تسليم يسوع إلى بيلاطس – إنجيل لوقا 23 ج1 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد
(لو1:23ـ5 ، 18ـ19): ” فَقَامَ كُلُّ جُمْهُورِهِمْ وَجَاءُوا بِهِ إِلَى بِيلاَطُسَ. وَابْتَدَأُوا يَشْتَكُونَ عَلَيْهِ قَائِلِينَ: إِنَّنَا وَجَدْنَا هَذَا يُفْسِدُ الأُمَّةَ وَيَمْنَعُ أَنْ تُعْطَى جِزْيَةٌ لِقَيْصَرَ قَائِلاً: إِنَّهُ هُوَ مَسِيحٌ مَلِكٌ. فَسَأَلَهُ بِيلاَطُسُ : أَنْتَ مَلِكُ الْيَهُودِ؟ فَأَجَابَهُ: أَنْتَ تَقُولُ. فَقَالَ بِيلاَطُسُ لِرُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالْجُمُوعِ : إِنِّي لاَ أَجِدُ عِلَّةً فِي هَذَا الإِنْسَانِ. فَكَانُوا يُشَدِّدُونَ قَائِلِينَ: إِنَّهُ يُهَيِّجُ الشَّعْبَ وَهُوَ يُعَلِّمُ فِي كُلِّ الْيَهُودِيَّةِ مُبْتَدِئًا مِنَ الْجَلِيلِ إِلَى هُنَا[1]…. فَصَرَخُوا بِجُمْلَتِهِمْ قَائِلِينَ : خُذْ هَذَا وَأَطْلِقْ لَنَا بَارَابَاسَ!. وَذَاكَ كَانَ قَدْ طُرِحَ فِي السِّجْنِ لأَجْلِ فِتْنَةٍ حَدَثَتْ فِي الْمَدِينَةِ وَقَتْلٍ “.
يا إخوتي، إنَّ غباوة القلب وعدم الفهم هما مرض مُشِين يصحبه اختراع أفكار وضيعة، كثيرًا ما تقود البشر لكل ما هو شرِّير، بل وكثيرًا ما تجعلنا نخطئ ضد مجد الله. وهذا ما يمكن أن نراه بالنسبة لوضع مجمع اليهود، لأنهم أخطأوا ضد المسيح، ولذلك قاسوا كل بؤس، إذ أُدينوا بقضاء عادل من الله لنفس المصير الذي جلبوه على ذاك الذي كان يمكن أن يقيمهم إلى الحياة. ولأنهم جاءوا بيسوع إلى بيلاطس لذلك هم أنفسهم أيضًا سُلِّموا لعساكر الرومان الذين استولوا على كل أراضيهم وجعلوهم أسرى، كما اقتحموا مدينتهم التى كانت سابقًا المدينة المقدسة والمجيدة، وجعلوا سكانها فريسة للسيف والنار، ولذلك تحقَّقت فيهم نبوات الأنبياء القديسين، لأن واحدًا منهم يقول: “ويل للشرير، شرور سوف تحدث له بحسب أعمال يديه” (إش11:3س)، ويقول آخر: ” كما فعلتَ يُفعلُ بك، عملك يرتدّ على رأسك” (عوبديا15).
