مقدمة تفسير رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية ج2 – ق. يوحنا ذهبى الفم – د. سعيد حكيم يعقوب
مقدمة تفسير رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية ج2 - ق. يوحنا ذهبى الفم - د. سعيد حكيم يعقوب
التعاليم اللاهوتية للرسالة:
في تعاليم هذه الرسالة والتي تُعد بمثابة تعاليمًا لاهوتية خاصة بالموضوع المحورى في الحياة المسيحية، والذي هو المكانة الجديدة للإنسان عند الله، تلك المكانة التي تأسست بتجسد المسيح، يعلن الرسول بولس رفضه التمسك بأحكام الناموس.
لقد جمع الرسول بولس حوله أصدقائه المقربين والمخصصين للخدمة، عند كتابة هذه الرسالة، وهؤلاء كان ينبغى أن يكونوا حاضرين، خاصةً وهو يخرج كل ما في نفسه، من أجل تأصيل الحقائق الإيمانية لمواجهة أى انحرافات في التعليم من الممكن أن تهدد سلام الكنيسة ووحدتها فيما بعد. وقد نال ترتيوس أحد تلاميذ الرسول بولس، شرفًا عظيمًا بأن يكون هو مَن أملاه الرسول بولس رسالته هذه، وقد سجل هو نفسه هذا الأمر بكل افتخار في نهاية الرسالة ” أنا ترتيوس كاتب هذه الرسالة أسلم عليكم في الرب” (رو22:16).
وبعد هذه المقدمة، يُعلن الرسول بولس أمرًا له الأهمية القصوى في حياة المسيحيين وهو أن إنجيل المسيح هو قوة الله للخلاص ” لست أستحى بإنجيل المسيح لأنه قوة الله للخلاص لكل مَن يؤمن” (رو16:1). ومثلما كانت حياة القديس بولس مُقسمة إلى مرحلتين، مرحلة ما قبل معرفة المسيح، ومرحلة ما بعد إيمانه بالمسيح، هكذا فإنه يرى أن تاريخ الإنسانية مُقسّم إلى قسمين، مرحلة ما قبل التجسد، ومرحلة ما بعد التجسد الإلهى. ففي مرحلة ما قبل المسيح، كانت البشرية بلا خلاص، ثم تمتعت الإنسانية بهذا الخلاص بعد تجسد المسيح، الذي رد لها مكانتها الأولى. ” لأنه إن كان بخطية الواحد قد ملك الموت بالواحد فبالأولى كثيرًا الذين ينالون فيض النعمة وعطية البر سيملكون في الحياة بالواحد يسوع المسيح” (رو17:5).
لقد كان الجميع، سواء اليهود أو الأمم، تحت غضب الله ” لأن غضب الله مُعلن من السماء على جميع فجور الناس واثمهم الذين يمزجون الحق بالإثم” (رو18:1). ولم تستطع الحضارات المختلفة ولا التيارات الثقافية والفلسفية ولا التقدم الاجتماعى ولا التقدم الأخلاقى، أن يوقف سقوط الإنسان وانحداره نحو الخطية.
فقد كان لدى الوثنيين، الناموس الطبيعى الذي يمكّنهم من معرفة الله، وكان لديهم أيضًا تلك الهبة الممنوحة من الله للجميع، أى العقل، والذي به يستطيع الإنسان إدراك الحقائق، المرئية منها وغير المرئية. هؤلاء عرفوا الله، لكنها كانت معرفة نظرية وعقيمة. فالعقل والضمير أُعطيا للإنسان كأداة لمعرفة الله، والطبيعة أيضًا تُمثل مرآه يستطيع الإنسان أن يرى فيها الحضور الإلهى، ويمكنه من خلالها أن يختبر قوة هذا الحضور. ومع ذلك ” لما عرفوا الله لم يمجدوه أو يشكروه كإله بل حمقوا في أفكارهم واظلم قلبهم الغبى. وبينما يزعمون أنهم حكماء صاروا جهلاء” (رو21:1).
