مقدمة تفسير رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية ج1 – ق. يوحنا ذهبى الفم – د. سعيد حكيم يعقوب
مقدمة
سنتناول في هذه المقدمة شخصية القديس يوحنا ذهبى الفم وحياته، ثم نستعرض ـ بصفة عامة ـ كتاباته وأخيرًا سنتحدث عن علاقته بالقديس بولس وتفسيره لرسائله وخصوصًا رسالة رومية التي سنكتب بالتفصيل عن كنيستها ومَن أسسها والهدف من كتابة الرسالة لها والتعاليم اللاهوتية لهذه الرسالة… الخ. وأخيرًا سنعلّق على المقدمة التي كتبها القديس يوحنا ذهبى الفم في بداية شرحه لهذه الرسالة.
I ـ القديس يوحنا ذهبى الفم
وُلد القديس يوحنا ذهبى الفم في مدينة أنطاكية سنة 354م، في عصر استشرى فيه الفساد وانتشرت فيه الآثام والمعاصى، حيث كانت تشيع فيه روح البذخ والتنعم والافتخار بالثروة، وامتلاك القصور والعبيد والإماء، والانهماك في الشهوات والملذات. وكان القديس يوحنا ذهبى الفم يراقب كل هذا عن كثب، ورغم أن المناخ كان يتسم بالفساد، إلاّ أنه سلك بالتقوى التي نشأ عليها، وكرّس حياته لنشر كلمة الإيمان، وتحقيق حياة الفضيلة، والسعى في خلاص النفوس بلا فتور. وفي كل هذا لم يكن يخشى أحدًا مهما كانت مكانته، بل إنه هاجم أباطرة بسبب سلوكهم غير المستقيم، وأيضًا لم يكن يتردد لحظة في مقاومة الظلم مهما كلفه هذا من متاعب ولم يثنيه الاضطهاد عن التمسك بمبادئه والتشبث بالحق.
كان والده قائدًا للجيش، أما أمه وتدعى “أنثوسا” فقد ترملت في سن مبكر جدًا، وقد رفضت هذه الأرملة الشابة التقية الزواج مرة أخرى وكرّست كل حياتها لتربية يوحنا تربية روحية مستقيمة. ولقد كان لهذه النشأة الروحية أكبر الأثر في حياته فيما بعد. فقد مارس حياة النسك فعليًا حتى أثناء تواجده مع أمه. لكن بعد انتقالها، ترك منزله وتوجه إلى البرية ليقضى 4 سنوات في النسك إلى جوار ناسك سورى، ثم قضى سنتين بمفرده في احدى المغائر في جبال أنطاكية. لكن تدهور حالته الصحية أجبره على العودة إلى المدينة (أنطاكية). وقد تعمق في العلوم اللاهوتية أثناء فترة تنسكه تعمقًا كبيرًا، ظهرت نتائجه في تعاليمه اللاهوتية حتى أنه لُقب بذهبى الفم[1].
في عام 381م رسم شماسًا، وفي عام 386م رسم كاهنًا، ومن هذه اللحظة بدأ خدمته الحقيقية ونشاطه المكثف، وصارت له شهرة واسعة، حيث ذاع صيته من خلال عظاته المتميزة وقدرته على الخطابة. ولم تقتصر خدمته فقط على عمله الوعظى والتبشيرى، لكنه انشغل أيضًا وبشكل أساسى بأعمال الرحمة في خدمة الفقراء والمعوزين، ولهذا فقد كرّس جزءً كبيرًا من حياته في خدمة كل مَن له احتياج، الأمر الذي جعله محبوبًا جدًا في كل أنطاكية. وقد عاش حياة متقشفة، وكان ملبسه خشنًا ومأكله بسيطًا وكان يدوام على افتقاد الفقراء في بيوتهم ويزور المرضى والمسجونين ليخفف من آلامهم، وبهذا السلوك قد أكد على أن الحياة التعبدية لا يمكن ولا ينبغى أيضًا أن تكون في عزلة عن الحياة العملية، وبمعنى آخر لم تكن التقوى عنده بديلاً عن العمل.
