المحاكمة في مجلس اليهود – إنجيل لوقا 22 ج9 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد
(لو63:22ـ71): “ وَالرِّجَالُ الَّذِينَ كَانُوا ضَابِطِينَ يَسُوعَ كَانُوا يَسْتَهْزِئُونَ بِهِ وَهُمْ يَجْلِدُونَهُ. وَغَطَّوْهُ وَكَانُوا يَضْرِبُونَ وَجْهَهُ وَيَسْأَلُونَهُ: تَنَبَّأْ! مَنْ هُوَ الَّذِي ضَرَبَكَ؟. وَأَشْيَاءَ أُخَرَ كَثِيرَةً كَانُوا يَقُولُونَ عَلَيْهِ مُجَدِّفِينَ. وَلَمَّا كَانَ النَّهَارُ اجْتَمَعَتْ مَشْيَخَةُ الشَّعْبِ: رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةُ وَأَصْعَدُوهُ إِلَى مَجْمَعِهِمْ. قَائِلِينَ: إِنْ كُنْتَ أَنْتَ الْمسِيحَ فَقُلْ لَنَا. فَقَالَ لَهُمْ: إِنْ قُلْتُ لَكُمْ لاَ تُصَدِّقُونَ. وَإِنْ سَأَلْتُ لاَ تُجِيبُونَنِي وَلاَ تُطْلِقُونَنِي. مُنْذُ الآنَ يَكُونُ ابْنُ الإِنْسَانِ جَالِسًا عَنْ يَمِينِ قُوَّةِ اللهِ. فَقَالَ الْجَمِيعُ: أَفَأَنْتَ ابْنُ اللهِ؟ فَقَالَ لَهُمْ: أَنْتُمْ تَقُولُونَ إِنِّي أَنَا هُوَ. فَقَالُوا: مَا حَاجَتُنَا بَعْدُ إِلَى شَهَادَةٍ؟ لأَنَّنَا نَحْنُ سَمِعْنَا مِنْ فَمِه “.
فليقل النبي إرميا هنا أيضًا عن جنس إسرائيل: ” يا ليت رأسي ماء وعيني ينبوع دموع فأبكي نهارًا وليلاً لأجل هذا الشعب؟” (ار1:9س). أيّ نواح يمكن أن يكفي لأجل أولئك الذين سقطوا في هوة الهلاك بسبب تصرُّفهم الشرير ضد المسيح، وبسبب جرمهم العظيم جدًّا، حتى أنهم لم يحزنوه فقط بالكلمات وبسخريتهم عليه بصرخات ممتلئة تجديفًا، بل إنهم أمسكوه بأيديهم الآثمة وأعدوا له فخ الموت؟ وهكذا عاملوه بغطرسة، وبشرِّهم جعلوه تسلية لهم، بل إنهم أيضًا تجرَّأوا أن يضربوه، لأننا هكذا قد سمعنا اليوم البشير القديس يقول: “والرجال الذين كانوا ضابطين يسوع كانوا يستهزئون به وهم يجلدونه، قائلين: تنبأ من هو الذي ضربك؟..” أما هو ” فإذ شُتم لم يكن يشتم عوضًا، وإذ تألم لم يكن يُهدِّد بل كان يُسلِّم لمن يَقضي بعدل” (1بط23:2). حسنًا، لذلك يجب أن ننطق بما قاله واحد من الأنبياء عن بعض الناس: ” السموات دُهشت من هذا، وارتعدت جدًّا يقول الرب” (إر12:2س)، ذلك لأن سيد الأرض والسماوات، خالق الكل وصانعهم، ملك الملوك ورب الأرباب، الفائق العظمة والمجد والجلال، المؤسِّس كل الأشياء، الذي فيه يقوم الكل ويثبت، لأن ” فيه تقوم كل الأشياء” (كو17:1)، ذلك الذي هو حياة كل الأرواح المقدسة في السماء، صار يُزدرى به ويُحتقر كواحد مثلنا، وهو بصبر يحتمل الضربات، ويخضع لسخرية الأشرار، ويعطينا نفسه مثالاً كاملاً لطول الأناة، أو بالأحرى يُظهر لطفه الإلهي الذي لا يقارن في عظمته.