لقد كان الرسول بولس يعرف محاولات الفلاسفة الحثيثة للبحث عن ماهية الله والوصول إلى معرفته. لكن هذه المعرفة النظرية لم تستطع أن تُغيّر شيئًا من طبيعة الإنسان. فلا ينبغى أن نعرف الله فقط، بل علينا أن نعترف به أيضًا، فمعرفة الله لا تنحصر في مجرد العلم ببعض الأشياء عنه، بل يجب أن نؤمن به وأن نقدم له الإكرام والسجود والمحبة. لأن معرفة الله هى معرفة اختبارية، فيها يتذوق الإنسان جمال الحضور الإلهى داخله. لكن العالم الوثنى اتبع طرقًا خدّاعة وسلوكًا آثمًا، وأقاموا من عناصر الطبيعة، من نجوم وحيوانات وتماثيل، آلهة لهم. هذا هو السبب الذي من أجله، رفع الله عنهم نعمته المُرشدة، وأولئك هم الذين ” لم يستحسنوا أن يبقوا الله في معرفتهم لذلك أسلمهم الله إلى ذهن مرفوض ليفعلوا ما لا يليق” (رو28:1).
وقد أدان القديس بولس بكل قوة هذا الفكر وهذا السلوك الآثم. ويستطيع المرء أن يتفهم حجم هذه الإدانة، إذا ما نظر إلى الظلام الذي ساد الفكر الإنسانى في تلك الفترة. حيث انتشرت عبادة إلهة العالم السفلى ذو المائة ثدى في أسيا الصغرى ، وتماثيل البعل ذو الأعضاء التناسلية في سوريا، والمعابد المصرية بحيواناتها المخيفة، وأسرار معابد ايلفسينا[1] بممارساتها الشاذة، وتأليه الرموز والآثار الخاصة بالمذابح المقدسة للإله أبيوس[2]. هكذا صارت حكمة العالم حماقة، لأنهم ” أبدلوا مجد الله الذي لا يفنى بشبه صورة الإنسان الذي يفنى والطيور والدواب والزحافات” (رو23:1). كل هذا قد عرفه الرسول بولس، وكان أمام عينيه كل يوم، إذ أنه كان يكرز في كل مكان، مُبشّرًا بالإله الحى. ولأن العبادة الوثنية هى ـ في الأصل ـ نتاج الخطية، فقد كانت تلد الخطية باستمرار، بل إنها قادت الناس خطوة خطوة نحو ظلام العقل، ونحو إضعاف الحس الأخلاقى لديهم. وقد اتضح هذا من خلال سلوكهم الجنسى المنحرف والشاذ سواء بين النساء أم بين الرجال ” لأن إناثهم استبدلن الاستعمال الطبيعى بالذي على خلاف الطبيعة وكذلك الذكور … اشتعلوا بشهوتهم بعضهم لبعض فاعلين الفحشاء ذكورًا بذكور ونائلين في أنفسهم جزاء ضلالهم المحق ” (رو26:1ـ27).
يرى القديس بولس أن هناك ثلاثة خطوط عامة شكلّت وأثرت في تلك العبادات الوثنية كالكذب والانحدار الاجتماعى وعدم الثبات الداخلى وغياب المحبة. وبالتالى فإنه كان يعرف أن عبارات مثل ” لطف الله ـ أو محبة الله للبشر” ستكون جديدة وغريبة على الأسماع.
أما بالنسبة لليهود، فقد وجّه لهم الرسول بولس، إتهامًا آخرًا لأنه بالإضافة إلى العقل الذي منحه الله للجميع، كان لديهم أشياء أخرى كان من الممكن أن تقودهم إلى معرفة الله معرفة حقيقية، وهى:
1 ـ الإعلان الإلهى. 2 ـ الناموس.
3 ـ الأنبياء. 4 ـ الكتب المقدسة.
5 ـ الوعود المسيانية.
إلاّ أنهم شعروا بأن كل هذا يعطيهم الحق في التفاخر، باعتبار أن كل هذه الامتيازات، هى خاصة بجنس اليهود دون غيرهم من باقى الأمم. لكن الرسول بولس لم يعترف لهم بأى امتياز فيما يختص بموضوع الخلاص لذلك يقول ” فأين الافتخار قد انتفى… إذًا نحسب أن الإنسان يتبرر بالإيمان بدون أعمال الناموس. أم الله لليهود فقط. أليس للأمم أيضًا. بلى للأمم أيضًا” (رو27:3ـ29).
لقد لجأ اليهود إلى وصايا الناموس، ظانين أن فيها خلاصهم. وتمسكوا بممارسات شكلية بلا محتوى روحى، لذلك سقطوا في هوة البر الذاتى، ولم يخضعوا للبر الإلهى: ” لأنهم إذ كانوا يجهلون بر الله ويطلبون أن يثبتوا بر أنفسهم لم يخضعوا لبر الله” (رو3:10)، ولم يفهموا أن البر هو بالإيمان فقط.