في عام 397م ـ وبأمر من الإمبراطور أركاديوس ـ ذهب إلى القسطنطينية، لتقلد الكرسى البطريركى، فقد أجمع القسوس وكل الشعب على تزكيته لهذا المركز الرفيع على غير رغبته. وقام برسامته البابا ثافيلوس الأسكندرى سنة 398م. ومنذ ذلك الحين عاد النظام إلى بطريركية القسطنطينية، فاعتنى بالحياة الروحية للمؤمنين وكثف من عمله التبشيرى ونجح في ضم كثيرين من الهراطقة والوثنيين إلى الطريق الأرثوذكسى القويم. وبسبب استقامة رأيه وجرأته في الحق، تصادم مع كثيرين منهم الإمبراطورة أفذوكسيا والوزير الأول في الإمبراطورية أفتروبيوس. وقد وُجهت له اتهامات عدديدة وأُجبر على النفى ولكن بسبب زلزال أصاب المدينة (القسطنطينية) ـ قال البعض إنه حدث بسبب نفيه ـ أمرت الإمبراطورة بعودته من المنفى. لكن بعد شهرين من عودته اختلف مرة أخرى مع أفذوكسيا، وأُقتيد إلى المنفى، وكانت أول محطة له هى مدينة كوكوسوس الأرمنية، وبعد وقت قليل صدر أمر آخر بإرساله إلى مدينة بيتوندا في الضفة الشرقية للبحر الأسود. لكنه لم يصل إلى هناك لأن الطريق كان طويلاً وشاقًا. وبسبب المتاعب الكثيرة والمعاملة السيئة التي لاقاها، تنيح في الطريق سنة 407م[2].
وتحتفل الكنيسة بتذكار نياحته في 17 هاتور 27 نوفمبر.
كتابات القديس يوحنا ذهبى الفم:
القديس يوحنا هو من أكثر الآباء إنتاجًا، حيث تقع مؤلفاته في 17 مجلدًا في مجموعة الآباء باللغة اليونانية P.G. 47-64. وقد تنوعت كتاباته بين:
عظات تفسيرية:
+ على سفر التكوين: 8 عظات، تشكل تفسيرًا شاملاً للسفر.
+ شرح المزامير: 58 مزمورًا. + سفر إشعياء (6 عظات).
+ إنجيل متى (90 عظة)، تشكل تفسيرًا كاملاً.
+ إنجيل لوقا (7 عظات). + إنجيل يوحنا (88 عظة).
+ أعمال الرسل (63 عظة).
+ عظاته على رسائل القديس بولس وهى تشكل نصف عظاته تقريبًا وتشغل الرسالة إلى رومية النصيب الأكبر من هذه العظات.
كتابات عقائدية:
+ ضد الأنوميين 12 عظة خُصصت للحديث عن الطبيعة الإلهية غير المدركة (‘Akat¦lhpto tÁj qe…aj fÝshj)
+ 12 عظة ” للمعمدين الجدد”. + 8 عظات ” ضد اليهود”.
عظات في موضوعات متفرقة:
+ عن الرحمة. + عن المجد الباطل وكيفية تربية الأولاد.
+ ثم عظات عن الكهنوت (6 كتب عن سمو الكهنوت والمواهب والواجبات التي ينبغى توافرها فيمَن يتقدمون لنوال سر الكهنوت).
+ عن الحياة الرهبانية . + عن الزواج والبتولية
عظات في الأعياد والمواسم:
+ عن ميلاد المخلّص. + عن الظهور الإلهى. + عن عيد الخمسين.
+ عن صلب المخلّص. + عن القيامة. + عن الصعود.
+ ثم عظة عن خيانة يهوذا.
مديح للشهداء والأبرار القديسين:
مثل أيوب، المكابيين، الشهداء الأساقفة القديسين، القديس بولس.
رسائل:
+ كتب 236 رسالة ومعظمها أُرسلت من المنفى.
+ 17 رسالة إلى الشماسة أولمبيا والتي كانت تعاونه في خدمته.
لقد اهتم القديس يوحنا ذهبى الفم بدراسة رسائل القديس بولس دراسة مستفيضة وقام بتفسير كل رسائله. ووجد فيها الكثير من التعاليم السامية النافعة لحياة المؤمنين ونموهم الروحى. وكان لتفاسيره العميقة أكبر الأثر في إنارة أذهان المؤمنين بالكثير من الحقائق الإيمانية والروحية التي شكّلت طريقة سلوكهم في هذه الحياة، وتمتعهم بالخلاص الذي أتمه المسيح، وأيضًا بالإطلاع على أسرار ملكوت الله، وحياة الدهر الآتى، والمكانة العظيمة التي تنتظرهم في ملكوت الله، وغيرها من الأمور الروحية والإيمانية الهامة. وكان لهذه التفاسير أيضًا أثر كبير في توضيح وشرح بعض المواضع عسرة الفهم في هذه الرسائل. ولم يقتصر دور القديس يوحنا ذهبى الفم على مجرد توضيح معانى الرسائل، لكنه كان يتعرض أيضًا لموضوعات إيمانية وعملية من خلال شرحه لها.
