يسوع يصلي – إنجيل لوقا 22 ج6 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد
يسوع يصلي – إنجيل لوقا 22 ج6 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد
يسوع يصلي – إنجيل لوقا 22 ج6 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد
(لو39:22ـ42، 45، 46): ” وَخَرَجَ وَمَضَى كَالْعَادَةِ إِلَى جَبَلِ الزَّيْتُونِ وَتَبِعَهُ أَيْضًا تَلاَمِيذُهُ. وَلَمَّا صَارَ إِلَى الْمَكَانِ قَالَ لَهُمْ: صَلُّوا لِكَيْ لاَ تَدْخُلُوا فِي تَجْرِبَةٍ. وَانْفَصَلَ عَنْهُمْ نَحْوَ رَمْيَةِ حَجَرٍ وَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَصَلَّى. قَائِلاً: يَا أَبَتَاهُ إِنْ شِئْتَ أَنْ تُجِيزَ عَنِّي هَذِهِ الْكَأْسَ . وَلَكِنْ لِتَكُنْ لاَ إِرَادَتِي بَلْ إِرَادَتُكَ… ثُمَّ قَامَ مِنَ الصَّلاَةِ وَجَاءَ إِلَى تَلاَمِيذِهِ فَوَجَدَهُمْ نِيَامًا مِنَ الْحُزْنِ. فَقَالَ لَهُمْ: لِمَاذَا أَنْتُمْ نِيَامٌ؟ قُومُوا وَصَلُّوا لِئَلاَّ تَدْخُلُوا فِي تَجْرِبَة “.
يطلب ربنا يسوع المسيح من الذين يحبونه أن يكونوا باحثين مدقِّقين بخصوص كل ما كُتب عنه، لأنه يقول: ” يشبه ملكوت السموات كنزًا مخفًى في حقل” (مت44:13)، لأن سرَّ المسيح مُودع ـ إن جاز القول ـ على عمق عظيم، وهو ليس واضحًا للكثيرين، أما الذى يرفع الغطاء عنه بواسطة المعرفة الدقيقة فهو يجد الغنى المخبَّأ هناك. وهذا يشبه المرأة الحكيمة، أعنى مريم، التى قال عنها المسيح إنها: ” اختارت النصيب الصالح الذى لن يُنزع منها” (لو42:10). لأن هذه الأمور الأرضية والمؤقتة تذبل مع الجسد، أما الأمور الإلهية والعقلية والتى تنفع حياة النفس، فهى ثابتة تمامًا، ولا يمكن أن تتزعزع. لذلك هيا بنا نتطلع إلى معنى الدروس الموضوعة أمامنا .
كان المخلِّص يقيم نهارًا في أورشليم يُعلِّم الإسرائيليين ويكشف لهم طريق ملكوت السموات، ولكن عندما كان يأتى المساء كان يستمر مع التلاميذ القديسين على جبل الزيتون عند بقعة تسمى جثسيمانى، فهكذا يخبرنا متى البشير بخصوصه.