لكن دعنا نرى ماذا كان نوع شرّهم، وماذا أيضًا قالوا لبيلاطس عندما صاغوا اتهاماتهم ضد المسيح مخلِّصنا كلنا. ” إننا وجدنا هذا يُفسد شعبنا ويمنع أن تُعطى جزية لقيصر، ويقول عن نفسه إنه هو مسيح ملك“. ولكن أنتم باشرتم محاكمته منذ وقت قليل مضى، ولم تثيروا مثل هذه القضايا، لكنكم سألتموه فقط إن كان هو المسيح. فهذا ما كنتم تسعون إلى معرفته، وبخلاف هذا لم تسألوه عن أي شيء آخر على الإطلاق. وهو في رده على أسئلتكم سعى أن يبيِّن أنه هو المسيح وأيضًا أنه هو بالطبيعة والحقيقة ابن الله الآب، لأنه قال: ” من الآن تُبصرون ابن الإنسان جالسًا عن يمين القوة” (انظر مت64:26). أرجوكم أن تُخبروني مَن الذي يحق له أن يجلس مع الآب إلاَّ الذي هو الابن بالطبيعة؟ لأنه لا يمكن لمخلوق على الإطلاق أن يتحدث عن جلوسه على عرش الألوهة، لأن كل كائن مخلوق يوضَع تحت قدمي الطبيعة الإلهية الفائقة التى تسود الكل وتتسامى على كل ما خُلق. الله الآب وحده هو الذي يجلس على العرش عاليًا ومرتفعًا، ويشاركه ابنه في عرشه، وهو الكائن دائمًا معه، ومولود منه بالطبيعة. لذلك فقد حصلتم بسؤالكم هذا على التأكيد الكامل بأنه هو المسيح، لكن في تلهُّفكم على أن تتَّهموه بالتجديف قد أعلن لكم مجده، فقلتم ما حاجتنا بعد إلى شهود لأننا نحن سمعنا من فمه. فكيف تتناسون هذا أو بالأحرى تتجاوزون في خبثكم وشركم كل بنود الاتهام التى حاكمتموه عليها وتأتون بقائمة اتهامات لها طبيعة مختلفة تمامًا وتقولون: إننا وجدنا هذا يُفسد الأُمَّة. أخبرونا فيما يكون هذا الإفساد! إن تعاليمه كانت منصبَّة على التوبة. أين مَنَع أن تُعطى جزية لقيصر؟ فأنتم في الحقيقة أرسلتم إليه بعضًا من جماعتكم مع قوم من هؤلاء الذين يُدعَون هيرودسيين ليجرِّبوه قائلين: يا معلم، أيجوز أن تُعطى جزية لقيصر أم لا (مت17:22) فردَّ المسيح عليهم قائلاً: أرونى معاملة الجزية، فسألهم لمن هذه الصورة والكتابة الموجودة على الدينار الذي قدَّمتموه؟ ولما قالوا له لقيصر قال لهم: أعطوا إذًا ما لقيصر لقيصر وما لله لله (مت15:22ـ21). إذن ففي أي موضع منع أن تُعطى جزية لقيصر؟ لكن كان هدفهم الوحيد هو أن يُحدِروا إلى الموت ذلك الذي يقيمهم إلى الحياة. كان هذا هو مقصد خططهم وهدف الأفعال الدنيئة والأكاذيب التي اخترعوها، والكلمات المُرَّة التي جرت على ألسنتهم الشريرة. ولكن الناموس يُعلن لكم بصوت عال: ” لا تشهد على قريبك شهادة زور” (خر16:20)، ويقول أيضًا: ” لا تقتل البريء والبار” (خر7:23).
وقال الله في أحد المواضع بلهجة عنيفة في غضبه بفم واحد مِن أنبيائه القديسين: ” أمَّا أنتم فتقدَّموا إلى هنا أيها البنون الأشرار، يا نسل الفاسقين والزانية: بمن تَسخَرون؟ وعلى من تفغرون الفم؟ وعلى من تُخرجون لسانكم؟ أما أنتم أولاد المعصية ونسل الظالمين” (إش3:57،4س). وكذلك داود النبى يصفهم في موضع ما في المزامير وهو يخاطب الله الآب في السموات: ” شتِّتهم بقوَّتك، واهبط بهم يا رب يا عاضدي، إنَّ خطية أفواههم هي كلام شفاههم، وسوف يُؤخذون في كبريائهم“(مز11:58، 12س). لأنهم إذ أطلقوا العنان للسانهم الجامح ضد المسيح، وكما هو مكتوب، ” ورفعوا إلى العُلا قرنهم وتكلَّموا بالإثم ضد الله” (مز5:74س)، فإنهم إنما سقطوا في كبريائهم. بالتأكيد كان من واجبهم طالما يفتخرون بمعرفتهم لشرائع الله أن يتذكروا أنَّ الله قال لا تقتل التَقي ولا البار، لكنهم لم يعطوا أي اعتبار للاحترام الواجب للناموس، ولكن بسبب أنهم انقادوا بتهور شديد إلى كل ما يُسِرهم ويرضيهم هم وحدهم دون فحص لطبيعته، فإنهم اخترعوا اتهامات عديدة وحشدوا ضد المسيح اتهامات لم تكن صحيحة، ولا استطاعوا أيضًا أن يبرهنوا عليها. لكنهم كانوا بهذا مدانين بكونهم أكثر شرًّا من عابد الأوثان، لأن بيلاطس إذ برَّأ يسوع من كل لوم قال علانية: لم أجد علَّة واحدة في هذا الإنسان، ولم يَقل هذا مَرَّة واحدة بل ثلاث مرات.