لقد كان القديس يوحنا ذهبى الفم بالحقيقة شغوفًا بتفسير رسائل القديس بولس، حيث عكف على دراساتها دراسة جيدة جدًا، إذ أنها تحوى الكثير من التعاليم المفيدة والنافعة للجميع. وعلى الرغم من أنه قد درس الفلسفة عند أندراغاثيوس والخطابة عند لبيانيوس[3]، ونبغ فيهما إلاّ أن أسلوبه في التفسير كان يتميز بالبساطة والوضوح، وفي نفس الوقت يتسم بالرصانة والدقة. وقد تجنب ذهبى الفم استخدام المصطلحات الفلسفية المعقدة والعبارات اللاهوتية عسرة الفهم. كما أنه كان يميل إلى استخدام الأمثلة ليجعل معانى الجزء الذي يشرحه أكثر وضوحًا وأعمق فهمًا.
ومن المحتمل أن يكون قد بدأ تفسير هذه الرسائل بحسب ترتيبها من البداية حتى النهاية.
إعجاب القديس يوحنا ذهبى الفم بشخصية القديس بولس وشغفه لتفسير رسائله:
للقديس يوحنا ذهبى الفم عظات احتفالية تحوى موضوعات خاصة بحياة القديسين وأعمالهم وجهاداتهم بعضها يخص شخصيات في العهد القديم مثل (أيوب، والمكابيين)، وبعضها خاص بشهداء مثل (رومانوس، ويوليانوس، وبرلعام، وبلاجية، يوفيندينوس ومكسيميانوس، لوكيانوس، ذورسيدا، ودومنينا فرنيكى وبروسدوكى)، وبعضها خاص بأساقفة مثل (أغناطيوس، فافيلاس، فيلوغونيوس، آفستاسيوس، ملاتيوس).
ضمن هذه المجموعة من العظات، تنفرد وتتميز عظاته السبع الرائعة عن القديس بولس[4]. وقد عبّر القديس يوحنا ذهبى الفم في هذه العظات عن تقديره البالغ واعجابه الشديد بشخصية الرسول بولس. في العظة الأولى يعرض الفضائل الكثيرة التي كان يتمتع بها الرسول بولس. وفي العظة الثانية أكد على أن القديس بولس قد أظهر من خلال حياته وأعماله إلى أى مدى من السمو يمكن أن تصل الطبيعة الإنسانية. وفي العظة الثالثة يصف العقبات الكثيرة والمشاكل المتعددة التي واجهها الرسول بولس بشجاعة نادرة، وأيضًا المحبة التي أظهرها تجاه كل مخدوميه. وفي العظة الرابعة يتحدث عن العودة من دمشق، والعمى الروحى الذي أصاب العبرانيين. أما في العظتين الخامسة والسادسة فيتحدث عن النصرة على الشهوات وعلى الخوف من الموت. في العظة السابعة والأخيرة يُقدِّم الرسول بولس كارزًا بالمسيح المصلوب ومفتخرًا بعلامة الصليب في كل مكان ذهب إليه.
لقد كانت غيرة القديس يوحنا ذهبى الفم لتفسير رسائل الرسول بولس غيرة قوية جدًا، وهذا راجع إلى إعجابه الشديد بشخصية هذا الكارز العظيم. وفي الواقع لا نجد أحد قد درس كتابات القديس بولس وارتبط بشخصه كما فعل ذهبى الفم. حتى أنه في تفسيره لرسالة رومية يقول: ” كثيرًا ما اتخيله حاضرًا أمامى واعتقد أننى أراه يتكلم“[5] وقد كانت هناك بالفعل بعض أوجه الشبه بين القديس بولس والقديس يوحنا ذهبى الفم، فقد كان ذهبى الفم يحمل نفس كارزة كنفس القديس بولس، كما كانت لديه الغيرة عينها لخلاص النفوس مثل تلك التي كانت لمعلمه القديس بولس، كما كانت له نفس الجرأة في مواجهة المتسلطين، وله ذات الرحمة بالفقراء والمحتاجين. أيضًا كان كل منهما قد قضى عدة سنوات في العزلة والتوحد، القديس بولس في الصحراء (العربية)، والقديس يوحنا في البرية لمدة أربع سنوات، ثم متوحدًا لمدة سنتين[6].