ولما جاء إلى هناك ـ كما يخبرنا أيضًا متى نفسه ـ فإنه أخذ معه بطرس ويعقوب ويوحنا وابتدأ يحزن ويكتئب، فقال لهم: ” نفسى حزينة جدًّا حتى الموت، ثم تقدم قليلاً وخر على وجهه وكان يصلِّي قائلاً: يا أبتاه، إن أمكن فلتعبر عنى هذه الكأس، ولكن ليس كما أريد أنا بل كما تريد أنت” (مت37:26ـ39). أرجوكم أن تنظروا هنا إلى عمق التدبير في الجسد، وإلى سُمو تلك الحكمة التى لا يمكن لكلمات أن تُخبِر بها، ثبِّتوا عليها عين العقل الثاقبة، وإن لم تستطيعوا رؤية جمال السر، فأنتم أيضًا ستقولون: ” يا لعمق غنى الله وحكمته وعلمه! ما أبعد أحكامه عن الفحص وطرقه عن الاستقصاء” (رو33:11). يقول الكتاب إنه ابتدأ يحزن ويكتئب. لأى سبب أيها الرب؟ هل أنت أيضًا ترتعب من الموت؟ هل أنت أيضًا يستولى عليك الخوف وتتراجع عن الألم؟ وأيضًا ألست أنت الذى علَّمت الرسل القديسين ألاَّ يبالوا بأهوال الموت بقولك: ” لا تخافوا من الذين يقتلون الجسد، ولكن النفس لا يقدرون أن يقتلوها” (مت28:10). وأكثر من هذا، إن قال أحد إنَّ نعمة الثبات الروحي هي عطيَّتك للمختارين، فلا يكون قد حاد عن الصواب؛ لأن كل قوة هى من عندك وكذلك أيضًا كل ثقة وكل شجاعة في كل مواجهة ضارية. أنت الحياة بالطبيعة، أنت علَّة الحياة، ونحن نتطلَّع إليك كمخلِّص ومنقِذ ومحطِّم للفساد، منك يقتبل الجميع حياتهم ووجودهم. أنت خلقت كل ما يتنفس. الملائكة لك ومنك وبك، وهكذا أيضًا جميع الخليقة العاقلة. يتحدث إليك الطوباوى داود بخصوصنا: ” تُرسل روحك فيُخلَقُون، وتُجدِّد وجه الأرض” (مز30:103س). كيف إذن تحزن وتكتئب وتتأسَّى حتى الموت؟ فمن الواضح أنك تعلم أنك أنت هو الله بالطبيعة، وتعلم كل ما هو مزمع أن يحدث، وأنك باحتمالك الموت في الجسد سوف تُحرِّر سكان الأرض كلها من الموت، وسوف تهزأ بالشيطان، وسوف تقيم نصبًا للنصرة على كل قوة شريرة ومقاومة، وأنك سوف تكون معروفًا لكل شخص وتُعبد كإله وكخالق للجميع. أنت تعرف أنك سوف تُبيد الهاوية، وأنك سوف تُخلِّص الذين هناك من الرباطات التى كابدوها لأجيال عديدة، وأنك سوف تجذب إلى نفسك كل من هم تحت السماء. هذه الأمور أنت أعلنتها بنفسك لنا منذ القديم بواسطة الأنبياء القديسين. ونحن قد سمعناك تقول بوضوح عندما كنت مثلنا: ” الآن دينونة هذا العالم، الآن يُطرح رئيس هذا العالم خارجًا” (يو31:12)، وأيضًا: ” وأنا إن ارتفعتُ عن الأرض أجذب إليَّ الجميع” (يو32:12)، وأيضًا: ” الحق أقول لكم إن لم تقع حبة الحنطة في الأرض وتمُت فهى تبقى وحدها، ولكن إن ماتت تأتى بثمر كثير” (يو24:12).
فلأي سبب إذن تحزن وتكتئب؟ إنه يقول: نعم، ليس بدون مناسبة أن أُوجد هكذا في هذا الكرب، لأنني أعرف حقًّا أنه بقبولي أن أقاسي الألم على الصليب، فإننى سوف أخلِّص كل الذين تحت السماء من كل شر، وأكون سببًا لبركات لا تُحصى لجميع سكان الأرض. أنا لا أجهل أني سأحل وثاقات الموت وسأبطل اضمحلال الأجساد، وسأهزم طغيان الشرير وأهب غفران الخطايا. ولكن، ما يحزننى هو بخصوص البكر إسرائيل؛ لأنه من الآن فصاعدًا، لن يعود يُحسب، حتى ولا بين الخدام. إن نصيب الرب وحبل ميراثى سوف يصير نصيبًا لبنات آوى ـ كما هو مكتوب (مز10:62س)، المحبوب سوف يُكره بشِدَّة، الذى له المواعيد سوف يُجرَّد تمامًا من جميع مواهبي، والكَرْم المختار مع عنبه الجيِّد سوف يصير من الآن فصاعدًا أرضًا جرداء، مكانًا مقفرًا بلا ماء لأني سوف آمر السحب بألاَّ تمطر عليه (إش6:5س)، وسوف أنزع سياجه فيصير للنهب، وأهدم جدرانه فيصير للدوس (إش5:5س). أخبرنى إذن أَلاَ يشعر صاحب الكرم بالكرب، بسبب ذلك عندما يصير كرمه خربًا وقفرًا؟ أي نوع من الرعاة يكون هذا من القسوة والشدة فلا يتأثر عندما يتلف قطيعه؟ كيف لا يتألم لأجله؟ إن هذه الأشياء مجتمعة هي سبب حزني، لأجل هذه الأمور أنا حزين، لأنني أنا هو الله اللطيف الرحيم الذي يحب الصفح والإنقاذ، والذي ليست لى مسرَّة بموت الخاطئ مثلما يرجع عن طريقه الشرير فيحيا (حز23:18س). فبالصواب، حقًّا بالصواب جدًّا، إذ أنني صالح ورحوم، فإنني لا أكون فقط فرحًا بما هو مُسرّ، بل وأشعر أيضًا بالأسى لكل ما هو مُحزِن.
