رسالة رومية الأصحاح1 – عظة3 ج1 – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب
العظة الثالثة:
” أولا أشكر إلهي بيسوع المسيح من جهة جميعكم أن إيمانكم ينادى به في كل العالم ” (8:1).
1ـ يبدأ الرسول حديثه بشكر لله قبل أى حديث آخر، وهذه البداية تليق بنفس الرسول بولس الطوباوية وهو قادر أن يعلّم الجميع أن يقدموا أعمالهم الصالحة وأقوالهم وباكوراتهم لله، وأن لا يفرحوا فقط لأجل ما حققوه لأنفسهم بل أيضًا لأجل الغرباء، لأن هذا الأمر ينقي النفس من الفساد والكلام البذيء، ويجلب عطف الله على أولئك الذين يشكرونه. ولهذا فإنه يقول في موضع آخر ” مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح الذي باركنا بكل بركة روحية“[1]. ويجب أن يشكره ليس فقط الأغنياء، بل الفقراء أيضًا، وليس الأصحاء فقط، بل المرضى أيضًا، وليس فقط المتيسرين، بل المعوزين أيضًا. فالأمر ليس بمستغرب عندما يشكر المرء وهو في حالة متيسرة. لكن عندما توجد أمواج عاتية والقارب معرض للانقلاب وللخطر، وقتها يظهر البرهان الكبير على الصبر والامتنان. ولهذا فإن أيوب بسبب هذا الصبر تُوّج إذ سد فم الشيطان، وبرهن بكل وضوح أنه لم يشكر الله عندما كان غنيًا لأجل الأموال الكثيرة، ولكنه يشكره دومًا بسبب محبته الكبيرة نحو الله.
لاحظ لأي الأمور يشكر بولس الرسول الله؟ لا لأجل الأمور الأرضية والفانية ولا لأجل السلطة والمُلك والمجد. لأن لا شيء من كل هذا يستحق الشكر عنه. لاحظ أيضًا كيف يشكر. لأنه لم يقل “أشكر الله” لكن “أشكر إلهي” وهو أمر قد فعله الأنبياء اذ جعلوا الله خاصتهم أو إلههم. وهل يعد أمرًا غريبًا لو فعل الأنبياء هذا لأن الله ذاته كان يدعو نفسه إله إبراهيم واسحق ويعقوب؟
” إن إيمانكم ينادى به في كل العالم” ماذا إذًا؟ هل كل العالم كان قد سمع بإيمان أهل رومية؟ نعم لقد سمع الجميع عن إيمان أهل رومية من بولس الرسول، وهذا يعد أمرًا منطقيًا. لأن مدينة روما كانت مشهورة ومعروفة جدًا، ومكانتها كانت تبدو من جميع الجوانب كما لو كانت فوق قمة عالية. ولاحظ من فضلك قوة الكرازة وقوة الكلمة، وكيف أنه في مدة زمنية بسيطة ساد العشارون والصيادون على هذه المدينة التي هى قمة المدن، وكيف صار رجال سوريون معلّمين ومرشدين لأهل رومية[2].
إذًا فلقد حقق أهل رومية إنجازين، أنهم آمنوا وأن ايمانهم قد أُستعلن مجاهرة وبلا خوف، حتى أن شهرتهم امتدت إلى كل الأرض لأنه يقول ” لأن ايمانكم ينادي به في كل العالم“.
