القبض على يسوع – إنجيل لوقا 22 ج7 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد
القبض على يسوع – إنجيل لوقا 22 ج7 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد
القبض على يسوع – إنجيل لوقا 22 ج7 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد
(لو47:22ـ53): ” وَبَيْنَمَا هُوَ يَتَكَلَّمُ إِذَا جَمْعٌ وَالَّذِي يُدْعَى يَهُوذَا ـ أَحَدُ الاِثْنَيْ عَشَرَ ـ يَتَقَدَّمُهُمْ، فَدَنَا مِنْ يَسُوعَ لِيُقَبِّلَهُ. فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: يَا يَهُوذَا أَبِقُبْلَةٍ تُسَلِّمُ ابْنَ الإِنْسَانِ؟. فَلَمَّا رَأَى الَّذِينَ حَوْلَهُ مَا يَكُونُ قَالُوا: يَا رَبُّ أَنَضْرِبُ بِالسَّيْفِ ؟. وَضَرَبَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ عَبْدَ رَئِيسِ الْكَهَنَةِ فَقَطَعَ أُذْنَهُ الْيُمْنَى. فَقَالَ يَسُوعُ: دَعُوا إِلَى هَذَا! وَلَمَسَ أُذْنَهُ وَأَبْرَأَهَا. ثُمَّ قَالَ يَسُوعُ لِرُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَقُوَّادِ جُنْدِ الْهَيْكَلِ وَالشُّيُوخِ الْمُقْبِلِينَ عَلَيْهِ: كَأَنَّهُ عَلَى لِصٍّ خَرَجْتُمْ بِسُيُوفٍ وَعِصِيٍّ ! إِذْ كُنْتُ مَعَكُمْ كُلَّ يَوْمٍ فِي الْهَيْكَلِ لَمْ تَمُدُّوا عَلَيَّ الأَيَادِيَ. وَلَكِنَّ هَذِهِ سَاعَتُكُمْ وَسُلْطَانُ الظُّلْمَةِ “.
هناك أهواء متعددة ومُرَّة تحارب نفس الإنسان، وهي إذ تهاجمها بعنف لا يُحتمل، فإنها تهبط بها إلى أعمال غير لائقة، ولكن أردأ من الكل هي محبة المال التي هي أصل كل الشرور، والتي في شباكها ـ التي لا سبيل للخلاص منها ـ وقع ذلك التلميذ الخائن، الذي قَبِل أن يكون خادماً لخداع الشيطان، وأن يصير أداة في يد رؤساء مجمع اليهود الأشرار في تعدِّيهم على المسيح.
هذا هو ما يُظهِره لنا مرَّة أخرى بوضوح معنى الدروس الإنجيلية، لأن المخلِّص سبق ونبَّه الرسل القديسين أنه سوف يُقبض عليه ويكابد آلامه على الصليب بيد الأثمة. كما أنه أوصاهم بأنه عندما تضغط التجربة، عليهم ألاَّ يضجروا وألاَّ يناموا في وقت غير مناسب، بل بالأحرى أن يسهروا وأن يثابروا في الصلوات، وبينما كان لا يزال يكلِّمهم بهذه الأمور، إذا جمع والذي يُدعى يهوذا واحد من الاثني عشر يتقدَّمهم. هل ترون كيف يحزن الإنجيلي الطوباوي أو بالحري يخور ويضعف؟ لأنه كان يودّ ألاَّ يسمح لنفسه أن يُبقي في ذاكرته ذلك التلميذ الذي باع نفسه للشيطان هكذا بسهولة، حتى أنه يرفض أن يذكر اسم ذلك الأثيم، لأنه يقول: ” الذي يُدعى يهوذا” ولكن لماذا؟ أما يَعلَم أنَّ هذا الرجل كان معدودًا مع المختارين، ومحسوبًا ضمن جماعة الرسل القديسين؟ ولكن كما قلت لكم للتو، إنه كان يكره حتى اسمه، لذلك كتب التعبير: “الذي يُدعى يهوذا“.
كما أنه يضيف إلى ذلك أنه أحد الاثني عشر، وهذا أيضًا أمر له أهمية عظيمة ليُظهر بوضوح تام شناعة جريمة الخائن. لقد كان معادلاً في الكرامة للباقين، وكان مُزيَّنا بكل الكرامات الرسولية، ولكن هذا المختار والمحبوب، والذي تلطَّف الرب وأدخله إلى المائدة المقدسة وإلى أعلى الكرامات، صار الواسطة والوسيلة لقتلة المسيح. أيّ نوح يكفيه، أيّ فيض من الدموع يلزم على كل واحد أن يذرفه من عينيه عندما يُفكِّر مِن أي سعادة سقط هذا البائس إلى مثل هذا الشقاء التام! لأجل فلس لا قيمة له توقَّف عن أن يكون مع المسيح، وفقد رجاؤه في الله وفقد الكرامة والأكاليل والحياة، والمجد المُعَد لأتباع المسيح الحقيقيين، وفقد أحقيَّته في أن يملك معه.
