخلاص نفوسهم. إذن فأولئك هم الذين:
” لا يطاوعون للحق بل يطاوعون للإثم ” (8:2).
وها هو يوجه لهم اللوم مرة أخرى أيضًا. إذ أنه قد سبق وأشار إلى حالتهم بقوله: ” من أجل قساوتك وقلبك غير التائب تذخر لنفسك غضبًا يوم الغضب“. وعليه فأي مبرر يمكن أن يعطيه ذاك الذي يتجنب النور ويُفضل الظلام؟ ونلاحظ أنه لم يقل أولئك “الذين أُجبروا”، لكنه تكلم عن أولئك الذين “يطاوعون الإثم”، لكي ندرك أن السقوط في الخطية ناتج عن رغبة إرادية، فالإنسان لا يُجبر على ارتكاب الخطية.
” سخط وغضب. شدة وضيق على كل نفس إنسان يفعل الشر” (9:2).
حتى ولو كان ثريًا، أو كان من النبلاء، أو حتى ملكًا، فالكلام عن الدينونة لا يُخجل أحدًا، لأن هذه المناصب ليس لها أي اعتبار في يوم الدينونة.
وبعدما أظهر حجم المرض وسببه، بمعنى أنه يأتي من لامبالاة المرضى، تحدث عن المصير الذي ينتظرهم وهو الفناء. لأن الفرصة التي أُعطيت لليهودى بواسطة تعاليم الناموس كى يتوب ولم يستغلها، ستؤرقه حتى في الجحيم. ولهذا قال:
” يفعل الشر اليهودي أولا ًثم اليوناني ”.
إن مَن توافرت له تعاليم أكثر، ويخالف هذه التعاليم يكون مستحقًا لأن يلاقي عقابًا أشد، لأن مَن يعرف أكثر يُدان أكثر، فلو أنك غني، سيُطلب منك أكثر مما يطلب من الفقير، وإن كنت أكثر فهمًا، سيُطلب منك طاعة أكثر، ولو كنت صاحب سلطان، ستُطلب منك أعمالاً أعظم. وفي كل الأحوال ستقدم على قدر قوتك وإمكانياتك.
” مجد وكرامة وسلام لكل من يفعل الصلاح اليهودي أولاً ثم اليوناني” (10:2).
أي يهودي يقصد هنا؟ وعن أي يوناني يتحدث؟ بالتأكيد عن أولئك الذين عاشوا قبل تجسد المسيح. لأن كلامه لم يصل بعد إلى أزمنة النعمة، لكنه مازال يتحدث بعد عن الأزمنة السابقة على التجسد، مؤكدًا على عدم وجود فرق بين اليهودي واليوناني، ممهدًا بذلك لأزمنة النعمة، حتى أنه عندما يتحدث عن عدم وجود أى فرق بين اليهودى واليونانى في أزمنة النعمة، لا يظهر وكأنه يقصد شيئًا جديدًا ومقلقًا. فإن كان في الأزمنة السابقة، عندما لم تكن النعمة قد استعلنت بشكل كامل، وعندما كانت أمور اليهود لها مكانة عند الجميع ومعروفة ومشرقة، لم يظهر أي اختلاف. فأي شئ يمكن أن يقال فيما بعد، بعدما استُعلنت النعمة بوضوح وقوة؟ لهذا تحديدًا فقد اعتنى جدًا بتوضيح هذه الحقيقة، لأنه بعدما يعرف المستمع أن هذا (أي عدم وجود فرق بين اليهودي واليوناني) قد ساد في الأزمنة السابقة، فبالأولى جدًا سيقبل هذا بعد دخوله إلى الإيمان. واليونانيون الذين يشير إليهم بولس الرسول ليسوا هم عبدة الأوثان، لكنهم الأتقياء الذين خضعوا للناموس الطبيعي، والذين حفظوا كل ما من شأنه أن يقود إلى التقوى. وأيضًا من الأتقياء أولئك الذين كانوا مع ملكي صادق، وكذلك أيوب، وأهل نينوى، وأيضًا من هؤلاء كان كرنيليوس. إذن، فمن ذي قبل (أى قبل أزمنة النعمة) بدأت تنحصر بالفعل الفروق بين الختان والغرلة، ومنذ زمن بعيد تلاشى هذا الفرق، حتى أن القديس بولس بجرأة يفعل هذا، أى يتدرج بهم من الوضع القديم حتى يصل بهم إلى أزمنة النعمة، ثم يقودهم بالضرورة إلى هذا المفهوم، الأمر الذي يمثل دائمًا ملمحًا مميزًا في فهمه للحقائق الإلهية. لكن لو أنه أوضح أن هذه الفروق قد أُزيلت في أزمنة النعمة فقط ، لكان حديثه غير دقيق، وعندما أشار إلى سيادة الشر في العالم باعتبار أن ” الجميع زاغوا وفسدوا ” وأن هذا قد شمل الاثنين معًا (اليهودى واليونانى)، فهو هنا يؤكد على أنه لا يوجد فرق بين اليهودى واليونانى.