قد يستطيع الإنسان أن يربح كل شئ جميل وعظيم في هذا العالم بمحاولاته الفردية سواء كان ذلك في العلوم أو الفنون أو في المناصب الاجتماعية أو في الثقافات المتنوعة، ويستطيع أن يفتخر بهذه الإنجازات التي يحققها، لكن في الأمور الخاصة بملكوت الله، لا يستطيع الإنسان أن يحقق أية إنجازات بمعزل عن عطية الله. فالعلاقة الحيّة بالله، بأن تكون ابنًا لله، يمكن أن تحصل عليها فقط كمنحة محبة من الله. لأن الخلاص ونعمة الله، أُعطيا للإنسان دون أن يقدم من جانبه أى شئ ” الله بيّن محبته لنا لأنه ونحن بعد خطاة مات المسيح من أجلنا” (رو8:5). في شخص المسيح أنقضى كل زهو وكل افتخار من الإنسان على أخيه الإنسان. لأن كل شئ قد صار جديدًا في شخص المسيح. والإيمان بهذه الحقيقة هو الذي يبرر الإنسان ويحرره ويقوده نحو هذه الحياة الجديدة. لكن هذا الإيمان ليس ثمرة نتاج عقلى، بل هو عطية الروح القدس.
هذا التعليم عن التبرير بالإيمان، الذي يوجهه الرسول بولس إلى اليهود، يعتمد فيه على التاريخ المملوء بنماذج حية للإيمان، فقد أشار إلى إبراهيم ليؤكد من خلال إيمان إبراهيم على أهمية هذا التعليم: ” فآمن إبراهيم بالله فحسب له برًا” (رو3:4)، ” وأخذ علامة الختان ختمًا لبر الإيمان الذي كان في الغرلة ليكون أبًا لجميع الذين يؤمنون وهم في الغرلة كى يُحسب لهم أيضًا البر وأبًا للختان للذين ليسوا من الختان فقط. بل أيضًا يسلكون في خطوات إيمان أبينا إبراهيم الذي كان وهو في الغرلة. فإنه ليس بالناموس كان الوعد لإبراهيم أو نسله أن يكون وارثًا للعالم بل ببر الإيمان” (رو11:4ـ13).
ثم تحدث إلى الأمم عن موت المسيح وقيامته وعن فيض النعمة وعطية البر التي بالمسيح، وعن الخبرة المسيحية الباطنية، وعن شهادة الروح القدس.
إذًا التركيز عنده هو على الإيمان بشخص المسيح، والإنسان ينال هذا البر بإيمانه بالمسيح فقط، وليس بأعمال الناموس كى لا يفتخر أحد. ويُشير الرسول بولس إلى أن عمل المسيح يشمل كل الخليقة المرئية وغير المرئية، وهو بالأساس عمل تصالحى ” لأنه إن كنا ونحن أعداء قد صولحنا مع الله بموت ابنه” (رو10:5). ويقول في رسالته إلى أهل كولوسى ” وأن يُصالح به الكل لنفسه عاملاً الصلح بدم صليبه بواسطته سواء كان ما على الأرض أم ما في السموات” (كو20:1).
إن رؤية الرسول بولس بشأن سقوط الإنسان تتسع لتشمل الكون كله، فقد حدث شرخ في الكون كله، ولذلك يكتب أن ” كل الخليقة تئن وتتمخض معًا إلى الآن” وأنها ” ستعتق من عبودية الفساد إلى حرية مجد أولاد الله” (رو21:8). إذًا فالإنسان والطبيعة معًا يتوجهان إلى الله بالصلاة. لذلك فهو ينظر للإنسان في خضوعه لعمل روح الله داخله، ليراه رافعًا يديه متضرعًا إلى الله ومترجيًا إياه أن يحرره من عبودية الفساد والموت. وهذا لن يتأتى إلاّ بالإيمان بصليب المسيح وموته وقيامته وبعمل الروح القدس المحيي، هذا هو الذي يعطى للإنسان الدخول إلى الحياة الجديدة في المسيح ولا يستطيع الناموس أن يصنع ذلك لأننا قد “ مات الذي كنا ممسكين فيه حتى نعبد بجدة الروح لا بعتق الحرف ” (رو6:7).