قدم القديس يوحنا ذهبى الفم تفسيرًا لرسالة بولس الرسول إلى أهل رومية في مجموعة عظات كانت قد أُلقيت بمدينة أنطاكية ربما في عام 394م. وقد خصص الست عظات الأولى والجزء الأكبر من العظة السابعة للمقدمة ولتفسير الاصحاحين الأول والثانى.
+ في العظة الأولى: تعرض لزمن كتابة الرسالة بالإشارة إلى باقى رسائل الرسول بولس، وفيها أيضًا يؤكد على أن الجهل بالكتب المقدسة يثير كثير من المشاكل ويخلق كثير من الأزمات ويُنهى العظة بحث المؤمنين على أداء مسئولياتهم من جهة الخدمة سواء بالتعليم أو بتصحيح أفكار كل مَن نعرفهم وبالأخص الزوجة والأولاد والأصدقاء والأقارب والجيران، مقتدين في ذلك بالرسول بولس، ذلك الكارز العظيم الذي احتضن كل المسكونة وجال يبشر بخلاص المسيح المقدم مجانًا لكل البشرية.
+ في العظة الثانية (رو1:1ـ7): يتكلم عن محبة الله، عن التبنى، وعن هبات الله وأن هذه الهبات هى هبات ثابتة لا تتغير بل تبقى حتى بعد الموت، وعلى العكس من ذلك، يشير إلى الأمور الإنسانية التي هى بطبيعتها أمورًا مؤقتة ومتغيرة. ثم يحث المؤمنين على تجنب الشرور واقتناء الفضيلة.
+ في العظة الثالثة (رو8:1ـ17): يُشدد القديس يوحنا ذهبى الفم على ضرورة أن نقبل كل شئ بإيمان، وعلى أهمية أن ننفذ وصايا الله بدون أن نفحصها كثيرًا، بل أن نخضع لها خضوعًا تامًا، حتى ولو بدت هذه الوصايا غير مقبولة للفكر البشرى.
+ في العظة الرابعة (رو18:1ـ25): يتوجه بكلامه للفلاسفة الوثنيين متحدثًا عن مراحم الله وطول أناته ويُنهى العظة بالحث على ضبط الإنفعالات وخاصةً الغضب والشهوة.
+ في العظة الخامسة (رو26:1ـ27): يُشير إلى مضاجعى الذكور والعقاب الذي يستحقونه، والعلاقات الشاذة سواء بين الرجال أو بين النساء، ثم يتحدث عن الدينونة وعن جهنم، ويعطى مثالاً بدينونة أهل سدوم وعمورة وما حدث فيها من تدمير، وذلك بسبب الشر الذي تزايد أمام الله. ويُنهى العظة بضرورة تجنب الحياة الرخوة، وأن نضع في قلوبنا مخافة الله على الدوام.
+ في العظة السادسة (رو28:1ـ16:2): يستكمل الحديث عن الدينونة وعن الجحيم، وعن كيفية الخلاص منهما، وفيها أيضًا يتحدث عن محبة الله الغنية لكل البشر.
+ في العظة السابعة (رو17:2، 8:3): يتحدث عن معلّمى الناموس، وعن ضرورة أن يقترن التعليم بحياة الفضيلة، حتى ينجح العمل. وأيضًا يشير إلى المعنى الحقيقى للختان، وأن الختان في الظاهر في اللحم ليس ختانًا حقيقيًا، بل أن ختان القلب بالروح هو الختان الحقيقى.
يقع تفسير الرسالة إلى رومية في 33 عظة، وهذه العظات تُشكّل، أروع تفسير لهذه الرسالة في العصر الآبائى[7]. وقد كتب إيسيذورس الفرمى (القرن الرابع) ” أن القديس يوحنا ذهبى الفم في تفسيره لهذه الرسالة قد فتح كل كنوز حكمته وأفاض علينا منها، حتى أن القديس بولس نفسه لو أنه أراد تفسير هذه الرسالة فإنه لن يفسرها بصورة تختلف عن تفسير القديس يوحنا ذهبى الفم لها “[8].
