رسالة بولس الرسول إلى رومية – عظة1 ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب
رسالة بولس الرسول إلى رومية - عظة1 ق. يوحنا ذهبي الفم - د. سعيد حكيم يعقوب
رسالة بولس الرسول إلى رومية – عظة1 ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب
العظة الأولى:
مقدمة الرسالة للقديس يوحنا ذهبي الفم
1ـ نسمع دائمًا أن رسائل المُطوّب بولس تُقرأ مرتين، وفي مرات كثيرة ثلاث أو أربع مرات في الأسبوع الواحد، وذلك عند الاحتفال بتذكار الشهداء القديسين.
وبكل تأكيد يمتلكني فرح عظيم وأنا أستمع لهذا الصوت الروحاني ـ صوت القديس بولس ـ وأشعر بالسمو وبدفء الروح وكثيرًا ما أتخيله حاضرًا أمامي، وأعتقد أنني أراه يتكلم. ولكنني في الوقت نفسه ينتابني حزن وألم، لأن هذا الرجل لا يعرفه الكثيرون حق المعرفة. كما أن البعض يجهله بشكل كبير، بل إنهم لا يعرفون ولا حتى كم تكون عدد رسائله. وهذا يحدث لأنهم لا يرغبون في الانشغال بهذا القديس.
ونحن إن كنا نعرف بعض الأشياء عنه، فهذا لا يرجع إلى استنارة الفكر ويقظته، بل باستمرار كان أمامنا هدف، هو التواصل مع هذا الرجل، فقد إنشغلنا به زمانًا طويلاً. والذين يحبون أشخاصًا يشتاقون دائمًا لمعرفة أمورهم أكثر من الآخرين لأن هذه الأمور تعنيهم. وهذا بالضبط ما يعلنه لنا الرسول بولس اذ يقول لأهل فيلبي ” كما يحق لي أن أفتكر من جهة جميعكم، لأني حافظكم في قلبي وفي وثقي وفي المحاماة عن الإنجيل وتثبيته أنتم الذين جميعكم شركائي في النعمة “[1].
ولهذا اذا توخيتم الدقة في قراءتكم، فلن يكون لديكم احتياج لأي شيء آخر. صادقة هى كلمة المسيح الذي قال ” اسألوا تعطوا اطلبوا تجدوا اقرعوا يفتح لكم “[2]. لكن لأن الكثيرين من المجتمعين هنا معنا، تعهدوا مسئولية تربية الأولاد والاهتمام بالزوجة والعناية بشئون الأسرة، فإنهم لن يستطيعوا أن يكرسوا كل جهدهم لهذا العمل.
ولهذا إذا أردتم أن تتمتعوا بما يعرفه الآخرون، اعتنوا جيدًا أن تُظهروا اهتمامًا لسماع الأقوال الالهية، على قدر ما تهتمون بجمع واكتناز الأموال، على الرغم من أنه ليس من المفترض أن أطلب منكم أن تفعلوا ذلك، لأنه سيكون أمرًا مفرحًا أكثر، لو أنكم أبديتم من أنفسكم اهتمامًا أوفر. فالواقع أنه بسبب الجهل بالكتب المقدسة، قد نتجت شرور لا حد لها. ولنفس السبب أيضًا كانت تلك النتائج المدمرة للهرطقات الفاسدة. وهذا راجع لعدم المبالاة والجهد الضائع في أمور لا فائدة منها.
فالذين حُرموا من نعمة البصر لا يستطيعون السير بشكل طبيعي، هكذا أيضًا أولئك الذين لا يتطلعون نحو بهاء الكتب المقدسة، فإنهم يسقطون حتمًا في خطايا كثيرة لأنهم يسيرون في ظلام مخيف. ولكي لا يحدث كل ذلك، علينا أن نفتح عيون أذهاننا نحو شعاع الكلمة الرسولية. لأنه بالحقيقة قد أشرقت كلمة الرسول بولس أكثر من الشمس، وحُسب أفضل من الجميع من جهة تعاليمه، ونال نعمة الروح القدس بوفرة إذ أنه قد تعب أكثر من جميعهم. وهذا يظهر لا من خلال رسائله فقط، بل أيضًا من خلال سفر أعمال الرسل، لأنه عندما كانت تسنح له الفرصة بالكلام، لم يكن يتردد في إعطاء كلمة، إذ كان لديه دائمًا ما يقدمه.