ولهذا فهو يفرق بين حالة الإنسان تحت الناموس، وحالته تحت النعمة. ويشير إلى حالة التشتت الداخلى التي تصيب الإنسان في صراعه ضد الخطية، وصولاً إلى التمتع بالخلاص الممنوح مجانًا للجميع ” ويحى أنا الإنسان الشقى مَن ينقذنى من جسد هذا الموت ” (رو24:7). هذا تعبير عن خبرة داخلية، والرسول بولس هنا يضع نفسه كنموذج ينوب عن شعبه الذي يعيش تحت الناموس، ويُعبر عن الفترة التي عاشها قبل أن يعرف المسيح لكنه يجد الحل في ساحة الحرية الحقيقية، تلك التي يمنحها روح الله للإنسان لأن ” ناموس روح الحياة للمسيح يسوع قد أعتقنى من ناموس الخطية والموت” (رو2:8). وقد أراد الرسول بولس بهذه الرسالة أن يؤكد على أن هناك رباطًا قويًا يجمع الكل معًا سواء كانوا من اليهود أو من الأمم، وهو رباط الروح القدس، وهو بهذا يدفع عن نفسه تهمة التعاطف مع المسيحيين من الأمم، وأنه بدافع الرغبة في هذا التعاطف، أراد أن يحرم اليهود من بركة الوعود الإلهية.
إن ما يحزن نفس الرسول بولس هو أن هؤلاء اليهود والذين هم إسرائيليون ولهم التبنى والمجد والعهود والاشتراع والعبادة والمواعيد ومنهم المسيح بالجسد (رو4:9ـ7) يفقدون خلاصهم الآن ” لأنه إن كان الذين من الناموس هم ورثة فقد تعطل الإيمان وبطل الوعد” (رو14:4). ولا يمكن أن يُساء استخدام اسم الله من أجل أهداف قومية ضيقة، ولا يستطيع أحد أن يحد نهر محبة الله الذي يتدفق بقوة، في قناة قومية ضيقة. الوعود الإلهية لا تسرى على إسرائيل بحسب الجسد (kata s£rka isra»l) بل تسرى على إسرائيل الله (ton isra»l tou qeoÚ). وقد استخدم الله عدم إيمانهم، لكى يُخلّص الأمم، لكن بعد ذلك سيخلص جميع إسرائيل ” فإنى لست أريد أيها الاخوة أن تجهلوا هذا السر. إن القساوة قد جعلت جزئيًا لإسرائيل إلى أن يدخل ملؤ الأمم وهكذا سيخلص جميع إسرائيل” (رو25:11ـ26). وهذا الخلاص سيتم بالطبع على المستوى الفردى وليس على مستوى الأمة كلها. وقد تأثر الرسول بولس بهذا القصد الإلهى الفائق الوصف، والذي كان في فكر الله قبل الدهور، فيقول: ” يا لعمق غنى الله وحكمته وعلمه” (رو33:11).
ثم يختم الجزء العقيدى لهذه الرسالة بدعاء قائلاً: ” لأن منه وبه وله كل الأشياء” (رو36:11). وهذا الدعاء كان الرسول بولس يستخدمه في رسائله باستمرار كما جاء في رسالته إلى أهل كورنثوس ” لكن لنا إله واحد الآب الذي فيه جميع الأشياء ونحن له” (1كو6:5)، وفي رسالته إلى أهل كولوسى ” الكل به وله قد خلق” (16:1)، وإلى أهل أفسس ” إله وأب واحد للكل الذي على الكل وبالكل وفي كلكم” (6:4)، وإلى العبرانييـن يقـول: ” لأنه لاق بذاك الذي من أجله الكل وبه الكل وهو آت بأبناء كثيرين إلى المجد” (10:2).
ثم يوجه لهم بعض النصائح الأخلاقية، ويبيّن لهم بأن النتائج المرجوة من هذا السلوك المستقيم، تنبع من الروح الجديدة للإيمان. ويفسر عبارة القديس يوحنا ” الساجدون الحقيقيون يسجدون لله بالروح والحق ” (يو 23:4)، عندما يشير إلى العبادة العقلية ” فأطلب إليكم أيها الاخوة برأفة الله أن تقدموا أجسادكم ذبيحة حية مقدسة مرضية عند الله عبادتكم العقلية” (رو1:12). هذا المعنى الفريد الخاص بالعبادة، نجده يتكرر مرة واحدة في الرسالة الأولى للقديس بطرس “… لتقديم ذبائح روحية مقبولة عند الله بيسوع المسيح” (1بط5:2). السلوك المستقيم إذًا لا يعتمد على مُسلمات موجودة، بل هو سلوك ينبع من الروح الجديدة للمحبة ” المحبة فلتكن بلا رياء… وادين بعضكم بعض بالمحبة الأخوية مقدمين بعضكم بعض في الكرامة” (رو9:12ـ10).