يبدأ هذا التفسير وينتهى بمديح للقديس بولس، وفي الوسط تظهر عظمة القديس يوحنا ذهبى الفم كمفسر، وكراعى مهتم ليس فقط بأمور شعبه الروحية بل بطريقة سلوكهم المسيحى في المجتمع الذي يعيشون فيه.
ترجمة مبكرة لهذه العظات
وفي محاولات القديس أغسطينوس كى يبرهن على أن القديس ذهبى الفم لم يكن له أفكار بيلاجية[9] ـ كما ادعى خصومه ـ عرض أجزاء من العظة العاشرة من تفسيره لرومية، الأمر الذي يعنى أنه ربما كانت هناك ترجمة لاتينية لتفسير هذه الرسالة تمت في وقت لاحق[10]. وبالإضافة إلى التفسير الكامل للرسالة توجد خمسة عظات أخرى على بعض الشواهد المتفرقة من نفس الرسالة في مجموعة الآباء اليونانيين (P.G. 51,155-208).
II ـ رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية
أ ـ مَن أسس كنيسة رومية:
غير معروف على وجه التحديد مَن الذي أسس كنيسة رومية، هناك رأى يقول بأن أكيلا وبرسكيلا هما اللذان نشرا المسيحية في روما، وكانا قد اكتسبا خبرة كبيرة في طريق الرب كما جاء بسفر الأعمال أنهما شرحا لأبولس “.. طريق الرب بأكثر تدقيق” (أع26:18ـ27). وقد أقاما في روما زمنًا قبل أن يُصدر كلوديوس أمرًا بطرد اليهود من هناك، فتركا روما وجاءا إلى كورنثوس، وهذا ما يؤكده سفر الأعمال “وبعد هذا مضى بولس من أثينا وجاء إلى كورنثوس فوجد يهوديًا اسمه أكيلا بنطى الجنس قد جاء حديثًا من إيطاليا وبريسكلا امرأته لأن كلوديوس كان قد أمر أن يمضى جميع اليهود من رومية” (أع1:18ـ2). لكن بعد موت الإمبراطور كلوديوس سنة 54م، عادا مرة أخرى إلى رومية، بعد أن التقيا بالرسول بولس، واستمرا يمارسان معًا عملهما التبشيرى هناك. وهذا يعنى أنهما قد ساهما معًا في نشر المسيحية في روما.
هذا الرأى ضعيف ولا يستند إلى معلومات دقيقة، فعلى الأرجح أنهما بقيا في أفسس، عندما ذهبا إلى هناك مع الرسول بولس، وذلك بعد رحيله من كورنثوس (انظرأع18:18ـ26، 2تى19:4).
وهناك رأى آخر يقول بأن الرومانيين الذين كانوا ضمن جنسيات مختلفة مجتمعين في وقت حلول الروح القدس على التلاميذ يوم الخمسين، واستمعوا إلى عظة الرسول بطرس، هؤلاء هم الذين نشروا المسيحية في روما (انظر أع10:2).
كما أن المؤرخ اللاتينى سوتونيوس (Soutonios) يخبرنا عن وجود مسيحيين في روما سنة 49م، ويتضح هذا من خلال الأمر الذي أصدره كلوديوس بطرد اليهود من إيطاليا، حتى يوقف الاضطرابات التي حدثت فيما بينهم، والتي نشأت بسبب التبشير بالمسيح. هكذا ـ بعد صدور أمر كلوديوس ـ اضطر كثير من اليهود المسيحيين إلى ترك روما، لكنهم عادوا بعد موته سنة 54م. وهذا يؤكد الرأى القائل بوجود كثير من المسيحيين في روما في ذلك العصر[11].