ولهذا، فقد اعتبره أهل لسترة أنه هرمس (Erm»j)[3] لأنه كان المتقدم في الكلام ” فكانوا يدعون برنابا زفس وبولس هرمس إذ كان هو المتقدم في الكلام “[4].
2ـ لكن لأن الأمر هنا يتعلق بالرسالة إلى أهل رومية، فهناك احتياج أن نحدد زمن كتابتها، لأنها ليست كما يظن البعض مكتوبة قبل الرسائل الأخرى. لكنها كتبت قبل تلك الرسائل التي كُتبت من روما. لأن الرسالتين إلى أهل كورنثوس، أُرسلتا قبل رسالة رومية، وهذا واضح مما كتبه في نهاية الرسالة قائلاً: ” ولكن الآن أنا ذاهب إلى أورشليم لأخدم القديسين. لأن أهل مكدونية وأخائيه استحسنوا أن يصنعوا توزيعًا لفقراء القديسين الذين من أورشليم “[5]. وفي رسالته إلى أهل كورنثوس يقـول ” وإن كان يستحق أن أذهب أنا أيضًا فسيذهبون معي “[6]. قال ذلك لأولئك الذين أحضروا المساعدات إلى هناك. إذًا فمن الواضح أنه عندما كتب الرسالة إلى أهل كورنثوس كان في رحلته هذه. وعليه تكون رسالة رومية قد كتبت بعد رسالتي كورنثوس. ومن الواضح أيضًا أن الرسالة إلى أهل تسالونيكي قد كتبت قبل الرسالة إلى أهل كورنثوس، لأنه تكلم عن أعمال الرحمة عندما قال ” وأما المحبة الأخوية فلا حاجة لكم أن أكتب إليكم عنها لأنكم أنفسكم متعلّمون من الله أن يحب بعضكم بعضًا“[7]. ووقتها كتب إلى أهل كورنثوس موضحًا هذا الأمر قائلاً: ” لأنى أعلم نشاطكم الذي افتخر به من جهتكم لدى المكدونيين أن أخائية مستعدة منذ العام الماضي. وغيرتكم قد حرّضت الأكثرين “[8].
إذًا، بينما رسالة رومية تعتبر لاحقة على هذه الرسائل، إلاّ أنها سابقة على الرسائل التي كتبت من روما، لأنه لم يكن قد انتقل بعد إلى روما عندما كتبت هذه الرسالة وهذا يوضحه قائلاً: ” لأني مشتاق أن أراكم لكي أمنحكم هبة روحية لثباتكم “[9]. ومن روما كتب إلى أهل فيلبي، ولهذا يقـول ” يسلّم عليكم جميع القديسين ولاسيما الذين من بيت قيصـر “[10]، وإلى العبرانيين كتب يقول: ” سلّموا على جميع مرشديكم وجميع القديسين، يسلّم عليكم الذين من إيطاليا “[11]. والرسالة الثانية إلى تيموثاوس أرسلها من روما، بينما كان مسجونًا، وهذه الرسالة كما يتضح لي قد كتبت آخر الرسائل وهذا واضح من نهايتها ” فإني أنا الآن أسكب سكيبًا ووقت انحلالى قد حضر“[12]. وفيما يتعلق بأمر انتهاء حياته هناك، فهذا أمر واضح وأكيد للجميع.
أيضًا الرسالة إلى فليمون، تُعد من الرسائل الأخيرة، لأنه كان قد كتبها وهو في سن متقدم جدًا ولهذا يقول: ” من أجل المحبة أطلب بالحري إذ أنا إنسان، هكذا نظير بولس الشيخ والآن أسير يسوع المسيح أيضًا“[13]. لكنها كانت سابقة على الرسالة إلى كولوسي، وهذا واضح من ختام رسالة كولوسي “جميع أحوالي سيعرفكم بها تيخيكيس الأخ الحبيب والخادم الأمين والعبد معنا في الرب الذي أرسلته اليكم لهذا عينه ليعرف أحوالكم ويعزي قلوبكم مع أنسيمس الأخ الحبيب الذي هو منكم. هما سيعرفانكم بكل ما ههنا“[14]. وأنسيمس هو الشخص الذي من أجله كُتبت الرسالة إلى فليمون. وأنسيمس ليس شخصًا يحمل اسم آخر، وهذا واضح من أرخبس، الذي أخذه الرسول بولس مساعدًا له. وهو يوجه له النصح عندما يكتب إلى أهل كولوسي قائلاً: ” وقولوا لأرخبس انظر إلى الخدمة التي قبلتها في الرب لكي تتمها“[15].