لقد بدأ عصر جديد، تحدّد فيه موقف المسيحى من الدولة، حيث كان الفكر اليهودى الرؤيوى، يعتبر أن السلطة الزمنية، محصورة في الشر. ولذلك أخذوا موقف سلبى تجاه الدولة. أما الرسول بولس فقد كان أول مَن أظهر موقف إيجابى تجاه الدولة الرومانية، على الرغم من موقفه الواضح من أمور هذا العالم الحاضر. سلطة الدولة هى سلطة خادمة لله، ودور الحاكم هو أن يُحد من تفشى الفساد وانتشار الشر ” لأنه خادم الله للصلاح. ولكن إن فعلت الشر فخف. لأنه لا يحمل السيف عبثًا إذ هو خادم الله منتقم للغضب من الذي يفعل الشر” (رو4:13). وعندما كتب الرسول بولس هذه العبارات الودية، كان العالم الرومانى في عامه الرابع تحت حكم نيرون[3]. وعندما تغيّر موقف الدولة الرومانية تجاه المسيحيين وبدأت فترة اضطهادات، لم يغير الرسول بولس موقفه تجاه الدولة، لأنه يقول ” لتخضع كل نفس للسلاطين الفائقة. ليس سلطان إلاّ من الله والسلاطين الكائنة هى مرتبة من الله“. وفي رسالته الأولى إلى تيموثاوس يقول: ” فاطلب أول كل شئ أن تقام طلبات وصلوات وابتهالات وتشكرات لأجل جميع الناس. لأجل الملوك وجميع الذين هم في منصب لكى نقضى حياة مطمئنة هادئة في كل تقوى ووقار” (1تى1:2).
وفي رسالته إلى تيطس يقول: ” ذكّرهم أن يخضعوا للرياسات والسلاطين ويطيعوا ويكونوا مستعدين لكل عمل صالح ” (تى1:3).
وهو هنا يعكس تعاليم المسيح له المجد الذي قال ” اعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله” هكذا قال الرسول بولس ” اعطوا الجميع حقوقهم. الجزية لمَن له الجزية، الجباية لمَن له الجباية والخوف لمَن له الخوف والإكرام لمَن له الإكرام” (رو7:13). لقد تأسست مملكة جديدة، مغايرة لمالك هذا العالم، هى مملكة الروح فملكوت الله هو ” بر وسلام وفرح في الروح القدس ” (رو17:14).
ثم يختم رسالته بدعاء وتمجيد قائلاً: ” وللقادر أن يثبتكم حسب إنجيلى والكرازة بيسوع المسيح حسب اعلان السر الذي كان مكتومًا في الأزمنة الأزلية، ولكن أظهر الآن واعلم به جميع الأمم بالكتب النبوية حسب أمر الله الأزلى لإطاعة الإيمان. لله الحكيم وحده بيسوع المسيح له المجد إلى الأبد آمين” (25:16ـ27).
وبنظرة سريعة على الإصحاحين الأخيرين نجد أن الرسول بولس قد استخدم أربع عبارات كختام لرسالته، هى كالآتى:
1 ـ ” إله السلام معكم أجمعين آمين” (33:15).
2 ـ ” نعمة ربنا يسوع المسيح معكم آمين” (20:16).
3 ـ ” نعمة ربنا يسوع المسيح مع جميعكم آمين” (24:16).
4 ـ ” لله الحكيم وحده بيسوع المسيح له المجد إلى الأبد أمين” (27:16).