وربما قد احتمل المسيح ذلك لكي يوبِّخ ضعف أذهاننا، ولكي يبين أنَّ أمور الناس تقع بعيدًا جدًّا عن الكمالات الإلهية، بمقدار ضعف وصغر طبيعتنا بالنسبة لطبيعته، لأننا نحن الأرضيون، ونحن مُجرَّد فساد ورماد، نهاجِم في الحال أولئك الذين يضايقوننا، إذ لنا قلب ممتلئ بالعنف كوحوش ضارية. أما ذلك الذي له طبيعة ومجد يفوقان حدود إدراكنا وقوَّة تعبيرنا، فقد احتمل بصبرٍ أولئك الجنود الذين لم يسخروا به فقط بل وأيضًا جلدوه، لأن (البشير) يقول: “وبعدما عصبوا عينيه وضربوه بعد ذلك، فإنهم سألوه قائلين: تنبَّأ من هو الذي ضربك؟” لقد سخروا منه كما لو كان شخصًا جاهلاً هذا الذي هو مانح كل معرفة، والذي يرى الخفيات التي فينا، لأنه يقول في موضع ما بواسطة واحد من الأنبياء القديسين: ” من الذي يخفى مشورة عني، ومن الذي يغلق على كلماتٍ في قلبه ويظن أنه يخبئها عني” (أى2:38س). فالذي يفحص القلب والكُلى والذي يمنح كل نبوَّة، كيف لا يقدر أن يعرف مَن الذي ضربه؟ لكن كما قال الرب نفسه: الظلمة قد أعمت عيونهم، وعميت أذهانهم (انظر يو40:12)، لذلك يمكن أن يُقال عنهم أيضًا: ” ويل للسكارى وليس من خمر!” (إش9:29س)، ” لأن جفنتهم من جفنة سدوم ومن كروم عمورة” (تث32:32س).
وبعدما اجتمع مجمعهم الشرير في الفجر، فإن الذي هو رب موسى ومرسِل الأنبياء، بعدما استهزأوا به عن غير وجه حق، أحضروه في الوسط وسألوه إن كان هو المسيح؟ يا أيها الفريسي عديم الفهم، إن كنت تسأل لأنك لا تعلم، فكان يجب عليك ألاَّ تحزنه إلى أن تعرف الحقيقة ـ لئلا تكون بذلك قد أحزنتَ الله. ولكن إن كنت تتظاهر بالجهل بينما تعلم الحقيقة أنه هو المسيح، فكان يجب عليك أن تسمع ما يقوله الكتاب المقدس: ” الله لا يُشمخ عليه” (غل7:6).
ولكن أخبرني لماذا تسأله وتريد أن تعلم منه إن كان هو المسيح؟ إنه من السهل للغاية أن تحصل على معرفة عنه من الناموس والأنبياء. فتِّش في كتب موسى فسوف تراه موصوفًا بطرق متنوِّعة. إنه ذُبح كحمل وقَهَر المُهلِك بدمه، وسبق ورُمِز إليه أيضًا بأشكال أخرى كثيرة. افحص أيضًا كتابات الأنبياء، سوف تسمعهم يعلنون عن معجزاته الإلهية العجيبة. إنهم يقولون: “حينئذٍ تتفتَّح عيون العمي، وآذان الصم سوف تسمع، حينئذٍ يقفز الأعرج كالأُيّل ولسان الخرس يصبح مستقيمًا” (إش5:35س)، ” وأيضًا الموتى يقومون والذين في القبور يستيقظون لأن طلَّك يشفيهم” (إش19:26س). لذلك إن كنتم أنتم أنفسكم ترون أنَّ تحقيق النبوات يتم بوضوح بخصوصه، فلماذا لا تعترفون به بالحري بسبب معجزاته الإلهية التي تشهد له، وبسبب أعماله فائقة الوصف؟ وهذا أيضًا ما قاله المسيح نفسه لكم: ” الأعمال التي أعطاني الآب لأكملها هذه الأعمال بعينها التي أنا أعملها هي تشهد لي إنَّ الآب قد أرسلني” (يو36:5)، وأيضًا:” لو لم أكن قد عملتُ بينهم أعمالاً لم يعملها أحد غيري لم تكن لهم خطية، وأما الآن فقد رأوا وأبغضوني أنا وأبي” (يو24:15). لذلك فإن رؤساء اليهود والشعب الذي تحت رعايتهم كانوا في الحقيقة غير مؤمنين وبدون فهم بكل معنى الكلمة.