أمَّا بخصوص شفقته على أورشليم، فهو يدرك جيدًا ما هو مزمع أن يحدث لها، وأنها سوف تكابد كل شقاء بسبب جرائمها ضده. وهذا يمكنك أن تعرفه من الآتى: فالبشير يقول إنه فيما كان ذاهبًا من اليهودية إلى أورشليم، فإنه: ” نظر إلى المدينة وبكى عليها قائلاً: إنك لو علمتِ أنتِ أيضًا حتى في يومك هذا ما هو لسلامك، ولكن الآن قد أُخفيَ عن عينيك ” (لو42،41:19) فكما بكى على لعازر إشفاقًا على كل الجنس البشري الذي صار فريسة للفساد والموت، هكذا نقول إنه حزن وهو يرى أورشليم وقد تورَّطت في تعاسات شديدة جدًّا، وهي معرَّضة لكوارث مفجعة لا خلاص منها.
ولكي نعرف ماذا كانت رغبته بخصوص إسرائيل[1]، قال لتلاميذه إنه في حزن وكرب شديدَيْن، لأنه كان من المستحيل عليهم أن يعرفوا ما هو مخبَّأ داخله إن لم يكشف مشاعره بواسطة الكلام.
وأظن أنه من الضروري أن أضيف لما قيل أنَّ أوجاع الحزن، والكآبة، لا يمكن إرجاعها إلى طبيعة الكلمة الإلهية التى هى غير قابلة للألم، لأنه من المستحيل أن تتألم، إذ أنَّ هذه الطبيعة تعلو على كل ألم، ولكننا نقول إن الكلمة المتجسد شاء أن يُخضِع نفسه إلى قياس الطبع البشري، بأن فرض على نفسه أن يقاسي ما يخصّه (أي الطبع البشري)، وحيث إنه قيل إنه جاع مع أنه الحياة وسبب الحياة والخبز الحي، وقيل إنه تعب من رحلة طويلة مع أنه رب القوات، هكذا قيل أيضًا إنه حزن وبدا أنه قادر أن يتألم، لأنه لم يكن من المناسب أنَّ هذا الذي أخضع نفسه للإخلاء ألاَّ يشترك في معاناة الأمور البشرية. فكلمة الله الآب إذن هو خالٍ تمامًا من كل ألم، ولكن بحكمة ولأجل التدبير، فإنه أخضع ذاته للضعف البشري حتى لا يظهر أنه يرفض ما يتطلَّبه التدبير (تدبير التجسد). حقًّا، إنه قد استسلم تمامًا للطاعة للعوائد البشرية والنواميس مع أنه ـ كما قلتُ ـ لا يُوجد أي شيء من هذه الأمور في طبيعته الخاصة.
ومع ذلك فيوجد كثير يُضاف على ما قيل، ولكن نكتفي في عظتنا بهذا الحدِّ في الوقت الحاضر، ونستبقى ما هو أكثر إلى لقاء آخر إن شاء المسيح مخلِّصنا كلنا أن يجمعنا هنا مرَّة أخرى، هذا الذي به ومعه يليق التسبيح والسلطان لله الآب مع الروح القدس إلى دهر الدهور آمين.