إن الإيمان هو الذي يُنادىَ به، وليست المعارك الكلامية ولا المناقشات ولا الأفكار. لقد ساد الإيمان على الرغم من أن معوقات الكرازة كانت كثيرة، لأن أهل رومية كانوا قد سادوا المسكونة قبل ذلك بقليل، أى قبل إيمانهم، مفتخرين عائشين في الغنى والمتع. ثم قام صيادون يهود من أمة منبوذة بتبشيرهم بالمسيح، ودعوهم أن يسجدوا للمصلوب الذي عاش في اليهودية. ومن خلال الإيمان بدأ المعلّمون يعظون الناس ويحثونهم على حياة الزهد، وهم الذين تعودوا أن يعيشوا في رفاهية، ويشتهون الخيرات الأرضية بشكل كبير. مع أن هؤلاء الذين بشروا أهل رومية، كانوا أناسًا فقراء وبسطاء ومجهولين، ومن آباء مجهولين، لكن لا شئ من كل هذا أعاق طريق الكرازة. بل إن قوة المصلوب كانت عظيمة جدًا، حتى أنها نقلت البشارة إلى كل مكان، ثم قال إن إيمانهم ” ينادى به في كل الأمم” ولم يقل إنه “ظهر”، لكن “ينادى” كما لو كان إيمانهم على كل الألسنة. هذا ما أكده أيضًا لأهل تسالونيكي عندما كتب يقول: ” لأن من قبلكم قد أذيعت كلمة الرب ليس في مكدونية وأخائية فقط بل في كل مكان أيضًا قد ذاع إيمانكم بالله حتى ليست لنا حاجة أن نتكلم شيئا“[3] لأن التلاميذ أخذوا مكانة المعلمين، مُعلّمين الجميع بكل مجاهرة، وجاذبين الكل إليهم. لأن البشارة لم تتوقف في مكان ما، لقد كانت أقوى من النار، ووصلت إلى كل المسكونة. ولهذا حسنًا قال عن الإيمان إنه ” يُنادى به” فظهر أنه لا يجب أن يضيف أو ينزع شيئًا مما أعلنته الكرازة. لأن عمل المبشر هو نقل الرسالة فقط، ولهذا فإن الراعى يسمى مبشرًا، لأنه لا يعلن عن نفسه أو تعاليمه هو، ولكنه يعلن عن مَن يرسله.
” فإن الله الذي أعبده بروحي في إنجيل ابنه، شاهد لي كيف بلا انقطاع أذكركم ” (9:1).
2ـ هذا الكلام خارج من أحشاء الرسول المملوءة رأفة ويكشف عن روح تتمتع بالرعاية والأبوة. لكن ما معنى هذا الذي قاله ولأي سبب يدعو الله شاهدًا؟ لقد أراد أن يُعبّر لهم عما بداخله، ولأنه لم يكن قد رآهم حتى ذلك الوقت، فإنه لم يدع أي إنسان لكى يكون شاهدًا، ولكن دعي ذاك الذي يفحص القلوب ” شاهد”.
إذًا بعدما قال إنهم محبوبون، أراد أن يدلّل على هذا، لذا قال إنه يصلي لهم بلا انقطاع، وأنه يأمل أن يأتي إليهم، ولما كانت هذه الدلائل غير معلنة فإنه لجأ إلى شهادة أمينة. وهنا يمكن أن نتساءل هل يستطيع أحد منكم أن يزعم بأنه يتذكر كل ملء الكنيسة عندما يصلي في بيته؟ لا أعتقد، لكن القديس بولس يصلي إلى الله، لا لأجل مدينة واحدة، ولكن لأجل كل المسكونة، وهذا حدث لا مرة واحدة أو مرتين أو ثلاث مرات، لكن بلا انقطاع. ولن يحدث أن يتذكر المرء إنسانًا معينًا، إلاّ اذا كانت هناك محبة كبيرة له، ولهذا يذكره دوما في صلواته. أرأيت إذًا أن صلواته هذه هى دليل واضح على محبته الكبيرة تجاه الجميع.
وعندما يقول إن الله هو ” الذي أعبده بروحي في إنجيل ابنه” يوضح لنا تواضعه تحت نعمة الله، لأن نعمة الله سمحت له بأمر عظيم جدًا وهو أن يُبشر، بينما يظهر تواضعه بوضوح، لأنه ينسب كل شيء لمعونة الروح لا لإمكانياته الخاصة. واستخدامه تعبير ” إنجيل ابنه” قصد به إظهار نوع الخدمة. وبالحقيقة إن طرق الخدمة كثيرة ومتنوعة، تمامًا مثل طرق العبادة. بالضبط كما في حالة الممالك، فالجميع خاضعون لواحد فقط هو الذي يملك، ولا يقدمون جميعهم نفس الخدمات، لكن واحد تكون مهمته خدمة وإدارة الجيوش، وواحد يدبر المؤن، وآخر يحفظ أموال الخزانة، هكذا أيضًا في الأمور الروحية؛ واحد يعبد الله بأن يخدم ويدبر حياته حسنًا، وآخر يتعهد خدمة الغرباء، وآخر يقوم برعاية من لهم احتياج. ومثل هذا الأمر نجده في حالة الرسل أنفسهم، هؤلاء الذين كانوا مع استفانوس ويخدمون الله، البعض في رعاية الأرامل، وآخرون في التعليم. ومن بين الرسل أيضًا كان الرسول بولس يخدم الله بواسطة كلمة الإنجيل. وهذا كان أسلوب خدمته ولهذه الخدمة أُرسل.