كما أظن أيضًا أنه يلزمنا أن نفحص الكلمات التي استخدمها المسيح، لأنها كانت توبيخًا لعدم محبة الله، وهو ما كان الكتبة والفريسيون مذنبين به. لذلك فإنهم عندما سألوه إن كان حقًّا المسيح، وأرادوا أن يعرفوا هذا الأمر بعينه، فإنه أجابهم قائلاً: إن قلتُ لكم لا تُصدِّقون، وإن سألتُ لا تجيبونني. تعالوا إذن ودعوني أشرح لكم، كأناس يُسرَّون بأن يتعلموا، ماذا كانت المناسبة التي سمعوا فيها ولم يؤمنوا، وما هي المناسبة التي صمتوا فيها عندما سُئلوا. عندما صعد المسيح إلى أورشليم وجد في الهيكل الذين كانوا يبيعون بقرًا وغنمًا وحمامًا والصيارف جلوسًا، يقول الكتاب إنه صنع سوطًا من حبال وطرد الجميع من الهيكل وقال: ” ارفعوا هذه من ههنا، لا تجعلوا بيت أبي بيت تجارة” (يو13:2ـ16)، وبسبب أنه دعا الله أباه، فإن أولئك الذين كانوا يُقدِّمون الذبائح في الهيكل تذمَّروا وهاجموه قائلين: بأي سلطان تفعل هذا؟ ومن أعطاك هذا السلطان؟ فأجاب يسوع وقال لهم: ” وأنا أيضًا أسألكم كلمة واحدة، فإن قلتم لي عنها أقول لكم أنا أيضًا بأي سلطان أفعل هذا. معمودية يوحنا من أين كانت، من السماء أم من الناس؟” ويقول الكتاب إنهم ” فكَّروا في أنفسهم قائلين: إن قلنا من السماء يقول فلماذا لم تؤمنوا به، وإن قلنا من الناس نخاف من الشعب لأن يوحنا كان عند الجميع مثل نبي، فأجابوا وقالوا: لا نعلم. فقال لهم المسيح: ولا أنا أقول لكم بأي سلطان أفعل هذا” (انظر مت23:21ـ27).
وسألهم في مناسبة أخرى: ماذا تظنون في المسيح؟ ابن من هو؟ قالوا له ابن داود، فقال لهم الرب بعد ذلك: فكيف يدعوه داود بالروح ربًّا قائلاً: قال الرب لربى اجلس عن يميني حتى أضع أعدائك موطئًا لقدميك. فإن كان داود يدعوه ربًّا فكيف يكون ابنه؟ وفى هذه المناسبة أيضًا فإنهم سكتوا (انظر41:22ـ46). وهكذا ترون أنَّ المسيح يتكلم بالصواب عندما يقول: ” وإن سألتكم لا تجيبونني“.