لكنهم اعترضوا بإصرار أنه يفسد الشعب ويعلِّم في كل اليهودية مبتدئًا من الجليل إلى هنا. ها إنهم يُغيِّرون مرة أخرى اتهاماتهم السابقة ويخترعون أعذارًا لتثقيل تهمته ويجمعون فرصًا جديدة لذمِّه واغتيابه، إذ قالوا ” إنه يُهيِّج الشعب وهو يُعلِّم مبتدئًا من الجليل إلى هنا“. لكن فيما هم يتهمونه بالتعليم، نجدهم قد صمتوا عن فحوى ما يُعلِّمه إذ خافوا ـ كما أظن ـ لئلا يكون بيلاطس نفسه ضمن مَن يؤمنون به، لأنه لو كان قد سمع المسيح وهو يكشف سرَّه الإلهي، ربما كان قد توقف منذ ذلك الوقت عن عبادة تلك الآلهة الكاذبة، بقبوله لسكنى نور معرفة الله الحقيقية في داخله، ولإمتَلَكَ في ذهنه وقلبه الدواء الذي تهبه تلك الرسالة المقدسة والخلاصية التى بالمسيح، لأنه ماذا كانت تعاليم المسيح؟ إنه يدعو مَن كانوا في ضلال ويعبدون المخلوق بدلاً من الخالق أن يأتوا إلى المعرفة الحقيقية لله. وهو يريد لكل من يقترب منه أن يتلألأ بأمجاد البر وأن يكون بلا عيب وصالحًا، لطيفًا ورحيمًا، حكيمًا وقديسًا وحياته مستقيمة وبلا لوم. لذلك هم بدهاء عظيم قالوا إنه يُعلِّم، لكنهم صمتوا من جهة طبيعة تعاليمه، لكن بالرغم من كلامهم هكذا، فإن بيلاطس وبَّخهم وبرَّأ نفسه قائلاً: إني لا أجد علة في هذا الإنسان. ” قد قدَّمتم إليَّ هذا الإنسان كمن يُفسد الشعب، وها أنا قد فحصته قدامكم ولم أجد في هذا الإنسان عِلَّة مما تشتكون به عليه ولا هيرودس أيضًا، لأنه أرجعه إلينا، وها لا شيء يستحق الموت صنعه” (انظر لو13:23ـ15).
انظروا! فإن من يعرفون الشرائع الإلهية ويقولون بكبرياء وبعجرفة ” نحن تلاميذ موسى” يطالِبون بالحكم بالموت على مَن هو غير مذنب بأي إثم، بل من هو رأس ومُعلِّم كل تَقْوَى، وهو الذي يجعل مَن يؤمنون به ماهرين في كل فضيلة. وحينما برَّأه مَن كان يحق له أن يحاكمه فإنهم لكي يجعلوا عذابهم الأبدي أشد شِدَّة، طلبوا باجتهاد شديد أن يُحكم بعقوبة الموت على من لم يأتِ بأيِّ فعل أثيم، لأن كل الجمع صرخ قائلاً: “خذ هذا وأطلق لنا باراباس” (لو18:23). لذلك فقد أنكروا حقًّا بوضوح القدوس البار، كما قال الطوباوي بطرس، وطلبوا أن يوهب لهم رجل قاتل (أع14:3)، لكيما يكونوا شركاء في نصيبه ومتورِّطين في ذنبه، وكان نصيبهم أن ينالوا العذاب، لأنهم قد سُلّموا للهلاك والفزع، وهلكوا جميعهم مع كل جنسهم، لأنهم ” صرخوا قائلين اصلبه اصلبه” (لو21:23). وقد لام الرب صرختهم غير المقدسة هذه وقال بفم إرميا: ” قد تركتُ بيتي هجرتُ ميراثي، دفعتُ حبيبتي الغالية ليد أعدائها. صار لي ميراثي كأسد في الوعر، أطلق علىَّ صوته، من أجل ذلك أبغضته” (إر7:12، 8). لذلك أبغضهم الله لأنهم هجموا على المسيح كأسد، وأطلقوا ضده صيحة تتَّسم بالقسوة وعدم الشفقة. أمَّا نحن فنُسبِّح المسيح الذي تألم بالجسد بدلاً عنا، الذي به ومعه لله الآب يليق التسبيح والسلطان مع الروح القدس إلى دهر الدهور. آمين.
[1] النص السريانى يحذف الأعداد 6ـ17 ويقرِّب الأحداث الروائية معًا، حيث إنَّ هذه الأعداد ذُكرت داخل صُلب العظة، وبعد ذلك تعبر المخطوطة السريانية على الأعداد 20ـ23، التي منها تقتبس العدد 21 فقط.