4ـ وإذ لم يكن الكلام عن الدينونة العتيدة، هو فقط هدف الرسول بولس، فقد أراد أن يوضح كيف أن اليهودي لا يملك شيئًا أكثر يُمكّنه أن يفتخر به أمام هذا اليونانى التقى. لكن لاحظ أنه قد أخاف المستمع، إذ ذكّره باليوم المخوف، وقال كم هو أمر سىء أن يسلك المرء بالمكر، وأوضح أنه لا أحد يخطئ بدون معرفة، ولن يفلت من العقاب، وإن لم يكن قد أُدين بعد، لكنه سيُدان ـ على كل حال ـ يوم الدينونة الأخيرة. وهكذا أراد أن يدلل لهم على أن تعاليم الناموس لم تكن من الأمور الحتمية، لأن المهانة والكرامة يوجدان في الأعمال وليس في الختان والغرلة. وهو بهذا يدلل على أن اليوناني سيُدان ويكرم بحسب أعماله، واعتبر أن هذا أمرًا طبيعيًا. إذن فالاشارة للناموس والختان بعد ذلك، يُعد أمرًا زائدًا. هو هنا يقاوم اليهود على وجه الخصوص (وليس الناموس). لأن هؤلاء كانوا محبين للنزاع أكثر من غيرهم. أولاً بسبب إحساسهم بالتمييز، بإعتبار أنهم غير محصيين مع الأمم. ثانيًا لأنهم يسخرون من القول، بأن الإيمان يمحو الخطايا. ولذلك فقد أدان اليونانيين، إذ قال في الفصل السابق: ” إذ معرفة الله ظاهرة فيهم لأن الله أظهرها لهم. لأن أموره غير المنظورة ترى منذ خلق العالم مدركة بالمصنوعات قدرته السرمدية ولاهوته حتى أنهم بلا عذر “[4]، حتى يستطيع فيما بعد أن يصل إلى اليهود ويكلمهم جهارًا ويصير كلامه غير قابل للشك. وبعدما وصل إلى الكلام عن الجحيم، أوضح كيف أن اليهودي، لا ينتفع مطلقًا بالناموس، بل ويتثقل به أيضًا إن لم يسلك بإستقامة. وهذا قد بيّنه من قبل. فلو أن اليوناني الذي لم يصر أفضل، هو بلا عذر، بإعتبار أن معرفة الله ظاهرة فيه، لأن الله أظهرها له، فبالأولي جدًا سيكون اليهودي بلا عذر أيضًا، لأنه بالإضافة إلى الناموس الطبيعى، فقد أخذ تعاليم الناموس المكتوب. وبعدما أشار إلى أخطاء الآخرين (الأمم)، فقد صار إقناع اليهود أكثر سهولة. وبهذا صار حديثه عن خطايا اليهود أمرًا مقبولاً، ولهذا نجده يحثهم على فعل الأمور الأكثر صلاحًا بقوله: ” مجد وكرامة وسلام لكل من يفعل الصلاح لليهودي أولاً ثم اليوناني“، لأنه هنا في هذه الحياة أيًا كان مقدار الأمور الحسنة التي يقتنيها المرء، فإنه يقتنيها بأتعاب كثيرة، حتى لو كان ثريًا أو قائدًا أو ملكًا. وعن السلام يقول إنه في مرات كثيرة يثور الإنسان، إن لم يكن في مواجهة الآخرين، فعلى الأقل في مواجهة نفسه، ويتعرض لحروب داخلية. لكن هناك في الدهر الآتي، لا يحدث شئ مثل هذا، بل إن كل شئ يتسم بالهدوء وعدم الاضطراب ويسود عليه السلام الحقيقي. هكذا يتضح أن أولئك الذين هم بلا ناموس سيتمتعون بنفس الأمور التي يتمتع بها اليهود (أي بالعطايا الإلهية). ثم يضيف قائلاً:
” لأن ليس عند الله محاباة ” (11:2).
