يسوع في طريقه للصلب – إنجيل لوقا 23 ج2 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد
(لو24:23ـ31 ): “ فَحَكَمَ بِيلاَطُسُ أَنْ تَكُونَ طِلْبَتُهُمْ. فَأَطْلَقَ لَهُمُ الَّذِي طُرِحَ فِي السِّجْنِ لأَجْلِ فِتْنَةٍ وَقَتْلٍ الَّذِي طَلَبُوهُ وَأَسْلَمَ يَسُوعَ لِمَشِيئَتِهِمْ. وَلَمَّا مَضَوْا بِهِ أَمْسَكُوا سِمْعَانَ رَجُلاً قَيْرَوَانِيًّا كَانَ آتِيًا مِنَ الْحَقْلِ وَوَضَعُوا عَلَيْهِ الصَّلِيبَ لِيَحْمِلَهُ خَلْفَ يَسُوعَ. وَتَبِعَهُ جُمْهُورٌ كَثِيرٌ مِنَ الشَّعْبِ وَالنِّسَاءِ اللَّوَاتِي كُنَّ يَلْطِمْنَ أَيْضًا وَيَنُحْنَ عَلَيْهِ. فَالْتَفَتَ إِلَيْهِنَّ يَسُوعُ وَقَالَ: يَا بَنَاتِ أُورُشَلِيمَ لاَ تَبْكِينَ عَلَيَّ بَلِ ابْكِينَ عَلَى أَنْفُسِكُنَّ وَعَلَى أَوْلاَدِكُنَّ. لأَنَّهُ هُوَذَا أَيَّامٌ تَأْتِي يَقُولُونَ فِيهَا: طُوبَى لِلْعَوَاقِرِ وَالْبُطُونِ الَّتِي لَمْ تَلِدْ وَالثُّدِيِّ الَّتِي لَمْ تُرْضِعْ. حِينَئِذٍ يَبْتَدِئُونَ يَقُولُونَ لِلْجِبَالِ: اسْقُطِي عَلَيْنَا وَلِلآكَامِ: غَطِّينَا. لأَنَّهُ إِنْ كَانُوا بِالْعُودِ الرَّطْبِ يَفْعَلُونَ هَذَا فَمَاذَا يَكُونُ بِالْيَابِسِ؟“.
إن مخافة الله مكروهة من فاعلي الشر، وهذا القول صحيح لأن الكتاب المقدس لا يمكن أن يكذب، لأن الرغبة في الحياة باستقامة وقداسة هو أمر غريب تمامًا عند أولئك الذين يحبون الشر، ولأن عنف أهوائهم يهاجمهم كوحشٍ كاسرٍ فهم لن ينصتوا لكلام من ينصحهم، بل يعتبرون كل من يعلِّمهم كيف ينبغي أن يحيوا الحياة الصالحة، بمثابة عدوٍّ لهم. كان هذا هو الشعور الذي جعل جموع اليهود يبغضون المسيح، مع أنَّ ما دعاهم إليه كان هو الخلاص وغفران الخطية، وإلى نمط من الحياة جدير بالإعجاب، وإلى برٍّ أسمى من برِّ الناموس، وإلى عبادة روحية أعلى من الرموز والظلال.
لقد أتوا بالقدوس والبار إلى بيلاطس ونطقوا ضده بكلام عنيف ومتهوِّر، وانهالوا عليه باتهامات كاذبة ملفَّقة، واستمرُّوا طويلاً في كَيْل الاتهامات له بحدَّة حتى إن بيلاطس أخيرًا حكم أن تُلبَّى طلبتهم مع أنه قال علانية: ” أنا لا أجد علَّة في هذا الإنسان“، لكنهم ـ بحسب النص ـ صرخوا قائلين: ” خذه، اصلبه“. وكان الرب قد وبَّخهم لأجل هذه الصرخة بالذات ـ الصرخة القاسية وغير الشرعية ـ بصوت النبي إشعياء، لأنه هكذا مكتوب: ” إنَّ َكْرم رب الجنود، الغرس الجديد والمحبوب هو بيت يهوذا، فانتظرتُ أن يصنع عدلاً ولكنه عمل إثمًا، وليس استقامة بل صراخًا” (إش7:5س). وفي موضع آخر قال عنهم: ” ويل لهم لأنهم هربوا عنِّي. إنهم تعساء لأنهم أخطأوا ضدِّي، ولكن أنا افتديتهم أمَّا هم فتكلموا عليَّ بكذب” (هو13:7س)، وأيضًا: “سيسقط رؤساؤهم بالسيف بسبب فظاظة لسانهم” (هو16:7س).
لذلك ـ بحسب النص ـ حكم بيلاطس أن تلبَّى طلبتهم، لكن كان من الأفضل لهم لو تغلَّبتْ رغبة بيلاطس وصار الحكم هو بإطلاق سراح الرب وتبرئته من كل جرم، وتمَّ فك البار البريء من قيوده لكنهم قاوموا وعارضوا بشدة، وهكذا فازوا بمأربهم الذي كان هو علَّة فسادهم، والذي أَعدَّ لهم الشرك الذي كان سبب خرابهم، وجلب عليهم البؤس الشديد والمُحتَّم.