ويتضح لي أيضًا أن رسالة غلاطية سابقة على الرسالة إلى أهل رومية. لكن إن كانت هذه الرسائل لها ترتيب آخر مختلف، فهذا لا يعتبر أبدًا شيئًا غريبًا. فالأنبياء الاثني عشر على الرغم من أنهم زمنيًا لا يأتون الواحد بعد الآخر، بل يفصل بينهم مسافات زمنية بعيدة، نجد أنهم يأتون في الترتيب الواحد بعد الأخر. فحجي وزكريا وآخرون تنبأوا بعد حزقيال ودانيال وكثيرون بعد يونان وصفنيا والأنبياء الآخرين، ومع هذا فهم في وحدة واحدة مع أولئك الذين تفصلهم عن بعضهم البعض مسافات زمنية بعيدة.
3ـ ونرجو ألا يعتبر أحدكم أن هذا العرض السابق هو أمر غير مهم، أو هو نوع من الإسترسال الذي يتجاوز موضوع البحث في هذه الرسالة لأن زمن كتابة الرسائل يساعدنا كثيرًا في موضوعنا هذا. لأنه عندما يكتب إلى أهل رومية وإلى أهل كولوسي عن نفس الموضوعات، فإنه لا يكتب بالأسلوب نفسه. فهو عندما يكتب إلى أهل رومية نلاحظ نبرة الود الشديد في كلامه، فنجده يقول: ” من هو ضعيف في الإيمان فاقبلوه لا لمحاكمة الأفكار. واحد يؤمن أن يأكل كل شيء، وأما الضعيف فيأكل بقولا “[16]. بينما نجده وهو يكتب إلى أهل كولوسي عن نفس الموضوعات، أن هناك نبرة متشددة في كلامه فيقول: ” إذًا إن كنتم قد قمتم مع المسيح عن أركان العالم. فلماذا كأنكم عائشون في العالم تفرض عليكم فرائض لا تمس ولا تذق ولا تجس التي هى جميعها للفناء في الاستعمال حسب وصايا وتعاليم الناس التي لها حكاية حكمة بعبادة نافلة، وتواضع وقهر الجسد ليس بقيمة من جهة إشباع البشرية “[17].
وأنا لا أجد سببًا آخر لهذا الاختلاف في الكلام، إلاّ زمن كتابة هذه الرسائل ورده على تساؤلات خاصة، ويمكن للمرء أن يجد أن الرسول بولس يصنع هذا الأمر في مواضع أخرى من رسائله.
هذا أيضًا ما يفعله كل من الطبيب والمعلم. فالطبيب لا يعامل مرضاه الذين هم في بداية المرض بنفس الطريقة مع مرضى آخرين، قد اقتربوا من مرحلة الشفاء. ولا المعلّم أيضًا يتعامل مع الأولاد الراغبين في تعلّم الحروف الأولى، بنفس الطريقة مع أولئك الذين لهم احتياج لتعاليم أكمل. ولذلك فالمطوّب بولس عندما يكتب نجد أن لديه دافعًا لكى يكتب. لكن ما هو الدافع لكتابة رسائله؟ هو نفسه يوضح هذا وهو يكتب لأهل كورنثوس قائلاً: ” وأما من جهة الأمور التي كتبتم لي عنها “[18]، بينما لأهل غلاطية يكتب عن نفس الأمور من بداية الرسالة إلى نهايتها، أما بالنسبة لأهل رومية، فلأي سبب ولأي هدف كتب إليهم؟ ولماذا يؤكد لهم أنهم مملوءون من كل صلاح ومن كل معرفة، وقادرون على تقديم النصح للآخرين؟
لأي سبب إذًا كتب الرسالة؟ بسبب نعمة الله إذ يقول: ” ولكن بأكثر جسارة كتبت إليكم جزئيًا أيها الأخوة، كمذّكر لكم بسبب النعمة التي وهبت لي من الله حتى أكون خادمًا ليسوع المسيح “[19].