الرأى الثالث ينادى بأن القديس بطرس هو مؤسس كنيسة رومية، وأصحاب هذا الرأى هم بشكل أساسى من الباحثين المنتمين لكنيسة روما الكاثوليكية، لكن هذا الرأى ما لبث أن رُفض حتى من الكاثوليك أنفسهم، لأن سفر الأعمال يُخبرنا بأن القديس بطرس بعد خروجه المعجزى من السجن قد “.. ذهب إلى موضع آخر” (أع7:12). ومن المستبعد أن يكون هذا المكان الآخر هو روما. ومن ناحية أخرى لو أن القديس بطرس كان هناك، وقت أن أرسل الرسول بولس رسالته إلى كنيسة رومية لكان بالطبع قد أرسل له السلام، مثلما أرسل إلى أشخاص كثيرين وردت أسمائهم في الإصحاح السادس عشر. ولا يمكن أن يقال بأنه بشّر في روما قبل ذلك الوقت، وهذا يُفهم مما قاله الرسول بولس ” كنت محترصًا أن أبشر هكذا ليس حيث سُمّى المسيح لئلا أبنى على أساس آخر” (رو20:15). فقد اعتاد كما هو واضح أن يذهب إلى أماكن لم يُبشر فيها بالمسيح بعد، حتى يبنى على أساس جديد. والأرجح أن القديس بطرس قد ذهب إلى روما بعد سنتين من سجن الرسول بولس (61ـ63م).
إذًا فمن غير المعروف على وجه التحديد، مَن أسّس كنيسة رومية. ومن الأمور الجديرة بالذكر، إشارة أحد المؤرخين اللاتين في القرن الرابع، والذي يمتدح أهل رومية المسيحيين لأنهم آمنوا بالمسيح ” بدون أن يروا معجزة واحدة، ولا حتى واحد من رسل السيد له المجد”[12].
إذًا فالرسالة إلى رومية موجهة إلى كنيسة لم يؤسسها القديس بولس. هذه الرسالة تُعد أهم رسائل القديس بولس من حيث المحتوى اللاهوتى، وأكبرها من حيث الحجم، وتوصف عادةً “بإنجيل القديس بولس”. أكد الرسول بولس في هذه الرسالة على أن البر هو بإيمان يسوع المسيح، وليس بأعمال الناموس، وهو الموضوع الذي سبق وكتبه إلى كنيسة غلاطية، قبل ان يكتب رسالته إلى رومية بعامين. لكنه في رسالته إلى غلاطية كانت نغمة الرسالة حادة في مواجهة اليهود، لكن في رسالته إلى رومية كانت اللهجة هادئة وكان عرضه للأفكار بطريقة منظمة.
لقد مهّد الرسول بولس بهذه الرسالة الطريق، للقيام بزيارته إلى روما. لأنه عرّف أهل رومية وشرح لهم الإنجيل الذي بشر به، وتطور الأحداث يشير إلى ذلك، لأن هدفه هذا قد تحقق بالفعل. فعندما قُبض عليه في أورشليم ذهب إلى روما لكى يُحاكم هناك، بحسب ما يخبرنا سفر أعمال الرسل، حيث يشير السفر إلى أن هناك اخوة من روما جاءوا لاستقبال الرسول بولس “ومن هناك لما سمع الاخوة بخبرنا خرجوا لاستقبالنا إلى فورن ابيوس والثلاثة الحوانيت” (أع15:28). لقد تحقق اشتياقه لرؤية أهل رومية لأنه يقول: ” لأنى مشتاق أن أراكم لكى أمنحكم هبة روحية لثباتكم” (رو11:1)، وكان مستعدًا لتبشير أهل رومية بكل ماله ” فهكذا كل ما هو لى مستعد لتبشيركم أنتم الذين في رومية” (رو15:1).
ب ـ هدف الرسالة إلى رومية:
لقد كانت هناك بالفعل رغبة قوية لدى الرسول بولس لأن يذهب إلى روما، لرؤية المسيحيين هناك، لكى يمنحهم هبة روحية لثباتهم، وأيضًا لكى يحقق امتدادًا لخدمته في كل إيطاليا وإلى أسبانيا أيضًا ” فمتى أكملت ذلك وختمت لكم هذا الثمر فسأمضى مارًا بكم إلى أسبانيا” (رو28:15). وكان قد بشّر بالإنجيل في الجزء الشرقي من الإمبراطورية الرومانية، لكنه أراد تحقيق تلك الرغبة الملّحة بالتبشير في الجزء الغربى من الإمبراطورية، حتى يتمم الخدمة التي أُئتمن عليها من الله. والأكثر احتمالاً أنه أراد أن يجعل من روما مركزًا لخدمته هذه.