ولهذا فإنه لا يدعو الله شاهدًا فقط، لكنه يتكلم عن خدمته التي تعهد بها، موضحًا أن قيامه بهذه الخدمة العظيمة لا يجعله يدعو ذاك الذي استأمنه على هذه الخدمة شاهدًا إن لم يكن لديه هذا اليقين وهذه الثقة. بل أراد فوق هذا أن يوضح أن محبته ورعايته لهم هو أمر ضروري. ولكي لا يقولوا له مَن أنت ومن أين أتيت، وكيف تقول أنك تعتني بمدينة كبيرة، ولها مكانة قيادية بين المدن نجد أنه أوضح أن قيامه بمثل هذه الرعاية وهذا الإهتمام هو أمر مُلّح بالنسبة له. إذ كانت الضرورة موضوعة عليه لكي يكرز هناك بالإنجيل. وكان يشعر باحتياج أن يذكر هؤلاء الذين كرز لهم بلا انقطاع.
” الله الذي أعبده بروحي” هذه العبادة هى أسمى بكثير من العبادة الوثنية والعبادة اليهودية. لأن العبادة الوثنية هى عبادة كاذبة وجسدية، بينما العبادة اليهودية هى عبادة حقيقية، لكنها هى أيضًا جسدية، لكن العبادة الكنسية هى عكس العبادة الوثنية وشيء أسمى بكثير من العبادة اليهودية. لأن عبادتنا ليست بذبائح وعجول ودخان ورائحة شواء، لكن هى عبادة روحية. هذا ما أعلنه لنا المسيح قائلاً: ” الله روح والذين يسجدون له فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا“[4].
” في إنجيل ابنه “: لقد قال سابقًا ” المفرز لإنجيل الله (الآب)“، هنا يقول “إنجيل ابنه” أي أن هذا الإنجيل هو إنجيل الابن. لأنه تعلّم من السيد له المجد أن كل ما للآب هو للابن وكل ما للابن هو للآب. لأن المسيح يقول ” كل ما هو لي فهو لك. وما هو لك فهو لي“[5].
” كيف بلا انقطاع أذكركم متضرعًا في صلواتي “: هذا دليل محبة حقيقية. وما يقوم به الرسول بولس هو أمر واحد له عدة جوانب: “أنه يذكرهم” وذكره إياهم هو “بلا انقطاع”، وهذا التذكر هو محور “صلاته” وأخيرًا أنها لأجل أمور عظيمة.
” متضرعًا دائمًا في صلواتي عسى الآن أن يتيسر لي بمشيئة الله أن آتي إليكم. لأني مشتاق أن أراكم ” (10:1).
هكذا نرى أنه يشتاق لرؤيتهم ولا يريد أن يحدث هذا بدون مشيئة الله، بل أن تكون هذه الرغبة مقترنة بمخافة الله. لقد أحبهم وكان متعجلاً للذهاب إليهم، لكنه لم يُرد أن يراهم بدون أن يتأكد أن هذه هى مشيئة الله، وهو في هذا مدفوع بمحبته لهم. هذه هى المحبة الحقيقية وليست كالمحبة التي يكون الأنا هو مركزها، أقصد أن هناك مسارين للسلوك فيما يختص بأسلوب محبتنا: فإما أن لا نحب أحدًا، أو عندما نحب فإننا نحب على عكس مشيئة الله[6] والحالتين هما ضد الناموس الإلهي. لكن لو كان مجرد الكلام عن المحبة يثير في نفس المستمع ضيقًا، فهذا يعنى أن ممارسة هذه المحبة ستسبب له ضيقًا أكثر.