كما أنكم سوف ترون أيضًا أنَّ الإعلان الآخر هو صحيح أيضًا مثل الأول، وهو ما يلي: ” إن قلتُ لكم لا تصدِّقون“، لأن المغبوط يوحنا البشير يكتب أنه كان عيد التجديد في أورشليم وكان شتاء، ” وكان يسوع يتمشَّى في رواق سليمان، فاحتاط به اليهود وقالوا له: إلى متى تُعلِّق أنفسنا، إن كنت أنت المسيح فقل لنا جهرًا، فأجابهم يسوع: إني قلتُ لكم ولستم تؤمنون، الأعمال التي أنا أعملها باسم أبي هي تشهد لي، ولكنكم لستم تؤمنون” (يو22:10ـ26).
ولكي يجعل دينونتهم أكثر قساوة، أقصد فيما يتعلق برفضهم الإيمان به، فإنه يضع مجده أمامهم بوضوح ويقول: ” منذ الآن يكون ابن الإنسان جالسًا عن يمين قوة الله“. وكأنه يقول: عندما كنت في الشكل مثلكم، مع أنني بالطبيعة والحق ابن الله الآب، فأنتم لم تقدموا لي أي اعتبار، ولكن أما كان ينبغي ألاّ تغيب عن انتباهكم هذه الطريقة الممتازة للتدبير في الجسد إذ أنكم متعلِّمون من الناموس ومتربُّون على كتابات موسى. بل ألم تكن تنبؤات الأنبياء القديسين معروفة لديكم؟! ولكن حيث إنكم جعلتم أنفسكم بهذا المقدار من عدم المعرفة، وامتلأتم من الجهل المطبق، ولم تتعرَّفوا على السِرِّ الخاص بي، فإنني أخبركم بالضرورة أنه سوف تُمنح لكم فرصة قصيرة جدًا لكبريائكم وخبثكم ضدي، أي إلى وقت صلبي. لأنه بعد هذا مباشرة سوف ألتحف بالكرامة وأصعد إلى المجد الذي كان لي منذ البدء، بل وحتى وأنا متجسد فأنا مشترك مع الله الآب في عرشه، وأملك كل سلطان على الكل، رغم أني لبستُ شبهكم. وحينما كان المسيح يتكلم هكذا، فإن جماعة الفريسيين التهبوا بغضب لا يُضبط، وأمسكوا بالعبارة كحجة على التجديف، واتهموا الحقَّ نفسه! وقالوا: ما حاجتنا بعد إلى شهادة لأننا نحن سمعنا كلماته. ماذا سمعتموه يقول أيها الرجال، يا عديمي الفهم والأردياء، لقد أردتم أن تعرفوا إن كان هو المسيح، وهو عرَّفكم إنه هو بالطبيعة وبالحق ابن الله الآب، ويشترك معه في عرش الألوهة، لذلك كما اعترفتم أنكم لا تحتاجون بعد إلى شهادة لأنكم سمعتموه يتكلم؛ فكان يجب أن تعلَموا جيدًا أنه هو المسيح؛ ولكان هذا سوف يدلكُّم على الطريق إلى الإيمان، وتكونون من بين أولئك الذين يعرفون الحق. أما هم فلكونهم جعلوا طريق الخلاص، سببًا لهلاك أنفسهم فإنهم لم يفهموا، بل بحماقة وعدم فهم قتلوه، واحتفظوا بهدف واحد مُزدرين بالشريعة كلها، وتغاضوا تمامًا عن الأوامر الإلهية، لأنه مكتوب: ” البريء والبار لا تقتلوه” (خر7:23س)، ولكنهم ـ كما قلتُ لكم ـ لم يراعوا على الإطلاق أيًّا من الأوامر المقدسة، ولكنهم اندفعوا إلى أسفل كما ينزلون إلى منحدر شديد ليسقطوا في أشراك الهلاك.
كان هذا هو سلوكهم، وأما نحن فنقدِّم تسابيحنا لله الكلمة الذي صار إنسانًا لأجل خلاصنا، الذي به ومعه لله الآب يليق التسبيح والسلطان مع الروح القدس إلى دهر الدهور آمين.