كتب الرسول بولس هذه الرسالة كتمهيد لزيارته المزمع القيام بها في أقرب وقت ممكن. وكان ينتظر الوقت الذي فيه تبدأ الرحلات البحرية حتى يتمكن من إرسالها. ولما كانت الشماسة فيبى مزمعة أن تسافر إلى هناك في فصل الربيع، فقد طلب منها أن تحمل رسالته إلى كنيسة رومية[13].
لقد أراد ـ بهذه الرسالة ـ أن يؤكد على أن البر الذي يتمتع به الإنسان يأتى من الإيمان بالمسيح فقط وليس بأعمال الناموس، وأنه لا فرق بين اليهودى واليونانى فيما يختص بموضوع الخلاص، فالخلاص هو للجميع. وشدّد على روح المحبة التي ينبغى أن تسود بين الجميع ـ يهودًا وأممًا ـ وعلى الروابط الروحية التي تتجاوز الأمور الشكلية والممارسات التي تنتمى للعهد قديم.
ومع نجاح خدمته واتساعها كما يؤكد هو على ذلك ” حتى إنى من أورشليم إلى إلليريكون قد أكملت التبشير بإنجيل المسيح ” (رو19:15)، شعر بمسئولية مشتركة مع آخرين مما خدموا معه على التأكيد على موضوع وحدة الكنيسة الجامعة. ففي أورشليم كان هناك تمسك بوصايا وأحكام الناموس من قِبَل بعض أعضاء الكنيسة، وفي الغرب كانت كنيسة رومية تلعب دورًا مهمًا في هذه المنطقة، وكان الحضور اليهودى فيها قويًا وأهم ما كان يميّز هؤلاء اليهود هو حفظهم لأحكام الناموس بكل تدقيق. هذا الضمير الناموسى كان سببًا في زرع الخوف في نفوسهم، بإعتبار أن عدم التدقيق في ممارسة أحكام الناموس، قد يُعرّضهم للعقاب الإلهى. هذا ما جعله يكتب لهم على أنه “بأعمال الناموس كل ذى جسد لا يتبرر أمامه” (رو20:3). وأن البار أمام الله هو الذي يحيا بالإيمان، ولا فرق في هذا بين اليهودى واليونانى ” لأنه لا فرق بين اليهودى واليونانى لأن ربًا واحدًا للجميع غنيًا لجميع الذين يدعون به لأن كل مَن يدعو باسم الرب يخلص” (رو12:10). وأنه لا يوجد أحد خارج نطاق الوعود الإلهية. وأن بطلان الناموس الموسوى، لا يعنى نقضًا للوعود الإلهية. ومن أجل هذا يتوجه إلى أبناء أمته الذين يتمسكون بالحرف ويخضعون لأحكام الناموس ويفتخرون بهذا في مواجهة الجميع قائلاً: ” إن لى حزنًا عظيمًا ووجعًا في قلبى لا ينقطع … لأجل اخوتى أنسبائى حسب الجسد” (رو3:9). لأنهم لم يدركوا بعد حقيقة أن البر غير مرتبط بأعمال الناموس، لكنه هبه أُعطيت للجميع مجانًا ” متبررين مجانًا بنعمته بالفداء الذي بيسوع المسيح” (رو24:3). إذًا فهو يريد أن يؤكد على أنه الآن في المسيح ” قد ظهر بر الله بدون الناموس مشهودًا له من الناموس والأنبياء بر الله بالإيمان بيسوع المسيح إلى كل وعلى كل الذين يؤمنون” (رو21:3ـ22). فغاية الناموس “هى المسيح للبر لكل مَن يؤمن” (رو4:10). فقد كان يهدف إلى تحرير أذهان الكل من هذا الخلط في التعليم، ليجعل من شخص المسيح له المجد، المركز الذي تتمحور حوله، حياة الجميع في كل العالم، لأن به ” قد صار لنا الدخول بالإيمان (وليس بأعمال الناموس) إلى هذه النعمة التي نحن فيها مقيمون ونفتخر على رجاء مجد الله” (رو2:5). ولذلك يطلب من الاخوة هناك أن يلاحظوا الذين يصنعون الشقاقات والعثرات خلافًا للتعليم الذي تعلموه وأن يعرضوا عنهم (انظر رو17:16).