3ـ ويمكن للمرء أن يتساءل كيف نحب ويكون هذا على عكس مشيئة الله؟ ونُجيب عندما نغض البصر عن المسيح الذي يتضور جوعًا، بينما نعطي لأولادنا ولأصدقائنا ولأقاربنا أكثر مما يحتاجونه. الأمر يحتاج إلى أن نسترسل في حديثنا أكثر من ذلك. لأنه لو فحص كل واحد منا ضميره جيدًا لوجد أن هذا الشيء واردًا في أمور كثيرة. لكن المطوّب بولس لم يكن هكذا، لكنه عرف وتعلّم كيف يُحب، وأن تكون محبته كما ينبغي، وكما يليق. لاحظ إذًا أن مخافة الله والاشتياق لرؤية أهل رومية موجودين بشكل كبير في قلب القديس بولس، لأن صلاته لهم بلا انقطاع، دون توقف، هى دليل محبته الكبيرة، كما أن استمرار خضوعه لمشيئة الله في محبته لهم هو دليل على تقواه العظيمة. تلك التقوى التي اتضحت في موضع آخر عندما تضرع إلى الرب ثلاث مرات لكي تفارقه شوكة الجسد، ومع هذا لم يُستجاب له، وبالرغم من ذلك، فقد شكر الله كثيرًا لأنه لم يسمع له[7]. وهكذا نجده في كل الأمور كان ينظر نحو الله ويخضع لمشيئته. لكن هنا نجد أن الله قد سمع له، ليس عندما طلب ولكن فيما بعد. وهذا يوضح أن عدم إستجابة الله لطلبه في الحال لم يسبب له أى ضيق.
هذه الأمور أقولها، لكي لا نتضايق عندما لا تُستجاب صلواتنا في الحال. لأننا لسنا أفضل من الرسول بولس الذي يشكر في الحالتين. وهو إذ يصنع هذا يفعل حسنًا جدًا. لأنه وضع نفسه في يد ضابط الكل وتحت سلطانه بخضوع كامل، مثل الطينة اللينة في يد صانعها، مُسلّمًا قيادة حياته لله. وبعدما قال إنه يصلي لكي يراهم، يوضح سبب هذا الاشتياق لرؤيتهم. وما هو هذا السبب؟
” لكي أمنحكم هبة روحية لثباتكم ” (11:1)
فالقديس بولس لم يقم برحلات بلا هدف أو بلا معنى كما يصنع الكثيرون الآن. لكن لضرورات ولأجل موضوعات ملّحة جدًا. وهو لم يُرد أن يوضح سبب رحلته، لأنه لم يقل لكي أُعلمكم أو أعظكم أو أكمّل ما نقص، لكن قال ” لكي أمنحكم هبة روحية” موضحًا أنه لا يعطيهم شيئًا مما له، لكنه يهبهم ما قد أخذه من الله. وقد فعل هذا من أجل ثباتهم.
فثباتهم وعدم إهتزازهم هو من عمل النعمة. وعندما تسمع عن عمل النعمة، فلا تظن أن أجر تعب الخدمة قد ضاع، بسبب ذكر عمل النعمة، إذ أنه أراد فقط أن يقضى على الإفتخار بتعب الخدمة والتباهى به. فالحديث عن النعمة، لا يعني احتقار جهد الرغبة في الخدمة، وما أراده فقط، هو أن يقضي على الافتخار والزهو غير المقبول. إذًا يجب ألا تعتمد على قوتك، لأن الرسول بولس دعى هذا التعب في الخدمة بالموهبة أو العطية. لأنه يعترف وبتواضع أن تعب الخدمة لا يرجع إلى إمكانياته الشخصية بل إلى الموهبة المعطاة له، لأن هذه المواهب تحتاج إلى دعم وسند من الله. غير أنه بقوله “لثباتكم” أراد أن يوضح بشكل غير معلن أنهم محتاجون إلى تقويم. فما أراد أن يقوله هو: إننى كنت أصلي ومشتاق أن أراكم، لا لسبب آخر، إلا لأن أسندكم وأقويكم وأثبّتكم في مخافة الله باستمرار. لكي لا تتزعزعوا. وبالتأكيد هو لم يتكلم هكذا لكي يجرح مشاعرهم، لكنه بأسلوب آخر يشير إلى هذا المعنى بدون تشديد أو تأكيد على هذا، إذ أنه عندما يقول ” لثباتكم” فإنه يقصد هذا المعنى المشار إليه.