السلام الرسولى:
أرسل الرسول بولس سلامه إلى 26 شخص في نهاية الرسالة، سواء بذكر أسمائهم أو بدون أن يذكر، وهؤلاء الذين لم يذكر أسمائهم لهم علاقة مباشرة بهذه الأسماء المشار إليها. مثل (وعلى أمه أمى) (وعلى أخته) (وعلى جميع القديسين الذين معهم). وقد تساءل البعض من الباحثين في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، من أين للرسول بولس بكل هذه العلاقات؟ وهل حقًا كان يعرف كل هؤلاء الأشخاص الذين وردت أسمائهم بالإصحاح السادس عشر من الرسالة؟ خاصةً وهو يكتب لكنيسة لم يقم بزيارتها بعد[4]. والواضح أن التعبيرات المكتوبة تُشير إلى متانة العلاقة التي تربط بينه وبينهم، مثل ” سلموا على أمبلياس حبيبى في الرب” (28:16)، ” سلموا على هيروديون نسيبى” (11:16)، ” وعلى أمه أمى” (13:16). أيضًا فإن أكيلا وبرسكيلا “اللذين وضعا عنقيهما من أجل حياتى” (13:16)، لم يكونا هناك في ذلك الوقت، كما نعرف من خلال مواضع أخرى في العهد الجديد. يُشير سفر الأعمال إلى أن الرسول بولس “لبث أيضًا أيامًا كثيرة ثم ودع الاخوة وسافر في البحر إلى سورية ومعه بريسكلا وأكيلا. فأقبل إلى أفسس وتركهما هناك” (أع18:18ـ28).
في رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس يكتب “تسلم عليكم كنائس أسيا. يُسلم عليكم في الرب كثيرًا أكيلا وبريسكلا مع الكنيسة التي في بيتهما” (1كو19:16).
ويكتب إلى تيموثاوس ” سلم على فرسكا وأكيلا وبيت أنيسيفورس” (2تى19:4). كما أن الشخصين اللذين يوجه لهما الرسول بولس سلامه: ” اندرونيكوس وبونياس نسيبى المأسورين معى” (7:16)، من المرجح أن لهم علاقة بالأسر في أفسس. كما أن ما جاء بالأعداد من (17ـ20)، يشير إلى أنه يتوجه إلى كنيسة تربطه بها علاقة ود ومعروفة جدًا لديه: ” الذين يصنعون الشقاقات والعثرات خلافًا للتعليم الذي تعلمتموه” أى أن هناك تعليم قد تلقوه قبل كتابة هذه الرسالة.
الإصحاح السادس عشر:
هناك عدة آراء حول الإصحاح السادس عشر:
1 ـ أن الإصحاح السادس عشر هو رسالة خاصة وجهها الرسول بولس إلى كنيسة أفسس، وأن سجل الأسماء الوارد بهذا الإصحاح ينتمى لكنيسة أفسس حيث توجد علاقة محبة وود شديد يربط بينهم وبين الرسول بولس.
2 ـ الرأى الآخر يقول إن الشماسة فيبى حاملة هذه الرسالة وهى في طريقها إلى روما، عبرت بأفسس وتركت نسخة من الرسالة إلى رومية تشتمل على الإصحاح السادس عشر، حيث السلام الرسولى، ثم نسخة أخرى حملتها إلى روما من إصحاح 1ـ15. وبحسب هذا الرأى فإن الشكل الأوّلى للرسالة كان مكونًا من نسختين نسخة لكنيسة أفسس من 1ـ16 وأخرى لكنيسة رومية من 1ـ15.
3 ـ الرأى الثالث يقول إن هذه الرسالة هى رسالة دورية وكانت تُرسل إلى كنائس رومية، أفسس، تسالونيكى، وكنائس أخرى. لكنها كانت تحمل فقط عنوان الرسالة إلى رومية، ثم أُضيف إليه الختام الخاص بالنسخ الأخرى.
4 ـ الرأى الأخير يقول إن الرسالة بالكامل من الإصحاح 1ـ16 موجهة إلى كنيسة رومية، وأن كل الأشخاص الوارد أسمائهم بالإصحاح السادس عشر كانوا موجودين في ذلك الوقت في روما، وقد ذكرهم الرسول بالاسم لكى يؤكد على قوة العلاقة التي كانت تربطه بهم، وهم أعضاء الكنيسة التي كان ينوى زيارتها بعد وقت قليل من وصول الرسالة إليهم[5].
تلك هى الآراء الخاصة بالإصحاح السادس عشر من هذه الرسالة وقد أوردناها هنا، لكى يطّلع القارئ على الآراء المختلفة التي قيلت بشأن السجل الخاص بالأسماء التي وردت بهذا الإصحاح، وهل حقًا كل هؤلاء الأشخاص كانوا في روما وقت وصول الرسالة إلى هناك، أم أنهم كانوا في أفسس كما يرى البعض.