لكن أتوسل إليكم أن تلاحظوا هنا كيف أنَّ الحية المتمرِّدة، تُطرد من سيادتها علينا، وتحفر لنفسها هي ولرَهطِ الأشرار الذين يخدمونها هُوَّة الهلاك. لأنه كما يقول المرنم: ” وَقَعَت الأمم في الهلاك الذي صنعوه، وفي الفخ الذي نصبوه انتَشَبَت أرجلهم، سيُعرَف الرب أنه هو صانع الأحكام، والشرِّير يُؤخذ بعمل يديه” (مز16،15:9س)، ” إذ ثبت أنَّ أعمال يديه هي بمثابة فخ له، وسقط هو في الحفرة التي حفرها، وارتدَّ تعبه على رأسه، وعلى هامته هبط إثمه” (مز16،15:7س). لأنه كما قلت، قد طُرد من طغيانه علينا. وهذا ما علَّمنا المخلِّص إياه، لأنه عندما كان مزمعًا أن يحتمل آلامه الخلاصية لأجلنا قال: ” الآن دينونة هذا العالم، الآن يُطرح رئيس هذا العالم خارجًا، وأنا إن ارتفعتُ عن الأرض أجذب إلىَّ الجميع” (يو31:12و32). لذلك فإن يسوع جاء إلى الصليب حتى إذا ما رُفع يمكنه أن يجتذب إليه الجميع، ولكيما بهذا يجرِّد الشيطان من عابديه، وهو الذي في علوِّ كبريائه تجاسر على أن يقول: “سأُمسِك العالم كله في يدي كعش، وكما يُجمع بيض مهجور جمعتُ أنا كل الأرض، ولن يوجد من يفلت مني أو يتكلم ضدي” (إش14:10س).
إذًا، أنت لم تكن تتوقع أن ينهض أحد ضدك حينما كنت مستوليًا على ما ليس هو لك. ولكن مع ذلك فالأنبياء تجاسروا أن يفعلوا ذلك، مع أنَّ الإسرائيليين كانوا بتهيُّجِك وإغرائك يندفعون باستمرار إلى العنف وارتكاب جرائم قتل شنيعة. ثم قام ضدّك رب الكل وتكلم ضدّك، وإذ قد أخذ شكل العبد وتكلم كنبي، مع أنه هو المُعطِي كل نبوة ومعرفة، وهو العالي الذي يفوق الكل تخلَّى عن مجده، وظهر في ضعفٍ مثلنا مع أنه رب الجنود. وأنت لم تعرف المخلِّص، وكما يقول إرميا النبى: ” قد وُجدتَ وأُمسكتَ لأنك قد وقفت ضد الرب” (إر24:50س). وكيف أُمسكتَ؟ بِكَوْن أولئك الذين كانوا في الظلمة والجهل الذي سبَّبته لهم نالوا نورًا، وأولئك الذين كانوا تائهين في الضلال جيء بهم إلى الطريق الصحيح، وسَقَطَت سيادتك الطاغية والقاسية، وبادت شوكة الخطية، وقُتل الموت بموت المسيح. هذه هي المنافع التي صُنِعَت لنا بواسطة آلام المخلِّص، لذلك قُدْ يسوع! نعم قُده إلى الصليب الذي سيؤدِّي إلى خرابك، واخزن لنفسك النار التي لا تُطفأ، واحفر لنفسك الحفرة التى ستُطرح فيها إذ ستداس تحت أقدام أولئك الذين يخافون الرب. لذلك إن كنت تضحك عندما تراه مصلوبًا ومعلَّقًا على خشبة، لكن سرعان ما سوف تراه وقد قام من الأموات، وآنذاك سوف تُولوِل على الموت لأنه قد سقط. إبكِ بغزارة لدى رؤيتك للهلاك وهو ينهزم، إبكِ لأن الله يُعيد تشكيل طبيعة الإنسان لتتأهَّل للحياة، إذ هو سحق الخطية وأخضعها، هذه التى بفعلك تسَلَّطَت علينا بوحشية، وأنت لن تعود بعد تشتكي على أي إنسان، لأن ” الله هو الذي يُبرِّر فمن هو الذي يدين” (رو34،33:8)، وكما يقول المرنم: ” كل إثم يسدُّ فاه” (مز42:107).