4 تضيف هنا مخطوطة Mai اليونانية شرحًا لعبارة ” لخوف المسيح من الموت ” على أنه خوف متعمد: أولاً: لتثبت إنه إنسان حقيقي، حيث إن الخوف هو جزء من صفات الطبيعة البشرية، وثانيًا: إنَّ فيه وهو مُمَثِّلنا الشخصي، يجب أن تُقهَر أوجاع الطبيعة البشرية الدنيئة عن طريق قوة الكلمة، وهكذا أصبح ربنا المثال الكامل للسلوك المسيحي.
ها أنا آتي إليكم لأوفي ما سبق أن وعدتكم به، ولكي أُضيف خاتمة مناسبة لحديثي عن المسيح. لأنه في كل الظروف من الخطر أن يكون الإنسان كاذبًا؛ ولكن حينما يرتكب الإنسان هذا الخطأ في الأمور الهامة لبنياننا، فحينئذ نخشى أن نجلب على أنفسنا دينونة من فوق، ونصير أيضًا سببًا لسخرية عامة.
قلنا في اجتماعنا الأخير إن المسيح مخلِّص الجميع كان مع التلاميذ القديسين على جبل الزيتون، بينما كانت الحيَّة المتعدِّدة الرؤوس، أي الشيطان، يُعِدُّ للمسيح فخ الموت، وكان رؤساء مجمع اليهود والتلميذ الذي خانه، لم يتركوا وسيلة لم يلجأوا إليها ليمسكوا بشخصه، وقد جمعوا أولئك الذين سيقبضون عليه، وهم زمرة من جنود بيلاطس، وجمع من خدام اليهود الأشرار. لذلك بينما كانت المحاولة على وشك أن تتم كان هو في حزن، وكان يحث تلاميذه أن يتصرَّفوا بما يناسب هذا الظرف (العصيب) بقوله لهم: ” اسهروا وصلوا لئلا تدخلوا في تجربة“. وحتى لا يكون تعليمه بالكلام فقط، صار هو نفسه مثالاً لِمَا ينبغي أن يفعلوه هُم، فقد انفصل عنهم قليلاً، نحو رمية حجر، وجثا على ركبتيه وصلَّى قائلاً: ” يا أبتاه، إن شئت أن تجيز عنِّي هذه الكأس“. قد يتساءل أحد الآن: ” لماذا لم يُصلِّ مع التلاميذ القديسين ولكن انفصل عنهم وصلَّى بمفرده؟” كان هذا لكي يُعلِّمنا نمط هذا النوع من الصلاة التي تُسرّ الله، فحينما نصلِّي ليس من الصواب أن نستعرض أنفسنا على مرأى من الآخرين، ولا أن نسعى أن ينظرنا كثيرون، لئلا نُغرِق أنفسنا في وحل محاولة استرضاء الناس، فنجعل كل تعب صلواتنا بلا أيَّة منفعة. والكتبة والفريسيون كانوا مذنبين بهذا الخطأ، فقد وبَّخهم ربنا مرة بسبب محبتهم للصلاة في زوايا الشوارع، وبسبب الصلوات الطويلة التي كانوا يعملونها في المجامع لكي يراهم الناس. أمَّا بالنسبة للذين يريدون أن يعيشوا باستقامة، وهم شغوفون أن يمتلئوا بمحبة الله، فإنه يضع قانون الصلوات في هذه الكلمات: ” وأمَّا أنت فمتى صلَّيتَ فادخل إلى مخدعك وأغلق بابك وصلِّ إلى أبيك الذي في الخفاء، فأبوك الذي يرى في الخفاء يجازيك” (متى6:6). لذلك فنحن نجده في كل موضع يُصلِّي على انفراد، حتى تتعلَّم أنت أيضًا أنه يجب علينا أن نتحادث مع الله بذهن هادئ وقلب ساكن خالٍ من كل قلق، لأن الحكيم بولس يكتب: ” فأريد أن يُصلِّي الرجال… رافعين أيادي طاهرة بدون غضب ولا جدال” (1تى8:2).