وأخيرًا نستطيع القول بأنه لا توجد رسالة أخرى قد لعبت دورًا هامًا في تاريخ المسيحية في الغرب مثلما لعبت الرسالة إلى رومية، لأن فيها قد ظهر بوضوح موقف الرسول بولس اللاهوتى الخاص بموضوع البر الحقيقى، وأن هذا البر يناله الإنسان عن طريق الإيمان بالمسيح فقط وليس بأعمال الناموس حسب اعتقاد اليهود في ذلك الوقت أى أن الإيمان بالمسيح قد أوجد حالة سلام دائم مع الله من خلال التبرير الذي نلناه بالشركة في موت المسيح وقيامته. لقد نلنا الغفران وتحررنا من عبودية الفساد والموت، والآن صار لنا الدخول إلى الحياة الجديدة، والتمتع بكل عطايا الله في المسيح.
IIIـ تعليق على مقدمة القديس يوحنا ذهبى الفم لرسالة رومية
ليس من المعتاد في كتابات الآباء التفسيرية وجود مقدمة للنص الذي يفسرونه، إلاّ أن القديس يوحنا ذهبى الفم قد بدأ تفسيره لرسالة رومية بمقدمة وافية واضعًا دراسة متميزة لهذا النص الكتابى.
ومن الجدير بالملاحظة أن ما فعله القديس يوحنا ذهبى الفم في القرن الرابع الميلادى، قد صار منهجًا لعلماء الكتاب المقدس فيما بعد. فلقد بدأ القديس يوحنا ذهبى الفم مقدمته هذه بوضع أسس ارتكز عليها منهجهه التفسيرى ورؤيته للنص. ومن هذه الأسس:
أ ـ تحديد زمن كتابة الرسالة:
لقد حاول القديس يوحنا ذهبى الفم تحديد زمن كتابة الرسالة مستعينًا ليس فقط بما جاء في هذه الرسالة بل أيضًا ما ورد في نصوص الرسائل الأخرى للقديس بولس. وقد أوضح هو نفسه الأهمية الشديدة لتحديد زمن كتابة الرسالة وعلاقة ذلك بتفسير النص إذ يقول: [ ونرجو ألا يعتبر أحدكم أن هذا العرض السابق هو أمر غير مهم، أو هو نوع من الإسترسال الذي يتجاوز موضوع البحث في هذه الرسالة، لأن زمن كتابة الرسالة يساعدنا كثيرًا في موضوعنا هذا] [6].
فهو يرى أن زمن كتابة الرسائل يؤثر في الطريقة التي يكتب بها الرسول بولس عن موضوع معين، مثلما حدث مثلاً عندما كتب إلى أهل كولوسى وأهل رومية عن موضوعات واحدة، ومع ذلك كتب لكل منهم بطريقة مختلفة. لهذا يلاحظ القديس يوحنا ذهبى الفم أن هناك نبرة ود في كلام القديس بولس عندما يكتب لأهل رومية. هذا الود يتحول إلى شدة عندما يكتب إلى أهل كولوسى عن نفس الموضوعات ويرجع القديس يوحنا ذهبى الفم هذا الإختلاف إلى زمن كتابة الرسالة، إذ يقول: [وأنا لا أجد سببًا آخر للإختلاف إلاّ زمن كتابة هذه الرسائل ][7].
ب ـ الدافع لكتابة الرسالة:
نقطة أخرى حاول القديس يوحنا ذهبى الفم أن يجد لها إجابة، وكانت عاملاً مساعدًا له في تفسيره، ليس فقط لهذه الرسالة، بل ولرسائل الرسول بولس الأخرى، هى محاولة إكتشافه الدافع لكتابة هذه الرسائل. ولذلك نجده يتساءل: ما هو الدافع لكتابة هذه الرسائل؟[8].
ج ـ فهم شخصية الكاتب:
بجانب العلاقة الروحية الحميمة التي كانت تجمع القديس يوحنا ذهبى الفم بالرسول بولس كما سبق وأشرنا، إلاّ أنه حاول أيضًا في ختام هذه المقدمة أن يُلخص لنا ملامح وأبعاد هذه الشخصية والخدمة الكبيرة التي قامت بها. لقد كان ينظر إلى الرسول بولس كمثال يُحتذى به في الخدمة وفي محبته للجميع بغض النظر عن الحدود والأوطان ودون الإهتمام بالأتعاب الجسدية أو الأخطار أو الآلام التي من الممكن أن يتعرض لها المرء. ولهذا فقد وصفه قائلاً: [ لقد احتضن القديس بولس الرسول كل المسكونة وحمل الجميع داخله. واعتبر أن الإتحاد بالله هو أهم وأعظم بكثير من أى قرابة أخرى. لقد أظهر أحشاء رأفه أكثر من أى أب جسدى … ومن أجل محبته للجميع، صار مثل طائر يتنقل من مكان لآخر دون أن يبقى في مكان واحد ][9].