وهكذا اقتيد المخلِّص إلى آلامه المخلِّصة، لكنهم ـ يقول الكتاب ـ وضعوا صليبه على سمعان القيرواني، لكن إنجيلي قديس آخر قال إن المخلص نفسه حمل الخشبة (يو17:19)، كلاهما حتمًا صادق فيما يقوله، لأن المخلِّص حمل الصليب فعلاً، ولكن ربما لاقاهم سمعان القيرواني في وسط الطريق فأمسكوه وجعلوه يحمل الصليب بدلاً منه. ويوجد سبب هام لحقيقة أنَّ المسيح مخلِّص الكل حَمَل الصليب، هو أنه قد قيل عنه بفم إشعياء النبى:” إنه يولَد لنا ولد ونُعطَى أيضًا ابنًا وتكون الرياسة على كتفه” (إش6:9س). لأن الرياسة كانت بالصليب الذي به صار مَلِكًا على العالم. وذلك لأنه أطاع الآب حتى الموت موت الصليب، فلأجل هذا السبب أيضًا رَفَّعه الله وعظَّمه جدًّا، وأعطاه اسمًا فوق كل اسم لكي تجثو باسم يسوع كل ركبة ممَن في السماء ومَن على الأرض ومن تحت الأرض، ويعترف كل لسان أنَّ يسوع المسيح هو رب لمجد الله الآب (فى8:2ـ11).
وأعتقد أنه من المهم أن نلاحظ هذا الأمر أيضًا هنا، هو أنه عندما صعد الطوباوي إبراهيم إلى الجبل الذي أراه الله إياه ليُصعِد هناك إسحق ذبيحة بحسب أمر الله، فإن إبراهيم وضع الحطب على الصبي الذي كان مثالاً للمسيح وهو يحمل صليبه الخاص على كتفيه وهو صاعد إلى مجد آلامه، لأن كَوْن آلام المسيح هي مجده، فهذا هو ما علَّمه لنا المسيح بنفسه عندما قال: ” الآن تمجد ابن الإنسان وتمجَّد الله فيه. إن كان الله قد تمجَّد فيه، فإن الله سيمجِّده في ذاته ويُمجِّده سريعًا” (يو32،31:13).
كان يسوع ماضيًا إلى موضع الصلب وتبعته آنذاك نساء تبكين وكذلك آخرون كثيرون، لأن جنس النساء على الدوام يستسلم للبكاء، ولديهم استعداد أن يتأثَّروا بشِدَّة عندما يقترب أي شيء مُحزِن. أما يسوع فقال لهن: يا بنات أورشليم وفِّرن دموعكن لأجلي، وتوقَّفوا عن نحيبكن بخصوصي، بل ” بالأحرى لا تبكين علىَّ بل ابكين على أنفسكن وعلى أولادكن، لأنه هوذا أيام تأتي سيكون فيها أفضل للنساء أن تكنَّ عواقر من أن تَلِدن“. كيف هذا أو بأية طريقة؟ لأنه عندما وقعت الحرب على بلاد اليهود، هلك الجميع تمامًا كبيرهم مع صغيرهم، الأطفال مع أمهاتهم، والأبناء مع آبائهم، والجميع بادوا بلا تفريق. ويقول الرب إنه آنذاك سيعتبرونه أثمن شيء لديهم هو أن يُسحقوا تحت الجبال والآكام؛ لأنه في أثناء تلك الكوارث الفظيعة، فإن هذه المحن التي هي أقل وحشية وقسوة، تصير كأنها مرغوبة. لأنه يقول: ” لأنه إن كان بالعود الرطب يفعلون هذا، فماذا يكون باليابس؟” (لو31:23).
إنه أمر جدير باهتمامنا أن نفهم ماذا كان يقصد المخلِّص بهذه الكلمات، لأن القول صيغ في هيئة مَثَل أو بالحري مِثال، لكنه مليء بالمعاني الروحية، وأنا أعتقد أنه ربما يقصد أن يوحِى بما يلى: فهو يشبِّه نفسه بالشجرة الخضراء التى لها أوراق وأزهار وثمر، وأثماره كانت تعاليم وعظات وأيضًا مظاهر قوته الإلهية في معجزاته الإلهية فائقة الوصف، فأي عمل من أعماله لا يفوق مستوى إعجابنا؟ فهو قد أقام الموتى وطهَّر البرص وشفى الأعمى وأعمال أخرى صنعها أثارت فينا كل التسبيح والتمجيد له. ورغم أنَّ هذه كانت هي أعماله، لكن جنود الرومان أو بالأحرى بيلاطس أدانه وحكم عليه بحكم جائر، وابتلاه بهذه الاستهزاءات القاسية، لذلك عندما يقول إن رؤساء الرومان قد أوقعوا بي كل هذه الأمور مع أنهم رأوني أتحلَّى بمثل هذا المجد والمديح العظيم، فماذا سيفعلون بإسرائيل عندما يجدون أنه عود يابس غير مثمر؟ لأنهم لن يجدوا فيه شيئًا يستحق الإعجاب مِن الأشياء التي ربما يعتبرونها جديرة بالتكريم والرحمة. من الواضح أنهم سيحرقونه بالنار بدون أن يُظهروا له أيَّة رحمة، بل وسيكابد بالأحرى القساوات التى ستتأتَّى من هياج وحشي. فهذه كانت فعلاً البلايا التى أصابت الإسرائيليين عندما حتَّم الله الذي يحكم بعدل، بالعقوبة التي استوجبها شرهم ضد المسيح. أمَّا نحن الذين نؤمن به، فإن المسيح ينعم علينا بالنعمة والبركة، الذي به ومعه لله الآب يليق التسبيح والسلطان مع الروح القدس إلى دهر الدهور. آمين.