لذلك، فإنه كان يصلِّي بينما كانوا أولئك القادمين للقبض عليه على وشك الوصول، أي إنسان ذو فهم لن يقول إن الرب قدَّم هذه التوسلات كأنه في احتياج إلى قوة أو عون من آخرـ لأنه هو نفسه قوة واقتدار الآب الكُلِّى القدرة، ولكنه تصرَّف هكذا لكي نتعلم نحن منه أن نتخلَّى عن كل إهمال عندما تداهمنا التجربة وتضغط علينا الاضطهادات، ويحتال علينا الغادرون، ويحيكون لنا فخاخهم، ويعدُّون لنا شبكة الموت. هذه هي نفس وسيلة خلاصنا أن نسهر ونجثو على ركبنا، ونقدم تضرعات متواصلة، ونسأل المعونة التي تأتي من فوق، لئلا نضعف، فنعاني من تحطُّم مرعب جدًّا لسفينة حياتنا.
إن الشجاعة الروحية تليق حقًّا بالقديسين، ولكن أولئك الذين يقاومون عنف التجارب ـ يجب أن يكون لهم ذهن راسخ لا يتراجع، لأنه من الجهل التام أن نثق ثقة زائدة في أنفسنا أثناء الصراعات، والذي يُفكِّر هكذا هو مُصاب بالتفاخر والتباهي، لذلك ينبغي ـ وأنا أُكرِّر ـ أن نقرن الشجاعة والصبر بتواضع الفكر، وإن تعرضنا لأيَّة تجربة فإن ذهننا يكون مستعدًّا بثبات لمقاومتها، ومع ذلك فلنسأل الله أن يعطينا القدرة على الاحتمال بشجاعة، لأننا أُمرنا أن نقول في صلواتنا: ” ولا تدخلنا في تجربة لكن نجنا من الشرير“.
لاحظوا إذن النموذج المُقدَّم لكم في شخص المسيح مخلِّصنا كلنا لكي تسلكوا مثله، وهيا بنا نلاحظ طريقة صلاته. إنه يقول: ” إن شئت أن تجيز عنِّي هذه الكأس“. أتنظرون كيف أنَّ المسيح يجعل صلاته في مواجهة التجربة بتوقير يناسب الإنسان؟ فهو يقول: ” إن شئت أن تجيز“. وتذكروا هنا أيضًا ما كتبه المغبوط بولس بخصوصه: ” الذي في أيام جسده إذ قدَّم بصراخ شديد ودموع طلبات وتضرعات للقادر أن يُخلِّصه من الموت، وسُمع له من أجل تقواه، مع كونه ابنًا تعلم الطاعة ممَّا تألم به، وإذ كُمِّل صار لجميع الذين يطيعونه سبب خلاص أبدي” (عب7:5ـ9). فهو كواحد منا، يُسلِّم لإرادة أبيه أن يجري كل ما هو مزمع أن يحدث. لذلك فإذا حدث لنا في أي وقت وتعرَّضنا لصعوبات غير متوقَّعة، وكان لازمًا لنا أن نحتمل أي صراع فكري، فلنتوسل إلى الله لا أن ينتهي (الصراع) بحسب مشيئتنا، بل بالحري فلنطلب أن يفعل ما يعرف هو أنه مناسب ولازم لمنفعة نفوسنا. “ لأننا لا نعرف ما نصلِّي لأجله كما ينبغي ” (رو26:8)، بل هو مستودَع جميع الخيرات وهو يعطي كل ما هو مناسب لأولئك الذين يحبونه.