وعندما يقول الرسول بولس إن اليهودى واليونانى يُدانان عندما يخطئان، فإن الأمر لا يحتاج إلى تفكير، لكن عندما يقول إن اليونانى يُكرم ـ الأمر الذي سوف يشير إليه فيما بعد ـ فيجب عليه أن يقيم الدليل على صحة كلامه. فبالحقيقة يبدو أمرًا مدهشًا وغريبًا، أن يُكرم ذاك الذي يفعل الصلاح مع أنه لم يسمع تعاليم الناموس والأنبياء.
لقد أراد هنا أن يدرب أسماعهم على قبول هذه الحقيقة، أن الإنسان ينال التكريم من الله إذا فعل الصلاح. وفي هذا لا فرق بين اليهودى واليونانى، الأمر الذي ذكره فيما سبق عندما أشار إلى أزمنة ما قبل النعمة. وهكذا استطاع أن يقنعهم مع دخولهم في لإيمان، أن يقبلوا بأن الجميع واحد أمام الله لا فرق بين اليهودى واليونانى. لأنه بعدما قال: ” مجد وكرامة وسلام لكل مَن يفعل الصلاح اليهودى أولاً ثم اليونانى” أضاف: ” لأن ليس عند الله محاباة“. وفي إيضاحه لموقف الله تجاه كل من اليهودى واليونانى، نجده بعدما أشار إلى أن الله سيعاقب اليهودى أولاً ثم اليونانى، وأنه سيُكرم اليهودى أولاً ثم اليونانى، ولكى لا يعتقد أحد أن في هذا تمييز لأحدهم عن الآخر أمام الله باعتبار أنه ذكر اليهودى أولاً، وأن هذا التمييز يتم وفقًا لإرادة الله، نجد الرسول بولس يضيف قائلاً: ” لأن ليس عند الله محاباة“، وهو بذلك يكون قد نفى عن الله صفة المحاباة، لأن الله لا يحابى الوجوه، لكنه ينظر إلى أعمال كل أحد. هذا التوضيح يؤكد على أن اليهودى لا يختلف عن اليونانى في شئ سوى المظهر الخارجى فقط، أما من جهة الأعمال، فإنهما واحد أمام الله، مَن يفعل الصلاح ينال المجد والكرامة والسلام، ومَن يفعل الشر يتعرض للسخط والغضب والشدة والضيق. وإن كان متوقعًا في هذا السياق أن يقول إنه ليس بسبب أن الواحد يهودى والآخر يونانى، لهذا يُكرم الأول ويُدان الثانى، بل إن الاثنان يُدانان بحسب أعمالهما. ومع هذا لم يتكلم هكذا. لأنه بهذه الصياغة كان سيثير غضب اليهودى. لكنه يشير إلى شئ آخر أبعد من ذلك، أى إلى أن طريقة تفكيرهم في أنفسهم وفي الآخرين يجب أن تكون باتضاع أكثر حتى يتقبلوا أمرًا ضروريًا، وما هو هذا الأمر؟ إنه يظهر من الكلام اللاحق:
” لأن كل من أخطأ بدون الناموس، فبدون الناموس يهلك وكل من أخطأ في الناموس فبالناموس يُدان ” (12:2).
هنا هو يكرر ما قاله سابقًا، لأنه يُظهر ليس فقط المُساواة بين اليهودي واليوناني، لكن يوضح كيف أن الناموس قد صار حِملاً بالنسبة لليهودى. أما بالنسبة لليونانى، فلكونه سيُدان بدون الناموس، سيكون عدم تثقله بالناموس أمرًا مفرحًا له. وهذا ما يقصده هنا، أن الأممى يُدان فقط وفق النواميس الطبيعية. لكن اليهودي يُدان على أساس الناموس، وهذا يعني أنه بالإضافة للناموس الطبيعى الذي يسرى على كل البشر، هناك الإدانة بالناموس المكتوب. لأن على قدر قبوله لتعاليم الناموس، على قدر ما سيكون مدانًا بحسب هذه التعاليم.
[1] رو27:1.
[2] رو2:2.
[3] البقاء في النص اليونانى هى (afqars…a) وهى تعنى عدم الفناء.
[4] رو19:1ـ20.