قد يكون من الجدير بالذكر أن نرى ما هي حيلته. لقد أعطى لأولئك القتلة علامة قائلاً: ” الذي أُقبِّله هو“. لقد نسيَ تمامًا مجد المسيح، وفى غبائه المُطبَق ربما تصوَّر أنه سوف يظل مستترًا عندما يعطي المسيح قُبلة، التي هي علامة المحبة ـ بينما كان قلبه ممتلئاً من المرارة والخداع الشرير. وحينما كان مع الرسل الآخرين في صحبة المسيح مخلِّصنا جميعًا في رحلاته، سمعه مرارًا وهو يخبر مسبقًا عمَّا سوف يحدث، ولأنه هو الله بالطبيعة، فقد عرف كل شيء، وقد أوضح له خيانته بجلاء إذ قال لرسله الأطهار: ” الحق أقول لكم: إن واحد منكم يسلِّمني” (مت21:26). فكيف يمكن إذا لمقاصد يهوذا ونواياه أن تظل غير معروفة؟ لا، إن الحيَّة كانت هناك داخله وتحارب ضد الله، وكان هو مسكناً للشيطان، لأن واحدًا من البشيرين القديسين يقول بخصوصه، إنه بينما كان المخلِّص متكئاً على المائدة مع باقي التلاميذ، فإنه أعطاه لقمة بعد أن غمسها في الصحفة: ” فبعد اللقمة دخله الشيطان ” (يو27:13). إنه اقترب من المسيح وكأنه أداة للخداع والخيانة والغدر، فإنه تظاهر بعاطفة غير عادية، لذلك فالمسيح أدانه بكل قوة وعن حق بقوله: ” يا يهوذا أبقبلة تسلِّم ابن الإنسان؟” ويقول متى البشير إن الخائن عندما اقترب من المسيح مخلِّصنا جميعًا، فإنه قبَّله، وأضاف: ” السلام يا سيدي” (مت49:26). كيف تقول ” السلام” للذي صار عن طريقك فريسة للموت، كيف يمكن أن تتم هذه الكلمة فعلاً. فنحن نرى أنَّ بسبب أنَّ ذلك ـ أي الشيطان ـ كان داخله، فإنه استخدم الكذب حتى في قوله: ” السلام“. وبسبب هذه الأعمال يقول النبي في موضع ما: ” لسانهم سهم نافذ، كلام فمهم خداع، يُكلِّم صاحبه بسلام وفى قلبه عداوة” (إر8:9س).
وعلاوة على ذلك يجب أن نتذكَّر ما كتبه يوحنا الإلهي بخصوص هذا الحدث، لأنه يقُص أنَّ جند اليهود اقتربوا ليقبضوا على يسوع، فخرج ليقابلهم وقال لهم: من تطلبون؟ فلما أجابوه: يسوع الناصري، فإنه أسلم نفسه إلى أيدي أولئك القتلة قائلاً:” أنا هو” (انظر يو3:18ـ8). ولكن يقول الكتاب: “ فلمَّا قال لهم إنِّي أنا هو رجعوا إلى الوراء“. إذن ما هو الهدف من هذا؟ ولأيِّ سبب سلَّم المخلِّص نفسه إليهم بينما هم سقطوا عندما سمعوه يقول إنِّي أنا هو؟ كان هذا لكي يتعلَّموا أنَّ آلامه لم تحدث له بدون إرادته الخاصة، ولم يكونوا يستطيعون أن يمسكوه لو لم يكن راضيًا أن يأخذوه. فهم لم يمسكوا المسيح بفعل قوَّتهم الخاصة، وبذلك أحضروه إلى الحكام الأشرار، بل هو الذي سلَّم نفسه لكي يتألم عارفًا تمامًا أنَّ آلامه على الصليب هي لأجل خلاص العالم كله.