إن ما قلته الآن أثق أنه يكون نافعًا لكم جميعًا، ولكن إن كان يجب أن نستنبط شرحًا آخر لهذه الصلاة، فإننا نقول أيضًا إنها تُوبِّخ شرَّ اليهود. وسنشرح الآن كيف تُوبِّخهم، لقد سمعتم المسيح يقول: ” يا أبتاه إن شئت أن تجيز عنِّي هذه الكأس“. فهل كانت آلامه إذن عملاً لا إرادي؟ وهل كان ضروريًّا له أن يتألم، أم كان عنف أولئك الذين تآمروا ضده أقوى من إرادته الخاصة؟ نقول لكم: ليس الأمر هكذا. إن آلامه لم تكن عملاً غير إرادي، مع أنها من جهة أخرى كانت مُحزِنة لأنها كانت تتضمَّن رفضًا لمجمع اليهود وملاشاته. لم تكن إرادته أن يكون إسرائيل هو قاتل ربه، لأنه بعمله هذا فإنه يُعرِّض نفسه لدينونة متناهية الشِدَّة، ويصير مشجوبًا ومرفوضًا من أن يكون له نصيب في عطاياه وفي الرجاء المُعدّ للقديسين، في حين أنه كان يومًا ما هو شعبه الخاص، وشعبه الوحيد، ومختاره، والوريث المتبنَّى. إن موسى يقول عنهم: “هوذا للرب إلهك السموات والأرض، أنت اختارك الرب من جميع الشعوب لتكون شعبه الخاص” (تث15،14:10س). لذلك فمن الصواب أن ندرك بوضوح أنه من أجل رحمته على إسرائيل كان ممكنًا أن يجيز عنه (عن المسيح) ضرورة الآلام، ولكن بما أنه لم يكن ممكنًا (للمسيح) أن لا يحتمل الآلام، فإنه خضع لها أيضًا لأن الله الآب هكذا أراد أن تحدُث هذه الآلام له.
ولكن تعالوا نفحص هذا الأمر أكثر. “هل قرار الله الآب وإرادة الابن نفسه تدعوه لضرورة قبول الآلام؟ وإن كان الأمر هكذا، وإن كان ما قد قلته صحيحًا، أمَا كان من الضروري أن يكون شخص ما هو الخائن، وأن ينحدر الإسرائيليون إلى هُوَّة التجاسر حتى أنهم يرفضون المسيح، ويُسلِّموه للخزي والعار بطرق متعددة ويحكموا عليه بالموت مصلوبًا؟”. ولكن إن كان هذا هكذا، فكيف نجده يقول: “ ويلٌ لذلك الرجل الذي به يُسلَّم ابن الإنسان، كان خيرًا لذلك الرجل لو لم يُولد؟” (مت24:26). وما هو السبب العادل الذي يُؤدِّي إلى هلاك إسرائيل والحكم عليه بويلات الحرب؟ لأنه كيف يمكن أن يتعارض هذا مع قرار الله وأهدافه التي لا تُقاوم؟ إن الله ليس بظالم، ولكنه يزن أمور أعمالنا بحُكم مقدَّس، فكيف إذن يعامل ما هو غير إرادي على أنه إرادي؟ لأن الله يشفق على سكان الأرض البائسين الممسوكين في فخاخ الخطية والقابلين للموت والفساد، والخاضعين تحت يد طاغية، والمأسورين مِن سِرب مِن الشياطين. لقد أرسل الله ابنه من السماء ليكون مخلِّصًا ومنقذًا، وهو الذي صار أيضًا مثلنا في الشكل. ولكن مع أنه عرف مسبقًا ما سوف يتألم به، وأن عار آلامه ليس هو ثمر إرادته الخاصَّة، إلاَّ أنه قَبِل أن يتحمَّلها لكي يخلِّص (سكان) الأرض، والله الآب أراد هذا معه أيضًا بسبب شفقته ومحبته لجنس البشر، لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية (يو16:3). لذلك فبخصوص العار (الذي لاقاه) بسبب آلامه، فإنه لم يكن يريد أن يتألَّم، ولكن إذ لم يكن من الممكن له ألاَّ يتألم بسبب قسوة اليهود وعدم طاعتهم وعنفهم غير الملجم، فإنه احتمل الصليب مستهينًا بالخزي (عب2:12) وأطاع الآب حتى الموت موت الصليب (فى8:2)، ولكنه يقول: ” إن الله رفَّعه وأعطاه اسمًا فوق كل اسم، لكي تجثو باسم يسوع المسيح كل ركبة مِمن في السماء ومِمَّن على الأرض ومِمَّن تحت الأرض، ويعترف كل لسان أنَّ يسوع المسيح هو الرب لمجد الله الآب. آمين“.