من جهة أخرى نجد أن ارتباط الرسول بولس بكل الكنائس التي أسسها خلال فترة خدمته الممتدة كل هذه السنين الطويلة، كان ارتباطًا روحيًا قويًا لا ينفك، كما أنه كان دائم التواصل معهم سواء عن طريق الرسائل أو بتفقده الشخصى لأحوال الرعية التي ائتمنه الله على خدمتها، أو بتغطية احتياجات الكنائس من جهة الأمور المادية. لكنه في بعض الأحيان كان لديه احساس داخلى بأن تقدماته إلى أورشليم لن تكون مقبولة من القديسين، بالطريقة التي كان يتمناها، بل كان لديه شعور بأنه ذاهب نحو “فم الأسد” واضعًا في إعتباره ما سوف يلاقيه من غير المؤمنين، لذا نجده يطلب من المؤمنين قائلاً: ” فأطلب إليكم أيها الاخوة بربنا يسوع المسيح وبمحبة الروح أن تجاهدوا معى في الصلوات من أجلى إلى الله لكى أُنقذ من الذين هم غير مؤمنين في اليهودية. ولكى تكون خدمتى لأجل أورشليم مقبولة عند القديسين” (رو30:15ـ31).
كما أنه كان قد شعر باقتراب الشيخوخة، وأنها الأوقات الأخيرة التي يستطيع فيها أن يترك لكل الكنائس المسيحية تعاليمه اللاهوتية الواضحة، وأن يؤّمن حصاده الروحى من أى تعاليم أخرى زائفة ومضللة، بعد هذه الرحلة الطويلة المليئة بالمتاعب والمشقات. فقد بشر الجميع بطرق الله المعلنة وغير المعلنة من أجل الخلاص، هذا الخلاص الذي كان في قصد الله قبل الأزمنة الأزلية.
[1] D.G.Tsamhj. “ Ekklhsiastik» Grammatolog…a “. Qes/n…kh 1992, sel.163-164.
[2] المرجع السابق، ص165.
[3] لبيانيوس (Lib¦nioj) فيلسوف سورى وُلد في أنطاكية سنة 315، ومات سنة 391 وعُرف عنه انه من الفلاسفة السوفسطائيين. عندما سُئل لبيانيوس وهو على فراش الموت أيًا من تلاميذه يستحق أن يخلفه؟ قال: ” يوحنا لو لم يكن المسيحيون قد سرقوه منا ” (د. نصحى عبد الشهيد، “الكتاب الشهرى”، إصدار بيت التكريس لخدمة الكرازة، سنة 1985م، ص22).
[4] P.G. 50, 473-514.
5 انظر مقدمة القديس يوحنا ذهبى الفم، ص 43.
[6] عن كتاب “في الكهنوت أحاديث عن الزواج …” منشورات النور بيروت 1982، ص9، 10.
[7] P.G. 60,391-682.
[8] (E… p£uloj o qespšsioj attik»n e…lhfe glîttan, êste eautÒn ermhneàsai oÚk an ¥llwj hrm¾neusen ½ wj o e„rhmšnoj ao…dimoj an¾r. oÞtw kaˆ enqum»masi kaˆ k£llei kaˆ kuriolez…a kekÒsmh tai ¹ ermhneˆa). O is…dwroj o phlousièthj Epistol» 5,32
[9] البيلاجية: نسبة إلى بيلاجيوس وهو راهب بريطانى ذو ثقافة يونانية واسعة. الموضوع الذي شغل بيلاجيوس كان هو الخطية الأصلية. وبحسب رأيه فإن هذه الخطية لم تُحدث في الطبيعة والإرادة الإنسانية أى تحول يذكر. فهى تشكل فقط نموذج سئ لسلوك الأجداد الأولين (آدم وحواء)، وبناء عليه لا يوجد أى وراثة للفساد والذنب. والمعمودية هى مجرد إعلان لتصحيح الأخطاء الشخصية لكل إنسان، والدور الأساسى في هذا التصحيح تلعبه إرادة الإنسان من خلال اقتفاء آثار المثال الروحى الذي هو المسيح.
[10] Adv.Julianum 1,27.
[11] Iw£nnhj karabidÕpouloj. ” Eisagwg» Sthn kain» Diaq»kh “. qes/n…kh 1991 sel.282.
[12] المرجع السابق ص283.
[13] J.Holzner “ paÚloj “ met¦frash T. ierwnÚmou ArciepiskÒpou Aqhnën kai p£shj ell£doj, Aq»na 1996, sel.349.