ولهذا قال منذ البداية: ” وإني مديون لليونانيين والبرابرة، للحكماء والجهلاء. فهـكذا ما هو لي مستعد لتبشيركم أنتم الذين في رومية أيضًا“[20]
لقد أراد، أن يقدم النصح للآخرين، لكن في الوقت نفسه كان من الضروري أن يصحح الأوضاع عن طريق رسائله، لأنه لم يكن قد وصل بعد إلى روما. فهو يقدم النصح لهم على رجاء حضوره الشخصي فيما بعد.
لقد احتضن الرسول بولس كل المسكونة وحمل الجميع داخله. واعتبر أن الإتحاد بالله هو أهم وأعظم بكثير من أي قرابة أخرى. لقد كان هدفه هو أن يلدهم جميعًا من أجل أن يتصور المسيح فيهم. هكذا أحبهم، وبمعنى أفضل، لقد أظهر أحشاء رأفة أكثر جدًا من أي أب جسدي. هذه هى نعمة الروح القدس التي تنتصر على الآلام الجسدية وتظهر شوقًا روحيًا ملتهبًا. وهذا ما يراه المرء بشكل خاص جدًا في شخص الرسول بولس الذي من أجل محبته للجميع، صار مثل طائر ينتقل من مكان إلى آخر دون أن يبقى في مكان واحد. لأنه سمع المسيح يقول لبطرس ” أتحبني ارع خرافي “[21] وأخذ على عاتقه هذا الأمر كأعظم قانون للمحبة، وقدمه بأسلوب فاق الجميع.
4ـ ومادمنا نسير على خطى هذا المحب، دعونا أن يصحح كل واحد منا ـ لا أقول مسيرة الكون كله أو مدن أو أمم بأكملها ـ لكن على الأقل بيته وزوجته وأولاده وأصدقاءه وجيرانه. ولا يقل لي أحد أنه عاجز أو أنه إنسان بسيط، فلا يوجد مَن هو عديم العلم أكثر من بطرس أو مَن هو أبسط من الرسول بولس. هو نفسه اعترف ولم يخجل أن يقول: ” إن كنت عاميًا في الكلام فلست في العلم “[22]. لكن هذا البسيط والآخر غير المتعلم انتصرا على فلاسفة كبار وأفحما العديد من الخطباء، وتفوقا في كل شيء بضميرهم النقى وبعمل نعمة الله داخل نفوسهم.
وأي جواب سنعطي إن كنا لا نقدم عونًا لأحد ولا حتى لعشرين شخصًا، ومادمنا غير نافعين حتى للمقيمين معنا؟ فالتذرع بالجهل أو بالبساطة هى إذًا أمور لا مبرر لها لأن عدم التعليم ونقص الثقافة لن يعوق الكلمة، ما يعوقها هو الكسل والخمول وعدم اليقظة، وطالما قد نفضنا عن أنفسنا هذا الكسل واهتممنا برعاية الآخر، سنتمتع بالهدوء والسلام الداخلي، وسنصحح مسيرة أحبائنا بمخافة الله، حتى نتمتع في الحياة الأبدية بخيرات لا تحصى بالنعمة ومحبة البشر اللواتي لربنا يسوع المسيح الذي له المجد مع الآب والروح القدس الآن وكل أوان وإلى دهر الدهور آمين.
[1] في7:1.
[2] مت7:7.
[3] هرمس ـ حسب المعتقدات الوثنية ـ هو إله اليونانيين القدماء الذي كان يقوم بتوصيل رسائل مفهومة من الآلهة إلى البشر والمزارعين والمسافرين والرياضيين والأدباء والعلماء والفنانيين.
[4] أع13:14.
[5] رو25:15.
[6] 1كو4:16.
[7] 1تس9:4.
[8] 2كو2:9.
[9] رو11:1.
[10] 1تي22:4.
[11] عب24:13.
[12] 2تيمو6:4.
[13] فليمون9:1.
[14] كو7:4ـ9.
[15] كو17:4.
[16] رو1:14ـ2.
[17] كو20:2ـ23.
[18] 1كو1:7.
[19] رو15:15.
[20] رو14:1ـ15.
[21] يو15:21.
[22] 2كو6:11.