والتلاميذ المطوَّبون، بسبب غيرتهم الشديدة أخرجوا سيوفهم ليدفعوا الهجوم، ولكن المسيح لم يسمح لهم بهذا بل وبَّخ بطرس قائلاً:” اجعل سيفك في غمده، لأن كل الذين يأخذون بالسيف، بالسيف يهلكون” (مت51:26). هنا يعطينا المسيح أيضًا نموذجًا للطريقة التي يجب أن نضبط بها حبنا له، وللحدِّ الذي ينبغي أن تبلغ إليه غيرتنا الحارة للتقوى. فهو لا يريدنا أن نستخدم سيوف نقاوم بها أعدائنا، بل بالحري نستخدم المحبة والحكمة، وبهذه الطريقة ينبغي أن ننتصر على الذين يقاوموننا. وبالمِثل فإن بولس يُعلِّمنا قائلاً: “هادمين ظنونًا وكل علو يرتفع ضد معرفة الله، ومستأسرين كل فكر إلى طاعة المسيح” (2كو5:10)، لأن الحرب لأجل الحق هي حرب روحية، والدرع الكامل الذي يليق بالقديسين هو درع عقلي ومملوء من المحبة لله، ” لأنه يجب أن نلبس درع البر وخوذة الخلاص، حاملين فوق الكل ترس الإيمان وسيف الروح الذي هو كلمة الله” (انظرأف14:6ـ17). وهكذا فإن المخلِّص يهدِّئ من انفعال الرسل القديسين الشديد، وحتى يمنع أن يكون عملهم هذا مثلاً (يُحتذى به)، فهو يُعلِن أنَّ رؤساء ديانته لا يحتاجون إلى سيوف مهما كان الأمر. ثم أنه شفى بقدرته الإلهية هذا الذي أتت عليه الضربة، معطيًا لأولئك الذين أتوا ليمسكوه هذه العلامة الإلهية أيضًا لأجل إدانتهم. ولكي يُوضِّح أنه لا يستطيع أحد أن يُسيطِر على قوَّته وإرادته يقول: ” كأنه على لص خرجتم بسيوف وعصي لتأخذوني؟ إذ كنت معكم كل يوم في الهيكل لم تمدوا علىَّ الأيادي“. هل المسيح يلوم بهذا رؤساء اليهود لأنهم لم يمسكوه قبل الآن؟ ليس هذا هو المعنى الذي يقصده، ولكن يقصد أن يقول: بينما كان من السهل عليكم أن تأخذوني، إذ كنت معكم كل يوم أُعلِّم في الهيكل، فإنكم لم تقبضوا علىَّ. لماذا؟ لأنني لم أكن قد أردتُ بعد أتألَّم، ولكنِّي بالحري كنتُ أنتظر الوقت المناسب لآلامي، وهذا الوقت قد حان الآن، فلا تجهلوا أنَّ هذه ساعتكم وسلطان الظلمة، أي أنها هي فترة وجيزة ومُنِحت لكم فيها سلطان عليَّ، ولكن كيف أُعطِيت لكم؟ نعم أُعطِيَت لكم بإرادة الآب المتَّفقة مع إرادتي، لأنني أردت لأجل خلاص وحياة العالم أن أخضع نفسي للآلام، لذلك فلكم ساعة واحدة ضدِّي، إنها قصيرة جدًّا ولوقت محدَّد، وهي الفترة فيما بين الصليب الثمين والقيامة من الأموات، وهذا أيضًا هو السلطان الذي أُعطي للظلمة، ولكن الظُّلمة هي اسم الشيطان لأنه هو الليل والظلام الدامس، وعنه يقول أيضًا المبارَك بولس: ” إله هذا الدهر قد أعمي أذهان غير المؤمنين لئلا تضيء لهم إنارة إنجيل مجد المسيح” (2كو4:4). فالسلطان إذن قد أُعطي للشيطان واليهود ليقوموا ضد المسيح، ولكنهم حفروا لأنفسهم هوَّة الهلاك، لأنه بواسطة آلامه خلَّص جميع من هم تحت السماء، وقام في اليوم الثالث بعد أن وطأ تحت قدميه مملكة الموت، أما هم فقد جلبوا علي رؤوسهم الدينونة المحتمة في صحبة ذلك التلميذ الخائن. لذلك دعهم يسمعون الروح القدس وهو ينطق بصوت المرنم: ” لماذا ارتجت الشعوب وتفكرت الأمم بالباطل؟ قامت ملوك الأرض والرؤساء وتآمروا علي الرب وعلي مسيحه“، ولكن ماذا بعد ذلك؟ ” الساكن في السموات يضحك بهم، والرب يستهزئ بهم” (مز1:2ـ4س). إنَّ هؤلاء القوم التعساء قد ورَّطوا أنفسهم في جريمة قتل ربهم، أما نحن فنًمجِّد ونُسبِّح ربنا يسوع المسيح كمخلِّص ومنقِذ لنا، هذا الذي به ومعه لله الآب يليق التسبيح والسلطان مع الروح القدس إلى دهر الدهور آمين.