لقد أراد القديس يوحنا ذهبى الفم أن يسلّط الضوء على رغبة الرسول بولس الشديدة في أن يتصور المسيح في الجميع، وأنه قد أخذ على عاتقه أن يُتمم هذا الهدف في كل مكان ذهب إليه. وهو كأب للجميع كان يُتابع أحوال المؤمنين ونموهم الروحى، وذلك عن طريق رسائله، وتصحيح ما قد يستجد من أوضاع قد يُثار حولها سوء فهم معين في أمور تخص الإيمان. لقد كان إحساسه بالمسئولية نحو مخدوميه ومحبته الكبيرة لهم، أمرًا لا يمكن إهماله. وقد ركز القديس يوحنا ذهبى الفم على هذا البُعد ليكشف عن ملامح شخصية هذا الكارز العظيم.
في هذا الكتاب ننشر العظات الست الأولى والجزء الأكبر من العظة السابعة. وهذه العظات تحوى المقدمة وتفسير الاصحاحين الأول والثانى كما سبق وأشرنا. وسنوالى تباعًا بنعمة الله ترجمة العظات التالية.
نص هذه العظات موجود في باترولوجيا مينى Migne PG 60,391-682. وتمت الترجمة عن النص اليونانى المنشور في مجموعة آباء الكنيسة اليونانية (EPE) سلسلة رقم71، 75 الصادرة في تسالونيكى 1973م المجلد رقم16، ص304ـ647، والمجلد رقم17، ص10ـ735 مع الاحتفاظ بأرقام الفقرات. وقد قام د. جوزيف موريس فلتس بمراجعة الترجمة.
أرجو أن يستخدم المسيح إلهنا هذا الكتاب لبنيان شعبه بصلوات القديس بولس الرسول والقديس يوحنا ذهبى الفم وجميع الآباء القديسين وصلوات قداسة البابا شنودة الثالث والمجد والتسبيح والسجود للآب والابن والروح القدس الآن وإلى الأبد آمين.
[1] ايلفسينا: ‘eleusina هى من أكبر مراكز العبادات اليونانية القديمة التي اتخذت الشكل الرسمى، وكانت تمارس فيها تلك العبادات منذ القرن الـ 15 قبل المسيح واستمرت حتى سنة 393م، وكانت هذه العبادات تؤدى بشكل منتظم. حتى جاء الإمبراطور ثيؤدوسيوس الكبير وأبطل العبادة الوثنية.
انظرqrhskseutik» kai hqik» egkuklopa…deia, tÒmoj 5, Aq»na 1964,sel. 575-577.
[2] تأسست عبادة هذا الإله في منطقة بوليبونيسوس في جنوب اليونان. وكان التمثال الذي يُجسد الإله أبيوس عند اليونانيين القدماء يأخذ شكل ذئب متوحش، وعندما أسس البطالمة مملكتهم في مصر، حمل بطليموس الأول هذه العبادة إلى أرض مصر، حيث أسس معبد سيرابيس (السيرابيوم) ودعى هذا الإله باسم زفس ـ سيرابيس (ZeÚj – S£rapij). وهذه العبادة تقابل عبادة الثور أبيس عند المصريين القدماء. هذا الثور المقدس الذي كان رمز الاخصاب كان يُعبد في منطقة منف، وكان إله هذه المدينة هو بتاح. وسرعان ما اقترن أبيس بذلك الإله وصار رمزه (روحه المباركة) ثم استعار ذلك الثور قرص الشمس من رع وحمله بين قرنيه. انظر:
qrhskseutik» kai hqik» egkuklopa…deia, tÒmoj 2, Aq»na 1964,sel. 1055-1058.
[3] J.Holzner “ paÚloj “ met¦frash T. ierwnÚmou ArciepiskÒpou Aqhnën kai p£shj ell£doj, Aq»na 1996, sel.359.
[4] المرجع السابق ص 359ـ360.
[5] Iw£nnhj karabidÕpouloj. ” Eisagwg» Sthn kain» Diaq»kh “. qes/n…kh 1991 sel.287-289.
[6] انظر مقدمة القديس يوحنا ذهبى الفم، ص48.
[7] المرجع نفسه، ص48.
[8] المرجع نفسه، ص49.
[9] المرجع نفسه، ص49.