ثم بعد ذلك ـ لأن قوله كان ثقيلاً على نفوسهم ـ لاحظ كيف يجعل قوله مقبولاً، وحتى لا يقولوا ماذا إذًا؟ هل نحن مهتزين، ألسنا ثابتين، هل نحن في حاجة إلى كلامك لكي نثبت؟ لذا نجده يضيف قائلاً ” لنتعزى بينكم بالإيمان الذي فينا جميعًا إيمانكم وإيماني” وبهذه الإضافة فإنه يزيل أي ارتياب يعتريهم. كما لو كان يقول لهم لا ترتابوا، فأنا أتكلم لا لكي أتهمكم، فكلامي لا يحمل هذا المعنى. لكن ما أريد أن أقوله هو إنكم عانيتم كثيرًا من المضايقات والاضطهادات والعذابات من قِبل الحكّام والولاة، لذلك أردت أن أراكم لكي أعزيكم، بل من الأفضل أن أقول، لا لكى أعزيكم فقط، لكن لكي أتعزى أنا أيضًا معكم.
4ـ أرأيت حكمة المعلم؟ قال أولاً ” لثباتكم” ولأنه يعرف أن هذا ثقيل ويضايق تلاميذه، فإنه أضاف ” لنتعزى“، ولم يكتفِ بهذا فقط، لكنه يقدم علاجًا أكبر قائلاً:
” لنتعزى بالإيمان الذي فينا جميعًا إيمانكم وإيماني ” (12:1).
يالعظمة الإتضاع. فبولس الرسول بقوله هذا يوضح أنه هو نفسه في احتياج لهم وليس هم الذين كانوا في احتياج إليه. إنه قد وضع التلاميذ في موضع المعلّم، دون أن يحتفظ لنفسه بأي امتياز، بل إنه أكد أيضًا على المساواة الكاملة بينه وبينهم لأن الربح سيكون مشترك، وذلك بقوله: إنه محتاج إلى تعزيتهم كما أنهم محتاجون إلى تعزيته.
وبأي وسيلة يتم هذا ” بالإيمان الذي فينا جميعًا إيمانكم وإيماني ” فكما أنه من الممكن أن يجمع المرء أكثر من شعلة لكى يوقدها ليحصل على نار أشد، هكذا أيضًا بالنسبة للمؤمنين. فكما أنه عندما نوجد متفرقين في أماكن مختلفة، فإننا نكون حزانى أو متضايقين، لكن حينما يرى الواحد منا الآخر ونتعانق، فإننا نتعزى تعزية كبيرة. ولذلك يجب ألاّ تقارن ما يحدث الآن بما كان يحدث فيما قبل، فالآن توجد شركة بين المؤمنين في كل مدينة وقرية، بل وفي الصحراء حيث انتشرت التقوى وتلاشي غضب الله. لكن تأمل في ذاك العصر عندما كان يرى المعلّم تلاميذه وأيضًا الأخوة يرون أخوة لهم آتين من مدن أخرى بعيدة، كم كانت فرحة اللقاء عظيمة.
ولكي أجعل ما أقوله أكثر وضوحًا، سأتكلم بمثال، فلو حدث أن ذهبنا إلى بلاد الفرس أو السيكيثيين أو بلاد البربر وتوزعنا اثنين اثنين أو ثلاثة ثلاثة في هذه البلاد، ثم بعد انقضاء فترة من الزمن، رأينا فجأة شخص قد أتى من هنا، تخيل كم تكون التعزية التي سنحصل عليها. ألا ترون المسجونين عندما يرون أحد أقاربهم، كيف أنهم يمتلئون حيوية وفرح؟ فلو أننا شبهنا الظروف التي عاش فيها أهل رومية بالسجن والأسر، فيجب عليك ألا تندهش، لأنهم عانوا أمورًا أكثر مرارة وقسوة مما يحدث في هذا السجن والأسر. لقد عانوا التشرد والاضطهاد، عانوا الجوع والحروب، وتعرضوا للموت كل يوم، والشك فيهم من قبل أصدقاء، ومعارف وأقارب، وعاشوا كغرباء في بلادهم. ولهذا قال ” لثباتكم، لنتعزى بينكم بالإيمان الذي فينا جميعًا“. كما أنه قال هذا الكلام، لا لأنه يحتاج إلى مساعدتهم، فهذا الأمر كان مستبعد تمامًا. لأنه كيف يحتاج مَن هو عمود الكنيسة، ومَن كان في إيمانه أقوى من الحديد والصخر، ومَن كان روحيًا أصلد من الماس، ومَن كان يملك قوة لحكم وإدارة مدن كثيرة؟ ولكن قال إنه هو أيضًا محتاجًا لتعزيتهم كي لا يجعل كلمته قاسية وشديدة. و لو تساءل أحدكم قائلاً: طالما أن الرسول بولس مشتاق لرؤية أهل رومية، وأنه يصلى ويتضرع إلى الله من أجل ذلك وأنه سيتعزى هو نفسه وسيعزيهم، فما هو العائق من أن يذهب إلى هناك؟ وهل أراد أن يرد على هذا التساؤل بما أضافه قائلاً:
” ثم لست أريد أن تجهلوا أيها الأخوة أنني مرارًا كثيرة قصدت أن آتي إليكم ومنعت حتى الآن ” (13:1).
أرأيت مثل هذا الخضوع الكبير ودليل الامتنان العظيم. يقول أنه مُنع، لكن لأي سبب مُنع؟ هو لا يجيب، وذلك لأنه لا يفحص أمر الرب، لكنه يخضع له فقط، وإن كان من الطبيعي أن نتساءل بدهشة كيف يمنعه الله عن الذهاب إلى مدينة مثل رومية تتمتع بحظ وافر من سبل الراحة والبذخ وعظيمة جدًا كما أن نظر كل المسكونة كان يتجه إليها. ولعلنى أقول لقد منعه الله من الذهاب حتى لا تتمتع هذه المدينة المتشامخة بمثل هذا المعلم العظيم ولوقت طويل.
وهو لم يهتم بأى شيء، بل سلّم نفسه لعناية الله غير المحدودة، مظهرًا بذلك تقوى وحكمة ومعلّمًا إيانا ألاّ نُحمّل الله مسئولية ما يحدث حولنا، حتى وإن كان ما يحدث يبدو أنه يسبب ضيق للكثيرين.
لأن عمل الله هو أن يعطي وصايا، وعمل العبيد هو الطاعة ولهذا فهو يقول لا تسألني عن قرار أو فكر الله ” بل مَن أنت أيها الإنسان الذي تجاوب الله. ألعل الجبلة تقول لجابلها لماذا صنعتني هكذا “[8] إذًا لأي سبب تطلب أن تعرف؟ ألا تعرف أن الله يعتني بكل شيء وأنه كلّى الحكمة، وأن عمله دائمًا بتدبير وليس بلا سبب، أو بدون هدف؟ وأنه يحبك محبة فائقة الوصف، وهذه المحبة تتجاوز رعاية الأب وحنان الأم بكثير. إذًا يجب عليك الآن ألاّ تطلب أكثر من هذا، لأن هذا يكفي للعزاء. لأنه حتى مطلب أهل رومية حينذاك كان قد تم تدبيره بحكمة كبيرة.
فعدم معرفة طرق الله في تعامله مع أبنائه، لا يدعو للتذمر، بل إن ذلك يبعث على الإيمان، بمعنى أن يقبل المرء الكلام عن تدبير الله، على الرغم من أنه غير مدرك لطريقة التدبير.
[1] أف3:1.
[2] يقصد هؤلاء الذين بشروا أهل رومية بالإنجيل.
[3] 1تس8:1.
[4] يو24:4.
[5] يو10:17.
[6] يقصد المحبة التي يكون مصدرها الأنا وليست مشيئة الله.
[7] انظر 2كو8:12.
[8] رو20:9.